{وما علمنه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين} {لينذر من كان حيا ويحق القول على الكفرين} {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعما فهم لها ملكون} {وذللنها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} {ولهم فيها منفع ومشارب أفلا يشكرون} {واتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون} {لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون} {فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} {أولم ير الإنسن أنا خلقنه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} {وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظم وهى رميم} {قل يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} {الذى جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} {أوليس الذى خلق السموت والأرض بقدر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلق العليم} {إنما أمره إذا أراد شيا أن يقول له كن فيكون} {فسبحن الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون}
في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة.. قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية. وقضية البعث والنشور.. تستعرض في مقاطع مفصلة. مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة. كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها. ويتمثل هذا المعنى مركزا في النهاية في الآية التي تختم السورة: { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون }... فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم. وهي خلقت الإنسان من نطفة. وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة. وهي جعلت من الشجر الأخضر نارا. وهي أبدعت السماوات والأرض. وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود.. وذلك قوام هذا المقطع الأخير.. { وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين }.. وردت قضية الوحي في أول السورة: يس والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم. لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون... والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر؛ ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر. وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك. وأن ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم قول غير معهود في لغتهم. وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر. إنما كان هذا طرفا من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه صلى الله عليه وسلم في أوساط الجماهير. معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه. وهنا ينفي الله سبحانه أنه علم الرسول الشعر. وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم. فما يعلم أحد شيئا إلا ما يعلمه الله.. ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول صلى الله عليه وسلم : { وما ينبغي له } فللشعر منهج غير منهج النبوة. الشعر انفعال. وتعبير عن هذا الانفعال. والانفعال يتقلب من حال إلى حال. والنبوة وحي. على منهج ثابت. على صراط مستقيم. يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله. ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال. والنبوة اتصال دائم بالله، وتلق مباشر عن وحي الله، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله. بينما الشعر في أعلى صوره أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته. فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد، وفورة لحم ودم! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس هذه في أعلى صورها أشواق تصعد من الأرض. وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء.. { إن هو إلا ذكر وقرآن مبين }.. ذكر وقرآن.. وهما صفتان لشيء واحد. ذكر بحسب وظيفته. وقرآن بحسب تلاوته. فهو ذكر لله يشتغل به القلب، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان. وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة: { لينذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين }.. ويضع التعبير القرآني الكفر في مقابل الحياة. فيجعل الكفر موتا، ويجعل استعداد القلب للإيمان حياة. ويبين وظيفة هذا القرآن بأنه نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر من به حياة. فيجدي فيهم الإنذار، فأما الكافروين فهم موتى لا يسمعون النذير؛ وظيفة القرآن بالقياس إليهم هي تسجيل الاستحقاق للعذاب، فإن الله لا يعذب أحدا حتى تبلغه الرسالة ثم يكفر عن بينة ويهلك بلا حجة ولا معذرة! وهكذا لم يعلم الناس أنهم إزاء هذا القرآن فريقان: فريق يستجيب فهو حي. وفريق لا يستجيب فهو ميت. ويعلم هذا الفريق أن قد حق عليه القول، وحق عليه العذاب! والمقطع الثاني في هذا القطاع يعرض قضية الألوهية والوحدانية، في إطار من مشاهدات القوم، ومن نعم البارئ عليهم، وهم لا يشكرون: { أو لم يروا أن خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون؟ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون. ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون؟ واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون. لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون. فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون }.. أو لم يروا؟ فآية الله هنا مشهودة منظورة بين أيديهم، ليست غائبة ولا بعيدة، ولا غامضة تحتاج إلى تدبر أو تفكير.. إنها هذه الأنعام التي خلقها الله لهم وملكهم إياها. وذللها لهم يركبونها ويأكلون منها ويشربون ألبانها، وينتفعون بها منافع شتى.. وكل ذلك من قدرة الله وتدبيره؛ ومن إيداعه ما أودع من الخصائص في الناس وفي الأنعام، فجعلهم قادرين على تذليلها واستخدامها والانتفاع بها. وجعلها مذللة نافعة ملبية لشتى حاجات الإنسان. وما يملك الناس أن يصنعوا من ذلك كله شيئا. وما يملكون أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له. وما يملكون أن يذللوا ذبابة لم يركب الله في خصائصها أن تكون ذلولا لهم!.. { أفلا يشكرون؟ }.. وحين ينظر الإنسان إلى الأمر بهذه العين وفي هذا الضوء الذي يشيعه القرآن الكريم. فإنه يحس لتوه أنه مغمور بفيض من نعم الله. فيض يتمثل في كل شيء حوله. وتصبح كل مرة يركب فيها دابة، أو يأكل قطعة من لحم، أو يشرب جرعة من لبن، أو يتناول قطعة من سمن أو جبن. أو يلبس ثوبا من شعر أو صوف أو وبر.. إلى آخره إلى آخره.. لمسة وجدانية تشعر قلبه بوجود الخالق ورحمته ونعمته. ويطرد هذا في كل ما تمس يده من أشياء حوله، وكل ما يستخدمه من حي أو جامد في هذا الكون الكبير. وتعود حياته كلها تسبيحا لله وحمدا وعبادة آناء الليل وأطراف النهار.. ولكن الناس لا يشكرون. وفيهم من اتخذ مع هذا كله آلهة من دون الله: { واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون. لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون }: وفي الماضي كانت الآلهة أصناما وأوثانا، أو شجرا أو نجوما، أو ملائكة أو جنا.. والوثنية ما تزال حتى اليوم في بعض بقاع الأرض. ولكن الذين لا يعبدون هذه الآلهة لم يخلصوا للتوحيد. وقد يتمثل شركهم اليوم في الإيمان بقوى زائفة غير قوة الله؛ وفي اعتمادهم على أسناد أخرى غير الله. والشرك ألوان، تختلف باختلاف الزمان والمكان. ولقد كانوا