إهداء الكتاب
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
خاتمة
إهداء الكتاب
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
خاتمة
في وادي الهموم
في وادي الهموم
تأليف
محمد لطفي جمعة
عفوا تعف نساؤكم. (حديث)
لا تلم المرأة الساقطة في مهاوي عارها، إنك لا تدري تحت أي حمل سقطت من أحمال الدنيا وأثقالها. (فيكتور هوجو)
إهداء الكتاب
إلى تلك النفوس التي أساءت إليها الإنسانية وأجسامها تئن تحت التراب، وهي تائهة بين الأرض والسماء، تجذبها أخواتها إلى العلى، وتهبط بها ذنوبها إلى أسفل سافلين.
مقدمة
منذ أربعة شهور، جلست في غرفتي أمام منضدة الكتابة، وأردت أن أكتب قصة، فقلت: ماذا أكتب؟ إني لا أرغب أن أقص قصة غرام طاهر وحب نقي وقلوب طيبة ووعود وزواج، هذه الأشياء ليست موجودة إلا في خيال المؤلفين، وبقيت أمل القلم، وكلما هممت بالكتابة أحس بيد قوية تعوقني حتى يجف القلم ويطير المداد في الهواء.
إن دماغي مملوءة بالآراء والقصص، ولكن كل ما يحيرني هو الانتقاء؛ أي قصة أنتقي؟ وأي فكر أختار؟ كثيرا ما قرأت وكتبت قصصا أبطالها: رجال ذوو همة وشجاعة وكرم وصداقة، وفتياتها جميلات ذوات عفة وطهر ونقاء، ولكن أي رجل الآن شجاع كريم صادق الوعد، وأي امرأة عفيفة نقية حافظة للعهد؟ اقلب كلامك، وضع يدك على من شئت، آن الآوان لأن نترك الخيال جانبا، ونقف على الحقيقة، إذن فلنكتب قصة عن الناس الذين حولنا الذين نعيش بينهم ويعيشون بيننا.
نعم، إنني أعلم أني بذلك أحرك الماء الراكد الآسن، وأفضح معايب الهيئة الاجتماعية، ولكن أرى أن تصوير البشر كما هم أفضل بكثير من تصويرهم كما يجب أن يكونوا، إن جمهور القراء يطلب قصة عن أميرة فتاة جملية غنية تقع في ورطة؛ فينجيها من الموت شاب جميل فقير شجاع فيتزوجها، ولكن أنا لا أطلب ذلك، أنا أطلب أن أنزل بالقراء إلى ميدان الحياة الواسع، أرغب أن أنزل بهم إلى ملعب الحياة الذي يمثلون فيه أدوارهم وهم لا يحسون.
أرغب أن أصور لهم صورة يرون فيها معايبهم؛ فيصلحونها، ولا أرغب أن أغشهم بتصوير الناس صورة جملية، ولكنها مخالفة للحقيقة.
وليعلم القارئ الكريم، أن فن الروايات منقسم إلى قسمين؛ القسم الأول يسمونه «رومانتيك»؛ أي روايات خيالية، والقسم الثاني يسمونه «ريالستيك»؛ أي روايات حقيقية، فالأولى هي التي تصور البشر كما يجب أن يكونوا، لا كما هم في الحقيقة، والثانية تمثل البشر كما هم بنقائصهم ومعايبهم ومخازيهم، وأشهر كتاب الخيال السير ولترسكوت القصصي الإنجليزي وإسكندر ديماس وماكس بمبرتون وغيرهم، وطريقة كتاب القصص الخيالية هي أن يجلس الكاتب في غرفته، ويتخيل الحقول الخضراء، والحدائق الغناء، وغدران الماء، والطيور المغردة، والليالي المقمرة، والأبطال الشجعان، والنساء الجميلات، والغزل والغرام، والشكوى والجفاء واللقاء، ثم يكتب قصته. وأما طريقة كتابة الروايات الحقيقية هي أن يلبس الكاتب ملابسه أو يتزيى بغير زيه، ويتجول في الطرق والأزقة، ويدخل المجتمعات والمحطات، ويرقب حركات الناس في ملاعب القمار والحانات والحدائق العمومية، ويبقى طول ليلته هائما في الطرق؛ يدرس الأخلاق والطبائع والعادات، وهو فيما بين تلك الأشياء يقيد ما يراه ويسمعه ويدرسه، ثم يجلس ويكتب قصته ويسبك فيها كل ما رآه وسمعه.
وكل الكتاب في أوائل القرن التاسع عشر وما قبله، كانوا يميلون للطريقة الخيالية؛ لسهولتها ورواج رواياتها، وينفرون من الطريقة الثانية؛ لصعوبتها ونفور القراء منها. ومثل نفور القراء من الروايات الحقيقية؛ كمثل القبيح يقف أمام المرآة ويرى قبح وجهه فيكذب المرآة ويطلب غيرها تريه نفسه جميلا.
وكان أول من هدم أساس الخيال وشاد صروح الروايات الحقيقية الكاتب القصصي الفرنسوي الشهير «هو نوردي بلزاك»، الذي ولد في أواخر القرن الثامن عشر، ومات في أوائل القرن التاسع عشر، وهو أول من بدأ بكتابة قصصه على الطريقة الحقيقية، وأول من بدأ بتحليل أخلاق البشر وقلوبهم تحليلا فلسفيا، وكل ما كان يأخذه عليه أعداؤه هو تصريحه تصريحا يخدش وجه الحياء، ولكن بلزاك لم يعبأ بهم، ولم يرغب أن يجر الذيل على المخازي، بل أراد أن يكشف أمرها ليراها الناس بأعينهم، لعلهم يرجعون عن غيهم، وقد كتب عددا عظيما من القصص، وجمعها تحت عنوان «الكوميدية الإنسانية»؛ أي رواية الإنسانية المضحكة.
وقد سار على خطوات «بلزاك» تلميذه «إميل زولا» الكاتب الفرنسوي الشهير الذي انتقد «لويس أولباك» كتابه المسمى «تريزا راكن» بقوله: «إنه كتاب نتن؛ لأن مؤلفه صرح فيه بما يجب كتمانه.» •••
وبعد أن جالت في رأسي تلك الآراء والأفكار، قمت فسرت في طرق القاهرة، ولم أترك بابا حتى طرقته، وكنت في تلك الأثناء أقيد ما أراه في دفتر صغير، وأكتب ملحوظات عن كل كبيرة وصغيرة، وبقيت على هذه الحال ثلاثة شهور، ثم جلست أكتب قصة عن «الرجل والمرأة»، ولست أقصد بالرجل ذلك الإنسان الذي يعمل ويكد ليربح خبز يومه، إنما أقصد الرجل الساقط الذي أساءت إليه الهيئة الاجتماعية، وجنى عليه أبوه، فأتى يضرب في ديجور هذه الحياة، وما زالت تتهيأ له الأسباب حتى سقط في حضيض الفساد، ولا أقصد بالمرأة تلك المخلوقة التي تهز سرير طفلها وتطبخ لزوجها، إنما أقصد المرأة المسكينة المحتقرة المهانة الظالمة المظلومة التي أجبرها الفقر وألزمتها الفاقة، فباعت عرضها لتأكل بثمنه رغيف خبز يابس!
وقد قصدت الكتابة عن المرأة والرجل؛ لأنه لم يهلني شيء في القاهرة مثل حال الرجل والمرأة وسقوطهما، ومن الغريب أن أفكار الأمة كلها كانت مهيأة لسماع ما يقال في هذا الموضوع، فإنه منذ قليل من الزمان قام «حافظ أفندي عوض» وأخذ يشرح على صفحات المؤيد حال الشاب المصري شرحا وافيا يدل على أننا في حاجة عظيمة إلى الإصلاح، وهاك نبذة مما كتب في المؤيد بهذا الشأن:
إن مثل هذا الموضوع «يعني سقوط الشبيبة واندفاعها مع تيار الفساد الأدبي» لا يصح أن يقال فيه إلا الحقيقة، لا يصح أن نسلك فيه سبيل عشاق الخيال ومحبي الأوهام، بل يجب أن ننهج فيه نهج التصريح بتصوير الحقائق على ما هي، وإن كان تصويرها كذلك غير مألوف على بعض الأذواق، وبذا يمكن أن يقال إننا أبرزنا صورة حالنا الحقيقية، حتى إذا ما ألقى الناظر إليها نظرة، صاح وإن كان جامدا في إحساسه: «هلموا إلى الإصلاح! هلموا إلى الإصلاح!»
انتهى كلام المؤيد، فما أصدق هذا القول وما أجمله!
وبعد ذلك بقليل قرأنا مقالة في الجوائب المصرية في عددها الصادر يوم الأربعاء 17 مايو 1905 تحت عنوان:
حبائل الشيطان
يمر رجل الأدب والتهذيب في شوارع الأزبكية، فيخيفه ما يرى أمامه من صنوف الخلاعة وأنواع الفجور، ومن تلك الأشراك المنصوبة عند كل خطوة لاصطياد المال وسلب الصحة والآداب، فيخطر في باله، وهو الأديب، أن يبحث عن أسباب هذا الداء المنتشر في القطر انتشارا يقصر عنه انتشار الطاعون في بومباي منذ بضع سنين مضت، يمشي المرء من جهة قهوة الشيشة الوحيدة ليلا إلى وجه البركة، فلا يصل لإلدورادو إلا ويعثر بمائة سبب من أسباب الفجور، فيصل إلى الإجبسيان فيرى جميع الأسباب مجتمعة معا إن لم يكن فيها ففي جوارها، ثم يتقدم قليلا في ذلك الشارع لجهة قهوة اللوفر، فيرى ما لا يجوز أن يخطه قلم، ثم ينظر إلى أكثر المباني فخامة وأشد المحال ازدحاما وأجمل الحوانيت أثاثا وأتمها زينة وأكثرها أجورا، فيرى أن محال البغاء نائلة القدح المعلى ورافلة بلباس الزينة الأسنى؛ ذلك لأننا شباننا الكرام العواطف ينفقون الذهب الوضاح على مناضد مثل هذه المحال بلا عدد ولا حساب، مع أنهم يحاسبون مساح الحذاء على المليم، والعامل في حقولهم أو الخادم في بيوتهم على البارة أو على ما هو أقل منها.
كثر الويل فصار عاما، فسقط شباننا حتى في عدم تمييز الكلام المهذب من غيره ، وصار بعضهم يقص أخبار زيارة البغايا كعمل شريف يفتخر به في أندية الخمر!»
انتهى كلام الجوائب.
وصوت الجوائب أيضا صوت صارخ يستغيث صاحبه من حال الشبيبة الساقطة.
ثم جاء تقرير جناب اللورد «كرومر»، وفيه نبذة طويلة عن «الرقيق الأبيض»، وقد قرأنا مقالة بقلم «قارئ ناقد» في صحيفة الإكسبريس التي تنشر في الإسكندرية في عددها الصادر يوم 14 مايو سنة 1905، وهي تشرح كلام اللورد «كرومر» عن الرقيق الأبيض، قال الكاتب:
الرقيق الأبيض
جاء في تقرير اللورد «كرومر» عن مصر والسودان في سنة 1904 ما يأتي: كتب إلي الماجور «هوبكنسون»، رئيس الشرطة في ثغر الإسكندرية عن الرقيق الأبيض، يقول:
إن جمعية الاتجار بالنساء لها أعضاء ومعضدون في كل مكان، فإن الفتيات يبعث بهن من مدينة إلى مدينة، ومن أرض إلى أخرى، ومن يد شرير إلى يد فاسق، والناس عنهن لاهون. وأكثر ما تكون تلك التجارة الخاسرة في بلاد الشرق، فمن شنجاهاي إلى بومباي وغيرها، وليس لهم إلى تلك البلاد من مخرج سوى بورت سعيد.
انتهى. كلام الماجور «هوبكنسون».
قال اللورد «كرومر»:
ولا أشك أن تلك التجارة قد راجت رواجا شديدا في مصر، لا سيما في ثغر الإسكندرية، وقد نفي كثيرون ممن كانوا يتناولون تلك البضاعة، وقد أثر نفيهم تأثيرا نافعا، واعتبر بهم غيرهم من أهل الشر والفساد، وقد قام الكونت «منسي» وبعض أفاضل الإفرنج بتأسيس ملجأ للفتيات المسكينات اللاتي يقذف بهن الدهر إلى الإسكندرية. انتهى.
قال «القارئ الناقدي»: ولم يكن يجول بخاطرنا يوما أن ذلك السياسي العظيم يصل إليه صوت هؤلاء النسوة المسكينات اللاتي أوقعهن القضاء ورمى بهن القدر في مخالب ذئاب الهيأة الاجتماعية، ولو كانت أمم الأرض طرا تفتخر بأنها محت آثار الذل والاستعباد وهدمت أسواق الرقيق فإن ذنوب الفتيات اللاتي يؤتى بهن من بلاد بعيدة لتعرض أعراضهن في سوق الفساد لا تزال واقعة على رءوس تلك الأمم.
ولو قام الكونت منسي وإخوانه بتأسيس ملجأ يلجأ إليه هؤلاء النسوة المسكينات فأحرى بأغنياء المسلمين في ثغر الإسكندرية وغيره أن يؤسسوا جمعية تشبه جمعيتهم لمحاربة الذين يجرون النساء المصريات الجاهلات إلى الفحش والعار.
انتهى ما جاء في صحيفة الإكسبريس.
ونحن نضم صوتنا إلى صوت الإكسبريس، ونقول إن تأسيس ملجأ للنساء البائسات خير ألف مرة من تأسيس مستشفى للمجاذيب؛ لأنه إذا صلحت المرأة صلحت العائلة ولو صلحت العائلة صلح كل شيء.
المرأة! المرأة! تلك المخلوقة الضعيفة يجب إصلاحها؛ لأنها وا أسفى عليها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها أذى ذئاب المدنية، وإن قدرت فهي لا تريد، ولا أدري على رأس من يقع ذنبها؟ فإن المسكينة تسقط بسرعة، ولو سقطت فليس لها من يرفعها؛ فيدوس عليها الرجال وهي تستغيث بهم وهم لا ينجدونها، حتى تكتم في نفسها أنفاس الطهر وتبقى كالحيوان يأكل ويشرب وينام، وتموت من قلبها عواطف الحب والشرف. ومن العجيب أن الناس يحتقرون المرأة الساقطة وهي جديرة بالشفقة والحنان، وينظرون إليها بعين الإهانة وهي جديرة بالإكرام. وما أجمل كلمة فكتور هوجو التي قالها:
لا تلم المرأة الساقطة في مهاوي عارها؛ إنك لا تدري تحت أي حمل سقطت من أحمال الدنيا وأثقالها.
وقد اختلفت آراء الناس في ذنب المرأة الساقطة، أيقع عليها أم على الهيئة الاجتماعية؟ وعندي لتلك المسألة ثلاثة أجوبة: الجواب الأول بقلم كاتب فاضل يكتب في مجلة «السيدات والبنات»، والجواب الثاني بقلم شيخ الفلاسفة الكونت تولستوي الروسي، والجواب الثالث من عندي. وهاك الجواب الأول:
منذ بضع سنوات كان في أحد المخازن بشارع شريف باشا فتاة أوروبية تدير شئون المخزن، ولا تسلني عن نوع البضائع والسلع التي كانت في المخزن؛ لأنني إذا ذكرتها وكنت إسكندريا خشيت أن تعرفه. وكنت أتردد على هذا المخزن لشراء شيء منه، فكلما دخلت وجدت الفتاة كسيدة حقيقية جالسة إلى مائدة جميلة تكتب وتأمر وتنهى والمستخدمون طوع أمرها، وكان الواحد منهم إذا خاطبها يخاطبها بكل احترام، ولا يكون خطابه إلا قوله باللغة الفرنساوية: «تحت أمرك يا مدموازل.» «نعم يا مدموازل.» «حاضر يا مدموازل.» أي إنها كانت سائدة في ذلك المخزن سيادتين: سيادة رئيس العمل وسيادة الجمال؛ ذلك لأنها كانت رائعة الجمال ، وكان لها ابتسام ملائكي وجبين نقشت عليه الطهارة وثغر كزر الورد عند تفتحه، فكنت إذا دخلت لأبتاع شيئا بفرنكين خرجت وقد ابتعت بأربعة؛ إذ أخجل من إضاعة وقتها بشيء قليل، وكنت في مخاطبتها أحترمها وأجلها كما أحترم أكبر سيدة؛ لما رأيته من أدبها ورقتها وقوتها.
وفي ذات يوم دخلت المخزن على حسب العادة لأسأل عن شيء، فلم أجدها فيه، وقد مر على ذلك اليوم نحو ثلاث سنوات دون أن أراها، إلا أنني منذ أسبوعين شاهدتها في مركبة في شارع شريف باشا، والمركبة تسير بها مسرعة، فأول ما وقع نظري عليها علمت سر المسألة، علمت من مجرد نظري إليها أنها نزلت وا أسفاه في هاوية جهنم، فإنني فتشت في وجهها على آثار الطهارة الملائكية والجمال العذري وظواهر عدم الاكتراث الصبيانية التي كانت مرسومة على جبينها فلم أجد منها شيئا فيه، ولما وقع نظرها علي صدفة واتفاقا صرفت عينيها عني وزاد انقباضها، فلا ريب عندي في أنها ذكرت حينئذ الرجل الذي كان يعاملها باحترام عظيم في تردده على مخزنها، وأن تذكرها هذا الاحترام قد آلم نفسها حينئذ، ولعل كلمة «أخجلها» في هذا المقام أصح من كلمة «آلمها» ...
فالراجح أن أحد الشبان اللئام أغوى هذه الفتاة وزين لها ترك عملها واتباعه ليعيشا سعيدين، وربما قال لها ليؤثر عليها: «مالك أيتها العزيزة وهذا العمل الشاق المضجر طول النهار لتكسبي مائة فرنك في الشهر، اتبعيني فأعطيك بلا تعب ولا ضجر ثلاثمائة وأربعمائة، ونعيش معا بهناء وسعة.» فصدقت الفتاة الساذجة وعود الغشاش وتركت العمل لتتبعه، ومن هنا بدأت آلامها ومصائبها وأهوالها، وبعد أن كانت موضع الاحترام والإكرام؛ لرزانتها ونشاطها وعملها، أصبحت موضع الشفقة ممن يعرفها والاحتقار ممن لا يعرفها.
فأي ذنب هنا للهيئة الاجتماعية، أليس الذنب كل الذنب للفتاة التي انخدعت وحادت عن الصراط المستقيم اغترارا بأقوال شاب لئيم؟
نعم أيتها الفتاة المسكينة إن الذنب ذنبك لا ذنب الذي غشك، فإنه متى أصاب الثعلب دجاجة وأكلها يكون اللوم بالأكثر على الدجاجة التي لم تقو على الفرار من الثعلب، وما كان أسهل فرارك من الثعلب، الوحش المفترس، لو بقيت متمسكة تمسك الغريق بخشبة في البحر، بذلك المبدأ الشريف، مبدأ العمل المقدس المشرف، المسلي الطارد الأفكار الرديئة، المقوي على احتمال الحياة والمعيشة فيها بشرف وعزة واستقلال.
هذه هي قصة الابنة التي أشرت إليها فيما تقدم، إلا أنني لما وصلت إلى هذا الموضع شعرت بأن الفتاة المذكورة آنفا يمكنها أن تعترض على ما أعترض به عليها اعتراضا خطيرا قد يصعب الجواب عليه، وإنما يصعب هذا الجواب أولا لارتباطه بأساس (المسألة الاجتماعية)، وثانيا لأنني أكتب هنا في مجلة نسائية؛ ولذلك ألقيت القلم من يدي، وأنا آسف لأنني لم أكمل هذا الموضوع، على أن أسفي لعدم إكماله خير من إكماله؛ إذ ما الفائدة من انزعاج أدمغة الحسان اللطيفات الظريفات بالافتراضات والفلسفات وغيرها من الترهات؟
انتهى كلام الكاتب.
ونحن نشتم من هذا الكلام أسلوب «فرح أفندي أنطون» صاحب الجامعة ونفسه، وأنت ترى أنه وصل إلى غرضه، وإن كان تظاهر بعدم إكمال الموضوع، وزيادة على ذلك أنه رمى طيرين بحجر، فأوقع ذنب الفتاة الساقطة على رأسها، ثم عاد باللوم على الهيئة الاجتماعية، وقال: «إن الجواب يصعب لارتباطه بالمسألة الاجتماعية.» والمسألة الاجتماعية التي أشار إليها فرح أفندي أنطون هي التي ذكرت في مقدمة البؤساء، وكان لها شأن عظيم لقلة ألفاظها وكثرة معانيها، وهي:
ما دامت في العالم جهنم يشعل نارها النظام والعادة، وما دامت الفاقة تجبر الرجل على ذل السؤال، وما دام الجوع يلزم المرأة لبيع عرضها؛ لتأكل بثمنه، بل ما دام الجهل والفقر في هذه الحياة، فكتاب مثل كتاب البؤساء لا يستغنى عنه.
