إهداء الكتاب
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
Page inconnue
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
Page inconnue
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
خاتمة
إهداء الكتاب
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
Page inconnue
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
Page inconnue
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
خاتمة
في وادي الهموم
في وادي الهموم
Page inconnue
تأليف
محمد لطفي جمعة
عفوا تعف نساؤكم. (حديث)
لا تلم المرأة الساقطة في مهاوي عارها، إنك لا تدري تحت أي حمل سقطت من أحمال الدنيا وأثقالها. (فيكتور هوجو)
إهداء الكتاب
إلى تلك النفوس التي أساءت إليها الإنسانية وأجسامها تئن تحت التراب، وهي تائهة بين الأرض والسماء، تجذبها أخواتها إلى العلى، وتهبط بها ذنوبها إلى أسفل سافلين.
مقدمة
منذ أربعة شهور، جلست في غرفتي أمام منضدة الكتابة، وأردت أن أكتب قصة، فقلت: ماذا أكتب؟ إني لا أرغب أن أقص قصة غرام طاهر وحب نقي وقلوب طيبة ووعود وزواج، هذه الأشياء ليست موجودة إلا في خيال المؤلفين، وبقيت أمل القلم، وكلما هممت بالكتابة أحس بيد قوية تعوقني حتى يجف القلم ويطير المداد في الهواء.
إن دماغي مملوءة بالآراء والقصص، ولكن كل ما يحيرني هو الانتقاء؛ أي قصة أنتقي؟ وأي فكر أختار؟ كثيرا ما قرأت وكتبت قصصا أبطالها: رجال ذوو همة وشجاعة وكرم وصداقة، وفتياتها جميلات ذوات عفة وطهر ونقاء، ولكن أي رجل الآن شجاع كريم صادق الوعد، وأي امرأة عفيفة نقية حافظة للعهد؟ اقلب كلامك، وضع يدك على من شئت، آن الآوان لأن نترك الخيال جانبا، ونقف على الحقيقة، إذن فلنكتب قصة عن الناس الذين حولنا الذين نعيش بينهم ويعيشون بيننا.
نعم، إنني أعلم أني بذلك أحرك الماء الراكد الآسن، وأفضح معايب الهيئة الاجتماعية، ولكن أرى أن تصوير البشر كما هم أفضل بكثير من تصويرهم كما يجب أن يكونوا، إن جمهور القراء يطلب قصة عن أميرة فتاة جملية غنية تقع في ورطة؛ فينجيها من الموت شاب جميل فقير شجاع فيتزوجها، ولكن أنا لا أطلب ذلك، أنا أطلب أن أنزل بالقراء إلى ميدان الحياة الواسع، أرغب أن أنزل بهم إلى ملعب الحياة الذي يمثلون فيه أدوارهم وهم لا يحسون.
Page inconnue
أرغب أن أصور لهم صورة يرون فيها معايبهم؛ فيصلحونها، ولا أرغب أن أغشهم بتصوير الناس صورة جملية، ولكنها مخالفة للحقيقة.
وليعلم القارئ الكريم، أن فن الروايات منقسم إلى قسمين؛ القسم الأول يسمونه «رومانتيك»؛ أي روايات خيالية، والقسم الثاني يسمونه «ريالستيك»؛ أي روايات حقيقية، فالأولى هي التي تصور البشر كما يجب أن يكونوا، لا كما هم في الحقيقة، والثانية تمثل البشر كما هم بنقائصهم ومعايبهم ومخازيهم، وأشهر كتاب الخيال السير ولترسكوت القصصي الإنجليزي وإسكندر ديماس وماكس بمبرتون وغيرهم، وطريقة كتاب القصص الخيالية هي أن يجلس الكاتب في غرفته، ويتخيل الحقول الخضراء، والحدائق الغناء، وغدران الماء، والطيور المغردة، والليالي المقمرة، والأبطال الشجعان، والنساء الجميلات، والغزل والغرام، والشكوى والجفاء واللقاء، ثم يكتب قصته. وأما طريقة كتابة الروايات الحقيقية هي أن يلبس الكاتب ملابسه أو يتزيى بغير زيه، ويتجول في الطرق والأزقة، ويدخل المجتمعات والمحطات، ويرقب حركات الناس في ملاعب القمار والحانات والحدائق العمومية، ويبقى طول ليلته هائما في الطرق؛ يدرس الأخلاق والطبائع والعادات، وهو فيما بين تلك الأشياء يقيد ما يراه ويسمعه ويدرسه، ثم يجلس ويكتب قصته ويسبك فيها كل ما رآه وسمعه.
وكل الكتاب في أوائل القرن التاسع عشر وما قبله، كانوا يميلون للطريقة الخيالية؛ لسهولتها ورواج رواياتها، وينفرون من الطريقة الثانية؛ لصعوبتها ونفور القراء منها. ومثل نفور القراء من الروايات الحقيقية؛ كمثل القبيح يقف أمام المرآة ويرى قبح وجهه فيكذب المرآة ويطلب غيرها تريه نفسه جميلا.
وكان أول من هدم أساس الخيال وشاد صروح الروايات الحقيقية الكاتب القصصي الفرنسوي الشهير «هو نوردي بلزاك»، الذي ولد في أواخر القرن الثامن عشر، ومات في أوائل القرن التاسع عشر، وهو أول من بدأ بكتابة قصصه على الطريقة الحقيقية، وأول من بدأ بتحليل أخلاق البشر وقلوبهم تحليلا فلسفيا، وكل ما كان يأخذه عليه أعداؤه هو تصريحه تصريحا يخدش وجه الحياء، ولكن بلزاك لم يعبأ بهم، ولم يرغب أن يجر الذيل على المخازي، بل أراد أن يكشف أمرها ليراها الناس بأعينهم، لعلهم يرجعون عن غيهم، وقد كتب عددا عظيما من القصص، وجمعها تحت عنوان «الكوميدية الإنسانية»؛ أي رواية الإنسانية المضحكة.
وقد سار على خطوات «بلزاك» تلميذه «إميل زولا» الكاتب الفرنسوي الشهير الذي انتقد «لويس أولباك» كتابه المسمى «تريزا راكن» بقوله: «إنه كتاب نتن؛ لأن مؤلفه صرح فيه بما يجب كتمانه.» •••
وبعد أن جالت في رأسي تلك الآراء والأفكار، قمت فسرت في طرق القاهرة، ولم أترك بابا حتى طرقته، وكنت في تلك الأثناء أقيد ما أراه في دفتر صغير، وأكتب ملحوظات عن كل كبيرة وصغيرة، وبقيت على هذه الحال ثلاثة شهور، ثم جلست أكتب قصة عن «الرجل والمرأة»، ولست أقصد بالرجل ذلك الإنسان الذي يعمل ويكد ليربح خبز يومه، إنما أقصد الرجل الساقط الذي أساءت إليه الهيئة الاجتماعية، وجنى عليه أبوه، فأتى يضرب في ديجور هذه الحياة، وما زالت تتهيأ له الأسباب حتى سقط في حضيض الفساد، ولا أقصد بالمرأة تلك المخلوقة التي تهز سرير طفلها وتطبخ لزوجها، إنما أقصد المرأة المسكينة المحتقرة المهانة الظالمة المظلومة التي أجبرها الفقر وألزمتها الفاقة، فباعت عرضها لتأكل بثمنه رغيف خبز يابس!
