يجامع الحيوان أنثاه فيتولد منهما حيوان فيعطيان ويأخذان، ويتغير الكل مظهرا رويدا رويدا حسب التأثيرات الكلية والجزئية الأرضية والجوية التي تؤثرها أرضنا على موجوداتها وأجزائها، أو حسب التأثيرات والعوامل التي تتأثر بها أرضنا من العوالم والأفلاك والكائنات الأخرى، كما نراه ونشعر به من تأثير الشمس والقمر مثلا علينا وعلى أرضنا وعلى ما فيها وما عليها. وما الجاذبية سوى تأثير تجانس العناصر بعضها على بعض ليلتحق كل عنصر بعنصره والغلبة للأقوى. ترمي قطعة خشب من علو وهي بشكلها هذا عنصرها الترابي الغالب، فتقع مجذوبة على الأرض، ولكن إذا حللت بالحرق فالهواء الذي فيها يذهب مع الهواء وماؤها يتبخر والنار التي فيها تلتحق بعنصرها، حتى إن ترابها الذي هو الرماد يضيع من مناعته النسبية أمام بقية العناصر، فيتغلب الريح عليه فيجذبه إليه ويطير معه، وعلى هذا أقول لكم: إن لا شيء يخلق نفسه ولا شيء يفنى، بل إن الكون موجود والكل باق غير أن المظاهر تتحول وتختلف وتتغير.
لقد قال الكتاب: لا شيء جديد تحت الشمس؛ لأن التحول عام شامل، قصرت مدته أو طالت. قالوا: إن التاريخ يعيد نفسه بما يختص بالحوادث، وأنا أقول لكم أيضا: إن الطبيعة أصل الحوادث، تعيد أيضا نفسها؛ لأن سننها واحدة في الممالك الثلاث، كما أن أصلها واحد، فما هو حاصل الآن على كرتنا الأرضية حصل قبل ذلك ما يشابهه في القمر، أو في الأجرام التي سبقت الأرض في تكوينها وصلاحيتها للحياة النباتية والحيوانية، كما أن حالتها الآن سوف تتبدل وبما فيها وبما عليها إلى شكل أو أشكال أخرى، بما سيطرأ عليها من عوامل التأثير. نعم، هذا لا بد له من زمن، ولكن الزمن ليس موجودا في الطبيعة؛ أي في الأصل؛ لأن الأصل أبدي أزلي سرمدي، والزمن هو فقط للزائل المحدود يختلف قلة أو كثرة حسب قلة أو كثرة الشيء ومناعته الوحدانية، وسوف يأتي زمن تكون فيه أرضنا في حالتها، كما هي الحال الآن فيما سبقها من الأجرام نسبيا.
وصل الجميع إلى حيث المقعد الخشبي موضع الاجتماع، فصمت الشيخ وجلس الجميع بجانبه وبقي هنيهة صامتا ناظرا أمامه كأنه يستوحي الوجود، ثم عاود الكلام قائلا: إنكم لو نظرتم بإنعام وتفكر إلى ما شاهدتموه الآن يجري في الجنينة حيث مررتم والتقينا؛ تجلت لكم أسرار وسنن الطبيعة بأجمعها، فيمكنكم تطبيقه على ما سبق فشرحته لكم، وعلى ما سوف تسمعون:
لقد رأيتم الطيور تنقد الديدان من الأرض لتقتات بها، والناس تنظر إليها، فكأنها عرفت أن الإنسان يحميها ويعاونها على عملها هذا، وإذا تساءلنا عن سبب سكوت الإنسان؟ أجابنا: الواقع بأن الديدان التي تلتقطها هذه الطيور هي مما يزاحمه على زرعه، فرأى في هذه الطيور عونا له على التخلص من مزاحم حال كونه في ظروف أخرى نراه ينقض على تلك الطيور فيقتنصها ويقتات بلحمها، ويدثر بريشها ويتزين به فهذا المظهر يمثل الحياة الحيوانية، وهو يعم جميع أجناسها من الميكروب الصغير الذي لا يرى إلا بالمنظار إلى الفيل العظيم، ومن الدودة التي ليس فيها من الروح سوى الروح المحركة إلى الإنسان ذي الروح الراقية المخترعة. فما هو الفرق يا ترى بين هذه الطيور تحط فتلتقط تلك الديدان فتقتات بها، وبين الإنسان يصطاد الأسماك ويقتنص الغزال ويرمي الطير بنباله ورصاصه، ويذبح الغنم والبقر والماعز ليأكل لحمها، ويستعمل بقيتها في منافعه؟ ما الفرق يا ترى بين هذه الديدان وهذه الطيور وبين الطيور بعضها مع بعض؛ فينقض الباشق فيأكل العصفور، وبين الحيوانات أيضا بعضها مع بعض فيهجم الذئب على الغنم والأسد على البقر، والثعلب على الفرخة فيقتات هذا من ذاك وذاك من هذا؟ ما الفرق يا ترى بين الإنسان يطارد الوحش فيقتله ويظفر الوحش به فيأكله؟ لا بل ما الفرق بين الحيوانات تأكل بعضها بعضا وبين الإنسان في قبائله المتوحشة يأكل أيضا بعضه بعضا؟ ما الفرق أيضا بين الإنسان يأكل لحم بعضه كما كان قديما، وكما هو الآن باقيا ليومنا هذا في بعض القبائل المدعاة غير المتمدينة وبين الإنسان الحالي الراقي المتمدين يفتك بعضه ببعض بما يسعره بينه من الحروب الطاحنة، ويستعبد قويه ضعيفه منمقا لذلك ما يحلو له من الألفاظ من استعمار أو حماية أو رقابة وانتداب؟ أليس أصل هذه الأعمال واحد؟ إن الطبيعة واحدة في الإنسان والحيوان في جميع أجناسهما، وما التمدن سوى طلاء يغطي مظاهرها، ويختلف كثافة باختلاف درجة الفرد أو المجموع في التعليم أو التقليد أو الأخلاق المكتسبة، والرقي يدوم هذا الطلاء طالما لا يمس الأصل حتى إذا ما مس هذا ثار ثائر ونفض عنه ذلك الغبار المغشى وتجلى بحقيقة طبيعته. فلا تغتروا يا أولادي بالمظاهر فإن الطبع غالب والتطبع مغلوب. فتبسم فريد وقال: لقد صدق شيخنا، وقد ذكرني هذا البيان بقصة قرأتها أخيرا: قيل إن ملكين من الملوك كان له وزير حازم مجرب، فكان يصدر عن رأيه، ويتعرف اليمن في مشورته، ثم إنه هلك ذلك الملك وقام بعده ابنه، فعجب بنفسه واستبد برأيه، فقيل له: إن أباك كان لا يقطع أمرا دونه، فقال: كان أبي يغلط في ذلك، ولكن سأمتحنه بنفسي. فأرسل إليه وقال: أيهما أغلب على الرجل الطبع أو التطبع؟ فقال له الوزير: الطبيعة أغلب، لأنها أصل، والتطبع فرع. فدعا بسفرته، فلما وضعت أقبلت سنانير بأيديها الشمع فوقفت حول السفرة، فقال الملك للوزير: اعتبر خطأك وضعف مذهبك متى كان أبو هذه السنانير شماعا، فسكت عنه الوزير وقال: أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة فقال: ذلك لك. فخرج الوزير فدعا بغلام له فقال: التمس لي فأرة واربطها بخيط وجئني بها، فأتاه بها الغلام، فعقد الخيط في زر ثوبه وطرح الفأرة في كمه، ثم راح من الغد إلى الملك فلما حضرت سفرته أقبلت السنانير بالشمع كالعادة، فأخرج الوزير الفأرة من كمه ثم ألقاها إليها، فتسابقت السنانير إليها ورمت بالشمع حتى كاد البيت يضطرم نارا، فقال الوزير: كيف رأيت غلبة الطبع على التطبع، ورجوع الفرع إلى أصله؟ فقال الملك: صدقت. فقال له الشيخ: بارك الله فيك يا فريد.