أما شيخنا «تولستوي»، فقد أجاب بما يأتي، وهو الفصل الثاني من كتاب البعث الشهير، قال يصف حياة الفتاة السجينة «مسلوفا كاتوشا»:
وقصة تلك السجينة كانت مثل قصص كل البغيات، فإن أمها كانت امرأة غير متزوجة تخدم في إحدى الضياع، وكانت تلك المرأة تأتي في كل عام بطفل سفاحا، ولما كانت فقيرة في حاجة إلى كسرة خبز وشربة ماء، كانت تهمل أمر أطفالها ثمرات الزنا، فيموتون من الجوع والبرد والمرض، أما الطفلة السادسة فقد كان أبوها من أبناء السبيل، وحدث أن إحدى صاحبتي الضيعة التي كانت فيها المرأة أتت إلى معمل اللبن، فرأت المرأة نائمة في إصطبل الأبقار مع مولودة جديدة عليها علائم الصحة والجمال، فأخذتها عليها شفقة ورحمة وشاءت أن تتبناها، فأعطت لأمها قليلا من المال لتتغذى وتقوى على إرضاع الطفلة.
وحدث أنه لما بلغت البنت المتبناة الثالثة من عمرها، ماتت أمها وتركتها حملا ثقيلا على امرأة عجوز كانت تمت لها بحبل القرابة، فلما علمت صاحبتا الضيعة بذلك قربتا الطفلة إليهما وأدخلتاها دارهما، فعاشت بينهما ونمت وشبت وأصبحت صبية جميلة سوداء العينين خفيفة الروح، وكان اسمها «كاتوشا».
وصغرى الأختين صاحبتي الضيعة، واسمها «صوفيا» التي تبنت هذه البنت «كاتوشا»، كانت طيبة القلب كثيرة الشفقة والحنان، أما «ماري» وهي الأخت الكبيرة، فكانت قاسية القلب غليظة الطباع، فكانت «صوفيا» تنفق على ملابس «كاتوشا» وتعلمها القراءة والكتابة؛ وذلك لتكون في مستقبل الأيام سيدة حقيقية، أما «ماري» فكانت ترغب أن تكون «كاتوشا» في المستقبل خادمة أمينة، وكانت تعاقبها إذا هفت، وتضربها أحيانا إذا عملت ذنبا يستحق الضرب، وبهذه الحال أصبحت «كاتوشا» تحت تأثيرين مختلفين، فلذلك جاءت نصفها سيدة ونصفها خادمة أمينة، وكان شغلها الخياطة والاعتناء بتنظيف الغرف والقاعات وجلاء الأيقونات النحاسية، وما شابه ذلك من الأشغال البسيطة، وكانت بعض الأحيان تجلس وتقرأ للسيدتين، وقد عرض عليها الزواج مرتين فلم تقبل؛ لأن الرجلين اللذين خطباها كانا من العملة، وعاشت «كاتوشا» هكذا حتى بلغت ستة عشرة عاما، فأتى إلى الدار ابن أخي السيدتين، وهو صبي جميل غني وطالب علم في إحدى المدارس الجامعة؛ ليقضي بعض أيام مع عمتيه، فأحبته «كاتوشا» رغما عن نفسها، وبعد أربع سنين، عاد هذا الأمير ليقضي مع عمتيه أربعة أيام قبل أن يلحق بالجيش المحارب الذي عين فيه ضابطا، وفي اللية الأخيرة قبل سفره تمكن من «كاتوشا»، وأزال بكارتها وأعطاها ثمن عرضها مائة روبل، وبعد ذلك سافر، ولما مضى على هذه الحادثة المؤلمة خمسة أشهر علمت «كاتوشا» أنها حامل، فضاقت الدنيا في وجهها وكرهت كل شيء، وانحصرت أفكارها في البحث عن طريقة تتخلص بها من العار والفضيحة، وانكسر قلبها، وصارت تهمل في أشغالها، ومرة أهانت السيدتين بكلامها، ثم تابت واستغفرتهما وسألتهما أن تأذنا لها في الخروج فطردتاها، فانطلقت «كاتوشا» طريدة دهر جائر الأحكام، وخرجت تطلب رزقا بعرق جبينها، فدخلت في خدمة ضابط من ضباط البوليس، ولكنها لم تبق عنده أكثر من ثلاثة شهور؛ وذلك أنه كان يبلغ الخمسين من عمره، وكان كثيرا ما يغازلها، ومرة خرج عن حده في مزحه معها، فغضبت غضبا شديدا وشتمته قائلة: «أيها العفريت العجوز المجنون.» ثم لكمته في صدره فوقع على الأرض، فأخرجها للحال من بيته لسوء سلوكها.
وبعد أن غادرته لم تبحث عن محل آخر للخدمة؛ لأن زمن وضعها قد حل، فقصدت منزل إحدى القوابل، وكان الوضع سهلا، ولكن القابلة كانت مصابة بالحمى فنقلت العدوى منها إلى «كاتوشا»، فلزمت الفراش وبعثت بالمولود الصغير إلى ملجأ اللقطاء؛ حيث مات بعد وصوله بقليل، وقبل أن تذهب «كاتوشا» إلى دار القابلة كان معها مائة وسبعة وعشرون روبل، مائة دفعها لها الذي أزال بكارتها وسبعة وعشرون حصلت عليها من دار الضابط، فلما خرجت من دار القابلة كان كل ما معها ستة روبلات؛ لأنها المسكينة لم تكن تعرف فن الاقتصاد السياسي، فكانت تنفق على نفسها كما تشتهي وتعطي كل من يسألها، فأخذت منها القابلة أربعين روبل جزاء الولادة والنفاس، وأخذت المرأة التي نقلت المولود من دار القابلة إلى ملجأ اللقطاء خمسة وعشرين روبلا، واقترضت المولدة أربعين روبلا لتشتري بها بقرة، وأنفقت «كاتوشا» عشرين روبلا في شراء بعض الملابس واللوازم، ولما فقدت «كاتوشا» كل شيء عمدت إلى الخدمة ثانية، ودخلت دار رجل غني فأحبها لأول وهلة، وبدأ يداعبها ويغازلها، وما زال بها حتى تمكن منها، فعلمت بذلك زوجته وكبسته هو و«كاتوشا» في سرير واحد، فضربت «كاتوشا» ضربا مبرحا، فدافعت «كاتوشا» عن نفسها ثم طردت بدون أن تأخذ أجرتها، ولما ضاقت الدنيا في وجهها مرة ثانية، ذهبت لتعيش مع خالة لها؛ لأنها كانت تعرف أن زوج خالتها قادر على وقته، ولكن للأسف كان هذا الزوج قد اعتاد شرب الخمر فافتقر؛ ففتحت زوجته مغسلا تغسل فيه ملابس الناس لتعيش هي وأولادها وزوجها البائس، فلما نزلت «كاتوشا» بخالتها شاءت الخالة أن تعطيها وظيفة «غسالة»، ولكن «كاتوشا» خافت من التعب وبدأت تبحث عن مكان تخدم فيه، فوجدت مكانا خاليا في دار سيدة لها ابنان، وكان أكبرهما بالغا، فلما رأى «كاتوشا» ترك كل دروسه وانتبه لها، وكان يطاردها من مكان إلى مكان ولا يتركها تستريح لحظة، فعادت أمه باللوم على «كاتوشا» وطردتها.
فعادت «كاتوشا» ثانية إلى «حانوت المخدم»، فرأت هناك امرأة سمينة مكشوفة الذراعين وفي يديها أساور من ذهب وفي أصابعها خواتم كثيرة، فلما علمت هذه المرأة أن «كاتوشا» في احتياج إلى الخدمة أعطتها عنوانها ودعتها إلى منزلها، فذهبت «كاتوشا»، فرحبت بها المرأة وقدمت لها فطيرا ونبيذا، ثم كتبت خطابا وأعطته للخادم ليبلغه لأحد الناس، وفي المساء أتى إلى الدار رجل طويل أبيض الشعر له لحية طويلة، ودخل غرفة الجلوس، وجلس بجانب «كاتوشا»، وأخذ ينظر إليها برقة وانعطاف، وبدأ يمزح معها ويداعبها، فدعته صاحبة البيت إلى غرفة مجاورة، وسمعتها «كاتوشا» تقول له: «بنت جديدة من الأرياف.» ثم دعت «كاتوشا»، وقالت لها: «إن هذا الرجل مؤلف، وهو غني، ولو أحبك لا يبخل عليك بشيء؛ فاجتهدي في إرضائه.»
وقد أحب المؤلف «كاتوشا» وأعطاها خمسة وعشرين روبلا، ووعدها بأن يقابلها كلما سنحت له الفرص، فدفعت «كاتوشا» بعض هذه النقود إلى خالتها أجرة سكنها، واشترت بالبعض الآخر قبعة.
وبعد ذلك بأيام قلائل بعث إليها المؤلف، فذهبت له؛ فأعطاها خمسة عشرين روبلا أخرى، وأسكنها في منزل خاص بها، وكان بجوار المنزل الذي استأجره المؤلف ل «كاتوشا» حانوت تاجر، وكان هذا التاجر جميلا، فوقعت «كاتوشا» في حبائل غرامه، وباحت للمؤلف بسرها فأطلقها، واستأجرت لنفسها منزلا منفردا، كان التاجر يتردد عليها فيه.
وبعد أن قضى التاجر من «كاتوشا» حاجته وعدها بالزواج، ثم سافر بدون أن يخبرها، وتركها وحيدة، فأرادت أن تبقى في المنزل، فأنذرها البوليس وأعلمها بأنه يجب عليها أن تسحب «رخصة»، وأن تكون مستعدة للكشف الطبي في أيام معلومة، فعادت إلى خالتها، فلما رأتها خالتها ورأت ملابسها وقبعتها خافت أن تعرض عليها صناعة الغسل، وكذلك «كاتوشا» لم يخطر ببالها أن تصير غسالة؛ لأنها كانت تنظر بحزن شديد إلى الغسالات المسكينات اللاتي أصابهن مرض السل من صناعتهن الشاقة التي تعرضهن للبرد والحر والتعب.
وفي تلك الأثناء لم يبعث الله ببطل كأبطال الروايات الخيالية؛ لينجد «كاتوشا» من فقرها وعارها، ووقعت المسكينة في يد امرأة لها بيت عمومي، وكانت «كاتوشا» قد اعتادت التدخين وشرب الخمر، ولم تكن تحب الخمرة لطعمها، إنما كانت تنسيها همومها وأحزانها، لأنها في حال الصحو كانت تحس بالعار والحزن.
وقد خيرتها صاحبة البيت العمومي بين أمرين، وهما: إما أن تبقى فقيرة تخدم في بيوت الناس، وتطرد من بيت إلى آخر، أو تعيش في بيت عمومي مصرح بفتحه من الحكومة، فيصير لها مركز ثابت وتكسب كثيرا بدون تعب، فاختارت «كاتوشا» البيت العمومي بما فيه من الراحة والنعيم، وخطر ببالها أنها بوجودها فيه يمكنها الانتقام من الذي أزال بكارتها، ومن التاجر الذي أحبته وأخلف وعده معها، ومما زاد في رغبتها في المعيشة في البيت العمومي هو أن صاحبته قالت لها إنه يمكنها أن تلبس الحرير والمخمل، ويمكنها أن تأمر الخياطة بتجهيز كل الملابس كيفما شاءت، فمن الثوب ذي الذيل الطويل إلى الثوب الذي يظهر الأكتاف والصدر، فقالت «كاتوشا» في عقلها: ما أجملني إذا لبست ثوبا من الحرير الأصفر المحلى بالقطيفة السوداء! ثم سلمت نفسها إلى صاحبة البيت العمومي. وفي هذا اليوم نفسه دخلت ذلك البيت الذي صاحبته «كارولين البرتوفنا كتيافا»، ومن ساعة لمست قدم «كاتوشا» عتبة هذا البيت، ابتدأت تعيش عيشة فظيعة ضد الشرائع والآداب الإنسانية، تلك حياة البغيات التي يعيشها مئات الألوف من النساء، وتصرح بها الحكومات، حياة أقل ما فيها أنها تقصف غصن شباب المسكينات اللاتي يقعن في حبائلها، وتنتهي بالعلل والأمراض والموت المعيب، فإن إحدى هؤلاء المسكينات تتيقظ من نومها في الساعة الرابعة بعد الظهر، فتهب من فراش قذر فيأتي إليها بالقهوة، وهي تائهة فاقدة الرشد، ولا تزال في ملابس نومها، فتمشي من مكان إلى مكان في غرفتها أو تطل من النافذة بكسل شديد حتى يخيم الظلام، فتبتدئ المشاجرات بينها وبين شريكاتها في الشقاء، ثم تغسل وجهها، وتعطر جسمها، وتصلح شعرها، وتقيس الملابس الجديدة، وتنظر إلى نفسها في المرآة، ثم تنقش وجهها بالصبغات البيضاء والحمراء، ثم تأكل ثم تلبس الحرير والمخمل، وتنزل إلى غرفة الاستقبال الكبيرة، فيأتي الضيوف وتبتدئ الموسيقى والرقص والسكر والتدخين، ويبتدئ الصراخ والضحك والمشاجرات والتدخين والسكر والموسيقى والصراخ والضحك، ثم الاختلاط برجال مختلفين حتى الصباح، فتنام الواحدة نوما ثقيلا، فتتيقظ الساعة الرابعة بعد الظهر، وهكذا في كل يوم حتى ينتهي الأسبوع، فيذهب كل النسوة إلى مركز البوليس؛ حيث يكشف عليهن أطباء معينون من الحكومة ويصرحون لهن بالمداومة على هذه الحال باسم الحكومة وإذنها، وهكذا في كل أسبوع وكل شهر وكل صيف وشتاء وخريف وربيع وكل سنة.
وهكذا عاشت «مسلوفا كاتوشا» سبع سنين، وقد انتقلت من البيت الأول إلى بيوت غيره، وحجزت في المستشفى مرة.
وفي السنة السابعة من تلك الحياة السوداء؛ أي لما بلغت «كاتوشا» ثمانية وعشرين سنة، حدثت في البيت الذي كانت فيه جريمة هائلة، فاتهمت مع المتهمين وسجنت ثلاثة شهور مع اللصوص والقتلة والمجرمين قبل المحاكمة التي تنتهي بنفيها إلى سيبريا.
انتهى الفصل الثاني من كتاب البعث، تأليف تولستوي.
ويرى القارئ أن تولستوي أيضا قسم الذنب إلى قسمين: قسم يسقط على رأس «كاتوشا»؛ لأنها رفضت العمل كغسالة وخافت من الخدمة، ولأنها اختارت حياة الراحة والنعيم على حياة التعب الشريف، والقسم الثاني - وهو أكبر القسمين - على الهيئة الاجتماعية التي أساءت إليها؛ لأنه لو لم يزل الأمير بكارتها ما تركت السيدتين، ولو لم يداعبها الضابط ما تركت داره، ولو لم يطاردها التلميذ الكبير الذي خدمت في بيت أمه ما خرجت مجروحة الفؤاد، إذن الذنب واقع على الناس أكثر من وقوعه على «كاتوشا» المسكينة الحزينة السجينة.
أما الجواب الذي من عندي، فهو بسيط صغير، وهو أن الذنب كله واقع على رأس الرجل أولا وعلى الهيئة الاجتماعية ثانيا؛ لأن الرجل هو الذي يهجر زوجته، وهو الذي يغري الفتاة فتصير امرأة، وهو الذي يغازل الحرة ويطارحها الغرام، وهو الذي يترك زوجته حاملا وابنه في أحشائها ولا يسأل عنها، فيجبرها الفقر على بيع العرض، وهو الذي يعلمها التدخين وشرب الخمر، وهو الذي وضع القوانين وسن الشرائع، فلم ينصف المرأة وظلمها ... الرجل هو الذي يقع على رأسه ذنب المرأة، ولا تكفير لسيئاته نحو تلك المخلوقة الضعيفة إلا تهذيبها وتعليمها ومنع نفسه عنها منعا باتا إلا بطريقة شرعية، أليس لنا بالحيوان الأعجم أسوة، وكل ذكر منه مكتف بأنثاه؟
إني أعتقد بأن المرأة تصلح لأن تكون ملكا طاهرا أو ملكة عادلة أو أما شفيقة أو زوجة فاضلة ومدبرة عاقلة، أو بغيا ساقطة أو مجرمة قاتلة، وكل ذلك في يد الرجل، فليجعلها كما يشاء، والذنب ساقط على الهيئة الاجتماعية ثانيا؛ لأنها ترى كل تلك الأمور ولا تمد يدها للمرأة، وتساويها بالرجل في كل شيء، فإنه عار على عصر العلم والمدنية والحرية والفلسفة أن تبقى فيه المرأة تزني لتأكل.
ولو بعث المسيح الآن حيا، وسئل عن رأيه في سقوط المرأة لأعاد الكلمة التي قالها منذ تسعة عشر قرنا، وهي: «من كان منكم طاهر الذيل فليرمها بحجر.» وقد يقول بعض الجاهلين بأن الكتابة في هذا الموضوع في مصر لم يأن أوانها، أو هي من قبيل وضع الشيء في غير محله، وقد فرضنا هذا القول من قبل وهزأنا به؛ لأنا نكتب للعقلاء، فإن لم يرض العقلاء بما نكتب فإنما نحن نكتب لنطرح عن قلبنا حملا ثقيلا ولنؤدي للإنسانية خدمة صغيرة، ونحن نتمثل بكلمة «جول سيمون» التي قالها في أول كتابه «المرأة في القرن العشرين»: «ولا أطمع بأن أبدي رأيا جديدا، ولكن إذا لم يكن لكلامي تأثير إلا في تعزيز بعض المبادئ التي أهملت، فإنني أعتبر عملي جديرا بالتعب.» ونحن إذا لم نبد رأيا جديدا، إنما نؤيد آراء أكابر الكتاب الذين كتبوا في «ذلك الموضوع»؛ مثل فيكتور هوجو وألفرد موسيه وروبرت هيتشنز وشيخنا تولستوي، ول «طانيوس عبده» رأي في ذلك الموضوع نجعل به ختام المقدمة مسكا:
المومس والشمس
غادة لو تجملت بجمال الن
نفس كانت آلهة الجلاس
طلعت مطلع الغزالة تختا
ل ازدهاء بقدها المياس
بين قوم دروا «قياس ابن سينا»
فاستجازوا عريض ذاك القياس
طلعت بينهم وقالت الأشا
عر فيكم مطيب الأنفاس
عربيا يشبه الوجه بالش
شمس وتلك القدود بالأغراس
فانبرى بينهم فتى عرفوه
قبلها أنه من الأكياس
تصدى لها وقال وقد تا
ه من السكر بين ورد وآس
أنت كالشمس غير أنك مثل الش
شمس في كونها لكل الناس
حديقة الحلمية 14يونيو سنة 1905
الفصل الأول
كنت بالأمس على وعد من صديق لي، فلما بلغت داره دخلت، فوجدته جالسا والحزن باد على وجهه، ولما حييته وجلسنا نتحادث، سألته عن سبب حزنه، فقال: جلست اليوم أنظر في صور أصحابي الذين عرفتهم، فبصرت بتلك الصورة، فحركت أشجاني، قلت: وأي صورة تقصد؟ قال: هذه التي تراها بين يدي، فنظرت إلى ما بين يديه، فرأيت صورة، فتناولتها، فقال: بالله عليك لا تمكني من النظر إليها، فإني لا أستطيع ذلك، فنظرت في الصورة، فوجدتها صورة شاب يبلغ العشرين من عمره، قلت: عجيب لك أن تحرك في نفسك تلك الصورة الحزن والأسى، قال: أتعرف صورة من هي؟ قلت: لا، قال: هي صورة مختار، قلت: ومن هو مختار؟ قال: بالله عليك لا تدع الحديث يجرنا إلى ذكره، فإني ليحزنني أن أعيد سيرته بعد أن صعدت نفسه إلى السماء وثوى جسمه بين الجسوم في الأجداث.
قلت: لعل إعادة الحديث تخفف ما بك من الهم، وتذهب بما أصابك من الحزن، فتنهد، ثم أخذ الصورة من يدي، ونظر إليها نظرة الآسف الحزين، وقال يخاطبها: «أستميحك عفوا أيتها النفس إن كنت في جنات النعيم، أو في نار الجحيم، وأنت أيها الجسم الذي تغلبت على تلك النفس، فهويت بها إلى وادي الهموم تبا لك وتعسا!» ثم صمت صديقي قليلا، فقلت له: إني لم أفهم كلامك، فهل لك أن تقص علي قصة صاحب هذه الصورة، فقال: لك ذلك، فاسمع: كنت مدعوا منذ سنتين في المهرجان الفخيم الذي أقامه موسى باشا لزواج ابنته، وكنا في فصل الشتاء، وقد اجتمع في ذلك المهرجان كل أغنياء القاهرة وسراتها وأكابرها، ولم يدخر موسى باشا وسعا في إكرام المدعوين، وأنفق في هذا المهرجان نفقة هائلة، وقد بلغني أن نفقات «البوفيه» بما فيه من المآكل الشهية والخمور المعتقة زادت على ألف جنيه.