يتخذون تلك الآلهة يبتغون أن ينالوا بها النصر. بينما كانوا هم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة أن يعتدي عليها معتد أو يصيبها بسوء، فكانوا هم جنودها وحماتها المعدين لنصرتها: { وهم لهم جند محضرون }.. وكان هذا غاية في سخف التصور والتفكير. غير أن غالبية الناس اليوم لم ترتق عن هذا السخف إلا من حيث الشكل. فالذين يؤلهون الطغاة والجبارين اليوم، لا يبعدون كثيرا عن عباد تلك الأصنام والأوثان. فهم جند محضرون للطغاة. وهم الذين يدفعون عنهم ويحمون طغيانهم. ثم هم في الوقت ذاته يخرون للطغيان راكعين! إن الوثنية هي الوثنية في شتى صورها. وحيثما اضطربت عقيدة التوحيد الخالص أي اضطراب جاءت الوثنية، وكان الشرك، وكانت الجاهلية! ولا عصمة للبشرية إلا بالتوحيد الخالص الذي يفرد الله وحده بالألوهية. ويفرده وحده بالعبادة. ويفرده وحده بالتوجه والاعتماد. ويفرده وحده بالطاعة والتعظيم. { فلا يحزنك قولهم. إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون }. الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يواجه أولئك الذين اتخذوا من دون الله آلهة. والذين لا يشكرون ولا يذكرون. ليطمئن بالا من ناحيتهم. فهم مكشوفون لعلم الله. وكل ما يدبرونه وما يملكونه تحت عينه. فلا على الرسول منهم. وأمرهم مكشوف للقدرة القادرة. والله من ورائهم محيط.. ولقد هان أمرهم بهذا. وما عاد لهم من خطر يحسه مؤمن يعتمد على الله. وهو يعلم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون. وأنهم في قبضته وتحت عينه وهم لا يشعرون! والمقطع الثالث في هذا القطاع الأخير يتناول قضية البعث والنشور: { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين. وضرب لنا مثلا ونسي خلقه. قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون. أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى وهو الخلاق العليم. إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن. فيكون }.. ويبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه. وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعا في حياته، ويشهده بعينه وحسه مكررا معادا. ثم لا ينتبه إلى دلالته، ولا يتخذ منه مصداقا لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره.. { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين }.. فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب؟ إنها نقطة من ماء مهين، لا قوام ولا قيمة! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا.. خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا. ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل! والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين. وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور؟ { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال: من يحيي العظام وهي رميم. قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم }.. يا للبساطة! ويا لمنطق الفطرة! ومنطق الواقع القريب المنظور! وهل تزيد النطفة حيوية أو قدرة أو قيمة على العظم الرميم المفتوت؟ أو ليس من تلك النطفة كان الإنسان؟ أو ليست هذه هي النشأة الأولى؟ أو ليس الذي حول تلك النطفة إنسانا، وجعله خصيما مبينا بقادر على أن يحول العظم الرميم مخلوقا حيا جديدا؟ إن الأمر أيسر وأظهر من أن يدور حوله سؤال. فما بال الجدل الطويل؟! { قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة. وهو بكل خلق عليم }.. ثم يزيدهم إيضاحا لطبيعة القدرة الخالقة، وصنعها فيما بين أيديهم وتحت أعينهم مما يملكون: { الذي جعل لكم من الشجر الأخصر نارا فإذا أنتم منه توقدون }.. والمشاهدة الأولية الساذجة تقنع بصدق هذه العجيبة! العجيبة التي يمرون عليها غافلين. عجيبة أن هذا الشجر الأخضر الريان بالماء، يحتك بعضه ببعض فيولد نارا؛ ثم يصير هو وقود النار. بعد اللدونة والاخضرار.. والمعرفة العلمية العميقة لطبيعة الحرارة التي يختزنها الشجر الأخضر من الطاقة الشمسية التي يمتصها، ويحتفظ بها وهو ريان بالماء ناضر بالخضرة؛ والتي تولد النار عند الاحتكاك، كما تولد النار عند الاحتراق.. هذه المعرفة العلمية تزيد العجيبة بروزا في الحس ووضوحا. والخالق هو الذي أودع الشجر خصائصه هذه. والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. غير أننا لا نرى الأشياء بهذه العين المفتوحة ولا نتدبرها بذلك الحس الواعي. فلا تكشف لنا عن أسرارها المعجبة. ولا تدلنا على مبدع الوجود. ولو فتحنا لها قلوبنا لباحت لنا بأسرارها، ولعشنا معها في عبادة دائمة وتسبيح! ثم يستطرد في عرض دلائل القدرة وتبسيط قضية الخلق والإعادة للبشر أجمعين: { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى وهو الخلاق العليم }.. والسماوات والأرض خلق عجيب هائل دقيق.. هذه الأرض التي نعيش عليها ويشاركنا ملايين الأجناس والأنواع، ثم لا نبلغ نحن شيئا من حجمها، ولا شيئا من حقيقتها، ولا نعلم عنها حتى اليوم إلا القليل.. هذه الأرض كلها تابع صغير من توابع الشمس التي تعيش أرضنا الصغيرة على ضوئها وحرارتها.. وهذه الشمس واحدة من مائة مليون في المجرة الواحدة التي تتبعها شمسنا، والتي تؤلف دنيانا القريبة! وفي الكون مجرات أخرى كثيرة. أو دنييات كدنيانا القريبة. عد الفلكيون حتى اليوم منها مائة مليون مجرة بمناظيرهم المحدودة. وهم في انتظار المزيد كلما أمكن تكبير المناظير والمراصد. وبين مجرتنا أو دنيانا والمجرة التالية لها نحو خمسين وسبع مائة ألف سنة ضوئية (السنة الضوئية تقدر بستة وعشرين مليون مليون من الأميال!).. وهناك كتل ضخمة من السدم التي يظن أنه من نثارها كانت تلك الشموس. وهذا هو الجزء الذي يدخل في دائرة معارفنا الصغيرة المحدودة! تلك الشموس التي لا يحصيها العد. لكل منها فلك تجري فيه. ولمعظمها توابع ذات مدارات حولها كمدار الأرض حول الشمس.. وكلها تجري وتدور في دقة وفي دأب. لا تتوقف لحظة ولا تضطرب. وإلا تحطم الكون المنظور واصطدمت هذه الكتل الهائلة السابحة في الفضاء الوسيع.. هذا الفضاء الذي تسبح فيه تلك الملايين التي لا يحصيها العد، كأنها ذرات صغيرة. لا نحاول تصويره ولا تصوره.. فذلك شيء يدير الرؤوس! { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ }.. وأين الناس من ذلك الخلق الهائل العجيب؟ { بلى! وهو الخلاق العليم }.. ولكن الله سبحانه يخلق هذا وذلك ويخلق غيرهما بلا كلفة ولا جهد. ولا يختلف بالقياس إليه خلق الكبير وخلق الصغير: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن. فيكون }.. يكون هذا الشيء سماء أو أرضا. ويكون بعوضة أو نملة. هذا وذلك سواء أمام الكلمة.. كن.. فيكون! ليس هناك صعب ولا سهل. وليس هنالك قريب ولا بعيد.. فتوجه الإرادة لخلق الشيء كاف وحده لوجوده كائنا ما يكون. إنما يقرب الله للبشر الأمور ليدركوها بمقياسهم البشري المحدود. وعند هذا المقطع يجيء الإيقاع الأخير في السورة. الإيقاع المصور لحقيقة العلاقة بين الوجود وخالق الوجود: { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء. وإليه ترجعون }.. ولفظة ملكوت بصياغتها هذه تضخم وتعظم حقيقة هذه العلاقة. علاقة الملكية المطلقة لكل شيء في الوجود. والسيطرة القابضة على كل شيء من هذا المملوك. ثم إن إليه وحده المرجع والمصير.. إنه الإيقاع الختامي المناسب لهذه الجولة الهائلة، وللسورة كلها، ولموضوعاتها المتعقلة بهذه الحقيقة الكبيرة، التي يندرج فيها كل تفصيل..