وقد قصدت الكتابة عن المرأة والرجل؛ لأنه لم يهلني شيء في القاهرة مثل حال الرجل والمرأة وسقوطهما، ومن الغريب أن أفكار الأمة كلها كانت مهيأة لسماع ما يقال في هذا الموضوع، فإنه منذ قليل من الزمان قام «حافظ أفندي عوض» وأخذ يشرح على صفحات المؤيد حال الشاب المصري شرحا وافيا يدل على أننا في حاجة عظيمة إلى الإصلاح، وهاك نبذة مما كتب في المؤيد بهذا الشأن:
إن مثل هذا الموضوع «يعني سقوط الشبيبة واندفاعها مع تيار الفساد الأدبي» لا يصح أن يقال فيه إلا الحقيقة، لا يصح أن نسلك فيه سبيل عشاق الخيال ومحبي الأوهام، بل يجب أن ننهج فيه نهج التصريح بتصوير الحقائق على ما هي، وإن كان تصويرها كذلك غير مألوف على بعض الأذواق، وبذا يمكن أن يقال إننا أبرزنا صورة حالنا الحقيقية، حتى إذا ما ألقى الناظر إليها نظرة، صاح وإن كان جامدا في إحساسه: «هلموا إلى الإصلاح! هلموا إلى الإصلاح!»
انتهى كلام المؤيد، فما أصدق هذا القول وما أجمله!
وبعد ذلك بقليل قرأنا مقالة في الجوائب المصرية في عددها الصادر يوم الأربعاء 17 مايو 1905 تحت عنوان:
Page inconnue
حبائل الشيطان
يمر رجل الأدب والتهذيب في شوارع الأزبكية، فيخيفه ما يرى أمامه من صنوف الخلاعة وأنواع الفجور، ومن تلك الأشراك المنصوبة عند كل خطوة لاصطياد المال وسلب الصحة والآداب، فيخطر في باله، وهو الأديب، أن يبحث عن أسباب هذا الداء المنتشر في القطر انتشارا يقصر عنه انتشار الطاعون في بومباي منذ بضع سنين مضت، يمشي المرء من جهة قهوة الشيشة الوحيدة ليلا إلى وجه البركة، فلا يصل لإلدورادو إلا ويعثر بمائة سبب من أسباب الفجور، فيصل إلى الإجبسيان فيرى جميع الأسباب مجتمعة معا إن لم يكن فيها ففي جوارها، ثم يتقدم قليلا في ذلك الشارع لجهة قهوة اللوفر، فيرى ما لا يجوز أن يخطه قلم، ثم ينظر إلى أكثر المباني فخامة وأشد المحال ازدحاما وأجمل الحوانيت أثاثا وأتمها زينة وأكثرها أجورا، فيرى أن محال البغاء نائلة القدح المعلى ورافلة بلباس الزينة الأسنى؛ ذلك لأننا شباننا الكرام العواطف ينفقون الذهب الوضاح على مناضد مثل هذه المحال بلا عدد ولا حساب، مع أنهم يحاسبون مساح الحذاء على المليم، والعامل في حقولهم أو الخادم في بيوتهم على البارة أو على ما هو أقل منها.
كثر الويل فصار عاما، فسقط شباننا حتى في عدم تمييز الكلام المهذب من غيره ، وصار بعضهم يقص أخبار زيارة البغايا كعمل شريف يفتخر به في أندية الخمر!»
انتهى كلام الجوائب.
وصوت الجوائب أيضا صوت صارخ يستغيث صاحبه من حال الشبيبة الساقطة.
ثم جاء تقرير جناب اللورد «كرومر»، وفيه نبذة طويلة عن «الرقيق الأبيض»، وقد قرأنا مقالة بقلم «قارئ ناقد» في صحيفة الإكسبريس التي تنشر في الإسكندرية في عددها الصادر يوم 14 مايو سنة 1905، وهي تشرح كلام اللورد «كرومر» عن الرقيق الأبيض، قال الكاتب:
الرقيق الأبيض
جاء في تقرير اللورد «كرومر» عن مصر والسودان في سنة 1904 ما يأتي: كتب إلي الماجور «هوبكنسون»، رئيس الشرطة في ثغر الإسكندرية عن الرقيق الأبيض، يقول:
إن جمعية الاتجار بالنساء لها أعضاء ومعضدون في كل مكان، فإن الفتيات يبعث بهن من مدينة إلى مدينة، ومن أرض إلى أخرى، ومن يد شرير إلى يد فاسق، والناس عنهن لاهون. وأكثر ما تكون تلك التجارة الخاسرة في بلاد الشرق، فمن شنجاهاي إلى بومباي وغيرها، وليس لهم إلى تلك البلاد من مخرج سوى بورت سعيد.
انتهى. كلام الماجور «هوبكنسون».
Page inconnue
قال اللورد «كرومر»:
ولا أشك أن تلك التجارة قد راجت رواجا شديدا في مصر، لا سيما في ثغر الإسكندرية، وقد نفي كثيرون ممن كانوا يتناولون تلك البضاعة، وقد أثر نفيهم تأثيرا نافعا، واعتبر بهم غيرهم من أهل الشر والفساد، وقد قام الكونت «منسي» وبعض أفاضل الإفرنج بتأسيس ملجأ للفتيات المسكينات اللاتي يقذف بهن الدهر إلى الإسكندرية. انتهى.
قال «القارئ الناقدي»: ولم يكن يجول بخاطرنا يوما أن ذلك السياسي العظيم يصل إليه صوت هؤلاء النسوة المسكينات اللاتي أوقعهن القضاء ورمى بهن القدر في مخالب ذئاب الهيأة الاجتماعية، ولو كانت أمم الأرض طرا تفتخر بأنها محت آثار الذل والاستعباد وهدمت أسواق الرقيق فإن ذنوب الفتيات اللاتي يؤتى بهن من بلاد بعيدة لتعرض أعراضهن في سوق الفساد لا تزال واقعة على رءوس تلك الأمم.
ولو قام الكونت منسي وإخوانه بتأسيس ملجأ يلجأ إليه هؤلاء النسوة المسكينات فأحرى بأغنياء المسلمين في ثغر الإسكندرية وغيره أن يؤسسوا جمعية تشبه جمعيتهم لمحاربة الذين يجرون النساء المصريات الجاهلات إلى الفحش والعار.
انتهى ما جاء في صحيفة الإكسبريس.
ونحن نضم صوتنا إلى صوت الإكسبريس، ونقول إن تأسيس ملجأ للنساء البائسات خير ألف مرة من تأسيس مستشفى للمجاذيب؛ لأنه إذا صلحت المرأة صلحت العائلة ولو صلحت العائلة صلح كل شيء.