وفي نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل، جلست مع بعض أصحابي في قاعة الشراب، وكان المغني يغني بألحان شجية، وكان بين الجالسين معي شاب يناهز العشرين من عمره، أسمر اللون، نحيف القوام، اسمه مختار، ولما شربنا وصعد بخار الخمر إلى رءوسنا، بدأنا نتكلم عن النساء والقمار، وحكى كل منا ما عنده من قصص الغرام وأخبار المقامرين ونوادر السكارى حتى جاء الدور في الكلام على مختار، فحدثنا قائلا: إن أمري في القمار عجيب، فقد دخلت مرة قاعة لعب «البكارات» ومعي خمسة جنيهات، فلعبت وربحت، وبقيت ألعب وأكسب حتى حصلت على ثلاثمائة جنيه في أقل من ساعتين، وكنت في ذلك الحين أحب فتاة حبا كاد يصل بي إلى الجنون، فكنت أنفق على ملذاتها وملذاتي أكثر من عشرين جنيها في كل يوم ما بين تره وولائم وخمر وملابس وحلي و... فتحرك أحد الجالسين، وقال: وأي فتاة تلك التي حملتك كل هذه النفقات، أو كانت تحبك كما كنت تحبها؟ فقال مختار: أنا لا يهمني إن كانت تحبني أو لا تحبني، إنما أنا أحبها، وماذا علي إذا أحببت والمحبوب يكره؟
فتحرك شاب آخر، وقال: «أنت مخطئ يا مختار؛ لأن كره النساء لمن ينفق عليهن وحبهن لسوائه قد أمسى أمرا محققا، ولقد أحببت أنا امرأة حبا جما، وكنت أنفق عليها كل ما أكسبه، وكانت تظهر لي حبا أعظم من حبي، وتحلف لي بأوثق الأيمان أني مليك فؤادها ومالك قيادها، وحدث في إحدى الليالي أننا شربنا حتى سكرت المرأة، وباتت لا تدري ماذا تقول وتصنع، فلما نمت إلى جانبها، وبدأت أداعبها وأشكو لها غرامي، رأيت دمعتين كاللؤلؤ الرطب قد انحدرتا على خدها الناعم، فظننتها تبكي من نار حبها لي، فطفر قلبي سرورا ولم يلبث خفقان قلبي من الفرح طويلا حتى بدأ يخفق من الغيظ والغيرة؛ لأنني رأيت حبيبتي بعدت عني، فتناومت لأرى ما تصنعه، فإذا بها قامت وانسابت انسياب الأفعى، وفتحت الباب بكل سكون واحتراس، وخرجت تمشي على أطراف أصابعها، فعلمت أن في الأمر سرا، وعقدت نيتي على اقتفاء أثرها، ولكنني صبرت قليلا، ثم قمت وخرجت أبحث عنها، ولما صرت في «الصالون»، سمعت همسا، فأشعلت عودا من الكبريت فجأة، وإذا بي أرى المرأة التي تحبني مع الخادم، ويدها حول عنقه وهي تقبله وتضمه وتبكي ...»
وعند ذلك ضحكنا كلنا ضحكا عاليا.
وما زلنا كذلك في شراب وضحك وكلام حتى أشرقت الشمس، فسكت المغني وانفرط عقد المجلس وانصرف كل إلى غرضه.
الفصل الثاني
ثم تنهد صديقي وأتبع الحديث بالحديث، قال: ولقد أحببت مختارا بعد أن تعرفت به، ووقعت بيننا الألفة وصرت صديقه الحميم، فلما كان مساء يوم من الأيام لقيت صاحبا له وسألته عنه، فقال إنه في معلب القمار، وكنا نحو الساعة الأولى بعد نصف الليل، فلم تكن لحظة حتى صعدت إلى ملعب القمار، وهو تلك القاعة الرحيبة التي ببابها النحس والسعود، وقبل أن أدخلها وقفت بالطرقة هنيهة، وكانت مملوءة بدخان الطباق، وبعد قليل دخلت، وكان اللاعبون كلهم منكبون انكباب الجائع على طعام لذيذ، ومن نال منهم كرسيا كان وراءه ثلاثة أو أربعة من الرجال، وكأنهم قد عقدوا آمالهم بآماله يربحون إذا ربح ويخسرون إذا خسر، والكل حول منضدة كبيرة مفروشة بقماش أخضر، وفي صدر المنضدة رجل ضخم الجسم، كبير الرأس، أحمر الوجه، شعره أسود، وهو مرتكن بيديه على المنضدة كمن عقد النية على الحرب والقتال، ونوى أن لا يعود إلا رابحا ربحا طائلا أو خاسرا خسرانا ليس بعده خسران، وأمامه أوراق اللعب والمال الذي كسبه .
فحشرت نفسي بين الجمع، ورقبت الرجل الكبير، ثم نظرت، فإذا بالجالسين والواقفين قد وضع كل منهم أمامه ما عرضه من مال للخطر، وصمت الكل، فتناول الرجل الكبير ورقة وأعطاها لرجل عن يمينه، وأخرى وأعطاها لمن على يساره، ثم اتخذ ورقة لنفسه، ثم نظر في ورقته، فإذا بها رابحة، فحشد المال الذي كان موضوعا أمام اللاعبين، فلم تكن لحظة حتى ضاعت آمال المؤملين، ورب رجل جمع بين اللاعبين كان قد لعب بكل ما يملكه، وأمسى بعد تلك المرة لا يملك ما يسد رمقه أو رمق عيلته، ورب فتى نهب مال أمه الأرملة وأخواته اليتامى ولعب به، وهو سيعود إليهن ملوما محسورا.
وكنت أرقب وجوه اللاعبين، فكنت أرى بعضهم لا يتغير ولا يتأثر، ورأيت رجلا يونانيا وضع أمامه ورقة مالية بمائة جنيه، فدارت عليها الدائرة، وخسرها، وأخرج غيرها وهو يبتسم؛ كأنه لم يفقد زينة الحياة الدنيا، ولحظت اللاعب الكبير - ويسمونه «البنكير» - يخسر مرة، فإذا بأنفه الكبير قد تغير وانقلب من الاحمرار إلى الاصفرار، وهذا كل ما كنت ألمحه من التغيير في وجهه.
وإنا لكذلك، وإذا برجل قد وضع يده على كتفي، فالتفت فرأيته يناهز الأربعين من عمره، مقطب الجبين، مملوء الوجه بالغضون، وشعره أشيب وثيابه رثة وهو كئيب حزين، فنظرت إليه نظر السائل عن أمره، فمد يده إلي وفيها أربعة قروش، وقال ألا تعمل معي معروفا وتقرض الله قرضا حسنا وتعطيني ربع ريال؟ ... فلم أستطع أن أرده ولم أستطع أن أنصحه، وأعطيته ما طلب، ولم آخذ الأربعة قروش من يده، فشكرني ثم انصرف عني، ولمحته وهو يلعب، ورأيته خسر تلك القطعة، ولكنه لم يستطع أن ينظر إلي، وخرج من بين الجماعة، فاقتفيت أثره بنظري حتى غاب عن عيني، فتنهدت لحاله.
أما هواء الغرفة، فقد فسد كثيرا؛ لأنه مضى على المجتمعين فيها نحو الأربع ساعات، وهم لا يتحركون منها، وفيهم العليل والمريض، وكان الفصل شتاء، فلم يستطع أحد أن يفتح نافذة، وكان الطباق يخرج دخانه المسموم، فيعقد فوق رءوس الكل هالات من الغيوم القتالة، وما كنت ترى إلا خاسرا يأوي إلى قاعة الاستراحة حتى يهدأ روعه أو رابحا يبدل الماركات، أو خادما يأتي بالقهوة وغيرها من المرطبات للاعبين، ومن الغريب أنه في مثل هذا المكان يسود السكوت التام، ولا ينبس أحد ببنت شفة خشية أن يقلق راحة الباقين، ومن يعرف من اللاعبين أنه خسر يتحمل خسارته بشجاعة وصبر، ويتقهقر بانتظام، ومن هؤلاء اللاعبين رجال يربحون المائة والمائتين من الذهب، وهم لا يلبسون قميصا نظيفا أو سترة ثقيلة يتقون بها شر البرد، فما الفائدة في جمع كل هذا المال؟! وقد خطر ببالي وأنا أرى ذلك أن أغلبهم يلعبون لمجرد اللذة ويجمعون المال كما يجمع تاجر الفراخ الدجاجات لا ليأكلها بل ليأكلها غيره، وكذلك المقامر لا يلبث أن يفرح بربحه حتى يلحقه الطمع فيخسر الدينار!
الدينار! هذا هو المعبود الذي تخر له الناس سجدا، أليس هو ذلك المعدن الأصفر الحقير الذي نال قوته بندرته؟!
وفي هذا الحين بصرت بمختار وأمامه قليل من الذهب، وكثير من قطع العظم المستديرة «الماركات»، وهي تختلف في القيمة كما تختلف النقود، فحولت نظري نحوه، وعولت على أن لا يشعر بوجودي لأراه وهو يلعب بماله والحظ يلعب به، فرأيته وضع جنيها فربح مثله، ثم غلبه الطمع، فوضع ثلاثة جنيهات، فربح مثلها، ثم وضع جنيها فخسره، وقطعتين من العظم فخسرهما، وكان وقت انقضاء اللعب قد حان، فقام الكل وفيهم من كسب ومن خسر، فدنوت من مختار وحييته، ومن العجيب أنه لم ينتبه لكلامي وكأنه في بحر من التفكير، فلما تنبه لي قام وغادرنا الملعب، فقال: إلى أين؟ قلت: إلى حيث تريد، قال: إلى حبيبتي منيرة، فإني على ميعاد منها الليلة، وقد أسعدني حظها، فربحت أربعة جنيهات، قلت: أما تبت يا مختار عنها؟ قال: دعني من هذا، فإني لا أدري لماذا أحبها، شيء في عينيها وفي وجهها يجذبني إليها، كما يجذب المغنطيس الحديد، صوتها الرقيق وحركاتها الرشيقة وتيهها ودلالها، كل ذلك يحببها إلي، ألست تعلم أن عاطفة الحب إذا حلت قلبا قتلت كل ما حولها من العواطف حتى عاطفة الحياء والشرف؟! أنا أعلم أنني مخطئ في كل ما أصنع، ولكن أحبها! أحبها! إن قلبي مجنون بغرامها، ولست أحس بهذا الحب إلا إذا أقبل الليل، فإنه يحرك شجوني ولا يهدأ لي بال إلا إذا كانت الفتاة إلى جانبي، ولا بأس إذا أتيت لتراها الليلة.
الفصل الثالث
قال محدثي: فسحرني كلام مختار وسرت معه، وكانت الساعة الثانية بعد نصف الليل، فمررنا بالأزبكية وأمكنتها التي كانت منذ ساعات مملوءة بالرجال والنساء، وصارت الآن خالية خاوية، وكنا في أوائل الشتاء، ولما أحس الناس بالبرد انصرفوا إلا قليلا ممن لا مأوى لهم، فمن ولد صغير لا يزال يتحكك بالحوائط، كأنه يسألها أن تأويه، وفي يده ورق «اليانصيب» يصرخ به قائلا: «حلوان والمدرسة مائة ألف فرنك يانصيب.» فيردد الليل صدى صوته، ومن مقعد يزحف على الأرض بيديه ورجليه، وهو ينتظر من أبناء السبيل درهما يأكل به أو يستر به جسمه، ومن امرأة طريدة دهر جائر الأحكام، ومن رجل فقير سكير حتى نسي نفسه وأهله، ثم أحس بالبرد القارس فأخذ يسعى إلى داره.
فلما رأيت ذلك احتقرت نفسي واستصغرت رفيقي، وقلت: يا مختار ماذا يأتي بنا إلى هنا في مثل هذه الساعة، ووراءنا أهل ينتظرون عودتنا؟ قال: أما أنا فذاهب إلى حبيبتي، قلت: أما أنا فإن نفسي في ألم شديد، قال: لماذا؟ قلت: لأنني في حاجة إلى فتاة طاهرة تقف إلى جانبي، فترشدني بجمالها ونفسها الطاهرة في ديجور هذه الحياة، قال: أتريد إذن أن تتزوج؟ قلت: نعم، فإن عائلة الرجل وزوجته وأولاده موئل لقلبه من هموم هذا العالم وأحزانه؛ لأن الرجل يرى في امرأته شريك حياته وصديقه في مشتكى حزنه وأنيسه في منتهى جذله، ويرى فيها الصاحب الصادق الذي لا يمل ولا يغضب ولا يضجر ولا يتعب ولا يلوم ولا يعتب.
قال مختار: ولكن لا أظن أن المرأة تحفظ ود الرجل حفظا يأمن معه صيانة شرفه، وقد يحملها غيها على أن تبذل عرضها لأجل أن تطفي نار شهوتها. قلت : إن الرجل إذا عاش مع زوجته عيشة راضية وأظهر لها الحب والوداد ورفع من بينه وبينها أسباب الشقاق، وساسها كما يسوس الفارس الفرس، وكان صاحب النفوذ على نفسها، المالك لأمرها، ليس مع الشدة التي تمل، أو اللين الذي يسهل التغلب على صاحبه، فإنه لا يجد له أسعد من بيته أو أحب إليه من زوجته، ذلك إذا كان الزوج قادرا على العمل يجد رزقا أنى ذهب، أما إذا كان لا يزال شابا لا يدري ماذا يصنع به المستقبل، ولا يعلم لنفسه غرضا تسعى إليه، ولا يأمن الدهر وما يجلبه عليه من المصائب والحاجة، فلا يليق به أن يظلم نفسه ويجني على زوجته وعلى أطفال ربما رزق بهم، بل يجب عليه أن يعيش فردا يقدر على ضيم الزمان إذا أساء إليه. قال مختار: ما لنا ولهذه الفلسفة الآن، وها نحن قد قربنا من الدار؟!
وكل خبير بجحيم الأزبكية يعرف الزقاق الضيق المنحدر الذي يصعد إليه الناس كأنه جبل الذنوب، وهذا الزقاق مأوى البائسات اللاتي اضطرتهن الفاقة والجوع والجهل والظلم إلى بيع العرض، فبعنه بثمن بخس، وقد يمر نصف الليل ونصف نصفه الثاني، وهن جالسات على الأبواب ينتظرن رزقا، ويغنين كما يغني العمال في المعامل لتسهيل شقة العمل على أجسامهم، وكأني بهؤلاء المسكينات قد أحسسن بثقل عملهن على نفوسهن، فأخذن يسهلنه بالغناء.
على أن هذا الزقاق هو عالم في ذاته؛ لأن فيه من دروس الحياة وهمومها وأحزانها ما ليس في مدينة كبيرة، ومن الغريب أن الزقاق جمع كل أصناف الإنسانية، ففيه المصريات والتركيات والروميات والنمساويات، فهو معرض شقاء، بل هو الخشبة الموضوعة في عين القاهرة والقاهرة لا تراها، اجتمع هؤلاء النسوة من أطراف المعمورة وقصدن باب الفجور ودار المعاصي، فاستقبلتهن تلك المدينة الفاسقة بصدر رحيب، فانزوين في أركانها كما تنزوي الأفاعي والحيات في أركان الجدار القديم وتلدغ من يأوى إليه، كم من الأسرار يحفظها ذلك الزقاق! وكم جريمة تقترف فيه! وكم مصيبة نزلت منه على الشبيبة الناشئة! وكم نفس تئن بين جدرانه فتكتم أنفاسها حوائطه! وكم نفس ضائعة تائهة ضالة أوت إلى ذلك الزقاق، فآواها وزادها ضلالا على ضلال؟! إن هذا الزقاق شائبة من شوائب الحرية.
مسكينات هؤلاء النسوة، فما أحوجهن إلى الإشفاق والرحمة، مسكينات هؤلاء النسوة والمجتمع الإنساني في غفلة عنهن ولا يحسبهن من البشر، وكل ما جنينه أنهن ضاقت بهن الحال من زوج يسيء ولا يحسن، ودهر خان فأودى بما كان لدى الواحدة من المال، فلم تجد من يعولها، وطرقت أبواب الارتزاق فسدت في وجهها فعمدت إلى صناعة فيها راحة وثروة، وهي جاهلة لا تدري للشرف معنى، ولا تعلم بأنها تفرط في أثمن شيء لديها.
ومررنا في طريقنا على إحدى هؤلاء النساء، ورأيت جسمها قد أكله المرض، وبلغ منها الهم مبلغا شديدا، وهي لابسة رداء من الحرير كأنه الكفن للأموات وعيناها تنظران إلى الأرض نظرة من خسرت تجارته وهما غائرتان، وأنفها بارز ولونها أصفر رغم كل تلك الصبغات البيضاء والحمراء والسوداء التي صبغت بها وجهها، ورأيت رجلا من السوقة قد مر بجانبها، فشدته إليها وجذبته بملابسه، فنفر منها، فسألته أن يعطيها سيجارة، فأبى عليها وردها فتركته آسفة، أما هو فلما رأى من هي أقرب منها إلى الجمال وقف بجانبها وبقي يداعبها وتداعبه على مرأى ومسمع من تلك المسكينة.
وعند ذلك بلغ بي الهياج درجة شديدة، فقلت لمختار: أسمعت برجل صناعته الأكل والشرب، فهو لا يتناول عملا غيرها؟ قال: كلا ما هذه الأسئلة الغريبة؟! قلت: لماذا إذن أنت تسمع بامرأة صناعتها الزنا ليل نهار لا ترفض من يقصدها في عرضها حسنا كان أو قبيحا، صبيا كان أم كهلا، قذرا كان أم نظيفا، عليلا كان أم صحيحا، ما دام يملك من المال ما تسد به رمقها وتستر به عورتها، امرأة تزني لتأكل ولا تأكل إلا إذا زنت؟ ألا يحق للمدنية أن تخجل ويصبغ الحياء وجهها ألف مرة كلما صبغت تلك البائسة وجهها مرة لتحلو في عين من يراها من الرجال؟!
كم من أم تقود ابنتها بيمينها إلى جحيم الفجور لتسد رمقها! وكم من أب تقتل ابنته شرفه على مرأى منه ولا يمنعها؛ لأن الفقر يقتله! كم من زوج يسلم زوجته بيده لأجل أن يشبع بطنه ويستر جسمه ...؟!
أشفقي أيتها الإنسانية الناعمة البال على تلك الإنسانية المعذبة، أشفقي أيتها الإنسانية على ذلك البدن النحيل وتلك النفس الضائعة وذلك القلب الضعيف من نار الخمر وآلام الأمراض وأتعاب السهر وسم الزنا!
أمطري أيتها السماء نارا على من ينام هادئا وفي المدينة التي يعيش بها امرأة لا تجد كسرة من الخبز أو ثوبا من القماش حتى يجد منها الرجل الدنيء لذة!
الفصل الرابع
قال محدثي: وأنا أفكر في تلك الأمور، وإذا بمختار يقول: ها هو البيت، فرأيت بابا صغيرا فدخلناه، ووجدت نفسي في طرقة ضيقة فيها مصباح يتنفس، وكان مختار خبيرا بالسلم، فصعد وتبعته حتى بلغنا بابا في الدور الأعلى، فنقره نقرة، ففتحت الباب صبية في نحو العشرين، سمراء سوداء العينين والشعر، منبسطة الجبين، وهي كالسكارى في مشيتها ونظرتها، ولما رأت مختارا قالت له: «أهلا يا ابن الكلب.» وطوقته بذراعيها، ثم أدخلتنا إلى بهو كبير قذر، فيه بعض المقاعد التي يفضل الإنسان أن يقف ساعات ولا يجلس عليها، ولكني لما رأيت مختارا جلس على أحدها جلست بجانبه، وكان على أحد المقاعد طفل صغير - وأظنه غلاما - مستلق على ظهره، وهو نائم نوما لطيفا هادئا ولا أدري بماذا كان يحلم في هذه الساعة وهو في تلك الجحيم، أما هو فكان كثير الشبه بالفتاة، وقد عرفت فيما بعد أنه أخوها، ولما جلسنا هنيهة بدأت الفتاة تضحك وتمزح، وكذلك أخذ مختار في الكلام والقهقهة، ففتح الغلام عينيه، وقام مذعورا وقد أدهشته رؤية الوجوه الغريبة، وكان على مقربة منه امرأة عجوز أظنها أم الفتاة والولد، وهي ما بين الخمسين والستين وفوقها شال من الصوف، وبين أصابعها لفيفة من طباق، فلما رأت الغلام تيقظ ضمته إلى صدرها، لعله ينام وينسى ما رآه.
وبعد أن جلسنا في ذلك البهو قليلا، أدخلتنا الفتاة إلى قاعة نومها، وهي غرفة صغيرة فيها شرفة تطل على الطريق، وفيها مقعد ومنضدة من المرمر عليها مرآة كبيرة، وصندوقات صغيرة، وإلى جانب من الغرفة قد وضع سرير مرتفع عن الأرض، ذلك السرير الذي أباحته شرائع الحرية، وقالت: «لينم عليك أيها السرير كل من ترغب فيه صاحبتك.» ولم تخط قدماي عتبة هذه الغرفة حتى خرجت منها رائحة كريهة قد سببها عدم تصريف الهواء وكثرة اتقاد المصباح فيها.
وبعد أن جلسنا لمحت في وجه مختار اصفرارا وفي يده ارتجافا، وبعد قليل طلب مختار خمرا فأتى بها، وبقيت الفتاة تملأ ويشرب، وهي تحادثه بكلام كله بذاءة ووقاحة، وتخلط كلامها في كل حين بقولها: «أحبك يا ابن الكلب، أحبك ...»