[40 - سورة غافر]
[40.56-77]
{إن الذين يجدلون فى ءايت الله بغير سلطن أتىهم إن فى صدورهم إلا كبر ما هم ببلغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} {لخلق السموت والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {وما يستوى الأعمى والبصير والذين ءامنوا وعملوا الصلحت ولا المسىء قليلا ما تتذكرون} {إن الساعة لءاتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} {وقال ربكم ادعونى أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين} {الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} {ذلكم الله ربكم خلق كل شىء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} {كذلك يؤفك الذين كانوا بايت الله يجحدون} {الله الذى جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبت ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العلمين} {هو الحى لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العلمين} {قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءنى البينت من ربى وأمرت أن أسلم لرب العلمين} {هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون} {هو الذى يحى ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} {ألم تر إلى الذين يجدلون فى ءايت الله أنى يصرفون} {الذين كذبوا بالكتب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون} {إذ الأغلل فى أعنقهم والسلسل يسحبون} {فى الحميم ثم فى النار يسجرون} {ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون} {من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيا كذلك يضل الله الكفرين} {ذلكم بما كنتم تفرحون فى الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون} {ادخلوا أبوب جهنم خلدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} {فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون}
هذا الشوط متصل تمام الاتصال بالشوط الذي قبله، وهو استمرار للفقرة الأخيرة من الدرس الماضي. وتكملة لتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم للصبر على التكذيب والإيذاء والصد عن الحق والتبجح بالباطل. فبعد هذا التوجيه يكشف عن علة المجادلة في آيات الله بغير حجة ولا برهان. إنه الكبر الذي يمنع أصحابه من التسليم بالحق وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر الذي يحيك في الصدور. ومن ثم يجيء التنبيه إلى عظمة هذا الكون الذي خلقه الله، وصغر الناس جميعا بالقياس إلى السماوات والأرض. ويمضي الدرس يعرض بعض الآيات الكونية. وفضل الله في تسخير بعضها للناس وهم أصغر منها وأضأل. ويشير إلى فضل الله على الناس في ذوات أنفسهم. وهذه وتلك تشهد بوحدانية المبدع الذي يشركون به. ويوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهر بكلمة التوحيد والإعراض عما يعبدون من دون الله. وينتهي الشوط بمشهد عنيف من مشاهد القيامة يسألون فيه عما يشركون سؤال التبكيت والترذيل. ويختم كما ختم الشوط الماضي. بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصبر سواء أبقاه الله ليشهد بعض ما وعدهم، أم توفاه إليه قبل مجيء وعد الله. فالأمر لله. وهم إليه راجعون على كل حال. { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه. فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير. لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وما يستوي الأعمى والبصير، والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء، قليلا ما تتذكرون. إن الساعة لآتية لا ريب فيها، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وقال ربكم: ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }.. إن هذا المخلوق الإنساني لينسى نفسه في أحيان كثيرة، ينسى أنه كائن صغير ضعيف، يستمد القوة لا من ذاته، ولكن من اتصاله بمصدر القوة الأول. من الله. فيقطع اتصاله هذا ثم يروح ينتفخ، ويورم، ويتشامخ، ويتعالى. يحيك في صدره الكبر. يستمده من الشيطان الذي هلك بهذا الكبر. ثم سلط على الإنسان فأتاه من قبله! وإنه ليجادل في آيات الله ويكابر. وهي ظاهرة ناطقة معبرة للفطرة بلسان الفطرة. وهو يزعم لنفسه وللناس أنه إنما يناقش لأنه لم يقتنع، ويجادل لأنه غير مستيقن. والله العليم بعباده، السميع البصير المطلع على السرائر، يقرر أنه الكبر. والكبر وحده. هو الذي يحيك في الصدر. وهو الذي يدعو صاحبه إلى الجدال فيما لا جدال فيه. الكبر والتطاول إلى ما هو أكبر من حقيقته. ومحاولة أخذ مكان ليس له، ولا تؤهله له حقيقته. وليست له حجة يجادل بها، ولا برهان يصدع به. إنما هو ذلك الكبر وحده: { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه }.. ولو أدرك الإنسان حقيقته وحقيقة هذا الوجود. ولو عرف دوره فأتقنه ولم يحاول أن يتجاوزه. ولو اطمأن إلى أنه كائن مما لا يحصى عدده من كائنات مسخرة بأمر خالق الوجود، وفق تقديره الذي لا يعلمه إلا هو، وأن دوره مقدر بحسب حقيقته في كيان هذا الوجود.. لو أدرك هذا كله لاطمأن واستراح، ولتطامن كذلك وتواضع، وعاش في سلام مع نفسه ومع الكون حوله. وفي استسلام لله وإسلام. { فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير }.. والاستعاذة بالله في مواجهة الكبر توحي باستبشاعه واستفظاعه. فالإنسان إنما يستعيذ بالله من الشيء الفظيع القبيح، الذي يتوقع منه الشر والأذى.. وفي الكبر هذا كله. وهو يتعب صاحبه ويتعب الناس من حوله؛ وهو يؤذي الصدر الذي يحيك فيه ويؤذي صدور الآخرين. فهو شر يستحق الاستعاذة بالله منه.. { إنه هو السميع البصير }.. الذي يسمع ويرى، والكبر الذميم يتمثل في حركة ترى وفي كلام يسمع. فهو يكل أمره إلى السميع البصير يتولاه بما يراه. ثم يكشف للإنسان عن وضعه الحقيقي في هذا الكون الكبير. وعن ضآلته بالقياس إلى بعض خلق الله الذي يراه الناس، ويدركون ضخامته بمجرد الرؤية، ويزيدون شعورا به حين يعلمون حقيقته: { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس. ولكن أكثر الناس لا يعلمون }. والسماوات والأرض معروضتان للإنسان يراهما، ويستطيع أن يقيس نفسه إليهما. ولكنه حين " يعلم " حقيقة النسب والأبعاد وحقيقة الأحجام والقوى، يطامن من كبريائه، ويتصاغر ويتضاءل حتى ليكاد يذوب من الشعور بالضآلة. إلا أن يذكر العنصر العلوي الذي أودعه الله إياه، والذي من أجله كرمه. فهو وحده الذي يمسك به أمام عظمة هذا الكون الهائل العظيم.. ولمحة خاطفة عن السماوات والأرض تكفي لهذا الإدراك. هذه الأرض التي نحيا عليها تابع صغير من توابع الشمس تبلغ كتلتها ثلاثة من مليون من كتلة الشمس! ويبلغ حجمها أقل من واحد من مليون من حجم الشمس. وهذه الشمس واحدة من نحو مائة مليون من الشموس في المجرة القريبة منا؛ والتي نحن منها. وقد كشف البشر حتى اليوم نحو مائة مليون من هذه المجرات! متناثرة في الفضاء الهائل من حولها تكاد تكون تائهة فيه! والذي كشفه البشر جانب ضئيل صغير لا يكاد يذكر من بناء الكون! وهو على ضآلته هائل شاسع يدير الرؤوس مجرد تصوره. فالمسافة بيننا وبين الشمس نحو من ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال. ذلك أنها رأس أسرة كوكبنا الأرضي الصغير. بل هي على الأرجح أم هذه الأرض الصغيرة. ولم تبعد أرضنا عن أحضان أمها بأكثر من هذه المسافة: ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال! أما المجرة التي تتبعها الشمس فقطرها نحو من مائة ألف مليون سنة.. ضوئية.. والسنة الضوئية تعني مسافة ست مائة مليون ميل! لأن سرعة الضوء هي ستة وثمانون ومائة ألف ميل في الثانية! وأقرب المجرات الأخرى إلى مجرتنا تبعد عنا بنحو خمسين وسبعمائة ألف سنة ضوئية..! ونذكر مرة أخرى أن هذه المسافات وهذه الأبعاد وهذه الأحجام هي التي استطاع علم البشر الضئيل أن يكشف عنها. وعلم البشر هذا يعترف أن ما كشفه قطاع صغير في هذا الكون العريض! والله سبحانه يقول: { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس. ولكن أكثر الناس لا يعلمون }.. وليس على قدرة الله أكبر ولا أصغر. ولا أصعب ولا أيسر. فهو خالق كل شيء بكلمة.. إنما هي الأشياء كما تبدو في طبيعتها، وكما يعرفها الناس ويقدرونها.. فأين الإنسان من هذا الكون الهائل؟ وأين يبلغ به كبره من هذا الخلق الكبير؟ { وما يستوي الأعمى والبصير }.. { والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء }.. فالبصير يرى ويعلم؛ ويعرف قدره وقيمته، ولا يتطاول، ولا ينتفخ ولا يتكبر لأنه يرى ويبصر. والأعمى لا يرى ولا يعرف مكانه، ولا نسبته إلى ما حوله، فيخطئ تقدير نفسه وتقدير ما يحيط به، ويتخبط هنا وهنالك من سوء التقدير.. وكذلك لا يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيء. إن أولئك أبصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير. وهذا عمي وجهل فهو يسيء.. يسيء كل شيء. يسيء إلى نفسه، ويسيء إلى الناس. ويسيء قبل كل شيء إدراك قيمته وقيمة ما حوله. ويخطئ في قياس نفسه إلى ما حوله. فهو أعمى.. والعمى عمى القلوب! { قليلا ما تتذكرون }.. ولو تذكرنا لعرفنا. فالأمر واضح قريب. لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والتذكير.. ثم لو تذكرنا الآخرة، ووثقنا من مجيئها، وتصورنا موقفنا فيها، واستحضرنا مشهدنا بها: { إن الساعة لآتية لا ريب فيها، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }.. ومن ثم فهم يجادلون ويستكبرون، فلا يذعنون للحق، ولا يعرفون مكانهم الحق، فلا يتجاوزوه. والتوجه إلى الله بالعبادة، ودعاؤه والتضرع إليه، مما يشفي الصدور من الكبر الذي تنتفخ به، فيدعوها إلى الجدال في آيات الله بغير حجة ولا برهان. والله سبحانه يفتح لنا أبوابه لنتوجه إليه وندعوه، ويعلن لنا ما كتبه على نفسه من الاستجابة لمن يدعوه؛ وينذر الذين يسكتبرون عن عبادته بما ينتظرهم من ذل وتنكيس في النار: { وقال ربكم: ادعوني أستجب لكم. إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }.. وللدعاء أدب لا بد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها، أو تخصيص وقت أو ظرف، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال. والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله. والاستجابة فضل آخر. وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: " أنا لا أحمل هم الإجابة إنما أحمل هم الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه " وهي كلمة القلب العارف، الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء. فهما حين يوفق الله متوافقان متطابقان. فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة، وفي هذه الحياة الرخيصة، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلا على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة وهي آتية لا ريب فيها. ونسيانها للموقف الذليل في الآخرة بعد النفخة والاستكبار. ولما ذكر الذين يستكبرون عن عبادة الله، شرع يعرض بعض نعم الله على الناس، تلك النعم التي توحي بعظمته تعالى والتي لا يشكرون الله عليها، بل يستكبرون عن عبادته والتوجه إليه: { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا. إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. ذلكم الله ربكم خالق كل شيء، لا إله إلا هو، فأنى تؤفكون؟ كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون. الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء، وصوركم فأحسن صوركم، ورزقكم من الطيبات. ذلكم الله ربكم، فتبارك الله رب العالمين. هو الحي، لا إله إلا هو، فادعوه مخلصين له الدين، الحمد لله رب العالمين }.. والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والأرض والسماء خلقان كونيان كذلك. وهي تذكر مع تصوير الله للبشر وإحسان صورهم، ومع رزق الله لهم من الطيبات.. وتعرض كلها في معرض نعم الله وفضله على الناس، وفي معرض الوحدانية وإخلاص الدين لله. فيدل هذا على ارتباط هذه الظواهر والخلائق والمعاني، وعلى وجود الصلة بينها، ووجوب تدبرها في محيطها الواسع، وملاحظة الارتباط بينها والاتفاق. إن بناء الكون على القاعدة التي بناه الله عليها، ثم سيره وفق الناموس الذي قدره الله له، هو الذي سمح بوجود الحياة في هذه الأرض ونموها وارتقائها، كما أنه هو الذي سمح بوجود الحياة الإنسانية في شكلها الذي نعهده، ووافق حاجات هذا الإنسان التي يتطلبها تكوينه وفطرته. وهو الذي جعل الليل مسكنا له وراحة واستجماما، والنهار مبصرا معينا على الرؤية والحركة، والأرض قرارا صالحا للحياة والنشاط، والسماء بناء متماسكا لا يتداعى ولا ينهار، ولا تختل نسبه وأبعاده ولو اختلت لتعذر وجود الإنسان على هذه الأرض وربما وجود الحياة! وهو الذي سمح بأن تكون هناك طيبات من الرزق تنشأ من الأرض وتهبط من السماء فيستمتع بها هذا الإنسان، الذي صوره الله فأحسن صورته، وأودعه الخصائص والاستعدادات المتسقة مع هذا الكون، الصالحة للظروف التي يعيش فيها مرتبطا بهذا الوجود الكبير. . فهذه كلها أمور مرتبطة متناسقة كما ترى؛ ومن ثم يذكرها القرآن في مكان واحد، بهذا الترابط. ويتخذ منها برهانه على وحدانية الخالق. ويوجه في ظلها القلب البشري إلى دعوة الله وحده، مخلصا له الدين، هاتفا: الحمد لله رب العالمين. ويقرر أن الذي يصنع هذا ويبدعه بهذا التناسق هو الذي يليق أن يكون إلها. وهو الله. رب العالمين. فكيف يصرف الناس عن هذا الحق الواضح المبين؟ ونذكر هنا لمحات خاطفة تشير إلى بعض نواحي الارتباط في تصميم هذا الكون وعلاقته بحياة الإنسان.. مجرد لمحات تسير مع اتجاه هذه الإشارة المجملة في كتاب الله.. " لو كانت الأرض لا تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ما تعاقب الليل والنهار ".. " لو دارت الأرض حول نفسها أسرع مما تدور لتناثرت المنازل، وتفككت الأرض، وتناثرت هي الأخرى في الفضاء ".. " لو دارت الأرض حول نفسها أبطأ مما تدور لهلك الناس من حر ومن برد. وسرعة دوران الأرض حول نفسها، هذه السرعة القائمة الكائنة اليوم، هي سرعة توافق ما على الأرض من حياة حيوانية نباتية بأوسع معانيها ". " لولا دوران الأرض حول نفسها لفرغت البحار والمحيطات من مائها ". " ماذا يحدث لو استقام محور الأرض، وجرت الأرض في مدارها حول الشمس في دائرة، الشمس مركزها؟ إذن لاختفت الفصول، ولم يدر الناس ما صيف وما شتاء، وما ربيع وما خريف ". " لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين. ولما أمكن وجود حياة النبات ". " ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية. وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة. أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره ". " لو كان الأوكسجين بنسبة 50 في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال. لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان كالنار مثلا تتوافر له ". وهناك آلاف الموافقات في تصميم هذا الكون لو اختل منها أدنى اختلال ما كانت الحياة في صورتها هذه التي نعرفها، موافقة هكذا لحياة الإنسان. فأما الإنسان ذاته فمن حسن صورته هذه الهيئة المتفردة بين سائر الأحياء؛ وهذا الاكتمال من ناحية الأجهزة لأداء وظائفه جميعها في يسر ودقة؛ وهذا التوافق بين تكوينه والظروف الكونية العامة التي تسمح له بالوجود والحركة في هذا الوسط الكوني كما هو كائن؛ وذلك كله فوق خاصيته الكبرى التي جعلت منه خليفة في الأرض؛ مجهزا بأداة الخلافة الأولى: العقل والاتصال الروحي بما وراء الأشكال والأعراض. ولو رحنا نبحث دقة التكوين الإنساني وتناسق أجزائه ووظائفه بوصفها داخلة في قوله تعالى: { وصوركم فأحسن صوركم } لوقفنا أمام كل عضو صغير، بل أمام كل خلية مفردة، في هذا الكيان الدقيق العجيب. ونضرب مثلا لهذه الدقة العجيبة فك الإنسان ووضع الأسنان فيه من الناحية الآلية البحتة. إن هذا الفك من الدقة بحيث إن بروز واحد على عشرة من المليمتر في اللثة أو في اللسان، يزحم اللثة واللسان؛ وبروز مثل هذا الحجم في ضرس أو سن يجعله يصطك بما يقابله ويحتك! ووجود ورقة كورقة السيجارة بين الفكين العلوي والسفلي يجعلها تتأثر بضغط الفكين عليها فتظهر فيها علامات الضغط لأنها من الدقة بحيث يلتقيان تماما ليمضغ الفك ويطحن ما هو في سمك ورقة السيجارة! ثم.. إن هذا الإنسان بتكوينه هذا مجهز ليعيش في هذا الكون.. عينه هذه مقيسة على الذبذبات الضوئية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يراها. وأذنه تلك مقيسة على الذبذبات الصوتية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يسمعها. وكل حاسة فيه أو جارحة مصممة وفق الوسط المهيأ لحياته، ومجهزة كذلك بالقدرة على التكيف المحدود عند تغير بعض الظروف. إنه مخلوق لهذا الوسط. ليعيش فيه، ويتأثر به، ويؤثر فيه. وهناك ارتباط وثيق بين تصميم هذا الوسط وتكوين هذا الإنسان. وتصوير الإنسان على هذه الصورة ذو علاقة بوسطه. أي بالأرض والسماء. ومن ثم يذكر القرآن صورته في نفس الآية التي يذكر فيها الأرض والسماء.. ألا إنه الإعجاز في هذا القرآن.. وتكفي هذه الإشارات بهذا الاختصار إلى دقة صنع ا لله وتناسقه بين الكون والإنسان. ونقف وقفات سريعة أمام النصوص القرآنية: { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا }.. إن السكون بالليل ضرورة لكل حي. ولا بد من فترة من الظلام تسكن فيه الخلايا الحية وتستكن لتزاول نشاطها في النور. ولا يكفي مجرد النوم لتوفير هذا السكون. بل لا بد من ليل. لا بد من ظلام. فالخلية الحية التي تتعرض لضوء مستمر تصل إلى حد من الإجهاد تتلف معه أنسجتها لأنها لم تتمتع بقسط ضروري لها من السكون. { والنهار مبصرا }.. والتعبير على هذا النحو تعبير مصور مشخص. وكأنما النهار حي يبصر ويرى. وإنما الناس هم الذين يبصرون فيه. لأن هذه هي الصفة الغالبة.. وتقلب الليل والنهار على هذا النحو نعمة في طيها نعم. ولو كان أحدهما سرمدا. بل لو كان أطول مما هو مرات معدودة لانعدمت الحياة. فلا عجب أن يقرن توالي الليل والنهار بذكر الفضل الذي لا يشكره أكثر الناس: { إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون }.. ويعقب على هاتين الظاهرتين الكونيتين، بأن الذي خلقهما هو الذي يكون إلها يستحق هذا الاسم العظيم: { ذلكم الله ربكم خالق كل شيء، لا إله إلا هو، فأنى تؤفكون؟ }.. وإنه لعجيب يستحق التعجيب أن يرى الناس يد الله في كل شيء، ويعلموا أنه الخالق لكل شيء معرفة حتمية مفروضة على العقل فرضا بحكم وجود الأشياء، واستحالة ادعاء أحد أنها من خلقه، وعدم استقامة القول بأنها وجدت من غير موجد. عجيب يستحق التعجيب أن يكون هذا كله، ثم يصرف الناس عن الإيمان والإقرار.. { فأنى تؤفكون؟ }.. ولكنه هكذا يصرف ناس عن هذا الحق الواضح. هكذا كما يقع من المخاطبين الأولين بالقرآن. كذلك كان في كل زمان؛ بلا سبب ولا حجة ولا برهان: { كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون }.. وينتقل من ظاهرتي الليل والنهار، إلى تصميم الأرض لتكون قرارا، والسماء لتكون بناء: { الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء }.. والأرض قرار صالح لحياة الإنسان بتلك الموافقات الكثيرة التي أشرنا إلى بعضها إجمالا. والسماء بناء ثابت النسب والأبعاد والحركات والدورات ومن ثم تضمن الاستقرار والثبات لحياة هذا الإنسان، المحسوب حسابهم في تصميم هذا الوجود، المقدرة في بنائه تقديرا.. ويربط بتكوين السماء والأرض تكوين الإنسان ورزقه من الطيبات على النحو الذي أشرنا إلى بعض أسراره: { وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات }.. ويعقب على هذه الآيات والهبات كما عقب على الأولى: { ذلكم الله ربكم. فتبارك الله رب العالمين }.. ذلكم الذي يخلق ويقدر ويدبر، ويراعيكم ويقدر لكم مكانا في ملكه.. ذلكم الله ربكم. { فتبارك الله }.. وعظمت بركته وتضاعفت. { رب العالمين }.. أجمعين. { هو الحي }.. أجل. هو وحده الحي. الحي حياة ذاتية غير مكسوبة ولا مخلوقة. وغير مبتدئة ولا منتهية. وغير حائلة ولا زائلة. وغير متقلبة ولا متغيرة. وما من شيء له هذه الصفة من الحياة. سبحانه هو المتفرد بالحياة. وهو المتفرد بالألوهية. بما أنه المتفرد بالحياة. فالحي الواحد هو الله: { لا إله إلا هو }.. ومن ثم.. { فادعوه مخلصين له الدين }.. واحمدوه في الدعاء: { الحمد لله رب العالمين }.. وأمام هذه الآيات والهبات، وما تلاها من تعقيبات، وفي أشد اللحظات امتلاء بحقيقة الوحدانية، وحقيقة الألوهية. وحقيقة الربوبية، يجيء التلقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن للقوم أنه منهي عن عبادة ما يدعون من دون الله، مأمور بالإسلام لله رب العالمين: { قل: إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله، لما جاءني البينات من ربي، وأمرت أن أسلم لرب العالمين }.. أعلن لهؤلاء الذين يصرفون عن آيات الله ويجحدون هباته، أنك نهيت عن عبادة ما يدعون من دون الله. وقل لهم: إنني نهيت وانتهيت { لما جاءني البينات من ربي } فعندي بينة، وأنا بها مؤمن، ومن حق هذه البينة أن أقتنع بها وأصدق، ثم أعلن كلمة الحق.. ومع الانتهاء عن عبادة غير الله وهو سلب الإسلام لرب العالمين وهو إيجاب ومن الشقين تتكامل العقيدة. ثم يستعرض آية من آيات الله في أنفسهم بعدما استعرض آياته في الآفاق. هي آية الحياة الإنسانية وأطوارها العجيبة؛ وليتخذ من هذه الحياة مقدمة لتقرير حقيقة الحياة كلها بين يدي الله: { هو الذي خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم يخرجكم طفلا، ثم لتبلغوا أشدكم، ثم لتكونوا شيوخا، ومنكم من يتوفى من قبل، ولتبلغوا أجلا مسمى، ولعلكم تعقلون. هو الذي يحيي ويميت، فإذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن. فيكون }.. وهذه النشأة الإنسانية فيها