هذه أيضا حكاية تفهمكم أن لا فرق بين هذه السنانير حملة الشموع على مائدة الطعام، وبين الشعوب الإنسانية في مقرراتها على مائدة السياسة، فكم أبرمت من مواثيق وقفت حينا بموجبها وقفة زينت بها المظهر الإنساني الراقي، ولكنها تحولت عنها حالما ظهرت لها فأرة المنافع؛ فأحرقت وخربت وقتلت وشنعت، ولم تبال بما سنته من الشرائع، وبما وضعته من القوانين وبما حللته وبما حرمته وبما ادعت نزوله وحيا، بل سارت في طريقها لا تبقي ولا تذر ولم تقف إلا عندما صدمها حائل تقوى عليها فلم تستطع اقتحامه، فسكن ثائرها مغلوبة من القوة المصادمة الطبيعية ولم تكن من قبل لتوقفها العوائق التطبعية. فإني قد قلت لكم وأعيد القول بأن الغلبة فقط للقوة ولو اختلفت مظاهر القوة؛ لأن القوة هي الطبيعة وهي أصل التأثير؛ ولهذا فقد جاء بالكتاب الكريم؛ من له يعطى ويزاد ومن ليس له يؤخذ منه ماله؛ لأن الضعيف من الكائنات يجذبه الأقوى إليه، فيضمه بطرق شتى ويحوله إلى مظهره تبعا لسنة التأثير، ويبقي المظهر الجديد شاملا إلى أن يتحول إلى مظهر آخر؛ لأن العوامل المكونة بقوة حركتها الدائمة هي نفسها المحولة، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
انظروا يا أولادي إلى هذه العناكيب وإلى شباكها التي تخيطها على هذه الشجرة فوقنا من نسيجها لتصيد بها الذباب قوتها، أليست هي مثل هذه الشباك التي بيد هذا الصياد أمامنا يلقيها في الماء يصيد بها الأسماك؟ أوليست هي أيضا مثل تلك الشباك الشائكة التي يصنعها الإنسان في حروبه الآن؛ ليمنع بها أعداءه من الدنو إليه؟
ترك الناس تلك الطيور تنقد تلك الديدان؛ لأن الديدان تضر بزرعهم، ولكن لو كانت سقطت تفاحة أو ثمرة مما يطيب لهم أكلها، فهل كانوا يتركونها لتلك الطيور أو يتركون الطيور تقربها؟ كلا، ثم كلا، ولكن تلك الديدان نفسها سوف تقتات بدورها من تلك الطيور ومن الإنسان أيضا الذي لم يدافع عنها طبقا لسنة التبادل، فالسلبي يثأر لنفسه من الإيجابي، والإيجابي يثأر لنفسه من السلبي.