وإنا لكذلك، وإذا بأصوات مزعجة وصرخات متوالية، قد بلغتنا من الشرفة المطلة على الطريق، فنهضت قائما لأرى سبب هذه الأصوات، ونظرت وإذا أمامي امرأة مطلة من نافذة في البيت المقابل للبيت الذي نحن فيه، وهي تصرخ بأعلى صوتها وتستغيث بالناس، وملابسها مشتعلة بالنار وشعرها كذلك، وعيناها في أم رأسها، وهي صفراء كالأموات، وتحاول أن تمزق ملابسها المشتعلة فلا تستطيع، ولما رأتنا أمامها استغاثت بنا، وصرخت قائلة: «يا منيرة يا أختي خذيني.» وهذا اسم محبوبة مختار، وكانت منيرة في هذا الحين تقول: «مسكينة يا فاطمة ليس في استطاعتي ذلك، وليتني يمكنني أن أطفئ تلك النار.» ولما يئست تلك المسكينة من النجاة، ألقت بنفسها إلى الأرض، فسقطت بلا حراك وبدون أن تصرخ، وكان الناس قد اجتمعوا تحت النافذة رجالا ونساء، فلما رأوها سقطت فروا هاربين خوفا وجزعا إلا قليلا من أخواتها في الشقاء، فإن إحداهن أخذتها على تلك المسكينة الشفقة والحنان، فأتت بماء وأخذت تصبه على جسمها حتى كادت تموت حرقا وغرقا؛ لأن النار كانت قد أحرقت ثديها وجزءا من وجهها، ولما أحست بالماء البارد صارت تئن والدم يخرج من حلقها، وفي ذلك الحين كان رجال الشرطة قد أقبلوا فحملوها وأدخلوها دارها.
وكل ذلك حدث في زمن قصير جدا، إنما كان تأثيره في نفسي شديدا، وكذلك رأيت علائم الحزن بادية على وجه منيرة، أما مختار فقد أسف لهذه الحادثة ؛ لأنها أقلقت راحته وأقلقت راحة محبوبته، وبعد أن جلسنا رويدا دخل علينا خادم منيرة، فسألته مولاته عن الخبر، فقال: «إن هذه الفتاة فاطمة كان لها رفيق تحبه، وهو يأتي إليها كلما سنحت له الفرص، وهذا الرفيق يوناني لص، وحدث أنه أتى إليها الليلة فوجد عندها رجلا غريبا وكان سكران، فحقد عليها، ولكنه أظهر لها الود حتى خلا بها، فطلب منها مالا كعادته فلم تعطه، فازداد غيظا وضربها، فصرخت، فقذفها بالسراج، وكان الباب مقفلا من الداخل، فلم تستطع أن تخرج واشتعلت ملابسها وشعرها بالنار، ثم جرى ما رأينا.»
وبعد ذلك بقليل استأذنت مختارا في أن أذهب، فأذن لي باشا، فخرجت حزينا كئيبا.
الفصل الخامس
قال محدثي: وقد حكى لي مختار بعد ذلك يصف ليلته مع حبيبته، قال مختار: ولما خلوت بها بدأت أشرب خمرا، وهي تشرب كذلك، وكنت في كل لحظة أميل إليها ميلا شديدا، وأنسى أهلي وعائلتي وشرفي، وأظن أنه ليس في الحياة إلا هذه المرأة، وحياتي بدونها تكون هباء منثورا، أما هي فقد غابت عيناها في أعلى جفنيها من السهر والخمر واسترخت مفاصلها، وكنت كلما يخطر ببالي أمر أهلي أو أمر المستقبل أو أمر تلك المسكينة التي أحرقت وأغرقت، كنت أجتهد في طرد تلك الأفكار السوداء عني حتى لا تكدر صفوي، ثم قامت منيرة وخلعت ملابسها ولبست للنوم ثوبا من الحرير الأحمر ولم تلبس سواه، وقامت إلى السرير ونامت، فقمت وخلعت ملابسي ولبست ثوبا من ثيابها، وذهبت إليها وقبلتها قبلة حارة، فأحسست أن نفسي تكاد تطير إليها شعاعا ... وفي ذلك الحين أحسست بسعادة غريبة، فإن القاعة المقفلة علينا والليل الهادئ الساكن وضوء المصباح وقنينة الخمر ومنيرة في السرير، كل تلك هيجت عواطفي هياجا شديدا.
قال محدثي: وأظن أن مختارا في مثل هذه الساعة قد غابت نفسه عن جسمه، فانتصر الحيوان الذي فيه وصرخ طالبا شهوته الدنيئة، ومن الغريب أن كل رجل في مثل هذه الحال ينسى كل شيء ولا يخشى عواقب ما سوف يعمله، ولا يحسب للمرض حسابا ، ولا يذكر ربه ولا دينه ولا شرفه، ولا يذكر شيئا مطلقا، ولو بلغه أن أباه مات أو أن الدنيا ومن عليها قد تغيرت وتغيروا أو أن القيامة قامت لا يعبأ بخبر من تلك الأخبار ولا يهمه شيء مطلقا، وأمثال هذه الساعات هي التي تتغلب على فكر الشاب وتصغر في عينيه الفقر والفاقة والمرض وضياع الثروة والشرف، والدليل على ذلك ما حكاه مختار، فإنه قال: فكنت أملأ الكأس من الخمر وأدنو من منيرة، فأشرب وأقبلها قبلة، ثم أسقيها من الكأس، فتشرب وهي نائمة، وأقول في عقلي: يا إلهي، هل في كل النساء اللاتي خلقتهن من حواء إلى الآن امرأة أجمل من منيرة؟ كلا، كل شيء فيها جميل، في نومها وفي يقظتها، في سكرها وفي صحوها، إن نفسي طارت إليها شعاعا ...
وبعد رويد لم أعد أستطيع صبرا عن وصالها، فصعدت إلى السرير وضممتها إلى صدري ضمة كانت فيها لذة شديدة لا يمكن أن أتصورها، ففتحت عينيها وابتسمت، فبدأت أبث لها لواعج شوقي وهي تتيه وتدل وتأبى وتنفر، وكان كل ذلك يزيدني بها تعلقا وإليها شوقا و... بعد أن ملكت قلبي ولبي ونفسي وجسمي، وما زلنا كذلك حتى الصباح، ولم أنم، وهي كذلك لم تنم حتى أشرقت الشمس، فغلبني التعب والسهد والغرام والخمر ورائحة القاعة فنمت، ولا أدري متى تيقظت، ولكني لما تيقظت كان السراج لا يزال مشتعلا، ووصلت إلى أذني أصوات الناس وغاغة العجلات، فهببت ونظرت في وجه منيرة الجميل فإذا به قبيح، فتغلبت شهوتي على نظري ودنوت منها أقبلها، فشممت من فمها رائحة كريهة، وكأنها أيضا قد شمت من فمي رائحة كريهة، فحولت وجهها عني، ثم قمنا كلانا.
وفي هذه اللحظة فقط قد شعرت بأنني أتيت مع هذه المخلوقة القبيحة الوجه القذرة الرائحة ذنبا عظيما لا يغتفر، فلم أكلمها، وهي كذلك لم تكلمني، بل نظرت في وجهها، فلم أجد فيه تلك المعاني التي كنت أجدها فيه في الليل، أين رقتها؟ أين عيناها البراقتان؟ أين صوتها النسائي الجميل؟ كل ذلك ذهب، فرأيتها صفراء كئيبة حزينة، وقامت وأطفأت المصباح، وجلسنا بوسخ وجهنا وأيدينا وأجسامنا ونفوسنا ... حتى استرحنا من النوم ...
ثم قمت إلى بيت الخلاء، وكانت معدتي قد أثر بها السهر، فأصابها إمساك شديد، فعدت وقد زاد ضغط الطعام الغير المهضوم على مخي، فكنت في غيبوبة شديدة حتى كنت أكاد لا أتذكر ما صنعته وما رأيته في الليلة الماضية.
ونظرت إلى وجهي في المرآة، فإذا به أصفر وعليه نظرة حيوانية، وكنت لا أزال بثوبها فخلعته، وغسلت وجهي بماء لا أدري إن كان نظيفا أم قذرا، ونشفت وجهي بمنشفة قذرة قديمة.
ثم دخل علينا الخادم، وكان صبيا في ربيع شبابه، فلما نظرت إليه رأيته أحمر الوجه، معتدل القامة، مبتسما؛ لأنه نام نوما هادئا في هواء نقي، وليس على نفسه أثر الذنوب، فحسدته على نعمة الصحة والعافية، وأقول الحق إنني تمنيت لو أكون أنا ذلك الخادم الصغير على ما فيه من العيوب وما له من الصحة والطهر، وأن يكون هو أنا بعللي وأمراضي وقذارتي وذنوبي.
وبعد أن حيانا الخادم، سألنا عن طعام الإفطار، فتناولت قطعة من النقود، وسألته أن يأتي لنا بأي شيء؛ لأنني لم أكن في حالة تطلب معها نفسي الأكل، وكانت شهيتي ميتة لا لشبع أو قناعة، إنما لانحطاط قواي وضعف معدتي عن هضم ما فيها.
وفي هذه اللحظة، تذكرت أيام حياتي الأولى أيام كنت فتى صغيرا أتيقظ بنشاط في كل صباح آكل بشهية وأذهب إلى المدرسة، ولو لم أستح لبكيت أمام تلك المرأة وهذا الخادم على أيام الماضي الجميل، يا إلهي، هل أصبحت أسير شهواتي فلا أستطيع أن أهرب منها؟ هل ذهب الماضي بشبابه وصحته وهنائه، وأصبحت في حالة تبكيني؟!
الفصل السادس
قال محدثي: قال مختار: ولما انصرف الخادم، قمت فلبست ملابسي وودعت منيرة، ووعدتها بأن أزورها الليلة في قهوة الرقص، فقبلتني قبلة عربونا على الليلة القادمة، ونزلت، ولما بلغنا الطريق كنت كمن كان يمثل دورا في رواية محزنة، ثم نزلت عليه الستار وخرج.
وكانت قواي وأنا سائر منتهكة حتى كادت رجلاي لا تقويان على حملي، فسرت منحنيا، مطأطأ الرأس، بطيئا كمن بلغ من الكبر عتيا.
ولكن رغم كل هذه الهموم والأحزان، كانت عواطفي لا تزال في يد هذه المرأة، كنت أسيرها؛ جسما وروحا، وقد سئمت الحياة إلا بجوارها، وكرهت الناس إلا هي، فلا أكرهها ولن أكرهها إلى الأبد، أحبها على نفورها وإبائها، أحبها على ما تجلبه علي من الهم والحزن! أحبها وهي تخرب حياتي! أحبها وهي بغضتني في الناس وبغضت الناس في! أحبها مع كل تلك الأمور.
يقولون إن الحب الطاهر هو الحب القوي الشديد الذي يملك العواطف ويأسر النفوس، أما الحب النجس فهو حب تشتعل به النفس أمدا ثم تطفئ شعلته الفضيلة، فلماذا أنا أحبها أكثر من كل إنسان وأكثر من كل شيء؟ ولماذا أعبدها وأسجد لها؟! لقد سبب لي حبها لعب القمار، والاندفاع في الخمر، وجفاء عائلتي، والبعد عن أهلي. هل حبها ذنب حتى جرني إلى كل هذه الذنوب والآثام؟ نعم، نعم، أنا أحبها فلا بد من رضاها ولو نسفت الجبال نسفا وجفت البحار جفافا، أحبها ولو أمسيت فقيرا مدقعا، أحبها ولو سألت الناس كسرة خبز، إنني مدفوع بعامل أقوى من الفقر والسؤال والعقل والصبر والفضيلة، وأقوى من كل شيء، فيا أسفي ويا حسرتي!
وبعد السير قليلا، وجدت أنني تعبت ولا بد لي من الجلوس والراحة، فدنوت من إحدى القهوات التي يجلس أمامها الناس يتحادثون ويلعبون، فجلست وحيدا منفردا عن الناس، وبدأت أنظر لعلي أجد صاحبا يسليني أو صديقا ألهو بحديثه، ولكن رأيت كل واحد منهم مشتغلا بشئونه، وربما بينهم من هو مثلي أسير شهواته.
ومن الأسف أنني اعتدت عادة قبيحة مذمومة، وهي أن أبلع حبات مصنوعة من العنبر، فأخرجت من جيبي حقا صغيرا، وأخذت منه عشر حبات صغيرة، وبلعتها، ثم شربت بعدها القهوة؛ ليذوب العنبر ويسري في جسمي سريان الدم في العروق، ولم يكن هذا أول يوم بلعت فيه حبوب العنبر، ولكنني اليوم فطنت لأمرها، وعلمت أنني آكل سما بطيئا، فلما خطر ببالي هذا الخاطر صرفته عني؛ لئلا يكدر صفوي ، وقلت إن الحياة القصيرة اللذيذة خير من الحياة الطويلة المنغصة المملة، وماذا يهمني لو مت شابا أو شيخا، ثم قمت فسرت قليلا، وخطر ببالي أن أذهب إلى دار أمي وأختي؛ لأنني لم أكن قد رأيتهما منذ يوم وليلة.
الفصل السابع
تاريخ عائلة
قال محدثي: ويليق بي أن أذكر لك شيئا عن تاريخ عائلة مختار؛ لتقف على أخبار حياته الأولى، كان أبوه موسى بك ... من سلالة عائلة كبيرة عريقة في المجد، وهو تركي الأصل، أتى جده إلى مصر مع من أتوا منذ مائة عام، وكان جده مقربا من أمير كبير، فوهب له الضياع وأجرى عليه الأرزاق، وأكرمه بعد أن أغناه.
وكان موسى بك أبو مختار قد نشأ في النعيم ودرج في حجر السعادة وذهبت عنه خشونة الترك، وفي كلمة واحدة نشأ كما ينشأ أهل الطبقات العالية في كل الأمم، قوي الجسم، ضعيف النفس، محبا للشهوات، لا غرض له إلا السرور، مدفوعا إليه بطبيعته، وأدخله أبوه المدرسة تقليدا لغيره من أبناء الأكابر لا حبا في العلم، فلم يربح الولد شيئا، وخرج من المدرسة أجهل منه لما دخلها.
وقد أكسبه وجود عائلته في مصر زمنا طويلا رقة في الطباع، ولينا في العريكة، وخمولا وكسلا، وكان أبوه يأمر بالصلاة والصوم، فكان يظهر أمام أبيه بالتقوى والورع؛ لأنه رأى أن أباه في آخر أيامه، واستحسن أن لا يكدر عليه ما بقي من حياته بمخالفة أوامره؛ لأنه لم يكن له إخوة، وكان أحب الناس إلى أبيه.
وأخيرا مات أبوه، ذلك العجوز القديم المحب للقديم، التقي الورع، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، فأحس موسى بأن حملا كبيرا كان على ظهره رفعه الموت، ولكنه كان يحتشم إكراما لأمه ويظهر أمامها بالخضوع، ولكن أمه كانت مريضة، وقد بلغت من الكبر عتيا، فلم تبق بعد أبيه طويلا حتى لحقت به، فخلا الجو لموسى بعد موت أبيه وأمه، لا سيما ولم يكن له إخوة ولا أخوات ولا أقارب ينازعونه الإرث الهائل الذي وصل إليه بموتهما، فجال وصال في ميدان اللهو واللعب ، وأسرف في ماله، وفتح داره للغادات والغواني وغيرهن، وأولم الولائم، وفرط عقد الاحتشام، وعقد لواء الأنس، ولم يدخر وسعا في الجري وراء الملاذ، ولم تفر منه فرصة السرور، ولو كلفه ذلك ما كلفه، وكان أبوه المسكين قبل موته بأيام قلائل يفكر في زواجه بمن تصلح له من الفتيات الكريمات، ولكن مات الرجل ومات أمله ودفن معه في قبره.
وكانت لموسى بك أبي مختار ضياع وعمارات وديار وحوانيت في القاهرة، فأتى على أغلبها بيعا ورهنا.
ويلوح لي أن ظواهر المدنية التي دخلت مصر منذ ثلاثين عاما، بهرت عيون أهلها؛ لأنهم هبوا من نومهم فوجدوا القاهرة في عهد إسماعيل كباريس في عهد لويس السادس عشر، وجدوها زاهية، زاهرة، فيها الملاعب والملاهي، الحرية ضاربة أطنابها، الطرق الفسيحة المضاءة بالأنوار، الحدائق الغناء والقصور الباذخة فيها ما فيها، النيل يرقص ويصفق، وأبو الهول يضحك، لا خوف ... لا وجل ... أمان أمان ... حرية ... حرية ... حرية، رقص، لعب، لهو. اضحكوا يا مصريون، العبوا يا قاهريون، هذا عصر المدنية، فاعبثوا فيه كما تشاءون ...!
فلم يكن موسى بك هو الشاب الوحيد الذي جن بتلك الزخارف، بل كان المسكين سفينة ضالة في بحر السرور، تقذف بها الأمواج وتزفها الرياح كما تشاء، فتكسر قلوعها وتقطع حبالها، وكذلك ضاعت ضياع موسى ودياره وحوانيته وعماراته إلا قليلا، وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره، كل ذلك وهو لم يتنبه من غفلته ولم يحسب للفقر والفاقة حسابا، ولكنه سئم تلك الحياة المضيعة، وتاقت نفسه إلى شيء من السكون والراحة بعد الجري وراء الملاذ، فعقد نيته على الزواج، فطرق أبواب الأغنياء يلتمس منهم فتاة تتزوجه معتمدا على شرف عائلته واسم أبيه وجده بعد أن أضاع أغلب ما كان له، فردوه وطردوه بعد أن علم كل الناس أنه سيئ السلوك لا يصلح للحياة العائلية، فلم يشاءوا أن يضحوا ببناتهم لأجله، فعاد المسكين بصفقة المغبون، وليس في يده صنعة يتسلى بها، وليس في داره إلا الخدم، وليس له قريب يحنو عليه، فعدل عن الزواج، ولكنه بعد قليل استأجر امرأة تخدمه، وكأني به قد انتقاها جميلة لتقوم بأغراضه، وأغلب هؤلاء الخادمات نساء فاسدات، وقد خان إحداهن في عفتها شرير، ثم رمى بها في ديجور الحياة، فخرجت ضالة لعل غيره يعثر بها.
وقد قرب موسى تلك الخادمة من فراشه، وما زال يداعبها ويجود عليها بالمال ويعدها بالخير، ويحبب نفسه إليها حتى قضى منها وطرا ... وحملت منه، فلما ظهرت عليها علائم الحمل، حادثته في الأمر، وأشارت عليه بأن يأتي إليها بدواء يهلك الجنين في بطنها، فلم يقبل بذلك، وقال لها: «إني كفيل بتربيته.» وبعد تسعة أشهر وضعت تلك الخادمة طفلا ضعيفا هزيل البدن مملوءا بالأمراض والسقام التي جناها عليه أبوه، وهو يرتع في جحيم الزنا، ويجرع من سم الخمور.
هذا الوليد هو مختار المسكين الذي جنى عليه أبوه وما جنى هو على أحد، ولما جاء ذلك الغلام أحبه أبوه كثيرا وزاد في إكرام أمه، وبعد ذلك بعام حملت المرأة ثانية ووضعت بنتا، ويظهر أن الرجل بامتناعه عن الزنا والخمر وما يتبعهما مدة عامين وباعتكافه في داره بعد أن هذبته الأيام والليالي، قد حسنت صحته واعتدل في حياته، فجاءت البنت أصح وأجمل من الولد الأول الذي كان دائما حليف الأمراض والسقام حتى يئس أبوه من حياته.
وبعد أن وضعت المرأة تلك البنت، عقد الرجل نيته على زواجه بها، وكان ذلك، وأصبحت حليلته بعد أن كانت خادمته وخليلته، ونمت البنت ودرجت، وأما الولد فكان في كل يوم في حاجة إلى الطبيب والعقاقير، وأخيرا وضع يده في يد أخته وانتصب قائما على قدميه، وسار أول خطوة من خطواته، ففرح به أبوه فرحا شديدا وسرت به أمه؛ لأن مختارا كان ذكرا، وهو أكبر الطفلين وحياته ضرورية لبقاء نسل العائلة الكريمة ... ولو علم الرجل وزوجته بماذا كان يخبئ الدهر لذلك الطفل المسكين وأخته لبكيا بكاء مرا بدل أن يفرحا.
وما زال الطفلان ينموان تحت ظل أبيهما، وهو الرجل الساقط الذي لم يرجع عن الذنوب إلا تعبا منها، وأمهما وهي تلك المرأة الساقطة الجاهلة، حتى بلغ الولد العاشرة من عمره، والبنت التاسعة من عمرها، وكان من يرى الطفل لا يظنه إلا ابن خمسة أعوام لنحافته ورقته وخموله، وعند ذلك بعث به أبوه إلى مدرسة الذكور وبأخته إلى مدرسة البنات.
وكان مختار في المدرسة تلميذا متوسطا قادرا على عمله، ولكنه لم يكن قادرا على الجري والقفز والطفر والمسابقة وباقي الألعاب الجسمانية؛ لأن جسمه كان ضعيفا جدا، وكان لا يتمم عمل سنة في سنة، بل كان يحتاج إلى سنتين.
ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره نال شهادة، فسعى أبوه إلى إلحاقه بوظيفة كتابية صغيرة في إحدى دوائر الحكومة، ثم رد البنت إلى خدرها.