المرأة! المرأة! تلك المخلوقة الضعيفة يجب إصلاحها؛ لأنها وا أسفى عليها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها أذى ذئاب المدنية، وإن قدرت فهي لا تريد، ولا أدري على رأس من يقع ذنبها؟ فإن المسكينة تسقط بسرعة، ولو سقطت فليس لها من يرفعها؛ فيدوس عليها الرجال وهي تستغيث بهم وهم لا ينجدونها، حتى تكتم في نفسها أنفاس الطهر وتبقى كالحيوان يأكل ويشرب وينام، وتموت من قلبها عواطف الحب والشرف. ومن العجيب أن الناس يحتقرون المرأة الساقطة وهي جديرة بالشفقة والحنان، وينظرون إليها بعين الإهانة وهي جديرة بالإكرام. وما أجمل كلمة فكتور هوجو التي قالها:
لا تلم المرأة الساقطة في مهاوي عارها؛ إنك لا تدري تحت أي حمل سقطت من أحمال الدنيا وأثقالها.
وقد اختلفت آراء الناس في ذنب المرأة الساقطة، أيقع عليها أم على الهيئة الاجتماعية؟ وعندي لتلك المسألة ثلاثة أجوبة: الجواب الأول بقلم كاتب فاضل يكتب في مجلة «السيدات والبنات»، والجواب الثاني بقلم شيخ الفلاسفة الكونت تولستوي الروسي، والجواب الثالث من عندي. وهاك الجواب الأول:
منذ بضع سنوات كان في أحد المخازن بشارع شريف باشا فتاة أوروبية تدير شئون المخزن، ولا تسلني عن نوع البضائع والسلع التي كانت في المخزن؛ لأنني إذا ذكرتها وكنت إسكندريا خشيت أن تعرفه. وكنت أتردد على هذا المخزن لشراء شيء منه، فكلما دخلت وجدت الفتاة كسيدة حقيقية جالسة إلى مائدة جميلة تكتب وتأمر وتنهى والمستخدمون طوع أمرها، وكان الواحد منهم إذا خاطبها يخاطبها بكل احترام، ولا يكون خطابه إلا قوله باللغة الفرنساوية: «تحت أمرك يا مدموازل.» «نعم يا مدموازل.» «حاضر يا مدموازل.» أي إنها كانت سائدة في ذلك المخزن سيادتين: سيادة رئيس العمل وسيادة الجمال؛ ذلك لأنها كانت رائعة الجمال ، وكان لها ابتسام ملائكي وجبين نقشت عليه الطهارة وثغر كزر الورد عند تفتحه، فكنت إذا دخلت لأبتاع شيئا بفرنكين خرجت وقد ابتعت بأربعة؛ إذ أخجل من إضاعة وقتها بشيء قليل، وكنت في مخاطبتها أحترمها وأجلها كما أحترم أكبر سيدة؛ لما رأيته من أدبها ورقتها وقوتها.
Page inconnue
وفي ذات يوم دخلت المخزن على حسب العادة لأسأل عن شيء، فلم أجدها فيه، وقد مر على ذلك اليوم نحو ثلاث سنوات دون أن أراها، إلا أنني منذ أسبوعين شاهدتها في مركبة في شارع شريف باشا، والمركبة تسير بها مسرعة، فأول ما وقع نظري عليها علمت سر المسألة، علمت من مجرد نظري إليها أنها نزلت وا أسفاه في هاوية جهنم، فإنني فتشت في وجهها على آثار الطهارة الملائكية والجمال العذري وظواهر عدم الاكتراث الصبيانية التي كانت مرسومة على جبينها فلم أجد منها شيئا فيه، ولما وقع نظرها علي صدفة واتفاقا صرفت عينيها عني وزاد انقباضها، فلا ريب عندي في أنها ذكرت حينئذ الرجل الذي كان يعاملها باحترام عظيم في تردده على مخزنها، وأن تذكرها هذا الاحترام قد آلم نفسها حينئذ، ولعل كلمة «أخجلها» في هذا المقام أصح من كلمة «آلمها» ...
فالراجح أن أحد الشبان اللئام أغوى هذه الفتاة وزين لها ترك عملها واتباعه ليعيشا سعيدين، وربما قال لها ليؤثر عليها: «مالك أيتها العزيزة وهذا العمل الشاق المضجر طول النهار لتكسبي مائة فرنك في الشهر، اتبعيني فأعطيك بلا تعب ولا ضجر ثلاثمائة وأربعمائة، ونعيش معا بهناء وسعة.» فصدقت الفتاة الساذجة وعود الغشاش وتركت العمل لتتبعه، ومن هنا بدأت آلامها ومصائبها وأهوالها، وبعد أن كانت موضع الاحترام والإكرام؛ لرزانتها ونشاطها وعملها، أصبحت موضع الشفقة ممن يعرفها والاحتقار ممن لا يعرفها.
فأي ذنب هنا للهيئة الاجتماعية، أليس الذنب كل الذنب للفتاة التي انخدعت وحادت عن الصراط المستقيم اغترارا بأقوال شاب لئيم؟
نعم أيتها الفتاة المسكينة إن الذنب ذنبك لا ذنب الذي غشك، فإنه متى أصاب الثعلب دجاجة وأكلها يكون اللوم بالأكثر على الدجاجة التي لم تقو على الفرار من الثعلب، وما كان أسهل فرارك من الثعلب، الوحش المفترس، لو بقيت متمسكة تمسك الغريق بخشبة في البحر، بذلك المبدأ الشريف، مبدأ العمل المقدس المشرف، المسلي الطارد الأفكار الرديئة، المقوي على احتمال الحياة والمعيشة فيها بشرف وعزة واستقلال.
هذه هي قصة الابنة التي أشرت إليها فيما تقدم، إلا أنني لما وصلت إلى هذا الموضع شعرت بأن الفتاة المذكورة آنفا يمكنها أن تعترض على ما أعترض به عليها اعتراضا خطيرا قد يصعب الجواب عليه، وإنما يصعب هذا الجواب أولا لارتباطه بأساس (المسألة الاجتماعية)، وثانيا لأنني أكتب هنا في مجلة نسائية؛ ولذلك ألقيت القلم من يدي، وأنا آسف لأنني لم أكمل هذا الموضوع، على أن أسفي لعدم إكماله خير من إكماله؛ إذ ما الفائدة من انزعاج أدمغة الحسان اللطيفات الظريفات بالافتراضات والفلسفات وغيرها من الترهات؟
انتهى كلام الكاتب.