ما لم يدركه علم الإنسان، لأنه كان قبل وجود الإنسان. وفيها ما يشاهده ويراقبه. ولكن هذا إنما تم حديثا بعد نزول هذا القرآن بقرون! فخلق الإنسان من تراب حقيقة سابقة على وجود الإنسان. والتراب أصل الحياة كلها على وجه هذه الأرض. ومنها الحياة الإنسانية. ولا يعلم إلا الله كيف تمت هذه الخارقة، ولا كيف تم هذا الحادث الضخم في تاريخ الأرض وتاريخ الحياة. وأما تكاثر الإنسان بعد ذلك عن طريق التزاوج فيتم عن طريق التقاء خلية التذكير وهي النطفة بالبويضة، واتحادهما، واستقرارهما في الرحم في صورة علقة.. وفي نهاية المرحلة الجنينية يخرج الطفل بعد عدة تطورات كبرى في طبيعة الخلية الأولى، تعد إذا نحن نظرنا إليها بتدبر أطول وأكبر من الأطوار التي يمر بها الطفل من ولادته إلى أن ينتهي أجله، والتي يقف السياق عند بعض مراحلها البارزة: مرحلة الطفولة. ثم بلوغ الأشد حوالي الثلاثين. ثم الشيخوخة. وهي المراحل التي تمثل أقصى القوة بين طرفين من الضعف. { ومنكم من يتوفى من قبل } أن يبلغ هذه المراحل جميعا أو بعضها. { ولتبلغوا أجلا مسمى } مقدرا معلوما لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون. { ولعلكم تعقلون }.. فمتابعة رحلة الجنين. ورحلة الوليد. وتدبر ما تشيران إليه من حسن الخلق والتقدير، مما للعقل فيه دور كبير.. ورحلة الجنين رحلة عجيبة ممتعة حقا. وقد عرفنا الكثير عنها بعد تقدم الطب وعلم الأجنة بشكل خاص. ولكن إشارة القرآن إليها بهذه الدقة منذ حوالي أربعة عشر قرنا أمر يستوقف النظر. ولا يمكن أن يمر عليه عاقل دون أن يقف أمامه يتدبره ويفكر فيه. ورحلة الجنين ورحلة الطفل كلتاهما توقع على الحس البشري وتلمس القلب الإنساني في أي بيئة وفي أي مرحلة من مراحل الرشد العقلي. وكل جيل يحس لهذه اللمسة وقعها على طريقته وحسب معلوماته. فيخاطب القرآن بها جميع أجيال البشر.. فيحسون.. ثم يستجيبون أو لا يستجيبون! وهو يعقب عليها بعرض حقيقة الإحياء والإماتة. وحقيقة الخلق والإنشاء جميعا: { هو الذي يحيي ويميت. فإذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن. فيكون }.. وتكثر الإشارة في القرآن إلى آيتي الحياة والموت. لأنهما تلمسان قلب الإنسان بشدة وعمق. ثم لأنهما الظاهرتان البارزتان المكررتان في كل ما يقع عليه حس الإنسان. وللإحياء والإماتة مدلول أكبر مما يبدو لأول مرة. فالحياة ألوان. والموت ألوان. وإن رؤية الأرض الميتة. ثم رؤيتها تنبض بالحياة. ورؤية الشجرة الجافة الأوراق والأغصان في موسم، ثم رؤيتها والحياة تنبث منها في كل موضع، وتخضر وتورق وتزهر، كما لو كانت الحياة تتفجر منها وتفيض. ورؤية البيضة.. ثم الفرخ. ورؤية البذرة ثم النبتة.. وعكس هذه الرحلة.. من الحياة إلى الموت، كالرحلة من الموت إلى الحياة.. كلها تلمس القلب وتستجيشه إلى قدر من التأثر والتدبر يختلف باختلاف النفوس والحالات. ومن الحياة والموت إلى حقيقة الإنشاء وأداة الإبداع. وإن هي إلا الإرادة يتمثل اتجاهها إلى الخلق. خلق أي شيء. في كلمة { كن }.. فإذا الوجود ينبثق على إثرها { فيكون } فتبارك الله أحسن الخالقين.. وأمام نشأة الحياة البشرية. وفي ظل مشهد الحياة والموت. وحقيقة الإنشاء والإبداع.. يبدو الجدال في آيات الله مستغربا مستنكرا؛ ويبدو التكذيب بالرسل عجيبا نكيرا. ومن ثم يواجهه بالتهديد المخيف في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة: { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون؟ الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون. إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، في الحميم ثم في النار يسجرون. ثم قيل لهم: أين ما كنتم تشركون من دون الله؟ قالوا: ضلوا عنا، بل لم نكن ندعو من قبل شيئا. كذلك يضل الله الكافرين. ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تمرحون. ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها. فبئس مثوى المتكبرين }.. إنه التعجيب من أمر الذين يجادلون في آيات الله، في ظل استعراض هذه الآيات. مقدمة لبيان ما ينتظرهم هناك! { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون؟ }.. { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا }.. وهم كذبوا كتابا واحدا. ورسولا واحدا. ولكنهم إنما يكذبون بهذا كل ما جاء به الرسل. فهي عقيدة واحدة، تتمثل في أكمل صورها في الرسالة الأخيرة. ومن ثم فهم كذبوا بكل رسالة وبكل رسول.. كل مكذب في القديم والحديث صنع هذا حين كذب رسوله الذي جاءه بالحق الواحد وبعقيدة التوحيد. { فسوف يعلمون }.. ثم يعرض ماذا سوف يعلمون.. إنها الإهانة والتحقير في العذاب. لا مجرد العذاب. { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون }.. بهذه المهانة كما تسحب الأنعام والوحوش! وعلام التكريم؟ وقد خلعوا عن أنفسهم شارة التكريم؟! وبعد السحب والجر في هذا العذاب وفي هذه المهانة، ينتهي بهم المطاف إلى ماء حار وإلى نار: { في الحميم ثم في النار يسجرون }.. أي يربطون ويحبسون، على طريقة سجر الكلاب. أي يملأ لهم المكان ماء حارا ونارا موقدة. وإلى هذا ينتهون. وبينما هم في هذا العذاب المهين يوجه إليهم التبكيت والترذيل والإحراج والإعنات: { ثم قيل لهم: أين ما كنتم تشركون من دون الله؟ }.. فيجيبون إجابة المخدوع الذي انكشفت له خدعته، وهو يائس حسير. { قالوا: ضلوا عنا. بل لم نكن ندعو من قبل شيئا }.. غابوا عنا فلم نعد نعرف لهم طريقا، وما عادوا يعرفون لنا طريقا. بل لم نكن ندعو من قبل شيئا. فقد كانت كلها أوهاما وأضاليل! وعلى إثر الجواب البائس يجيء التعقيب العام: { كذلك يضل الله الكافرين }.. ثم يوجه إليهم التأنيب الأخير: { ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تمرحون. ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين }.. يا مغيث! وأين إذن كان السحب في السلاسل والأغلال، وكان الماء الحار والنار؟ يبدو أنها كانت مقدمة للدخول في جهنم للخلود.. { فبئس مثوى المتكبرين }.. فعن الكبر نشأت هذه المهانة. وجزاء على الكبر كان هذا التحقير! وأمام هذا المشهد. مشهد الذل والمهانة والعذاب الرعيب. وعاقبة الجدال في آيات الله، والكبر النافخ في الصدور.. أمام هذا المشهد وهذه العاقبة يتجه السياق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه بالصبر عل ما يجده من كبر ومن جدال، والثقة بوعد الله الحق على كل حال. سواء أراه الله بعض الذي يعدهم في حياته، أو قبضه إليه وتولى الأمر عنه. فالقضية كلها راجعة إلى الله، وليس على الرسول إلا البلاغ، وهم إليه راجعون: { فاصبر إن وعد الله حق. فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون }.. وهنا نقف أمام لفتة تستحق التدبر العميق. إن هذا الرسول الذي يلاقي ما يلاقي من الأذى والتكذيب والكبر والكنود، يقال له ما مفهومه: أد واجبك وقف عنده. فأما النتائج فليست من أمرك. حتى شفاء صدره بأن يشهد تحقق بعض وعيد الله للمتكبرين المكذبين ليس له أن يعلق به قلبه! إنه يعمل وكفى. يؤدي واجبه ويمضي. فالأمر ليس أمره. والقضية ليست قضيته. إن الأمر كله لله. والله يفعل به ما يريد. يا لله! يا للمرتقى العالي. ويا للأدب الكامل. الذي يأخذ الله به أصحاب هذه الدعوة. في شخص رسوله الكريم. وإنه لأمر شاق على النفس البشرية. أمر يحتاج إلى الصبر على أشواق القلب البشري العنيفة. ألعله من أجل هذا كان التوجيه إلى الصبر في هذا الموضع من السورة. فلم يكن هذا تكرارا للأمر الذي سبق فيها. إنما كان توجيها إلى صبر من لون جديد. ربما كان أشق من الصبر على الإيذاء والكبر والتكذيب؟! إن احتجاز النفس البشرية عن الرغبة في أن ترى كيف يأخذ الله أعداءه وأعداء دعوته، بينما يقع عليها العداء والخصومة من أولئك الأعداء، أمر شديد على النفس صعيب. ولكنه الأدب الإلهي العالي، والإعداد الإلهي لأصفيائه المختارين، وتخليص النفس المختارة من كل شيء لها فيه أرب، حتى ولو كان هذا الأرب هو الانتصار من أعداء هذا الدين! ولمثل هذه اللفتة العميقة ينبغي أن تتوجه قلوب الدعاة إلى الله في كل حين. فهذا هو حزام النجاة في خضم الرغائب، التي تبدو بريئه في أول الأمر، ثم يخوض فيها الشيطان بعد ذلك ويعوم!