وفي ذلك الحين كان الرجل بلغ الخمسين من عمره، وقضى الدهر غرضه ولم يبق عليه إلا أن يسلمه إلى الموت، وفي ليلة من الليالي، شكا الرجل من ألم في كبده ونام ولم يقم، مات موسى بك أبو مختار وترك أرملة وشابا وفتاة لم يكن لهم في الدنيا سواه، وهكذا طويت صحيفة مملوءة بالذنوب، ومثل ذلك التعس دوره في ملعب الحياة، وسدلت عليه الأبدية ستارها، ولا ندري ماذا يكون من أمره، وقد ترك موسى لعائلته الدار التي كانوا يسكنونها وبيتين آخرين وعشرين فدانا، وكانت المرأة قد هذبتها الأيام، فأمست حكيمة مدبرة، فوضعت يدها على تلك الثروة القليلة وسهرت على عفاف بنتها، ولم تسكت يوما عن نصح ابنها، وكان أبوه قبل موته قد عرض عليه الزواج فلم يقبل، ووعده بأنه سيتزوج بعد عامين، فلما مرت السنتان عادت أمه فألحت عليه بالزواج، فأبى واستكبر، وليت أباه قص عليه قصته في شبابه وأراه ما ينتهي إليه أمر الشباب الذي يندفع في تيار الشهوات والملاذ، وأظنه خشي أن ينبه الولد إلى الذنوب وحسبه صالح القلب نقيا طاهرا، فوقع الولد في الحفرة التي وقع فيها أبوه من قبل، على أن أمه نبهته إلى شر الزنا والخمر، وضربت له الأمثال وقصت عليه القصص، فلامها على سوء ظنها به، وقال إنه معتدل السير، ليس يحتاج نصحا.
ولكن كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟ وكيف يعيش مختار عيشة هادئة صالحة، وأبوه كان من قبله منغمسا في جحيم الذنوب، ولقح ابنه وهو في بطن أمه بجراثيم الشر، فسرى مرض الانحطاط الأدبي في عروق الجنين.
وليس من الصعب أن يسقط الشاب المستخدم في بلادنا إلى أسفل دركات الانحطاط، فإن مختارا كان مستخدما، ورأى أن له عشرين فدانا وثلاثة بيوت، ولم يعلم شيئا من ماضي أبيه، فظن نفسه غنيا كبيرا، واستسهل كل شيء، وخالف أمه فيما كانت تلقيه عليه من النصائح؛ لأنه لم يكن في رأسه من العلم ما يردعه عن غيه، وقلما تجدي النصائح والنفس ضائعة تائهة، فرفض مختار أمر الزواج لما عرضته عليه أمه؛ لأنه خشي أن تقيده زوجته بالبنين والبنات، وهو لا يزال شابا، والتف حول مختار قليل من الأصحاب المفسدين، وما زالوا به حتى زنا ولعب القمار، وحتى كره داره وأبغض أمه وأخته، وكان يخرج فيغيب عنهما يوما أو يومين، فلا كانت أمه تستطيع أن تسأل عليه في مركز عمله ولا كانت تطيق فراقه، فكانت تجلس وتبكي وتقضي ليلتها ساهرة، حالما يكون مختار ينتفض كالعصفور بين أيدي حبيبته، أو يشرب السم في حانة الخمار، أو يخسر المال في ملعب القمار.
الفصل الثامن
قال محدثي: ولما خطر ببال مختار في هذه الليلة أن يزور أمه ذهب توا إلى الدار، فلما رأته أمه عانقته وبكت بكاء مرا، وطفقت تقبله بين عينيه، وأخذت أخته تلومه على غيابه ونسيان أهله وداره، ولكن أين القلب الذي كانت تذيبه تلك القبلات؛ قبلات الأم والأخت؟! وأين الوجه الذي كان يحمر خجلا لعتابهما؟! أين ذلك القلب الذي كان يقطر دما إذا رأى مختار أمه تبكي؟! فسد ذلك القلب ومات، وإن لم يكن قد مات فقد خنق الحب كل العواطف الشريفة التي كانت فيه، وداس الحب النجس - حب المرأة الساقطة على هامة الحب الطاهر - حب الأم والأخت، وبذلك انتصرت الرذيلة على الفضيلة تحت لواء الحرية.
وسألت مختارا أمه قائلة: أين كنت يا ولدي؟ فإن قلبي كاد يذوب لفراقك ولم أنم الليلة الماضية بطولها، ألا يليق بك أن تخبرنا قبل غيبتك حتى نطمئن عليك وتهدأ نفوسنا؟
ومن الغريب أن هذه الكلمات المملوءة بالود والحب الجديرة صاحبتها بالإكرام لم تجد من قلب مختار مكانا، ولم تلق من أذنه مسمعا، فنفر من أمه، وقال لها: وماذا يهمني إذا أخبرتكما أم لم أخبركما؟ فقالت أمه: أنت لا تعلم مقدار حبنا لك، ألست أنا التي ربيتك حتى صرت رجلا، والآن تضن علي بمبيتك ليلة بيني وبين أختك، ثم همت أخته وقالت وقد دفعها نزق الشباب: أين كنت الليلة الماضية؟ لماذا لا تتزوج فتصون مالك وصحتك؟! ...
قال محدثي: وقد حكى لي مختار أنه لما سمع ذلك الكلام غلى دمه في عروقه من الغيظ، وعده إهانة، وغضب غضبا شديدا، وقابل أخته بالشتم والسب لأول مرة في حياته، وقال لي إنه كان ينوي ضربها، ولكنه تغلب على نفسه، ووبخ ضميره على إهانة أمه وأخته، وقضى ليلته في بيته، ولكن كيف قضاها؟ إنه كان مشتت الفكر، مروع القلب، قلق البال، يفكر طول ليله في منيرة، ويخشى أن تحب غيره في غيبته، أو أن يحبب غيره نفسه إليها بالمال، وكان كلما مرت عليه ساعة يحدث نفسه بالقيام والذهاب إليها في مرقصها أو في دارها أو في أي مكان كانت.
وقد اعتاد مختار على السهر، فلم يستطع أن يدخل فراشه قبل الساعة الثانية بعد نصف الليل، وقبل هذه الساعة بقليل لاحت منه التفاتة، فرأى منضدة كان يجلس أمامها أيام كان في المدرسة، ولا ندري ماذا حركت تلك الذكرى في قلبه من الأفكار، إنما قال لي إنه أخرج منديلا ومسح دموعه التي سالت من عينيه، عندما ذكر أيام المدرسة، أيام الطهارة والعفاف والسعادة المنزلية.
وهنا يخطر لنا سؤال في غاية الأهمية، وهو لماذا لا يعود مختار عن الشر وهو في مثل هذه الحال بعد أن حن إلى الحياة الأولى؟ لماذا لا يكره المرأة، ويتوب عن الخمر والقمار، ويعود إلى حضن أمه وجانب أخته، ويتمتع بالسعادة التي فقدها، ويرد لجسمه صحته ولكيسه ماله ولاسمه شرفه؟
والجواب على ذلك هو أن مختارا كان مساقا رغم أنفه، كان محذوفا في تيار الشر بدون إرادته، وأمسى المسكين أسير شهواته لا يملك لنفسه قيادا، هل يصلحه العلم؟ كلا. هل تصلحه الإرشادات والمواعظ؟ كلا. هل يصلحه أبوه إذا قام من القبر؟ كلا. أظن أن الذي يصلحه امرأة فاضلة صالحة كاملة يتزوج بها، فتأخذ حمله عن كتفه وتطلقه من قيد الشر، وتأتي له بطفل ترشده يداه الصغيرتان إلى طريق السعادة. قام مختار بملابس النوم التي كان جالسا بها في قاعة الاستقبال، وتمشى في الدار، فمر بقاعة النوم التي كانت بها أمه وأخته، فسمع شهيقهما وزفيرهما، وهما تغطان في المنام، وكان في قاعة النوم صورة لأبيه كبيرة، فحدثته نفسه بالدخول، فدخل، وكان نور المصباح الذي في غرفة النوم قويا، ونظر إلى الصورة ورأى جسم أبيه النحيل ووجهه الضئيل وعينيه الضعيفتين وجبينه الضيق وأذنيه الرقيقتين.
ولم يلبث مختار وهو يتأمل في صورة أبيه طويلا حتى عاد إلى الوراء فزعا مرعوبا؛ لأنه خيل له أن أباه يفتح عينيه ويقفلهما، فصرخ مختار صرخة عالية ووقع على الأرض.
وتصل تلك الصرخة إلى أذن أمه وأخته، فتهبان من منامهما، الأولى فزعة مضطربة وقلبها خافق ودموعها سائلة خوفا على ابنها؛ لأنها ظنته مات أو جن، والثانية مروعة فاقدة الرشد، أما أمه فلما رأت مختارا ملقيا على الأرض دنت منه وحركته، فتحرك ونظر إليها قائلا: أبي! إن أبي يتكلم! وكانت تلك المرأة الجاهلة المسكينة مريضة بداء القلب، وقد حدث في هذه الأيام ما حرك عليها داءها، فإن غياب مختار أمدا طويلا أقلقها وعكر صفوها، ثم غضبه الليلة عليها قد زاد قلبها تعبا، وأخيرا صرخة مختار وكلماته التي ظنت منها أنه جن قد أتت على آخرها، فسقطت على الأرض وأصابتها نوبة قلبية شديدة، فبقيت تتنفس بألم شديد، واصفر وجهها، وشخصت عيناها إلى السماء، فأتت إليها ابنتها وأجلستها على مقعد على مقربة من النافذة وفتحت النافذة لدخول الهواء، وكانت المسكينة تتطلب النفس من الهواء النقي - على كثرته - فلا تجده، وتشنجت أعصابها وتصبب جبينها عرقا ، وعند ذلك أيقظت أخت مختار خادما صغيرا كان في الدار، وبعثت به إلى دار طبيب كان على مقربة، وبعد هنيهة أتى الطبيب وكان مختار حينئذ قد أفاق من غشيته، ونظر الطبيب إلى المريضة فلم يجد لها مخرجا من تلك النوبة القلبية بغير الحقن بالمورفين فحقنها، وقد حسنت حالها عقب تلك العملية، ولكنها بقيت طول ليلها تتنفس بشدة، وسهرت ابنتها بجانبها تصلح لها الطنافس والوسائد، وقد كانت هذه الليلة من أسود الليالي التي رآها مختار في حياته.
الفصل التاسع
قال محدثي: ولما كان الصباح حسنت صحة الأم المسكينة قليلا، وعادها الطبيب مرة ثانية، وأمر مختارا بأن لا يفارقها لحظة؛ لأنه قال: إن وجوده بجانبها يساعد كثيرا في شفائها.
وفي الليلة الثانية لم يستطع مختار أن يبقى في الدار كما أمره الطبيب؛ ولذلك خرج في عصر النهار، ووعد بأنه سيعود في نصف الليل.
وفي ذلك الحين ذهب إلى حبيبته في المرقص، فقابلته بالترحيب وسألته عن سبب غيابه عنها وعنفته على هجرها وهددته بالغضب والنفور، فحكى لها قصته فتهكمت عليه، وقالت إنه يكذب عليها وإنه أحب غيرها وإنه ... وإنه ... وقالت أخيرا إنه إن لم يبق معها طول الليلة لكان ذلك أكبر دليل على جفائه وهجره.
وعند ذلك وقع مختار في حيص بيص، هل يترك أمه المريضة التي أمره الطبيب بملازمتها، فربما ماتت وهو بعيد عنها؟ أم يترك حبيبته ونور حياته التي تظن أنه كرهها وهجرها، وهذان أمران أحلاهما مر، ولكن يظهر أن قلبه حدثه بأن شيئا هائلا سيحدث الليلة، فاعتذر إلى منيرة وأعطاها دينارا وسلم عليها وانصرف عند نصف الليل، وقد حكى لي مختار بعد ذلك ما رآه في داره، قال: ولما بلغت الدار لقيت عليها علائم السكون والوحشة، وهذا ما لم أكن أره من قبل، ولما فتح الخادم الصغير الباب، رأيته يبكي، فسألته عن سبب بكائه، فقال إن سيدتي الكبيرة في ألم شديد، فنهبت السلم نهبا ودنوت من قاعة النوم، فرأيت ويا هول ما رأيت! رأيت أمي راقدة على سريرها وحولها أختي وبعض النسوة من جيراننا، ورأيت بجانب السرير المنضدة التي كنت أجلس عليها وأنا في المدرسة وعليها زجاجات الدواء، فلما رأتني أختي صرخت وبكت بكاء مرا وشاركها النساء في البكاء، وإني لو عشت ألف سنة لا أنسى تأثير هذا الموقف المحزن، فسألت أختي عن حال أمي، فقالت إنها في الغروب، اشتد عليها المرض، وقطع الطبيب منها الأمل، وعند ذلك سمعت الحشرجة في صدر أمي، فدنوت منها فإذا بوجهها أصفر وعيناها متجهتان نحو السماء ولم أر فيهما نورا، فخفق قلبي خفوقا شديدا، وصرخت قائلا: آه يا أمي، فبكت أختي وبكى كل من في المكان، ثم وضعت يدي على يد أمي وكلمتها، فلم تجب، ولم أسمع سوى الحشرجة التي كانت تزداد في كل لحظة والعرق كان يتصبب بشدة على جبينها البارد، ولكنني لما لمستها رأيت إنسان عينها اليمنى يتحرك نحوي، وعند ذلك تقدمت امرأة عجوز وتناولت قدحا من الماء وبقيت تقطر منه في فم أمي وتضع منه على جبينها البارد، فدنوت من ذلك الجبين وقبلته ...
وبعد هنيهة وصل الطبيب الذي كان يعالجها، ثم حقنها بالمورفين ثلاث مرات، ثم نظر إلى الحاضرين، وقال بعد أن جس نبضها: بقي نصف ساعة، ثم تركنا ونزل ونحن بين باك ومفكر وحزين ...
ثم سكتت الحشرجة، وانتهى ذلك العراك العنيف بين النفس والجسد، وصعدت نفس أمي إلى ربها وتركت جسمها خامدا لا حراك به.
فهاج الناس وماجوا، وانقلبت قاعة الموت من السكون والتأمل إلى الصراخ والعويل والبكاء، وفي الحقيقة لم يكن في القاعة باك بقلب كسير غير أختي التي أحست بالسهم الذي أصابها به الزمن بموت أمها، فإنها جلست في ركن ووضعت رأسها بين يديها، وبقيت تبكي وهي شاخصة إلى جثة أمها تارة وطورا إلى صورة أبيها، كأنها تقول: هذان جنيا علينا وما جنينا على أحد، وبعد قليل خرجت أضرب في ظلام الليل الحالك لأجهز لزوم المشهد. •••
ولم يكن يظن مختار بأن أمه غالية، وأنه يوم دفنها دفن معها في التراب كل راحة وهناء، فلما ماتت وعاد إلى داره ولم يجد فيها غير أخته والخادم الصغير علم حقيقة أنه فقد بموت أمه نعمة عظيمة كانت عنده ولم يكن يقدرها حق قدرها، أما حال أخته فكانت محزنة للغاية؛ لأن أمها كانت رفيقتها الوحيدة، وهي التي كانت تؤنسها في وحشتها، فلما ماتت تركتها بلا مؤنس ولا رفيق فريسة للهموم والأحزان.
وأما مختار فقد أثرت حال أخته فيه قليلا وتحركت في قلبه عواطف الشفقة والحنان، فكان يلتمس أوقات أنسه مع حبيبته في النهار، فكان يخرج من محل عمله إلى دار معشوقته فيجدها في سبات عميق فيوقظها ويتغدى معها، ثم يصرفان بقية النهار في السرور والأنس، ويبقى معها حتى تذهب إلى مرقصها فيصحبها ويلازمها هناك حتى نصف الليل ثم يعود إلى أخته.
ولم يكن لمختار وأخته أقارب أو أصحاب تذهب إليهم أو يأتون إليها في غيبته، فكانت طول يومها حليفة الهم والأسى وطول ليلتها حليفة الأرق والسهاد.
الفصل العاشر
حدث صديقي قال: أتى إلى مصر من بلاد الجزائر رجل تاجر، اسمه الحاج حسن الجزائري، واستوطن مدينة الإسكندرية، وكان نبيها ذكيا ومعه قليل من المال، فاتجر في ماله القليل، ورزقه الله بنتين وولدا، وجاءت البنتان جميلتين رشيقتين، لأن أهل الجزائر مشهورون بالجمال، وأرض مصر تكسب الرقة والرشاقة، وكانت كبيرة البنتين اسمها عزيزة والصغيرة اسمها زبيدة.
وحدث أن عزيزة لما بلغت مبلغ النساء تزوجت بمغربي غني عجوز أرغمها أبوها على الزواج به لشهرته وماله، وبعد زواجها بقليل مات زوجها وعادت عزيزة إلى دار أبيها غنية وجميلة وصبية، أما الرجل أبوها فكان مدمنا على شرب الخمر، وقد قيل: إنه فر من بلاد الجزائر لجريمة اقترفها، وكان يدور على بعض الألسنة أنه كان للحاج حسن أب غني مريض، وكان يقتر على ابنه، فدس الحاج حسن السم لأبيه، فمات وورث الولد كل مال أبيه ثم خشي أن يفتضح الأمر ففر إلى مصر، وكأن ذكرى تلك الجريمة كانت تؤلم ضميره، فكان يفر منها ويلجأ إلى شرب الخمر، وهي التي كانت تسكن أشجانه وتقتل همومه، وقد أضعف ذلك أعصابه ، وكان الرجل نحيلا نحيفا، فأصابه شلل في نصف جسمه الأيسر، وبقي طريح الفراش، وكان ذلك بعد زواج بنته عزيزة بقليل، فلم تدخر زوجته وسعا في سبيل شفائه، ولكن كل أتعابها ذهبت هباء منثورا، وبقي الرجل مقعدا، ولزم غرفته ثلاث سنين، وكنت تدخل تلك الغرفة فترى فيها سريرا صغيرا عليه رجل نحيل أصفر جالس وفي يده كتاب، فلما يحس بك يرفع إليك ببصره ببطء شديد، ثم يحدق بك، ثم يعود إلى حاله التي كان عليها من الذهول والسكينة، ويظهر أن عقله أضعفته الخمر والمرض، أما لحيته فكانت سوداء، وكان وجهه جميلا.
وكان في أول المرض تجلس زوجته وابنته الصغيرة وابنه الذي لم يكن يتجاوز ست سنين، كلهم حوله يداعبونه ويؤنسونه ويحادثونه ويملئون قلبه بالآمال، أما بعد أن طال عليه المرض وقطع الرجاء من شفائه، هجرته زوجته وبنته إلا قليلا، وأوكلتا أمره إلى خادمة فقيرة كانت تتعهده، وتخدمه، وتغسل له وجهه، وتأتي له بطعامه، وقد سبب مرض الرجل نقص دخله؛ لأنه كان مجبورا على ترك العمل، وأوكل أمر تجارته إلى رجل غريب؛ لأن ابنه كان لا يتجاوز السنة السادسة، وأي غريب في هذه الدنيا توكل إليه أمرك ويصدق في خدمتك؟ وأي صاحب تأتمنه ولا يخون؟!
ولما عادت عزيزة إلى دار أبيها علمت أنه لا يملك لها خيرا ولا شرا، وأنها حرة تفعل ما تريد، وكانت تلك الحرية مصحوبة بالمال الذي ورثته عن زوجها، فخلا لها الجو، وأفسدها الشباب والفراغ، والجمال والمال، وعاشت كغيرها من السيدات الغنيات؛ أي إنها عاشت لشهوتها، وكانت تظن أيام زوجها أن كل الرجال مثله لهم لحى وشوارب، وأن كلهم عجوز مريض مثله، وما كان أعظم سرورها لما كانت تخرج وترى الشبيبة الناشئة، وفيها كل شاب أجرد أمرد لا نبات بعارضيه، حلو الفكاهة، رقيق الغزل، جميل الوجه، حسن الهندام.
نعم! نعم! هذا كان في نظر عزيزة منتهى السعادة، فأحست بعقلها وقلبها الفاسد أن مدينة الإسكندرية هي جنة على الأرض، وأن طرقها مسارح الغزلان، فكانت تخرج تلك الخبيثة تنصب حبائلها للشبان ، وكانت لها عجلة تكريها في كل يوم وتمر بها من الطرق، فإن رأت من استحسنته كانت تومئ إليه أو تبتسم له فيتبع عجلتها في عجلة، ثم يلتقيان.
وفي بلادنا فريق من الشبان، جمال الوجوه، قباح النفوس، لا عمل لهم إلا الأكل والنوم والجلوس، وهؤلاء هم الذين كانت تصيدهم عزيزة.
وحدث أنها رأت يوما أحدهم، فراق في عينها، فأومأت إليه فتبعها في عجلة حتى خرجا من الطرق المزدحمة، ثم ترك عجلته ودخل عجلتها، فلانت له، وأطلق الشاب للسانه وليده العنان، فرضيت به رفيقا تعده تلقاه كلما شاء وشاءت.
وكانت أم عزيزة تكتم سرها، فباحت عزيزة لها بالأمر، فرأت الأم دارها أستر لأمرها من غيرها، وقد ساعدها على ذلك مرض الرجل الكبير وكونه مقعدا لا يستطيع أن يقوم، ولا يمكنه أن يعلم ما يجري في داره، ورأت ابنها الصغير لا يدرك الأمر، وبعد ذلك بقليل دخل الشاب محبوب عزيزة - وكان اسمه إبراهيم - دارها، ويا ليته ما دخل!