ونحن نشتم من هذا الكلام أسلوب «فرح أفندي أنطون» صاحب الجامعة ونفسه، وأنت ترى أنه وصل إلى غرضه، وإن كان تظاهر بعدم إكمال الموضوع، وزيادة على ذلك أنه رمى طيرين بحجر، فأوقع ذنب الفتاة الساقطة على رأسها، ثم عاد باللوم على الهيئة الاجتماعية، وقال: «إن الجواب يصعب لارتباطه بالمسألة الاجتماعية.» والمسألة الاجتماعية التي أشار إليها فرح أفندي أنطون هي التي ذكرت في مقدمة البؤساء، وكان لها شأن عظيم لقلة ألفاظها وكثرة معانيها، وهي:
ما دامت في العالم جهنم يشعل نارها النظام والعادة، وما دامت الفاقة تجبر الرجل على ذل السؤال، وما دام الجوع يلزم المرأة لبيع عرضها؛ لتأكل بثمنه، بل ما دام الجهل والفقر في هذه الحياة، فكتاب مثل كتاب البؤساء لا يستغنى عنه.
أما شيخنا «تولستوي»، فقد أجاب بما يأتي، وهو الفصل الثاني من كتاب البعث الشهير، قال يصف حياة الفتاة السجينة «مسلوفا كاتوشا»:
وقصة تلك السجينة كانت مثل قصص كل البغيات، فإن أمها كانت امرأة غير متزوجة تخدم في إحدى الضياع، وكانت تلك المرأة تأتي في كل عام بطفل سفاحا، ولما كانت فقيرة في حاجة إلى كسرة خبز وشربة ماء، كانت تهمل أمر أطفالها ثمرات الزنا، فيموتون من الجوع والبرد والمرض، أما الطفلة السادسة فقد كان أبوها من أبناء السبيل، وحدث أن إحدى صاحبتي الضيعة التي كانت فيها المرأة أتت إلى معمل اللبن، فرأت المرأة نائمة في إصطبل الأبقار مع مولودة جديدة عليها علائم الصحة والجمال، فأخذتها عليها شفقة ورحمة وشاءت أن تتبناها، فأعطت لأمها قليلا من المال لتتغذى وتقوى على إرضاع الطفلة.
Page inconnue
وحدث أنه لما بلغت البنت المتبناة الثالثة من عمرها، ماتت أمها وتركتها حملا ثقيلا على امرأة عجوز كانت تمت لها بحبل القرابة، فلما علمت صاحبتا الضيعة بذلك قربتا الطفلة إليهما وأدخلتاها دارهما، فعاشت بينهما ونمت وشبت وأصبحت صبية جميلة سوداء العينين خفيفة الروح، وكان اسمها «كاتوشا».
وصغرى الأختين صاحبتي الضيعة، واسمها «صوفيا» التي تبنت هذه البنت «كاتوشا»، كانت طيبة القلب كثيرة الشفقة والحنان، أما «ماري» وهي الأخت الكبيرة، فكانت قاسية القلب غليظة الطباع، فكانت «صوفيا» تنفق على ملابس «كاتوشا» وتعلمها القراءة والكتابة؛ وذلك لتكون في مستقبل الأيام سيدة حقيقية، أما «ماري» فكانت ترغب أن تكون «كاتوشا» في المستقبل خادمة أمينة، وكانت تعاقبها إذا هفت، وتضربها أحيانا إذا عملت ذنبا يستحق الضرب، وبهذه الحال أصبحت «كاتوشا» تحت تأثيرين مختلفين، فلذلك جاءت نصفها سيدة ونصفها خادمة أمينة، وكان شغلها الخياطة والاعتناء بتنظيف الغرف والقاعات وجلاء الأيقونات النحاسية، وما شابه ذلك من الأشغال البسيطة، وكانت بعض الأحيان تجلس وتقرأ للسيدتين، وقد عرض عليها الزواج مرتين فلم تقبل؛ لأن الرجلين اللذين خطباها كانا من العملة، وعاشت «كاتوشا» هكذا حتى بلغت ستة عشرة عاما، فأتى إلى الدار ابن أخي السيدتين، وهو صبي جميل غني وطالب علم في إحدى المدارس الجامعة؛ ليقضي بعض أيام مع عمتيه، فأحبته «كاتوشا» رغما عن نفسها، وبعد أربع سنين، عاد هذا الأمير ليقضي مع عمتيه أربعة أيام قبل أن يلحق بالجيش المحارب الذي عين فيه ضابطا، وفي اللية الأخيرة قبل سفره تمكن من «كاتوشا»، وأزال بكارتها وأعطاها ثمن عرضها مائة روبل، وبعد ذلك سافر، ولما مضى على هذه الحادثة المؤلمة خمسة أشهر علمت «كاتوشا» أنها حامل، فضاقت الدنيا في وجهها وكرهت كل شيء، وانحصرت أفكارها في البحث عن طريقة تتخلص بها من العار والفضيحة، وانكسر قلبها، وصارت تهمل في أشغالها، ومرة أهانت السيدتين بكلامها، ثم تابت واستغفرتهما وسألتهما أن تأذنا لها في الخروج فطردتاها، فانطلقت «كاتوشا» طريدة دهر جائر الأحكام، وخرجت تطلب رزقا بعرق جبينها، فدخلت في خدمة ضابط من ضباط البوليس، ولكنها لم تبق عنده أكثر من ثلاثة شهور؛ وذلك أنه كان يبلغ الخمسين من عمره، وكان كثيرا ما يغازلها، ومرة خرج عن حده في مزحه معها، فغضبت غضبا شديدا وشتمته قائلة: «أيها العفريت العجوز المجنون.» ثم لكمته في صدره فوقع على الأرض، فأخرجها للحال من بيته لسوء سلوكها.
وبعد أن غادرته لم تبحث عن محل آخر للخدمة؛ لأن زمن وضعها قد حل، فقصدت منزل إحدى القوابل، وكان الوضع سهلا، ولكن القابلة كانت مصابة بالحمى فنقلت العدوى منها إلى «كاتوشا»، فلزمت الفراش وبعثت بالمولود الصغير إلى ملجأ اللقطاء؛ حيث مات بعد وصوله بقليل، وقبل أن تذهب «كاتوشا» إلى دار القابلة كان معها مائة وسبعة وعشرون روبل، مائة دفعها لها الذي أزال بكارتها وسبعة وعشرون حصلت عليها من دار الضابط، فلما خرجت من دار القابلة كان كل ما معها ستة روبلات؛ لأنها المسكينة لم تكن تعرف فن الاقتصاد السياسي، فكانت تنفق على نفسها كما تشتهي وتعطي كل من يسألها، فأخذت منها القابلة أربعين روبل جزاء الولادة والنفاس، وأخذت المرأة التي نقلت المولود من دار القابلة إلى ملجأ اللقطاء خمسة وعشرين روبلا، واقترضت المولدة أربعين روبلا لتشتري بها بقرة، وأنفقت «كاتوشا» عشرين روبلا في شراء بعض الملابس واللوازم، ولما فقدت «كاتوشا» كل شيء عمدت إلى الخدمة ثانية، ودخلت دار رجل غني فأحبها لأول وهلة، وبدأ يداعبها ويغازلها، وما زال بها حتى تمكن منها، فعلمت بذلك زوجته وكبسته هو و«كاتوشا» في سرير واحد، فضربت «كاتوشا» ضربا مبرحا، فدافعت «كاتوشا» عن نفسها ثم طردت بدون أن تأخذ أجرتها، ولما ضاقت الدنيا في وجهها مرة ثانية، ذهبت لتعيش مع خالة لها؛ لأنها كانت تعرف أن زوج خالتها قادر على وقته، ولكن للأسف كان هذا الزوج قد اعتاد شرب الخمر فافتقر؛ ففتحت زوجته مغسلا تغسل فيه ملابس الناس لتعيش هي وأولادها وزوجها البائس، فلما نزلت «كاتوشا» بخالتها شاءت الخالة أن تعطيها وظيفة «غسالة»، ولكن «كاتوشا» خافت من التعب وبدأت تبحث عن مكان تخدم فيه، فوجدت مكانا خاليا في دار سيدة لها ابنان، وكان أكبرهما بالغا، فلما رأى «كاتوشا» ترك كل دروسه وانتبه لها، وكان يطاردها من مكان إلى مكان ولا يتركها تستريح لحظة، فعادت أمه باللوم على «كاتوشا» وطردتها.