يتوالد الحيوان بمجامعة ذكره لأنثاه، لا فرق في ذلك بين طير السماء وسمك البحار ووحش البر وكل ذي نسمة حية، كما يجري بين الرجل والمرأة لا فرق في الأصل البتة بين هذا وذاك، فالذكر الزارع والأنثى الأرض المنبتة، وهو بالنسبة إليها يمثل العنصر السلبي، وهي بالنسبة إليه تمثل العنصر الإيجابي، وباجتماعهما يظهر في الوجود آخر بشكله المعلوم، وهو في الوجود من قبل ومن بعد، فيسير سيره تتجاذبه العوامل الأخرى من بقية الكائنات تحت نظام التأثير والأخذ والعطاء، فيأخذ منها ويعطيها ويتأثر بها وتتأثر به إلى أن يتبدل ذلك الشكل ليأتي شكل آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
هذا فيما يختص بالمملكة الحيوانية وهو عين النظام الذي يتمشى عليه النبات والجماد. لقد شاهدتم البستانيين يقتلع بعضهم الأعشاب من بين الزهور؛ ليبعد عنها مزاحما يمتص من خواص الأرض ؛ ما لو بقي لها وحدها لامتصته هي؛ فنمت وتقوت وأتت بمحصول كثير، أخليت الأرض لتلك الزهور؛ فنمت وأزهرت كثيرا، ولكنها في سيرها هذا لم تخرج عن سنة التأثير والتبادل. خلصها الإنسان من مزاحم فامتصت قوته فازدادت نموا، وأخذ الإنسان من زهورها مقابل تعبه لها، تأثرت قوتها بما امتصته من المواد المنمية، فنمت بزيادة ستدفعها من ضعفها في السنين المقبلة إذا لم يتداركها عامل غير اعتيادي يمنع ذلك الضعف ليثبت توازن ذلك النمو؛ لأن من قاوم الطبيعة صرعته الطبيعة؛ لأنها هي الأصل وهي المتبوع وكل شيء لها ولأحكامها تابع، فمن خالف سننها ولم يماشها لا يطول أمده، وهذا سر ما رأيتموه من فعل البعض الآخر من البستانيين، إذ كان بعضهم منهمكا في تسميد الأرض وبعضهم في نقل النبات من مكان إلى آخر، وفي حرث بعض قطع من الأرض وري بعضها، فعملهم هذا هو ذلك العامل الغير الاعتيادي الذي لولاه لوقف ذلك النمو وتحولت قوته إلى ضعف، وهو عمل تساوى فيه النبات والجماد فلو لم ينقل النبات من مكانه إلى مكان أصلح به من الخواص المنمية ما ليس يوجد في مكانه حيث كان لما نما وترعرع، ولو لم تسمد الأرض وتحرث وتروى لإعطائها من الخواص عوض التي فقدتها بإجهادها بالزرع لما كانت أخصبت، وهكذا فهي أعطت وأخذت، وأخذ النبات فأعطى، وأعطى الإنسان فأخذ. وبهذا عمت هذه السنة الممالك الثلاث.
أجابت فريدة وقالت: ولكن لو لم تسمد الأرض وتروى وتحرث لكانت أيضا أنمت تلك النباتات فأزهرت زهورها فجناها الإنسان دون تعب؟ أجابها الشيخ وقال: اعلمي يا بنيتي أن ذلك الإنماء كان يكون في هذه الحالة نسبيا على قدر ما كان بقي في الأرض من المواد المخصبة، وما تكون أخذته في تلك الفترة طبيعيا عاديا؛ لأن ذلك العامل الغير العادي الذي به استغلت الأرض فأنمت النباتات يجب حتى يبقى ذلك الخصب وذلك النمو محفوظا؛ أن يقابل بعامل غير عادي أيضا، وفي هذا يتساوى أيضا الحيوان بجميع أجناسه، فالإنسان أو الطير أو الوحش أو السمك الذي ينمو نموا مفتعلا لا بد أن يعقب نموه هذا رد فعل يظهر بتوقف ذلك النمو أو بانحطاطه إذا لم يدعم بعامل مفتعل آخر. خذي يا بنيتي نفسك مثلا ولنقل أن قواك تمكنك من الذهاب مشيا من البيت إلى الأهرام مرة في اليوم، ولكنك إذا أجهدت نفسك وذهبت مرتين، فهل يمكنك في اليوم الثاني أن تذهبي كما كنت تذهبين من قبل دون أن تعوضي ذلك الإجهاد إما براحة أزيد من قبل أو بأكل أكثر تغذية من قبل، أو بتناول أي مقو يعيد لك قواك التي فقدتها بذلك الإجهاد؟ أقول لك: كلا، فإنك إن لم تستعيضي عن المرة الزائدة بأي عامل آخر فإنك لا يمكنك الذهاب في ذلك اليوم كما كنت تذهبين من قبل، كما هي الحال مع تلك الأرض وتلك الزهور؛ لأن السنة واحدة، فكما أن الجمل إذا حملته فوق طاقته رزح تحت الحمل، كذلك قطعة الحديد أو الخشب تنكسر أو تلتوي إذا لم تدعم وتتقو.
Page inconnue