أما إبراهيم فكان شابا يبلغ العشرين من عمره، وكان أبوه مستخدما فقيرا، وكان صحيح الجسم قويا، أبيض الوجه أحمره، وهو في مشيته أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وكان يلبس ملابس ضيقة تظهر كل جمال في جسمه، وهو من الذين لا يعرفون في الحياة شيئا غير الأكل والشرب وما وراءهما، وهم في كل هيئة اجتماعية سبب شقائها وبلائها، فإن كانوا أغنياء فتحت في وجوههم ثروتهم أبواب الشر، فلم يتركوا ذنبا إلا وطرقوا بابه، ولم يغادروا جريمة أدبية إلا واقترفوها، ولا ندري من غرس في أفكار تلك الفئة الضالة مبادئ الماديين العقيمة، فإن أحدهم لا يبالي بشيء ما دام ماله في كفه وبطنه مملوءة بالطعام ومجالس أنسه عامرة والفقراء الجهلاء يخدمونه ويسجدون لذهبه، وهو لا يحس بأن للحياة أغراضا إلا الأكل واللذة والذهب. وإن كانوا فقراء التمسوا رزقهم بجمال وجوههم ورشاقتهم، وليس اللص الذي يقتل الناس ويسرق المتاع ليأكل ويسد عوزه بأكبر جرما من الذي يسرق العفة والطهارة من قلوب بنات الأمة، ويظن أن كل ما يأتيه حلال؛ لأنه شاب والشباب شعرة من الجنون.
وكانت عزيزة كل ذلك الوقت تنفق من جيبها على الشاب إبراهيم، ولا تمنعه شيئا، ولما رأى ثروتها وعلم بحبها له، قال إنه من عائلة شريفة، وإن الناس علموا بأمره وأمر عزيزة، وإنه يخشى الفضيحة، ففاتحت عزيزة أمها في الأمر، وشكت لها حبها لإبراهيم، وقالت: إنها إن لم تحظ به دائما تموت شهيدة حبه وغرامه، فوجدت أمها بدهائها ومكرها مخرجا لبنتها ومعشوقها من تلك الورطة، وذلك بالزواج، فامتنع الشاب عن الزواج بعزيزة بحجة أن أهله يغضبون عليه؛ لأنهم لا يرغبون في زواجه إلا من بنت بكر، ولكن لم تفرغ جعبة أم عزيزة من الحيل، فإنها قالت: إنه لا يعلم أهله بالزواج، وتبقى عزيزة في دارها، ويزورها إبراهيم كلما شاء، فقبل الشاب بعد إلحاح شديد، وبعد أن أتحفته عزيزة بمائة جنيه.
ومن الغريب أن الزواج أطفأ نار الغرام التي كان يشعلها الزنا، فقبحت عزيزة في عين إبراهيم، وأمسى قربها وبعدها لديه سيان، وبدأ إبراهيم يحس بثقل عزيزة على كاهله.
وكان كلما زاد تيها ودلالا تزداد عزيزة إليه شوقا وميلا، وكلما طلب مالا وهبته ما شاء، وأصبح المتصرف في كل شيء، وليت إبراهيم كان يأخذ مال عزيزة ويسد به حاجة عائلته، فإن ذلك يكون أفضل من حبسه، بل كان يأخذ مال تلك المسكينة فيلبس الملابس الجميلة، وينفق طول ليله على الخمر والنساء.
الفصل الحادي عشر
قال محدثي: وقد راقت زبيدة - أخت عزيزة الصغرى - في عين إبراهيم من كثرة تردده على الدار.
وكانت زبيدة أصغر من عزيزة وأجمل، وكانت في ذلك العهد لا تزيد عن سبعة عشر عاما، وهي مملوءة شبابا وصحة، نادية الخد، معتدلة القد، رخيمة الصوت، بارزة النهد، ولما قابلت عين إبراهيم عينها، احمر وجهها، وأغضت بنظرها إلى الأرض، فداعبها وتودد إليها، والتقيا يوما على انفراد، وقال لها: «قبلة.» وما زال يسأل وتمنع حتى أبرز لها قطعة من الذهب، وأين لزبيدة مثل هذه القطعة، وهي فتاة لم تتزوج ولا تحتاج إلى المال، فلما رأت الدينار رأت فيه حذاء جديدا ومنديلا جديدا وعطرا، ورأت كل ما يشترى بالدينار، فقالت له: ما أكرمك لو أعطيتنيه! فقال: ما أحلمك لو صبرت حتى أقطف وردة من بستان جمالك، وأطفئ نار قلبي بقبلة من خدك! فقالت له: يا للعار! أنا بكر، فقال لها: يا للأسف! وأنا عاشق، قالت: قف متأدبا وضع يديك على صدرك، ولا تفاجئني حتى أقرب إليك خدي.
ودنت منه، فخفق قلبه، ورأى الاصفرار يعلو خدها النادي، وكأن حرج الموقف كاد يخرج قلبها من صدرها، فأدنت خدها من فمه فلمسه بشفتيه ولم يقبله، فأجفلت وقالت: هات فقد أعطيتك، قال: لا، إني لم أقبلك، وقلبك أعدل الشاهدين، فقالت: يا ربي، يا لله! ما أبخلك! فقال: يا قلبي، يا فؤادي، يا لله! ما أجملك! فضحكت زبيدة، وأدنت خدها ثانية؛ فوضع عليه نار شفتيه، وقد لذ ذلك للفتاة، وتحركت في نفسها الطبيعة الكامنة في النساء، فدنت منه كثيرا ودنا منها أكثر، وأطلق يديه، وقبض على رأسها، ووضع على شفتيها القبلة الأولى ...
ولقد جرت تلك القبلة هموم تلك العائلة وهموم غيرها من العائلات، هذه القبلة خلقت عواطف حب جديدة بين الشاب والفتاة البكر، ومن ذلك اليوم أصبحت زبيدة ملكا لإبراهيم.
وكانت أم زبيدة تحبها أكثر من عزيزة؛ لأن زبيدة صغرى الاثنتين، وتظن تلك الأم الشريرة أن من الحب ستر العيوب، فأسرت زبيدة أمرها لأمها، وشكت لها حبها لإبراهيم، وخوفها من الفضيحة، فهدأت أمها خاطرها بطيب الكلام، وكانت بعد ذلك تنتهز فرصة غياب عزيزة عن الدار، وتبعث إلى إبراهيم، فيأتي ويجلس مع زبيدة ويحادثها ويداعبها ويقبلها ويضمها ...
الفصل الثاني عشر
قال محدثي: وفي يوم من أيام الصيف، أتى إبراهيم إلى الدار، وكان الهواء حارا جدا، فطلب ماء باردا غسل به جسمه، ولم يكن في الدار غير زبيدة وأبيها العجوز المريض، وفي الفرصة التي كان إبراهيم يغسل فيها بدنه كانت زبيدة متقدة جدا، وكان في ضميرها عراك شديد بين العفة والرذيلة، أتدخل عليه الحمام وتضم جسمه العاري إلى جسمها، أم تسأله قبلة كما سألها هو منذ أيام، أم تصبر على ضيم طبيعتها البشرية الهائجة؟! وأخيرا خرج إبراهيم من الحمام، ولبس ملابسه، فأخذته زبيدة إلى قاعتها، وأجلسته على السرير، ثم قالت له: إنني متعبة جدا، وأرغب أن أنام، فأين أضع رأسي؟ فقال: ضعي رأسك فوق كتفي، فإن ذلك يجعلني أسعد رجل في الدنيا.
فأخذت زبيدة يده في يدها، وضغطت عليها ضغطا شديدا، وتغير وجهها، وذهبت عنه نظرة الإنسانية، وصار حيوانيا محضا - ويظهر من ذلك أنها لم تعد قادرة على كبح جماح شهوتها التي تغلبت عليها تغلبا شديدا - فدنت من إبراهيم وقبلته، فما كان منه إلا أنه قبلها؛ لأنه ظن أن قبلتها الأولى تحية، فردها بأحسن منها، ثم ضمها إلى صدره ضما عنيفا، فقالت له بخجل وحياء: إنك أتلفت ملابسي وهي جديدة، فدعني أفك أزرارها ... وبعد أن فكت أزرارها، وبان نهداها وصدرها، ضمها إبراهيم ثانية إلى صدره، وعند ذلك صرخت وقالت: إنك حللت شعري، فقال لها: دعيه ينسدل على كتفيك، وعند ذلك تركت زبيدة شعرها القسطني الجميل، فانسدل على صدرها وظهرها، فقال لها إبراهيم: إن شعرك أجمل شعر في الدنيا، ثم أخذ منه خصلة وقبلها، وكانت زبيدة في ذلك الحين متكئة على ذراعها، فخانتها قواها ووقعت، فانحنى إبراهيم ليقيمها، فانتهزت هذه الفرصة وأخذت بوجهه بين يديها، ونظرت إليه نظرة مملوءة بالحب، ثم أغمضت عينيها، وعند ذلك قبلها إبراهيم، وتغلبت عليه شهوته؛ فأخذ الفتاة بين يديه ... •••
وفي هذه اللحظة كان الرجل العجوز أبو عزيزة قد لحقه ضيق شديد في صدره، وكانت خادمته خرجت لتزور قريبة لها، فكان المسكين يتأوه ويصرخ بصوته الضعيف، وينادي زوجته فلا تجيب، ثم ينادي عزيزة فلا تجيب، ثم ينادي زبيدة فلا تجيب، ثم نادى المسكين ابنه الصغير، ولكن الولد كان مع أمه خارج الدار، وأخيرا تنهد العجوز المريض من قلبه، وقال: آه، وأظن تلك الآهة قد وصلت إلى أذن زبيدة فتجاهلتها، وظنت أنها لم تسمع تنهد أبيها، وكيف تبيع لذة الحياة الدنيا في مثل هذه الساعة، وتقوم لخدمة رجل عجوز ليس بينه وبين القبر إلا ساعات معدودة؟!
ويا ليت زبيدة قامت لتساعد أباها المريض؛ لأن عزيزة وصلت إلى الدار، وفتحت الباب بلا غاغة، ولا أدري ماذا حملها على ذلك، وربما حدثتها نفسها بالأمر، ودخلت عزيزة القاعة، فرأت زبيدة وثيابها ملوثة بدم عرضها، وهي صفراء ترتجف، وعيناها تنظران إلى الأرض، ورأت إبراهيم واقفا كالسائل المحروم بعد أن كان شامخ الأنف ...
وما أحرج ذلك الموقف! ... وقد تغلبت غيرة عزيزة على حبها لأختها، وخافت على حبيبها أكثر من خوفها على عرض زبيدة، وبقيت صامتة أمدا طويلا، ثم تناولت كرسيا كان في القاعة قريبا منها وضربت به إبراهيم، وقد هشم الكرسي وجه الشاب، واختلط دم جراحه بدم عرض الفتاة الذي أراقه، ونظن أن دم العرض أنقى وأشرف من دم وجه ذلك الخسيس الدنيء، وأمثال إبراهيم أقرب إلى النسوة منهم إلى الرجال، فإنه لما رأى تلك الإهانة من عزيزة هانت في عينيه فضيحة الفتاة، ولم يستح من عمله، وأخذ يسب عزيزة ويشتمها بأعلى صوته، وهم بها يضربها، وقد بعثت الصدفة أم عزيزة ومعها الولد الصغير، أما الولد لما رأى أخته زبيدة ودم عرضها يجري، خاف عليها وظنها مريضة، وأنها ستموت، فأخذ يبكي عليها وهو يقبلها ويكلمها وهي لا ترد عليه، مسكين هذا الطفل الصغير الذي يدافع عن أخته بصوته الطاهر، فإن كل دموعه ونحيبه لا ترد ما حدث، ولا تنجي زبيدة من موتها الأدبي الذي ماتته بعد أن فرطت في عرضها، وأما الأم - وهي تلك المرأة الخبيثة - فقد فهمت كل شيء ... وبدأت تهدئ روع إبراهيم، وتلوم عزيزة على تهورها واندفاعها.
وقد سببت تلك الحادثة الكراهية والبغضاء بين عزيزة وأختها وأمها، وبقيت العائلة في شقاق أمدا طويلا، ثم انفصلت عزيزة عن العائلة بمالها وثروتها.
وكان الحاج حسن أبو عزيزة قد ضيع أكثر أمواله، ولم يكن يملك غير الدار التي يسكن فيها هو وعائلته، فلما حدث ما حدث لم يخبره أحد بالأمر، ولم يبلغه خبر انفصال ابنته الكبرى وكونها تركته فقيرا هو وابنه الصغير، وهما المظلومان بين الجماعة .
أما زبيدة وأمها والولد الصغير فبقوا في الدار وليس لديهم ما ينفقونه، فأخلوا جزءا كبيرا من الدار وعرضوه للسكنى، فسكنه بعض الإفرنج بعائلتهم، وكانوا يدفعون لهم في كل شهر شيئا زهيدا من المال يتعيشون به هم والرجل المريض المقعد، كل هذا وذلك المسكين لا يدري ماذا حل به وبعائلته.
وكان إبراهيم بعد هذه الحادثة يتخلف إلى دار زبيدة كل أسبوع مرة أو مرتين، ويجلس معها ساعة أو يبيت معها ليلة، وكان يعللها بالزواج، ويقول: إنه طلق أختها، وإنه استشار أباه فرضي بزواجه بزبيدة، وكانت المسكينة تحبه وتصدق كلامه، وتظنه غنيا كما كان يزعم، فتطلب منه مالا فيراوغها ويعدها ويخلف وعدها، وأخيرا لما رأى فقرها وفقر أمها، وعلم أنه لا يستطيع أن يسلب أكثر من عفتها، نفر منها، وغضب عليها، ثم اختفى مرة واحدة.
ولا ندري ماذا حل بعزيزة بعد أن تركت أهلها، ونظن أن إبراهيم عاد إليها وهي العاشقة المتمولة التي تعطيه المال، فاسترضاها وتاب إليها، فاشتغلت به واشتغل بها.
ولما وجدت زبيدة نفسها في ضيق شديد، وعلمت أن أباها هو العقبة الوحيدة في طريقها جالت برأسها فكرة شيطانية، ولكن الله أرحم من أن ينتقم من الرجل بأكثر من هذا، ولم يمكن الموت زبيدة من دس السم لأبيها، فإنها استشارت أمها وقبلت الملعونة، ولكن انتهى عذاب المسكين بلا سم، ومات وحوله زوجته وابنته وابنه، فنحن ندعو بالرحمة لنفس هذا المسكين المعذب الذي عاش مريضا محزونا متعبا، ومات ملوما محسورا معذبا. •••
ومن الغريب أن عزيزة لم تحضر دفن أبيها، ونظنها لم تسمع بموته، ولما مات الرجل، ونظرت زبيدة حولها فلم تجد من يحكمها ولا من يصونها ولا من يعوقها، استشارت أمها في الخروج من حياة الذل والاستكانة إلى حياة فيها نعيم وغنى؛ فشجعتها أمها، فباعتا البيت، وأخذتا الولد الصغير، وكان لا يتجاوز السادسة من عمره - وليته مات - ورحلتا في «طلب العلا» إلى المدينة الفاسقة، بابل الفجور، مدينة القاهرة، الأم لتنظر في شأن الولد، والبنت لتتجر في عرضها.
وكان لقدوم زبيدة إلى مصر طنة ورنة عند أهل «الحياة السافلة»، فتسابق إليها أصحاب المراقص، ثم استأجرها أحدهم بعشرين جنيها في كل شهر، وعلمها كيف ترقص ببطنها، وتغني وتشرب وتطرب.
هذه هي الفتاة منيرة التي يحبها مختار، فإنها لما وفدت إلى القاهرة غيرت اسمها من زبيدة إلى منيرة؛ لتختفي وراء هذا الاسم الجديد.
ولما اشتهر أمر منيرة بين الشبان الساقطين، ذهب مختار مرة ليراها، فراقت في عينيه، وراق في عينها، واصطحبا، ومن الغريب أن منيرة كانت قد ماتت من قلبها كل العواطف، وعلمت أن كل الناس يطلبونها ويحبونها، فلم تعد تحب الناس حبا طاهرا، إنما كانت تحبهم حبا صناعيا تستطيع به أن تملك قلوبهم وجيوبهم، وكذلك كان حبها لمختار، فإنها أظهرت له الميل الشديد لما رأته غنيا قادرا ينفق في كل يوم عشرة جنيهات ... ولا يبعد أن يكون شباب مختار وجماله قد أثرا في فكر تلك الفتاة، ووجدا من قلبها مكانا لم يصل إليه الفساد، فأحبته قليلا.
الفصل الثالث عشر
عود على بدء
قال محدثي: وقد حكى لي مختار عن حاله بعد موت أمه، قال: ولما ماتت أمي وبقيت أختي وحيدة تدبر شئون المنزل، رأيتها عاجزة تمام العجز عن ذلك؛ لأنها كانت صغيرة، وكانت أمي حكيمة مدبرة، أما أختي فكانت دائما تسألني عن النقود ...
وكنت أذهب إليها فلا أجد في الدار طعاما آكله، ولا أجد ملابس نظيفة ألبسها، وبالجملة فقد ساءت حال داري، وأهمل أمري، وأهمل تدبير شئوني المنزلية.
قال محدثي: هذا كل ما كان يحكيه لي مختار عن نفسه، وقد حدث أن الزمان أصابه بكل المصائب في آن واحد، فإنه بعد أن ماتت أمه مات حظه، فكان إذا لعب القمار ليكسب مالا ليعيش، يخونه القضاء ويخسر كل شيء، وكان ما يتقاضاه من الحكومة قليلا لا يزيد عن أربعة جنيهات، فكيف يدبر نفسه بهذه النقود القليلة؟ يأكل ويلبس، وتأكل أخته وتلبس، وليت المصائب وقفت عند هذا الحد، فإن الدهر أصاب مختارا بسهم أشد من تلك السهام، وتفصيل الخبر أنه أصيب بمرض النساء.
الفصل الرابع عشر
قال محدثي: ولم تكن منيرة قانعة بمختار، إنما كان لها غيره من الشبان والشيوخ عدد كثير، وحدث أنها أوقعتها الظروف في شاب مريض بداء النساء، ومرض النساء هو المرض الذي نسبه الناس إلى الزهرة «إلهة الجمال عند الأقدمين»؛ لأنه يتسبب من الانقياد للجمال واتباع هوى النفس.
ومن الغريب أن منيرة كانت تخبر مختارا بأنها مريضة وتهدده بالعدوى إشفاقا عليه وخوفا على صحته، ولكنها لم تكن تنصحه بكلام بين واضح، وتقول له: «لا تقربني، فإنني مريضة، وإذا دنوت مني ربما أصابك مرض.» إنما كانت تتيه عليه وتمتنع عنه، فيظنها المسكين تداعبه، ويحسب امتناعها دلالا، فيزداد إليها شوقا، ويكاد قلبه يقطر دما إذا أصرت على إبائها ومنعته لذة وصالها.
وكان مختار يرى على منضدة قاعة النوم زجاجات وآلات طبية، وكان يرى جسم منيرة نحيلا ووجهها أصفر، على أنه لم يفكر ولم يحسب للمرض حسابا؛ لأنه أعماه الغرام عن كل شيء، ومثله كمثل الفراش يعلم أن النار تحرقه ولا ينفك عنها، ومن يدرينا أنه كان يعلم بمرضها، وهو يغش نفسه ويقنع ضميره بأنها صحيحة؛ ليقضي لذة لا تدوم طرفة عين، ومن يدرينا بأن تلك اللذة القصيرة كانت هي نعيم مختار، ومن أجلها كان يعيش، ولا يستطيع الحياة بدونها، فكان يضحي في سبيلها كل شيء، وقد رأيناه يضحي ماله وشرفه وأمه، فكيف لا يضحي صحته؟!
ولما كان مختار يخبرني بذلك، وكنت ألومه على اندفاعه في تيار الملاذ، كان يقول: إن الحياة هي الغرام، ولا أدري ماذا كان يعني بالغرام، وأظنه كان يعني بالغرام القرب من منيرة ووصالها، على أن جسم مختار لم يكن يتحمل مضار الخمر والسهر، ويفر من جراثيم المرض، فأصيب المسكين بداء إلهة الجمال.
ولما اكتشف ذلك، أتاني كالمجنون، وأخبرني بذلك آسفا باكيا، فهدأت روعه ورأيت أن اللوم والتعنيف لا يجديان نفعا بعد أن سبق السيف العذل، فقلت له: وبماذا تحس الآن يا مختار؟ قال: أحس بآلام شديدة إذا أكلت شيئا في لساني وحلقي، وفكري مضطرب، وشهية الأكل مفقودة مني بالمرة ، وقد رأيت صباح اليوم جرحا صغيرا في ... وعظامي توشك أن تتفتت، ومعدتي مرتبكة، وأحس بألم شديد في رأسي، ونومي قليل. قلت: هذا ما تحس به من المرض، فماذا تحس نحو منيرة، وأنت تعلم أنها سبب هذا المرض؟ قال: ما لنا ولهذا السؤال الآن؟ أنا في مرضي وقلبي في غرامه. قلت: إن شفاءك يترتب على جوابك لي. قال: إذا كان الأمر كذلك فاعلم أنني لا أزال أحبها، ولن أزال أحبها إلى الأبد مهما سببت لي من الأمراض والعاهات والعلل والفقر والحاجة! قلت: ألا تبغضها بعد ذلك؟ قال: ليته كان في وسعي أن أبغضها لحظة! قلت: وهل علمت منيرة بما أصابك، قال: نعم، قلت: وماذا قالت لك؟
قال: إنها اصفر لونها، وقالت: إن كل الرجال يصابون بهذا المرض مرارا ... ثم لامتني على عدم قبول نصائحها، ووصفت لي بيت أحد الأطباء. قلت: ومن هو هذا الطبيب؟
قال: هو الدكتور «س»، وعيادته في شارع ... نمرة 10، ولذلك أتيت إليك الساعة لتصحبني إليه.