فعادت «كاتوشا» ثانية إلى «حانوت المخدم»، فرأت هناك امرأة سمينة مكشوفة الذراعين وفي يديها أساور من ذهب وفي أصابعها خواتم كثيرة، فلما علمت هذه المرأة أن «كاتوشا» في احتياج إلى الخدمة أعطتها عنوانها ودعتها إلى منزلها، فذهبت «كاتوشا»، فرحبت بها المرأة وقدمت لها فطيرا ونبيذا، ثم كتبت خطابا وأعطته للخادم ليبلغه لأحد الناس، وفي المساء أتى إلى الدار رجل طويل أبيض الشعر له لحية طويلة، ودخل غرفة الجلوس، وجلس بجانب «كاتوشا»، وأخذ ينظر إليها برقة وانعطاف، وبدأ يمزح معها ويداعبها، فدعته صاحبة البيت إلى غرفة مجاورة، وسمعتها «كاتوشا» تقول له: «بنت جديدة من الأرياف.» ثم دعت «كاتوشا»، وقالت لها: «إن هذا الرجل مؤلف، وهو غني، ولو أحبك لا يبخل عليك بشيء؛ فاجتهدي في إرضائه.»
وقد أحب المؤلف «كاتوشا» وأعطاها خمسة وعشرين روبلا، ووعدها بأن يقابلها كلما سنحت له الفرص، فدفعت «كاتوشا» بعض هذه النقود إلى خالتها أجرة سكنها، واشترت بالبعض الآخر قبعة.
وبعد ذلك بأيام قلائل بعث إليها المؤلف، فذهبت له؛ فأعطاها خمسة عشرين روبلا أخرى، وأسكنها في منزل خاص بها، وكان بجوار المنزل الذي استأجره المؤلف ل «كاتوشا» حانوت تاجر، وكان هذا التاجر جميلا، فوقعت «كاتوشا» في حبائل غرامه، وباحت للمؤلف بسرها فأطلقها، واستأجرت لنفسها منزلا منفردا، كان التاجر يتردد عليها فيه.
وبعد أن قضى التاجر من «كاتوشا» حاجته وعدها بالزواج، ثم سافر بدون أن يخبرها، وتركها وحيدة، فأرادت أن تبقى في المنزل، فأنذرها البوليس وأعلمها بأنه يجب عليها أن تسحب «رخصة»، وأن تكون مستعدة للكشف الطبي في أيام معلومة، فعادت إلى خالتها، فلما رأتها خالتها ورأت ملابسها وقبعتها خافت أن تعرض عليها صناعة الغسل، وكذلك «كاتوشا» لم يخطر ببالها أن تصير غسالة؛ لأنها كانت تنظر بحزن شديد إلى الغسالات المسكينات اللاتي أصابهن مرض السل من صناعتهن الشاقة التي تعرضهن للبرد والحر والتعب.
وفي تلك الأثناء لم يبعث الله ببطل كأبطال الروايات الخيالية؛ لينجد «كاتوشا» من فقرها وعارها، ووقعت المسكينة في يد امرأة لها بيت عمومي، وكانت «كاتوشا» قد اعتادت التدخين وشرب الخمر، ولم تكن تحب الخمرة لطعمها، إنما كانت تنسيها همومها وأحزانها، لأنها في حال الصحو كانت تحس بالعار والحزن.
وقد خيرتها صاحبة البيت العمومي بين أمرين، وهما: إما أن تبقى فقيرة تخدم في بيوت الناس، وتطرد من بيت إلى آخر، أو تعيش في بيت عمومي مصرح بفتحه من الحكومة، فيصير لها مركز ثابت وتكسب كثيرا بدون تعب، فاختارت «كاتوشا» البيت العمومي بما فيه من الراحة والنعيم، وخطر ببالها أنها بوجودها فيه يمكنها الانتقام من الذي أزال بكارتها، ومن التاجر الذي أحبته وأخلف وعده معها، ومما زاد في رغبتها في المعيشة في البيت العمومي هو أن صاحبته قالت لها إنه يمكنها أن تلبس الحرير والمخمل، ويمكنها أن تأمر الخياطة بتجهيز كل الملابس كيفما شاءت، فمن الثوب ذي الذيل الطويل إلى الثوب الذي يظهر الأكتاف والصدر، فقالت «كاتوشا» في عقلها: ما أجملني إذا لبست ثوبا من الحرير الأصفر المحلى بالقطيفة السوداء! ثم سلمت نفسها إلى صاحبة البيت العمومي. وفي هذا اليوم نفسه دخلت ذلك البيت الذي صاحبته «كارولين البرتوفنا كتيافا»، ومن ساعة لمست قدم «كاتوشا» عتبة هذا البيت، ابتدأت تعيش عيشة فظيعة ضد الشرائع والآداب الإنسانية، تلك حياة البغيات التي يعيشها مئات الألوف من النساء، وتصرح بها الحكومات، حياة أقل ما فيها أنها تقصف غصن شباب المسكينات اللاتي يقعن في حبائلها، وتنتهي بالعلل والأمراض والموت المعيب، فإن إحدى هؤلاء المسكينات تتيقظ من نومها في الساعة الرابعة بعد الظهر، فتهب من فراش قذر فيأتي إليها بالقهوة، وهي تائهة فاقدة الرشد، ولا تزال في ملابس نومها، فتمشي من مكان إلى مكان في غرفتها أو تطل من النافذة بكسل شديد حتى يخيم الظلام، فتبتدئ المشاجرات بينها وبين شريكاتها في الشقاء، ثم تغسل وجهها، وتعطر جسمها، وتصلح شعرها، وتقيس الملابس الجديدة، وتنظر إلى نفسها في المرآة، ثم تنقش وجهها بالصبغات البيضاء والحمراء، ثم تأكل ثم تلبس الحرير والمخمل، وتنزل إلى غرفة الاستقبال الكبيرة، فيأتي الضيوف وتبتدئ الموسيقى والرقص والسكر والتدخين، ويبتدئ الصراخ والضحك والمشاجرات والتدخين والسكر والموسيقى والصراخ والضحك، ثم الاختلاط برجال مختلفين حتى الصباح، فتنام الواحدة نوما ثقيلا، فتتيقظ الساعة الرابعة بعد الظهر، وهكذا في كل يوم حتى ينتهي الأسبوع، فيذهب كل النسوة إلى مركز البوليس؛ حيث يكشف عليهن أطباء معينون من الحكومة ويصرحون لهن بالمداومة على هذه الحال باسم الحكومة وإذنها، وهكذا في كل أسبوع وكل شهر وكل صيف وشتاء وخريف وربيع وكل سنة.