[46 - سورة الأحقاف]
[46.15-20]
{ووصينا الإنسن بولديه إحسنا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصله ثلثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى ولدى وأن أعمل صلحا ترضىه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين} {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سياتهم فى أصحب الجنة وعد الصدق الذى كانوا يوعدون} {والذى قال لولديه أف لكما أتعداننى أن أخرج وقد خلت القرون من قبلى وهما يستغيثان الله ويلك ءامن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أسطير الأولين} {أولئك الذين حق عليهم القول فى أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خسرين} {ولكل درجت مما عملوا وليوفيهم أعملهم وهم لا يظلمون} {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيبتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون فى الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون}
هذا الشوط يسير مع الفطرة في استقامتها وفي انحرافها، وفيما تنتهي إليه حين تستقيم وما تنتهي إليه حين تنحرف. ويبدأ بالوصية بالوالدين. وكثيرا ما ترد هذه الوصية لاحقة للكلام عن العقيدة في الله أو مصاحبة لهذا الحديث. ذلك أن وشيجة الأبوة والبنوة هي أول وشيجة بعد وشيجة الإيمان في القوة والأهمية، وأولاها بالرعاية والتشريف. وفي هذا الاقتران دلالتان: أولاهما هي هذه. والثانية أن آصرة الإيمان هي الأولى وهي المقدمة، ثم تليها آصره الدم في أوثق صورها. وفي هذا الشوط نموذجان من الفطرة: في النموذج الأول تلتقي آصرة الإيمان وآصرة الوالدين في طريقهما المستقيم المهتدي الواصل إلى الله. وفي الثاني تفترق آصرة النسب عن آصرة الإيمان، فلا تلتقيان. والنموذج الأول مصيره الجنة ونصيبه البشرى. والنموذج الثاني مصيره النار ونصيبه استحقاق العذاب. وبهذه المناسبة يعرض صورة العذاب في مشهد من مشاهد القيامة، يصور عاقبة الفسوق والاستكبار. { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا }.. فهي وصية لجنس الإنسان كله، قائم على أساس إنسانيته، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا. وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد. فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك. وهي وصية صادرة من خالق الإنسان، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا. فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها. والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس. فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان. وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوصية بالإحسان إلى الوالدين. ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة، ولمناسبة حالات معينة. ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد، رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير. وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت - فضلا على الألم - بدون تردد، ودون انتظار عوض، ودون من ولا رغبة حتى في الشكران! أما الجيل الناشئ فقلما يتلفت إلى الخلف. قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني. لأنه بدوره مندفع إلى الأمام، يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه! وهكذا تمضي الحياة! والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه؛ والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر؛ وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء. والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته - مهما توافرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة - وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة، هو شعور الحب. فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته. ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد. وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا. إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال، يتحاقدون فيما بينهم، على الأم الصناعية المشتركة، وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبدا. كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية. وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي. فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال. فتنشأ شخصياتهم مخلخلة، ويحرمون ثبات الشخصية.. والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم. ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة، والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين: { حملته أمه كرها، ووضعته كرها، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا }.. وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال: { حملته أمه كرها، ووضعته كرها }.. لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد، ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وطلقه وآلامه! ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة.. إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة. تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله؛ فيتوارد دم الأم إلى موضعها، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات؛ وتمتصه لتحيا به وتنمو. وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم. دائمة الامتصاص لمادة الحياة. والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير. ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير! وهذا كله قليل من كثير! ثم الوضع، وهو عملية شاقة، ممزقة، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة. ثمرة التلبية للفطرة، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش، وتمتد.. بينما هي تذوي وتموت! ثم الرضاع والرعاية. حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية. وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود. لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد. وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو. فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد! فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية، مهما يفعل. وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد؟ وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل أديت حقها؟ فأجابه: " لا، ولا بزفرة واحدة ". ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين، واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم، إلى مرحلة النضج والرشد، ومع استقامة الفطرة، واهتداء القلب: { حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك، وإني من المسلمين }.. وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين. والأربعون في غاية النضج والرشد، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء. وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة. وتتدبر المصير والمآل. ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة، وهي في مفرق الطريق، بين شطر من العمر ولى، وشطر يكاد آخره يتبدى. وهي تتوجه إلى الله: { رب أوزعني أن أشكرك نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي }.. دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به، المستقل المستصغر لجهده في شكرها. يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله: { أوزعني }.. لينهض بواجب الشكر؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير. { وأن أعمل صالحا ترضاه }.. وهذه أخرى. فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه. فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها. وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه. { وأصلح لي في ذريتي }.. وهذه ثالثة. وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته. وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه. والذرية الصالحة أمل العبد الصالح. وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر. وأروح لقلبه من كل زينة الحياة. والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله. وشفاعته إلى ربه. شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله، هي التوبة والإسلام: { إني تبت إليك وإني من المسلمين }.. ذلك شأن العبد الصالح، صاحب الفطرة السليمة المستقيمة مع ربه. فأما شأن ربه معه، فقد أفصح عنه هذا القرآن: { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة. وعد الصدق الذي كانوا يوعدون }.. فالجزاء بحساب أحسن الأعمال. والسيئات مغفورة متجاوزة عنها. والمآل إلى الجنة مع أصحابها الأصلاء. ذلك وفاء بوعد الصدق الذي وعدوه في الدنيا. ولن يخلف الله وعده.. وهو جزاء الفيض والوفر والإنعام. فأما النموذج الآخر فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال: { والذي قال لوالديه: أف لكما! أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي؟ }.. فالوالدان مؤمنان. والولد العاق يجحد برهما أول ما يجحد؛ فيخاطبهما بالتأفف الجارح الخشن الوقح: { أف لكما! }.. ثم يجحد الآخرة بالحجة الواهية: { أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي؟ }.. أي ذهبوا ولم يعد منهم أحد.. والساعة مقدرة إلى أجلها. والبعث جملة بعد انتهاء أجل الحياة الدنيا. ولم يقل أحد إنه تجزئة. يبعث جيل مضى في عهد جيل يأتي. فليست لعبة وليست عبثا. إنما هو الحساب الختامي للرحلة كلها بعد انتهائها! والوالدان يريان الجحود ويسمعان الكفر، ويفزعان مما يقوله الولد العاق لربه ولهما؛ ويرتعش حسهما لهذا التهجم والتطاول؛ ويهتفان به: { وهما يستغيثان الله. ويلك آمن. إن وعد الله حق }.. ويبدو في حكاية قولهما الفزع من هول ما يسمعان. بينما هو يصر على كفره، ويلج في جحوده: { فيقول: ما هذا إلا أساطير الأولين }.. هنا يعاجله الله بمصيره المحتوم: { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس؛ إنهم كانوا خاسرين }.. والقول الذي حق على هذا وأمثاله هو العقاب الذي ينال الجاحدين المكذبين. وهم كثير. خلت بهم القرون. من الجن والإنس. حسب وعيد الله الصادق الذي لا يخلف ولا يتخلف. { إنهم كانوا خاسرين }.. وأية خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا. ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة. ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين؟ وبعد بيان العاقبة والجزاء إجمالا للمهتدين والضالين، يصور دقة الحساب والتقدير لكل فرد من هؤلاء وهؤلاءعلى حدة: { ولكل درجات مما عملوا، وليوفيهم أعمالهم، وهم لا يظلمون }.. فلكل فرد درجته، ولكل فرد عمله، في حدود ذلك الإجمال في جزاء كل فريق. وبعد، فهذان النموذجان عامان في الناس، ولكن مجيئهما في هذا الأسلوب، الذي يكاد يحدد شخصين بذواتهما أوقع وأشد إحياء للمثل كأنه واقع. ولقد وردت روايات أن كلا منهما يعني إنسانا بعينه. ولكن لم يصح شيء من هذه الروايات. والأولى اعتبارهما واردين مورد المثل والنموذج. يدل على هذا الاعتبار صيغة التعقيب على كل نموذج. فالتعقيب على الأول: { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة. وعد الصدق الذي كانوا يوعدون }.. والتعقيب على الثاني: { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس, إنهم كانوا خاسرين }.. ثم التعقيب العام: { ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم، وهم لا يظلمون }.. وكلها توحي بأن المقصود هو النموذج المكرر من هؤلاء وهؤلاء. ثم يقفهم وجها لوجه أمام مشهد شاخص لهم في يوم الحساب الذي كانوا يجحدون: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار. أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها. فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون }.. والمشهد سريع حاسم، ولكنه يتضمن لفتة عميقة عريضة. إنه مشهد العرض على النار. وفي مواجهتها وقبيل سوقهم إليها، يقال لهم عن سبب عرضهم عليها وسوقهم إليها: { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها }.. فقد كانوا يملكون الطيبات إذن، ولكنهم استنفدوها في الحياة الدنيا، فلم يدخروا للآخرة منها شيئا؛ واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للآخرة حسابا . استمتعوا بها استمتاع الأنعام للحصول على اللذة بالمتاع، غير ناظرين فيها للآخرة، ولا شاكرين لله نعمته، ولا متورعين فيها عن فاحش أو حرام. ومن ثم كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة. واشتروا تلك اللمحة الخاطفة على الأرض بذلك الأمد الهائل الذي لا يعلم حدوده إلا الله! { فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون }.. وكل عبد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق. فالكبرياء لله وحده. وليست لأحد من عباده في كثير أو قليل. وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض. فجزاء الاستكبار الهوان. وجزاء الفسوق عن منهج الله وطريقه الانتهاء إلى هذا الهوان أيضا. فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. وهكذا ينتهي هذا الشوط من السورة بعرض ذينك النموذجين ومصيرهما في النهاية؛ وبهذا المشهد المؤثر للمكذبين بالآخرة، الفاسقين عن منهج الله، المستكبرين عن طاعته. وهي لمسة للقلب البشري تستجيش الفطر السليمة القويمة لارتياد الطريق الواصل المأمون.
Page inconnue