وقد حزنت جدا لحال مختار، وعز علي أن أتركه يذهب إلى الطبيب منفردا، كما ذهب إلى منيرة منفردا ... •••
ولما طرقنا باب الطبيب، فتح لنا شاب رومي، ثم دخلنا ورأينا خادما يحمل بين يديه دلوا فيه ماء قذر، وسمعنا أصوات أبواب تفتح وأبواب تقفل، ودخلنا قاعة صغيرة فيها مقعد وأربعة كراسي، فجلسنا، وكان في القاعة شاب أصفر شاحب الوجه، عيناه بارزتان، وهو يتناول إحدى الجرائد مرة فلا تلبث في يده دقيقة حتى يلقي بها، وهو في كل لحظة يتململ في مكانه كمن يحس بألم شديد، أما قاعة الاستقبال أو الانتظار التي جلسنا فيها فكانت متوسطة في الحجم، وكان في وسطها منضدة عليها جرائد ومجلات مصورة، وعليها «علبة كبريت»، وكم يد قلبت هذه الجرائد والمجلات! وكم مريض أمسى الآن تحت الثرى جلس في هذه القاعة!
ومن عادتي أنني إذا جلست في غرفة الاستقبال في دار الطبيب أن صدري يضيق ضيقا شديدا، فبقيت أقلب أجفاني في هذه الغرفة، لعلي أجد ما أتسلى به، فرأيت صورا كثيرة معلقة على الحائط، فقمت أنظر فيها، وقد استلفتتني كثيرا صورة بسيطة، وهي صورة رجل وامرأة جالسين على مائدة الطعام وبجانبيهما طفلان صغيران، فهي إذن صورة السعادة المنزلية، ولو كنت رأيت هذه الصورة ألف مرة في غير هذا المكان، لما كنت دهشت لرؤيتها، ولكن كأن الدكتور «س» أراد أن يعلم مرضاه درسا صغيرا بوضع هذه الصورة، وكأنه يقول لهم: لو تزوجتم وأتيتم بأطفال يدلونكم على السعادة لما احتجتم إلى المجيء إلي، فتنبهوا وأصلحوا من شئونكم، وإذا شفيتم اليوم فلا تعودوا إلي مرة ثانية.
فلما أطلت النظر إلى الصورة سألني مختار أن أجلس بجانبه ليحادثني، فجلست، ولكنني لم أشأ أن أكدره بكلامي عن الصورة؛ لأنني رأيته مهموما، ثم دخل علينا رجلان مصريان، أحدهما بعمامة وعليه علائم الوقار، والآخر بطربوش، أما صاحب العمامة فكان صوته خشنا، ويظهر أن في حلقه عاهة تمنع خروج كلامه بالصوت الطبيعي، ويظهر أنه بقي كذلك أمدا طويلا؛ لأنه كان يتكلم بسهولة تامة كأنه تعود على ذلك الصوت وتعود ذلك الصوت عليه، ويظهر أن الشاب الذي كان معه كان فريسة جديدة وأتى به ليرشده إلى دار الطبيب؛ لأن الشاب كان خائفا وجلا، ثم دخل علينا شاب صغير لا يزيد عن ثمانية عشر عاما، وتحت إبطه محفظة الكتب، فعلمت لأول وهلة أنه تلميذ في مدرسة، فقلت لنفسي: وماذا يعمل التلميذ في دار الطبيب الذي كتب على بابه:
عيادة الدكتور «س» ...
اختصاصي بأمراض المثانة وأمراض النساء.
متخرج من كلية باريس وعضو الجمعية الملكية الطبية.
ولقد كادت تحملني الجرأة على سؤاله عن أمره، فخشيت أن يردني ملوما وعيادة هذا الطبيب بالدور، ومعنى ذلك أن من أتى أولا يراه الطبيب أولا، فلما انتهى دور الشاب الأصفر الذي كان جالسا عند دخولنا أتى إلينا مساعد الطبيب ودعانا إلى غرفته، فقمنا ودخلنا قاعة رحبة فيها في ناحية منضدة كبيرة عليها قنينات وأدوات طبية، وفي سقفها زجاجتان كبيرتان فيهما ماء ودواء لونه أزرق، وفي وسط الغرفة شيء شبيه بالسرير، وفي ناحية من الغرفة منضدة عليها ميكروسكوب ، ومنظار كبير، وزجاجات صغيرة، ورأينا الطبيب واقفا وهو لابس ثوبا من القماش الأبيض ليقي ملابسه من قذارة العقاقير، فلما رآنا أدخلنا إلى قاعته الخصوصية، وفيها خزانة كبيرة فيها كتب، وخزانة أخرى فيها عدد الجراحة، وخزانة ثالثة فيها هيكل إنسان من العظم، وحول الحائط صور مصنوعة من الجبس تمثل أعضاء التناسل المصابة بأمراض النساء، وأقول الحق: إنه بمجرد رؤيتي لهذه الصور أحسست بخفقان شديد في قلبي، وغاب رشدي.
ولما جلسنا سألنا الدكتور عن حاجتنا، فحكى له مختار كل شيء، فقام إليه الطبيب، ووضع نظارته على عينيه، وفحصه، وجس نبضه، ووضع سماعة على قلبه، وفتح عينيه، وجس حلقه، ثم أخذه في غرفة مستترة ليرى ما خفي من جسمه، ثم عاد وهز رأسه، وجلس صامتا، وكان مختار أصفر يرتجف من الخوف، فسألت الطبيب بالفرنسوية عن المرض، وكان مختار لا يعرفها، فابتسم ابتسامة برد لها الدم في عروقي، وقال: إن الإصابة بسيطة، ولكن هل أنت قريبه؟ قلت: لا، قال: إنه يشفى سريعا، ولكن مرضه ينتهي بالجنون، فوجمت من هذه الكلمة، وقلت: راجع نفسك أيها الطبيب، قال: أنا متحقق مما أقول، وأول قاعدة عندنا في فن الطب هي أن لا نضر المريض وأن لا نكذب عليه، قلت: ومن أين عرفت أن مرضه ينتهي بالجنون؟ قال: لأنه ورث الداء من أبيه ثم أصيب وهو صغير السن، وهو مفرط في صحته، ويشرب الخمر كثيرا، ويتناول الحشيش وما يتبعه.
وعند ذلك رأيت مختارا مهتما بحديثنا، فقلت له قبل أن يسألني: إن الطبيب يقول إن الإصابة بسيطة، ويجب عليك أن تمتنع منعا باتا عن الخمر والدخان والعنبر والنساء والقمار؛ لأن الأولى تضعف الكبد، والثاني يضعف الرئتين، والثالث يضعف العقل، والرابع يضعف الجسم كله، والخامس يؤثر على الجهاز العصبي.
وعند ذلك تناول الطبيب قلما، وبقي يكتب طويلا في دفتره الخاص، ثم أخذ ورقة، وبقي يكتب تذكرة الدواء، ثم أعطانا إياها، ووصف لمختار طريقة استعمال الحبات وطريقة شرب ما في الزجاجة، ثم قال له: عد إلي بعد خمسة عشر يوما، ثم ودعنا وخرجنا من غرفته الخصوصية، فمررنا بغرفة العمليات، فرأينا منظرا استوقفني طويلا، وهو منظر ذلك الشاب الذي ظننته تلميذا وهو نائم على السرير الموجود في وسط القاعة، وهو مكشوف الجزء الأسفل من الجسم، ومساعد الطبيب يعالجه بالدواء الموضوع في أعلى الغرفة، فلما رآنا الشاب خجل خجلا شديدا، واحمر وجهه، وأغمض عينيه، فقلت في نفسي: ما كان أغناه عن تلك اللذة التي سببت هذه الرقدة ...!
ولما خرجت من عتبة دار الطبيب وشممت الهواء النقي أحسست بأني خرجت من الجحيم إلى النعيم، ولكن نظرت فإذا بمختار بجانبي، فقلت: لا تزال معي قطعة من النار يحملها ذلك المسكين، وذكرت كلام الطبيب فبكى قلبي وبكت عيناي على ذلك الغصن الرطيب الذي تقصفه المنون قبل الأوان.
ولما بلغنا ملتقى الطرق، افترقنا ونحن صامتان، فذهب هو إلى داره، وذهبت حاملا تلك الذكرى المؤلمة.
الفصل الخامس عشر
ولا يمكن لأي إنسان له عواطف ويحس بآلام الناس ويتصور حال مختار في مرضه، حتى يذرف الدمع السخين، فلقد أمسى هذا المسكين يستر فقره بقليل المال الذي يحصل عليه بعد أن كان يلعب بالذهب لعبا في أيام إقبال الدهر، وأمسى يعالج داء أعيا الأطباء طرا، لا يدخل جسما حتى يخرج منه بالحياة، وفقد مختار أمه فأي هم أكثر من همه، لا سيما وكان قبل ذلك بشهر واحد ناعم البال سعيدا، يحظى بوصل حبيبته، ويصرف المال بدون حساب، فهل كان يخطر بباله أنه بعد ذلك الشهر سيكون فقيرا مدقعا، ليس له في كل يوم إلا مبلغ زهيد لا يكاد يكفي ولدا من أولاد الأغنياء ثمن ألاعيب، هل كان يخطر ببال مختار أن أمه تموت وتتركه هو وأخته في بحر هذه الحياة، فتتقاذفهما أمواج الفقر، وتعبث بهما رياح الحاجة والشقاء؟!
نعم، كان لمختار وأخته بيت، وكان لهما خادم يخدمهما، وكان مختار يلبس ملابسه التي كان يلبسهما في ثروته، ولكن قلب مختار وقلب أخته كسرا وخيم الحزن على نفسيهما، فلم يكن مختار يبتسم، ولم تكن أخته تضحك ضحكة، على أنها منذ شهر أو شهرين كانت تملأ البيت بصوت ضحكها.
ماذا يصنع مختار إذن وهو في مرضه وفقره؟ أيلجأ إلى حبيبته منيرة وهو لا يدري كيف تقابله، أم يلجأ إلى أخته وهي أقرب إليه؟! إنه المسكين لجأ إلى أخته وبدأ يطلب السعادة المنزلية، ولكن الصيف ضيعت اللبن، وذهبت السعادة ولم تنتظر مختارا، فليته أتى منذ عام أو عامين ...
مسكين أيها الشاب الذي أضاعك الحظ وأصابك الدهر بكل أنواع المصائب، وكم شاب مثلك نراهم في الطريق، فنمر بهم ولا نعيرهم نظرة واحدة، وهم ينظرون إلى وجوه الناس الأغنياء، كأنهم يلتمسون الرحمة منهم، فيلقي الغني عليهم نظرة احتقار واستهزاء وكراهية!
ولو كانت الرحمة في شكل إنسان لهبطت على مختار المسكين - وهو سائر من ديوانه إلى منزله، أصفر الوجه، مقطب الجبين، أعمى البصيرة، وجراثيم المرض تقرض حبل حياته - ورفرفت عليه بأجنحتها، وضمته إلى صدرها، وقبلته، ثم رفعته إلى السماء العلى؛ ليحظى بالجنة والنعيم، فقد كفاه ما هو فيه من الهم والأسى، ألا يكفي ذلك عقابا له على ذنوب الشباب، والشباب شعرة من الجنون؟!
وبعد قليل من زيارة مختار للطبيب، اشتد عليه المرض، وأظنه لم يكن قادرا على دفع ما يطلبه الطبيب في كل مرة، فذهب إلى حلاق فقير يدعي البراعة في الطب، وأسر إليه أمره بعد خجل شديد، فعالجه الحلاق علاجا أكثر شرا من الداء، وكان يعالجه بتدخين «الزرنيخ»، وهذه الطريقة مشهورة عند العامة لمداواة داء الزهرة، وهم لا يعلمون الغرض الحقيقي منها، وواضعها يقصد قتل الجراثيم بدخول السم في الجسم، وقد استبدلها الأطباء بعلاج الزئبق، وكم كان مختار يتألم من تدخين ذلك السم الزعاف، وكم مرة نزلت دموعه كاللؤلؤ الرطب على خده وهو يدخن «الزرنيخ» في حانوت الحلاق! هذا الذي جناه من وصل منيرة وحبها. هل ما كسبه مختار في غرفة نوم منيرة من مثل النوم على السرير، وتقبيل محبوبته، وضمها إلى صدره، ورشف لماها، والتغزل في جمالها الفتان، يخسره في حانوت الحلاق، وهو يدخن الزرنيخ؟
هل ذهبت كل الابتسامات الذهبية التي ابتسمها وهو يشرب الخمر بعد أن يخلطه بريق منيرة، وعادت إليه دموعه سخينة يذرفها في حانوت الحلاق؟
هل هذه هي العدالة التي يسير بمقتضاها هذا العالم، يوم أبيض من الثلج ويوم أسود من القار؟ نعم هي العدالة يا مختار! نعم هي العدالة، وإن كنت أبكي عليك، وآسف على شبابك، وأتنهد من أجلك، ولكن يا عزيزي مختار هذه هي العدالة، أنت مظلوم لا شك: نفس بريئة جنى عليها أبوها وأمها والمجتمع الإنساني، ولكن هذه هي ما يسمونها بالعدالة، قبلتها أم لم تقبلها، فاصبر فإنك ستحظى بعد الموت بالحور العين، وبالحدائق والبساتين، وبالقصور العالية، وبالأنهار الجارية في جنة خلقت لمن يعذبون في العالم الأرضي ويلجئون إلى عالم السماء، اصبر يا مختار وتأس وتفكر في روح الله، اصبر وليخطر ببالك أمر كل مسكين عاش في عذاب ومات في عذاب وذهب إلى ...!
ولكن إلى أين يا مختار؟ ... أنا لا أدري إن كانوا ذهبوا إلى النعيم أو إلى العذاب أو إلى النوم الطويل الذي ليس بعده قيام ...
الفصل السادس عشر
وبعد أن بقي مختار هكذا أكثر من شهرين، ذاق فيهما مر الحياة، خطر بباله يوما أن يقصد منيرة في مرقصها، لعلها تسعده بنظراتها وتذهب همه بصوتها الرقيق، وكان في جيبه قليل جدا من النقود، فدخل المرقص فلم يقم له صاحبه، وكان دائما يرحب به ويسلم عليه، ولم ينظر إليه أحد، فسأل مختار نفسه قائلا: هل علموا بأمري وأنني فقير مريض؟!
فأجابه صوت الفاقة قائلا: كلا، إنما للفاقة خاتم وضعته على وجهك ومكتوب على هذا الخاتم:
فقير مكروه من الله والناس، ليس له أمل، ففروا منه كما تفرون من المجذوم ...
ومن الغريب أن هذا الخاتم يقرؤه كل الناس، لا فرق في قراءته بين الأمي والقارئ، فلما قرأه صاحب المرقص غض طرفه عن مختار، ثم جلس مختار في أحد الأركان، ومر به الخدم يحملون قنينات الخمر ويصرخون بطلب غيرها، فنظروا إليه وقرءوا الخاتم الذي على وجهه، فلم يعيروه لفتة، فنظر مختار فرأى كل شيء كما تركه منذ شهرين من الزمان، أيام كان سعيدا غنيا؛ رأى المغنين يغنون، ورأى الناس يسمعون ويطربون، ورأى الوارثين جالسين وبجانبهم بعض النسوة يلعبن بعقولهم، وصاحب المرقص يلعب بهن والدهر يلعب بالجميع.
رأى مختار كل شيء لم يتغير، إنما هو تغير كثيرا، شتان بين الأمس واليوم، فقال: لعل منيرة لا تستطيع قراءة خاتم الفاقة، ولم يكن يخطر بباله هذا الخاطر حتى سكتت المغنية، وخرجت منيرة من حجرة وراء التخت بنصف جسمها مكشوفا وعليه الحلي من الذهب والماس، وبدأت ترقص؛ فدق قلب مختار كثيرا، وكادت تخونه قواه ويسقط على الأرض، نظر إلى وجه منيرة فإذا به أحمر كما تركها منذ شهرين، وهي لا تزال سمينة بصحة تامة وتتبسم للناس وتضحك، وتظهر الغنج والدلال، وتشرب الخمر ... عجيب! لم يتغير شيء في الدنيا إلا أنت يا مختار ...!
ولما هدأ روع مختار أراد أن يصوب نظره إلى منيرة، لعله بذلك يستلفت أنظارها فتحول نظرها إليه، فصوب وصوب، ولكن لم تلتفت إليه منيرة. كان بالأمس يتمنى لو يطول رقص حبيبته سنة، ولكنه الليلة كان قلقا ينتظر انتهاء رقصها بفروغ صبر ليحادثها، وأخيرا انتهت منيرة من الرقص، ونزلت تجمع ما يجود به عليها المتفرجون، ثم قربت من مختار، فلما رأته أتت إليه وحيته ببرود، وقالت له: «أين كنت؟ كيف حالك؟ ماذا قال لك الطبيب يا مختار؟ لقد صرت نحيلا نحيفا، ائذن لي في القيام، فإن لي رفيقة تنتظرني.» ولم تنتظر كلمة ثانية، وانصرفت عنه وهو صامت كأنه ضرب عليه السكوت فلم يستطع أن ينبس ببنت شفة. أين كل الكلام الذي جهزه ليشكو به حاله لمنيرة؟ أين حبها القديم؟ أين دلالها عليه؟ أين اعترافها بحبه وغرامه؟ كل ذلك ذهب ... هل قرأت منيرة خاتم الفاقة الذي على جبهته؟ ...
نعم! نعم! فيا أسفى على مختار المسكين! ... وقام مختار من المرقص ملوما محسورا، ولا يعلم مقدار همه وحزنه إلا الله.
الفصل السابع عشر
قال محدثي: وكان في الديوان الذي يشتغل فيه مختار رجل عجوز بخيل، وكان مشهورا بين من يعرفونه بالغنى؛ لأن مرتبه كان كبيرا ولأنه قليل النفقة ، ومن غريب أمر هذا الرجل أنه كان لا يتزوج امرأة حتى تموت بعد أن تعيش معه زمنا قصيرا، وكانت كل امرأة تأتي له بغلام أو ابنة ثم تموت، وقد تزوج هذا المسكين بأكثر من عشر زوجات، ودفنهن الواحدة بعد الأخرى، وبقي يربي في أولاده وبناته، وكان أكبرهم لا يزيد عن عشر سنين، وأصغرهم لا يقل عن سنة، وترك الرجل أمر هؤلاء المساكين لأخت له كانت فقيرة، فكان يعطيها في كل شهر قليلا من مرتبه لتنظر في شأن أولاده.
أما الرجل فكان بين الطويل والقصير، صغير الرأس، طويل الرقبة، أقنى الأنف، لونه يضرب إلى السمرة المختلطة بالاصفرار، وكان يمشي منحنيا قليلا، وكانت رائحة فمه قبيحة جدا، وملابسه في غاية القذارة، ويظهر أنه نال المرتب الكبير الذي كان له بحق الأقدمية؛ لأنه بقي في خدمته أكثر من أربعين سنة، وقد اشتهر أمره بين الناس، فبعد أن ماتت زوجته العاشرة لم ترض امرأة بزواجه، وكان الناس يتساءلون عن سبب موت النساء وعدم موته، وكان هذا الرجل مشهورا بنكاته؛ لأنه كثير الهزل والمزاح، ومن الغريب أنه كان من أصحاب أبي مختار في صباه، وكان يكثر في التردد على داره؛ ولذلك كان دائما مهتما بأمر مختار، يسأل عنه وعن صحته، فلما رآه في هذه الأيام الأخيرة، أصفر اللون، منقبض النفس، بقي يسأل ويستقصي حتى علم السر في ذلك، فكان يجود على مختار بقليل مال، فيأخذ مختار ما يعطيه العجوز شاكرا؛ لأن مختارا لم يكن كريم النفس أبيا، ولم يكن يعرف لذة الصبر مع الفقر والقناعة بالقليل، ولم يكن يعرف أن مقابلة الدهر بمصائبه فضيلة عظيمة، إنما كل ما كان يعرفه هو المال واللذة.
وفي يوم من الأيام دعا الرجل المستخدم العجوز مختارا لتعاطي طعام الغداء معه في مطعم؛ لأن بيت الرجل ليس مستعدا لمقابلة الأضياف وإكرامهم، وبعد أن أكلا «هنيئا» وشربا «مريئا» ابتدأ العجوز قائلا: كيف حال الست إحسان أختك؟ فبغت مختار قليلا، ولكنه لم يستغرب السؤال؛ لأنه تذكر أن الرجل كان يتردد على دارهم ، ورأى أخته وهي صغيرة، ثم نظر فرأى للرجل عليه يدا كريمة، فقال له: إن أختي بخير، قال العجوز: ألم تتزوج؟ قال مختار: لا، إنها ليست راغبة في الزواج، قال العجوز: ليست راغبة في الزواج؟ لماذا؟ قال مختار: لأنها ترى من أحوال شبان اليوم ما يغضبها ويحزنها؛ ولذلك لا ترغب أن تكون زوجة لأحدهم. قال العجوز: نعم. نعم. لها حق في ذلك، ولكن ما قولها لو تزوجت برجل ليس صبيا، وإنما يكرمها ويحبها كابنته، أظنها لا ترفض الزواج بمثله، قال مختار: لا أظنها تقبل الزواج بعجوز، ولكن لماذا هذا السؤال؟ قال العجوز: لأنه بلغني أن رجلا متقدما في السن يرغب الزواج بها وينوي أن يدفع لها مهرا كبيرا، قال مختار: ولكن من هو ذلك العجوز؟ قال العجوز: إني لا أصرح باسمه الآن، إنما هو كثير الشبه بي، وسنه يقرب من سني، ففطن مختار إلى قصد الرجل، وعلم أنه يرغب أن يتزوج بأخته، فابتسم قليلا ...