وهكذا عاشت «مسلوفا كاتوشا» سبع سنين، وقد انتقلت من البيت الأول إلى بيوت غيره، وحجزت في المستشفى مرة.
Page inconnue
وفي السنة السابعة من تلك الحياة السوداء؛ أي لما بلغت «كاتوشا» ثمانية وعشرين سنة، حدثت في البيت الذي كانت فيه جريمة هائلة، فاتهمت مع المتهمين وسجنت ثلاثة شهور مع اللصوص والقتلة والمجرمين قبل المحاكمة التي تنتهي بنفيها إلى سيبريا.
انتهى الفصل الثاني من كتاب البعث، تأليف تولستوي.
ويرى القارئ أن تولستوي أيضا قسم الذنب إلى قسمين: قسم يسقط على رأس «كاتوشا»؛ لأنها رفضت العمل كغسالة وخافت من الخدمة، ولأنها اختارت حياة الراحة والنعيم على حياة التعب الشريف، والقسم الثاني - وهو أكبر القسمين - على الهيئة الاجتماعية التي أساءت إليها؛ لأنه لو لم يزل الأمير بكارتها ما تركت السيدتين، ولو لم يداعبها الضابط ما تركت داره، ولو لم يطاردها التلميذ الكبير الذي خدمت في بيت أمه ما خرجت مجروحة الفؤاد، إذن الذنب واقع على الناس أكثر من وقوعه على «كاتوشا» المسكينة الحزينة السجينة.
أما الجواب الذي من عندي، فهو بسيط صغير، وهو أن الذنب كله واقع على رأس الرجل أولا وعلى الهيئة الاجتماعية ثانيا؛ لأن الرجل هو الذي يهجر زوجته، وهو الذي يغري الفتاة فتصير امرأة، وهو الذي يغازل الحرة ويطارحها الغرام، وهو الذي يترك زوجته حاملا وابنه في أحشائها ولا يسأل عنها، فيجبرها الفقر على بيع العرض، وهو الذي يعلمها التدخين وشرب الخمر، وهو الذي وضع القوانين وسن الشرائع، فلم ينصف المرأة وظلمها ... الرجل هو الذي يقع على رأسه ذنب المرأة، ولا تكفير لسيئاته نحو تلك المخلوقة الضعيفة إلا تهذيبها وتعليمها ومنع نفسه عنها منعا باتا إلا بطريقة شرعية، أليس لنا بالحيوان الأعجم أسوة، وكل ذكر منه مكتف بأنثاه؟
إني أعتقد بأن المرأة تصلح لأن تكون ملكا طاهرا أو ملكة عادلة أو أما شفيقة أو زوجة فاضلة ومدبرة عاقلة، أو بغيا ساقطة أو مجرمة قاتلة، وكل ذلك في يد الرجل، فليجعلها كما يشاء، والذنب ساقط على الهيئة الاجتماعية ثانيا؛ لأنها ترى كل تلك الأمور ولا تمد يدها للمرأة، وتساويها بالرجل في كل شيء، فإنه عار على عصر العلم والمدنية والحرية والفلسفة أن تبقى فيه المرأة تزني لتأكل.
ولو بعث المسيح الآن حيا، وسئل عن رأيه في سقوط المرأة لأعاد الكلمة التي قالها منذ تسعة عشر قرنا، وهي: «من كان منكم طاهر الذيل فليرمها بحجر.» وقد يقول بعض الجاهلين بأن الكتابة في هذا الموضوع في مصر لم يأن أوانها، أو هي من قبيل وضع الشيء في غير محله، وقد فرضنا هذا القول من قبل وهزأنا به؛ لأنا نكتب للعقلاء، فإن لم يرض العقلاء بما نكتب فإنما نحن نكتب لنطرح عن قلبنا حملا ثقيلا ولنؤدي للإنسانية خدمة صغيرة، ونحن نتمثل بكلمة «جول سيمون» التي قالها في أول كتابه «المرأة في القرن العشرين»: «ولا أطمع بأن أبدي رأيا جديدا، ولكن إذا لم يكن لكلامي تأثير إلا في تعزيز بعض المبادئ التي أهملت، فإنني أعتبر عملي جديرا بالتعب.» ونحن إذا لم نبد رأيا جديدا، إنما نؤيد آراء أكابر الكتاب الذين كتبوا في «ذلك الموضوع»؛ مثل فيكتور هوجو وألفرد موسيه وروبرت هيتشنز وشيخنا تولستوي، ول «طانيوس عبده» رأي في ذلك الموضوع نجعل به ختام المقدمة مسكا:
المومس والشمس
غادة لو تجملت بجمال الن
نفس كانت آلهة الجلاس
طلعت مطلع الغزالة تختا
Page inconnue
ل ازدهاء بقدها المياس
بين قوم دروا «قياس ابن سينا»
فاستجازوا عريض ذاك القياس
طلعت بينهم وقالت الأشا
عر فيكم مطيب الأنفاس
عربيا يشبه الوجه بالش
شمس وتلك القدود بالأغراس
فانبرى بينهم فتى عرفوه
قبلها أنه من الأكياس
تصدى لها وقال وقد تا
Page inconnue
ه من السكر بين ورد وآس
أنت كالشمس غير أنك مثل الش
شمس في كونها لكل الناس
حديقة الحلمية 14يونيو سنة 1905
الفصل الأول
كنت بالأمس على وعد من صديق لي، فلما بلغت داره دخلت، فوجدته جالسا والحزن باد على وجهه، ولما حييته وجلسنا نتحادث، سألته عن سبب حزنه، فقال: جلست اليوم أنظر في صور أصحابي الذين عرفتهم، فبصرت بتلك الصورة، فحركت أشجاني، قلت: وأي صورة تقصد؟ قال: هذه التي تراها بين يدي، فنظرت إلى ما بين يديه، فرأيت صورة، فتناولتها، فقال: بالله عليك لا تمكني من النظر إليها، فإني لا أستطيع ذلك، فنظرت في الصورة، فوجدتها صورة شاب يبلغ العشرين من عمره، قلت: عجيب لك أن تحرك في نفسك تلك الصورة الحزن والأسى، قال: أتعرف صورة من هي؟ قلت: لا، قال: هي صورة مختار، قلت: ومن هو مختار؟ قال: بالله عليك لا تدع الحديث يجرنا إلى ذكره، فإني ليحزنني أن أعيد سيرته بعد أن صعدت نفسه إلى السماء وثوى جسمه بين الجسوم في الأجداث.
قلت: لعل إعادة الحديث تخفف ما بك من الهم، وتذهب بما أصابك من الحزن، فتنهد، ثم أخذ الصورة من يدي، ونظر إليها نظرة الآسف الحزين، وقال يخاطبها: «أستميحك عفوا أيتها النفس إن كنت في جنات النعيم، أو في نار الجحيم، وأنت أيها الجسم الذي تغلبت على تلك النفس، فهويت بها إلى وادي الهموم تبا لك وتعسا!» ثم صمت صديقي قليلا، فقلت له: إني لم أفهم كلامك، فهل لك أن تقص علي قصة صاحب هذه الصورة، فقال: لك ذلك، فاسمع: كنت مدعوا منذ سنتين في المهرجان الفخيم الذي أقامه موسى باشا لزواج ابنته، وكنا في فصل الشتاء، وقد اجتمع في ذلك المهرجان كل أغنياء القاهرة وسراتها وأكابرها، ولم يدخر موسى باشا وسعا في إكرام المدعوين، وأنفق في هذا المهرجان نفقة هائلة، وقد بلغني أن نفقات «البوفيه» بما فيه من المآكل الشهية والخمور المعتقة زادت على ألف جنيه.
وفي نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل، جلست مع بعض أصحابي في قاعة الشراب، وكان المغني يغني بألحان شجية، وكان بين الجالسين معي شاب يناهز العشرين من عمره، أسمر اللون، نحيف القوام، اسمه مختار، ولما شربنا وصعد بخار الخمر إلى رءوسنا، بدأنا نتكلم عن النساء والقمار، وحكى كل منا ما عنده من قصص الغرام وأخبار المقامرين ونوادر السكارى حتى جاء الدور في الكلام على مختار، فحدثنا قائلا: إن أمري في القمار عجيب، فقد دخلت مرة قاعة لعب «البكارات» ومعي خمسة جنيهات، فلعبت وربحت، وبقيت ألعب وأكسب حتى حصلت على ثلاثمائة جنيه في أقل من ساعتين، وكنت في ذلك الحين أحب فتاة حبا كاد يصل بي إلى الجنون، فكنت أنفق على ملذاتها وملذاتي أكثر من عشرين جنيها في كل يوم ما بين تره وولائم وخمر وملابس وحلي و... فتحرك أحد الجالسين، وقال: وأي فتاة تلك التي حملتك كل هذه النفقات، أو كانت تحبك كما كنت تحبها؟ فقال مختار: أنا لا يهمني إن كانت تحبني أو لا تحبني، إنما أنا أحبها، وماذا علي إذا أحببت والمحبوب يكره؟
فتحرك شاب آخر، وقال: «أنت مخطئ يا مختار؛ لأن كره النساء لمن ينفق عليهن وحبهن لسوائه قد أمسى أمرا محققا، ولقد أحببت أنا امرأة حبا جما، وكنت أنفق عليها كل ما أكسبه، وكانت تظهر لي حبا أعظم من حبي، وتحلف لي بأوثق الأيمان أني مليك فؤادها ومالك قيادها، وحدث في إحدى الليالي أننا شربنا حتى سكرت المرأة، وباتت لا تدري ماذا تقول وتصنع، فلما نمت إلى جانبها، وبدأت أداعبها وأشكو لها غرامي، رأيت دمعتين كاللؤلؤ الرطب قد انحدرتا على خدها الناعم، فظننتها تبكي من نار حبها لي، فطفر قلبي سرورا ولم يلبث خفقان قلبي من الفرح طويلا حتى بدأ يخفق من الغيظ والغيرة؛ لأنني رأيت حبيبتي بعدت عني، فتناومت لأرى ما تصنعه، فإذا بها قامت وانسابت انسياب الأفعى، وفتحت الباب بكل سكون واحتراس، وخرجت تمشي على أطراف أصابعها، فعلمت أن في الأمر سرا، وعقدت نيتي على اقتفاء أثرها، ولكنني صبرت قليلا، ثم قمت وخرجت أبحث عنها، ولما صرت في «الصالون»، سمعت همسا، فأشعلت عودا من الكبريت فجأة، وإذا بي أرى المرأة التي تحبني مع الخادم، ويدها حول عنقه وهي تقبله وتضمه وتبكي ...»
وعند ذلك ضحكنا كلنا ضحكا عاليا.
Page inconnue
وما زلنا كذلك في شراب وضحك وكلام حتى أشرقت الشمس، فسكت المغني وانفرط عقد المجلس وانصرف كل إلى غرضه.
الفصل الثاني
ثم تنهد صديقي وأتبع الحديث بالحديث، قال: ولقد أحببت مختارا بعد أن تعرفت به، ووقعت بيننا الألفة وصرت صديقه الحميم، فلما كان مساء يوم من الأيام لقيت صاحبا له وسألته عنه، فقال إنه في معلب القمار، وكنا نحو الساعة الأولى بعد نصف الليل، فلم تكن لحظة حتى صعدت إلى ملعب القمار، وهو تلك القاعة الرحيبة التي ببابها النحس والسعود، وقبل أن أدخلها وقفت بالطرقة هنيهة، وكانت مملوءة بدخان الطباق، وبعد قليل دخلت، وكان اللاعبون كلهم منكبون انكباب الجائع على طعام لذيذ، ومن نال منهم كرسيا كان وراءه ثلاثة أو أربعة من الرجال، وكأنهم قد عقدوا آمالهم بآماله يربحون إذا ربح ويخسرون إذا خسر، والكل حول منضدة كبيرة مفروشة بقماش أخضر، وفي صدر المنضدة رجل ضخم الجسم، كبير الرأس، أحمر الوجه، شعره أسود، وهو مرتكن بيديه على المنضدة كمن عقد النية على الحرب والقتال، ونوى أن لا يعود إلا رابحا ربحا طائلا أو خاسرا خسرانا ليس بعده خسران، وأمامه أوراق اللعب والمال الذي كسبه .
فحشرت نفسي بين الجمع، ورقبت الرجل الكبير، ثم نظرت، فإذا بالجالسين والواقفين قد وضع كل منهم أمامه ما عرضه من مال للخطر، وصمت الكل، فتناول الرجل الكبير ورقة وأعطاها لرجل عن يمينه، وأخرى وأعطاها لمن على يساره، ثم اتخذ ورقة لنفسه، ثم نظر في ورقته، فإذا بها رابحة، فحشد المال الذي كان موضوعا أمام اللاعبين، فلم تكن لحظة حتى ضاعت آمال المؤملين، ورب رجل جمع بين اللاعبين كان قد لعب بكل ما يملكه، وأمسى بعد تلك المرة لا يملك ما يسد رمقه أو رمق عيلته، ورب فتى نهب مال أمه الأرملة وأخواته اليتامى ولعب به، وهو سيعود إليهن ملوما محسورا.