إذن كان ذلك الشرير يقصد الزواج بتلك الزهرة الجميلة، ولم يكن يجود على مختار في بعض الأحيان إلا ليحصل على زوجة (نمرة 11) ليدفنها بجانب أخواتها.
ولكن مختارا منع نفسه عن الضحك بعد أن تذكر همومه ومصائبه، ووجد أنه في حاجة شديدة إلى المال، فحول مجرى الحديث إلى المسألة المالية، وقال: وكم يدفع هذا العجوز مهرا لأختي؟ قال العجوز: يدفع خمسين جنيها، فتنهد مختار وقال: أهذا هو المهر الكبير الذي تقول عنه؟ فاستند العجوز إلى كرسيه وانتفخ قليلا، وقال: إنه مستخدم مثلي، وهذا المهر يكفي لأن يكون ثمنا لأي امرأة، فلم يفهم مختار قول الشيطان العجوز: «ثمنا لأي امرأة.» إنما قال: لا. لا. إن مهر أختي لا يقل عن مائتين من الجنيهات، فإن رغب هذا العجوز في أختي فهو لا يمد لها يدا قبل أن يدفع مائتي جنيه، فقال العجوز: أنا لا أظنه يدفع هذا المبلغ أبدا، ومع ذلك فأنا سأقابله وأرى رأيه في ذلك.
ثم تغير مجرى الحديث، ودار على مسائل أخرى، وبعد قليل قاما وافترقا بعد أن هدم مختار ما بناه العجوز من قصور الهواء للحصول على فتاة صبية تعيد له شبابه ويقصف غصن شبابها. وقد فتح في وجه مختار باب جديد، وهو الحصول على المال ثمنا لأخته، ولم يخطر بباله المسكين أنه إذا تزوجت أخته إحسان يصير وحيدا في العالم، ويهدم بيته، ويبقى كريشة في مهب الريح، وكأن المال القليل الذي أمل الحصول عليه ثمنا لتلك المسكينة قد أعمى بصره وبصيرته، وهكذا أصحاب تلك النفوس المضيعة، لا يطلبون في الحياة غير اللذة والسرور، ولو كلفهم السعي وراءهما ضمائرهم ونفوسهم وأعراضهم ومالهم، وكل شيء عزيز عندهم.
الفصل الثامن عشر
قال محدثي: ولما عاد مختار إلى أخته ليلا جلس يتحادث معها بخلاف عادته. قال: هل تتزوجين يا إحسان؟ فاحمر وجه الفتاة؛ لأنه بذلك السؤال قد أحيى نفسها؛ لأنها - المسكينة - كانت قد سئمت حياة الفقر بعد الغنى والذل بعد العز، وظنت أنها تتزوج شابا جميلا غنيا؛ فيزول همها وغمها، وتتمتع بشيء مما يتمتع به النساء، ولكن تلك الفريسة الإنسانية لم تكن تعلم ماذا تخبئه لها الأيام، فقالت لأخيها: إنني لا أحب أن أفارقك؛ لأن أمك أوصتني بك، ثم انحدرت دموعها، وأخذت تنتحب انتحاب الأطفال، وتهتز كما يهتز الغصن إذا هب عليه الهواء، ولكن مختارا لم يتأثر؛ لأنه ماتت كل عواطفه، ولم يكن يطلب إلا المال، ولكنه طيب خاطرها وضمها إلى صدره، وقال لها إنه يرغب في سعادتها، وإنها إن تزوجت ربما يتزوج هو أيضا، فأبرقت أسرة إحسان، وعلمت إن أخاها تزوج وهي تزوجت تصبح عائلتهم عائلتين، ويمكنهما أن يعيشا بسعادة وهناء، وينسيا همومهما القديمة، وقالت له: إن كان الأمر كذلك فأنا طوع إشارتك.
قال مختار: ولكن يا أختي العزيزة، أنت تعلمين أن شبان هذه الأيام ليس فيهم خير، وكلهم فاسد؛ ولذلك لا أحب أن تتزوجي شابا صغيرا يلعب بك ولا يحبك؛ فاصفر وجه إحسان؛ لأنها خافت أن يرغمها أخوها على الزواج برجل عجوز، وقالت له: وماذا تعني يا أخي بذلك؟ قال مختار: أعني أنني أريد زواجك برجل يعرف قدرك ويحبك ويكرمك كما يحب الرجل ابنته ويكرمها. قالت إحسان: إذن تزوجني من رجل عجوز كأبي؟ فابتسم مختار وقال: لا، إني لا أقصد ذلك، إنما لا يكون زوجك شابا صغيرا، قالت إحسان: وكم يبلغ عمره؟ قال مختار: هو لا يزيد عن أربعين سنة، قالت إحسان: أربعون سنة؟! إنه عجوز جدا، قال مختار: ولكنه غني جدا، قالت إحسان: وماذا يهمني ماله؟ إنني لست أتزوج الذهب إنما أتزوج الرجل، ولو لم يستح مختار لقال إنه بقدر ما يهمك شباب زوجك وجماله تهمني ثروته وماله، وأنا أفرح بزواجك كلما كان خطيبك غنيا، ولكنه أراد أن يصل إلى غرضه بطريق غير طريق العنف والشدة، ثم أراد أن يقطع الحديث إلى الغد، فقال لها: إننا نتحدث في هذا الموضوع في غير هذه الليلة. •••
ولكن إحسانا لم تنم ليلتها؛ لأنه حدث لها رد فعل، فبعد أن أملت الزواج بشاب جميل، تحققت أن زوجها سيكون عجوزا، وربما كان قبيح الصورة، وقد حركت تلك الأفكار شجونها فلم تذق أجفانها طعم الكرى، وبقيت طول ليلتها تعالج همومها وأحزانها بالبكاء والسهر.
وكذلك مختار لم ينم؛ لأنه بقي يبني صروحا لآماله وأمانيه، وهو يحدث نفسه بالحصول على 200 جنيه من وراء زواج أخته، فيمكنه بهذا المال أن يصلح شأنه، ويمكنه أن يغيظ منيرة التي غاظته واحتقرته في فقره.
الفصل التاسع عشر
قال محدثي: وفي الغد تقابل العجوز مع مختار ثانية وفاجأه قائلا: لقد قابلت زوج أختك بالأمس ... فقاطعه مختار قائلا: ليس لأختي زوج، قال العجوز: أقصد الرجل الذي سيصير زوجها في المستقبل، قال مختار: ولكن بعد أن يدفع مائتي جنيه. فقطب العجوز جبينه وقال: إنه قال إنه يدفع مائة جنيه، ولا يطلب منك فرشا ولا أثاثا ولا ثيابا فاخرة، ولا يطلب غير العروس، فقال مختار في نفسه: هذه صفقة رابحة، ولكن لا بد من الحصول على مائتي جنيه، ثم التفت إلى الرجل وقال: قل لصاحبك إن هذا مستحيل؛ لأن المطلوب 200 جنيه لا أقل ولا أكثر، قال العجوز: إنني أتأسف كثيرا لأنني أعلم عن ثقة أن صاحبي لا يدفع أكثر من مائة جنيه مهرا لامرأة، قال مختار: ولكنها ليست ككل النساء، ألست تعرف بنت من هي؟ ألست تعرف جمالها؟ ألست تعرف رقتها وتهذيبها؟
آه لقد أتى هذا الزمان الأسود الذي يعرض الأخ أخته في السوق لتتزوج وليحصل على مهرها، فيا سماء أمطري نارا على تلك الهيئة الاجتماعية الشريرة الفاسدة!
ومن الغريب أن وقاحة الزوج العجوز زادت بعد أن شجعه مختار، فقال: لا تعدد محاسن أختك، فأنا أعلم بها منك، وأعرف أن قيمتها لا تزيد عن مائة جنيه؛ فهز مختار كتفه وقال: لا يمكن، لا يمكن!
وعند الظهر دعا العجوز مختارا إلى المطعم، فأكلا وشربا، ثم دار الحديث على الزواج، وقبل مختار بعد اللتيا والتي أن يبيع أخته بمبلغ 150 جنيها إنجليزيا.
وبعد ذلك سأل العجوز قائلا: إذن من هو العريس الذي يدفع لي المال؟ قال العجوز: هو أنا، أتقبلني؟ وكان مختار يهم بقوله: إنني أقبل 150 جنيها إنجليزيا ولا أقبلك، ولكنه عاد فحجز نفسه، واعتبر هذه الفكرة فكرة سوداء؛ لأنها ربما تمنعه من الحصول على أمنيته الذهبية ...
وأصبح هم مختار أن يقنع أخته بالزواج بعجوز قبيح، فماذا يصنع إذن؟ دخل عليها في هذه الليلة وقال لها: أهنئك يا أختي العزيزة بالزواج، فقد عقد عقدك على رجل فاضل يحبك ويكرمك، قالت: وكيف لم أره؟ قال: ليس هذا من الضروري؛ لأنك سترينه عن قريب وتدخلين داره، قالت: ولكن لابد لي من رؤيته قبل العقد، قال: أنا وكيلك وليس لك أب، فلي حق في عقد العقد بدون حضورك، قالت: ولكن لست أنت الذي ستتزوج الرجل فأكتفي برؤيتك إياه. قال مختار: ما هذا الكلام يا إحسان؟ قالت: أترغب أن تبيعني ولا أدافع عن نفسي؟ قال: أبيعك؟! ماذا تقصدين بتلك الوقاحة الظاهرة؟ قالت: هل تسمي الدفاع عن الشرف والعرض وقاحة يا أخي؟ قال: اقطعي الحديث في هذا الموضوع الآن، ثم قام فجأة إلى غرفة نومه وترك إحسانا وحيدة تعيد ما قاله لها من الكلام المؤلم، وتسأل نفسها إن كان أخوها صادقا في كلامه أم كاذبا، ومن الغريب أن مختارا لم يحادث أخته في أمر الزواج بعد هذه الليلة.
وفي يوم من الأيام أتى إلى الدار ومعه تاجر من تجار الأثاث القديم، ونقل كثيرا من الأثاث من مثل الكراسي والمقاعد والخزانات والمرايا الكبيرة، والمنضدات، فظنت إحسان أن أخاها ينوي شراء أثاث جديد فاخر، وبعد ذلك بثلاثة أيام جلس مختار مع أخته وقال لها: إن هذا البيت حظه أسود، وقد رأينا فيه كل أنواع المصائب، والهواء الذي يأتي إليه فاسد؛ ولذلك عرضته للبيع، وعزمت على شراء بيت جديد في بقعة جميلة، فصدقت إحسان قوله وصرحت له بالبيع، وباعه بثمن بخس جدا؛ لأنه كان مضطرا، وكان الشاري يعلم حاجته إلى المال.
ولم يمض على خبر بيع الدار أسبوع حتى أتى مختار إلى الدار ومعه امرأة عجوز في مركبة ومعه مركبة نقل، وبعد أن جلست العجوز رويدا عرف مختار أخته بها قائلا: إن هذه السيدة هي أخت زوجك، وقد أتت لتأخذك إلى دار زوجك ونقل ما ترغبين نقله من الأثاث، فاحمر وجه إحسان وبكت، ولكنها لم تتكلم؛ لأنها عرفت كل شيء، وعرفت أن الكلام لا يجدي، عرفت المسكينة أن أخاها اللئيم باع الأثاث وباع البيت ثم باعها، فسلمت أمرها لله وقامت. وربما يخطر ببال القارئ سؤال، فيقول: لماذا لا تخالف إحسان أخاها وتتركه وتخرج أو تطالبه بحقوقها؟ والجواب على هذا السؤال هو أن إحسانا كانت جاهلة، وكانت شديدة الحياء، ولم تكن تعرف أحدا، ولم يكن لها قريب ولا صاحب يأخذ بيدها، وكانت المسكينة قد لحقها مرض شديد إثر حزنها من جهة أمر الزواج، فقامت إلى المركبة صامتة حزينة مطرقة الرأس.
وهكذا خرجت من دارها التي تربت فيها، نحلية، كسيرة القلب، حزينة الفؤاد، إلى دار رجل غريب لا تعرفه ولا يعرفها، وبجانبها في المركبة امرأة عجوز لا تعرفها، ووراءها مركبة نقل عليها بعض الأثاث القديم ...
إلى أين يا إحسان يا بنت النعيم والدلال؟ إلى بيت زوجك العجوز القبيح البخيل ...
لا، لا، إلى القبر ... إلى القبر الذي حفره لك أبوك وأمك وأخوك أيتها المسكينة الشقية! ...
نعم؛ لأن إحسانا لما دخلت دار العجوز زوجها ورأت سحنته القبيحة ورأت أولاده وبناته العشرة يلعبون ويصرخون، علمت أنها أتي بها لتخدم هؤلاء الأطفال، ولتكون جارية لهذا الرجل الذي لا تعرفه ولا تحبه، وعلمت أن أخاها باعها ليحظى بالمال، وباع الدار ليتخلص منها، فنزلت بها علة عصبية فجائية، فبقيت تبكي وتتنهد وتبكي وتتنهد، وهي لا تأكل ولا تشرب ولا تقوم من مكانها، وما زالت كذلك ثلاثة أيام، ثم أتي لها بالطبيب، وقبل أن يصل الطبيب وصلت نفسها إلى السماء ... •••
فحزن العجوز كثيرا لخسارته العظيمة؛ ولأن إحسانا ماتت بكرا ولم يتمتع بها، ومن المحزن أن الرجل العجوز امتنع عن تكفين الفتاة، وأرسل إلى أخيها يعلمه بذلك، فلما وصل الخبر إلى مختار بكى قليلا وجهز أخته كما جهز أمه من قبل، ودفنت إلى جانب أمها وأبيها ...
الفصل العشرون
قال محدثي: وبعد أن مسح مختار يديه من بيع أخته وأخذ المائة وخمسين جنيها، وباع الدار بمثلها، صار له ثلاثمائة جنيه، فاستأجر غرفة في فندق في الأزبكية، واشترى ملابس جديدة، ووضع النقود في أحد المصارف ليأخذ منها ما يريد وقتما يريد.
وفي ليلة من الليالي ملأ جيوبه ذهبا، وقصد المرقص ليرى منيرة، وكان في يده حينئذ عصى يدها من ذهب، وكان حذاؤه جديدا وثيابه كلها جديدة، إلا قلبه فإنه كان قديما فاسدا، وكان وجهه نظيفا ويداه نظيفتين، وكل جسمه نظيفا إلا ضميره، فقد كان وسخا؛ لأنه باع أخته ليحصل على المرأة التي تكرهه، ولما رآه صاحب المرقص قام له إجلالا وإكراما، وشخص إليه الناس، ورحب به الخدم، فسأل نفسه عن كل ذلك الإكرام، فأجابه الذهب: لقد مسحت من جبينك ما كتبته الفاقة، وكتبت ما يأتي:
غني جاهل أحمق معه ذهب، فاضحكوا عليه وخذوا ماله قبل أن يأخذه غيركم ...
ولما جلس مختار التف حوله الخدم يحيونه ويسألونه عن سبب هجر منيرة، وهي تسأل عنه كل ليلة، وتأبى الجلوس مع أحد من الرجال الذين يطلبونها؛ لأنها تخاف أن يأتي مختار بك ويجدها مع غيره فيغضب عليها.
ومن الغريب أن كل تلك الترهات الفارغة، وتلك الأكاذيب الباردة كانت تدخل على أفكار هؤلاء الناس أمثال مختار، ويعتقدونها، ويظنونها حقائق ثابتة!
ثم لم يلبث مختار طويلا حتى أتت منيرة وجلست بجانبه وحيته، وضحكت له، وبقيت تداعبه، ثم طلبت قنينات الخمر «دستة» بعد «دستة»، وما زالت تطلب ولا تشرب ومختار يدفع ولا يرجع عن غيه حتى نصف الليل، فقامت منيرة مع مختار إلى دارها ... •••
واستمر مختار مع محبوبته على ذلك أكثر من ثلاثة شهور، وصرف أكثر من مائتين من الجنيهات، ولم يبق معه أكثر من عشرين جنيها، وعند ذلك ذهبت سكرة المال، وجاءت فكرة الفقر، وتصور مختار كل الأهوال التي هو قادم عليها من جوع وعري ومرض، فندم ندما شديدا على بيع داره وزواج أخته التي سبب موتها، وكان المسكين يقوم من دار منيرة إلى الديوان، ولكنه في تلك الأيام الأخيرة التي قل فيها المال عاد إلى الفندق، وكان يزور منيرة في كل أسبوع مرة ...
الفصل الحادي والعشرون
الليلة الأخيرة
قال محدثي: وبعد أن ذهبت عشرة جنيهات من العشرين، جلس مختار مرة يسكر وحيدا منفردا، وما زال يشرب ونفسه تغرق وعقله يطير حتى نصف الليل، وعند ذلك تصور منيرة في قميصها الأحمر وهي نائمة في السرير، فقام توا إلى المرقص، وقضى مع حبيبته هناك ساعتين، أنفق فيهما كل ما كان معه، وذهب في آخر الليل مع محبوبته. •••
وكانت عادة منيرة أنها لا تخرج من غرفتها هي ومختار قبل الظهر، فلما جاء الظهر لم تخرج، فدق الخادم الباب فلم يجبه أحد، فأخبر أم منيرة بذلك، فدقت الباب دقا عنيفا فلم تسمع صوتا ولم يجبها أحد، فخافت أن يكون حدث ما لا تحمد عاقبته، وأخبرت الجيران بذلك، فاجتمعوا رجالا ونساء وكسروا الباب ... ورأوا منظرا محزنا هائلا ...
رأوا مختارا في وسط الغرفة ورقبته مربوطة بشريط طويل إلى عمود السرير، وعيناه مفتوحتان، ووجهه أزرق، ولسانه خارج، ثم نظروا فإذا بمنيرة في السرير وهي لابسة قميصا أحمر، وفي رقبتها أثر الأصابع وعيناها مغمضتان وجبينها بارد.
وهكذا خنق مختار منيرة، ثم خنق نفسه، فانتهى مرضه بالجنون كما قال الطبيب. •••
ثم تنهد محدثي واغرورقت عيناه بالدموع، فمسحها وسكت، وكان الليل قد شاب وغطى المشيب بالزعفران، فقمت من عنده وأنا حزين مغموم، ولما وصلت داري كانت الشمس قد أشرقت، فبدأت أكتب هذه القصة، ولم ألق القلم حتى أتيت على آخرها ...
ونحن الآن نختم هاتين الحياتين المحزنتين؛ حياة المرأة المظلومة الظالمة التي أساءت إليها القوة القادرة التي تحكم هذه العالم، وأساء إليها كل من عرفها، وحياة الشاب الساقط المسكين الذي وقع معها في هوة الانحطاط، ولا ندري أين هذه المرأة وأين هذا الرجل، أهما في جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، على الأرائك متكئين، تطوف عليهما غلمان كاللؤلؤ المنثور، بأكواب من فضة ختامها من مسك، أم هما في جحيم وقودها الناس والحجارة واقفين على حجرين من نار يغسلان ذنوبهما بماء من نار، وتبدل جلودهما كلما فنيت، أم نفساهما في الهواء الرحب لا تستقران، على حال من القلق تطيران من كوكب إلى كوكب ومن عالم إلى عالم حتى تهلكا ...
سلام! سلام! على تلك النفوس التي أساءت إليها الإنسانية وأجسامها تئن تحت التراب، وهي تائهة بين الأرض والسماء، تجذبها أخواتها إلى العلى، وتهبط بها ذنوبها إلى أسفل سافلين ...
خاتمة
إن القلم الذي كتب هذه القصة لم يكتبها طمعا في المال أو الشهرة؛ لأنه لا يحبهما، ولم يكتبها لتكون نصيحة وعظة للقارئين، فإن الأمل في قبول النصيحة ضعيف، ولم يكتبها لينزعج الشبان الغارقين في بحر السرور، فإن إقلاقهم حرام وهم في ربيع الحياة ... ولم يكتبها لتكون فكاهة لفئة المشغوفين بمطالعة الروايات، ولم يكتبها ليقرأ تقريظ الصحف ومدح الأصحاب، فإن كل هذه البواعث التي تبعث إلى كتابة الكتب فقاقيع فارغة.
إنما هذا القلم كتب تلك القصة ليخدم نفسه، فإذا كسر بعد كتابتها بيوم، فهو ينام هادئا مستريحا، ويقول كما قال «تشارلس ديكنس» في آخر إحدى قصصه: «الآن تممت واجبي.» ونحن نقول: الآن أتممنا واجبنا، ورفعنا الحمل الثقيل الذي أنقض ظهرنا، تلك الآلام التي كانت تجول في صدرنا قد ذهبت!
النار التي كانت مشتعلة في نفسنا صارت نورا! إن القلم الذي كتب هذه القصة كتبها بعد أن هزأ بالحياة وسخر منها، بعد أن احتقر الإنسانية، بعد أن زهد في كل شيء.
إن القوة الهائلة التي تضيء هذا الكون بعثت بشعاع من نور ليرشد ذلك القلم، والآن فنحن نلقي ذلك القلم بعد أن بعثناه رسولا بين النفس والطرس، فأدى أمانته وبلغ رسالته.
Page inconnue