وكنت أرقب وجوه اللاعبين، فكنت أرى بعضهم لا يتغير ولا يتأثر، ورأيت رجلا يونانيا وضع أمامه ورقة مالية بمائة جنيه، فدارت عليها الدائرة، وخسرها، وأخرج غيرها وهو يبتسم؛ كأنه لم يفقد زينة الحياة الدنيا، ولحظت اللاعب الكبير - ويسمونه «البنكير» - يخسر مرة، فإذا بأنفه الكبير قد تغير وانقلب من الاحمرار إلى الاصفرار، وهذا كل ما كنت ألمحه من التغيير في وجهه.
وإنا لكذلك، وإذا برجل قد وضع يده على كتفي، فالتفت فرأيته يناهز الأربعين من عمره، مقطب الجبين، مملوء الوجه بالغضون، وشعره أشيب وثيابه رثة وهو كئيب حزين، فنظرت إليه نظر السائل عن أمره، فمد يده إلي وفيها أربعة قروش، وقال ألا تعمل معي معروفا وتقرض الله قرضا حسنا وتعطيني ربع ريال؟ ... فلم أستطع أن أرده ولم أستطع أن أنصحه، وأعطيته ما طلب، ولم آخذ الأربعة قروش من يده، فشكرني ثم انصرف عني، ولمحته وهو يلعب، ورأيته خسر تلك القطعة، ولكنه لم يستطع أن ينظر إلي، وخرج من بين الجماعة، فاقتفيت أثره بنظري حتى غاب عن عيني، فتنهدت لحاله.
أما هواء الغرفة، فقد فسد كثيرا؛ لأنه مضى على المجتمعين فيها نحو الأربع ساعات، وهم لا يتحركون منها، وفيهم العليل والمريض، وكان الفصل شتاء، فلم يستطع أحد أن يفتح نافذة، وكان الطباق يخرج دخانه المسموم، فيعقد فوق رءوس الكل هالات من الغيوم القتالة، وما كنت ترى إلا خاسرا يأوي إلى قاعة الاستراحة حتى يهدأ روعه أو رابحا يبدل الماركات، أو خادما يأتي بالقهوة وغيرها من المرطبات للاعبين، ومن الغريب أنه في مثل هذا المكان يسود السكوت التام، ولا ينبس أحد ببنت شفة خشية أن يقلق راحة الباقين، ومن يعرف من اللاعبين أنه خسر يتحمل خسارته بشجاعة وصبر، ويتقهقر بانتظام، ومن هؤلاء اللاعبين رجال يربحون المائة والمائتين من الذهب، وهم لا يلبسون قميصا نظيفا أو سترة ثقيلة يتقون بها شر البرد، فما الفائدة في جمع كل هذا المال؟! وقد خطر ببالي وأنا أرى ذلك أن أغلبهم يلعبون لمجرد اللذة ويجمعون المال كما يجمع تاجر الفراخ الدجاجات لا ليأكلها بل ليأكلها غيره، وكذلك المقامر لا يلبث أن يفرح بربحه حتى يلحقه الطمع فيخسر الدينار!
الدينار! هذا هو المعبود الذي تخر له الناس سجدا، أليس هو ذلك المعدن الأصفر الحقير الذي نال قوته بندرته؟!
وفي هذا الحين بصرت بمختار وأمامه قليل من الذهب، وكثير من قطع العظم المستديرة «الماركات»، وهي تختلف في القيمة كما تختلف النقود، فحولت نظري نحوه، وعولت على أن لا يشعر بوجودي لأراه وهو يلعب بماله والحظ يلعب به، فرأيته وضع جنيها فربح مثله، ثم غلبه الطمع، فوضع ثلاثة جنيهات، فربح مثلها، ثم وضع جنيها فخسره، وقطعتين من العظم فخسرهما، وكان وقت انقضاء اللعب قد حان، فقام الكل وفيهم من كسب ومن خسر، فدنوت من مختار وحييته، ومن العجيب أنه لم ينتبه لكلامي وكأنه في بحر من التفكير، فلما تنبه لي قام وغادرنا الملعب، فقال: إلى أين؟ قلت: إلى حيث تريد، قال: إلى حبيبتي منيرة، فإني على ميعاد منها الليلة، وقد أسعدني حظها، فربحت أربعة جنيهات، قلت: أما تبت يا مختار عنها؟ قال: دعني من هذا، فإني لا أدري لماذا أحبها، شيء في عينيها وفي وجهها يجذبني إليها، كما يجذب المغنطيس الحديد، صوتها الرقيق وحركاتها الرشيقة وتيهها ودلالها، كل ذلك يحببها إلي، ألست تعلم أن عاطفة الحب إذا حلت قلبا قتلت كل ما حولها من العواطف حتى عاطفة الحياء والشرف؟! أنا أعلم أنني مخطئ في كل ما أصنع، ولكن أحبها! أحبها! إن قلبي مجنون بغرامها، ولست أحس بهذا الحب إلا إذا أقبل الليل، فإنه يحرك شجوني ولا يهدأ لي بال إلا إذا كانت الفتاة إلى جانبي، ولا بأس إذا أتيت لتراها الليلة.
الفصل الثالث
Page inconnue
قال محدثي: فسحرني كلام مختار وسرت معه، وكانت الساعة الثانية بعد نصف الليل، فمررنا بالأزبكية وأمكنتها التي كانت منذ ساعات مملوءة بالرجال والنساء، وصارت الآن خالية خاوية، وكنا في أوائل الشتاء، ولما أحس الناس بالبرد انصرفوا إلا قليلا ممن لا مأوى لهم، فمن ولد صغير لا يزال يتحكك بالحوائط، كأنه يسألها أن تأويه، وفي يده ورق «اليانصيب» يصرخ به قائلا: «حلوان والمدرسة مائة ألف فرنك يانصيب.» فيردد الليل صدى صوته، ومن مقعد يزحف على الأرض بيديه ورجليه، وهو ينتظر من أبناء السبيل درهما يأكل به أو يستر به جسمه، ومن امرأة طريدة دهر جائر الأحكام، ومن رجل فقير سكير حتى نسي نفسه وأهله، ثم أحس بالبرد القارس فأخذ يسعى إلى داره.
فلما رأيت ذلك احتقرت نفسي واستصغرت رفيقي، وقلت: يا مختار ماذا يأتي بنا إلى هنا في مثل هذه الساعة، ووراءنا أهل ينتظرون عودتنا؟ قال: أما أنا فذاهب إلى حبيبتي، قلت: أما أنا فإن نفسي في ألم شديد، قال: لماذا؟ قلت: لأنني في حاجة إلى فتاة طاهرة تقف إلى جانبي، فترشدني بجمالها ونفسها الطاهرة في ديجور هذه الحياة، قال: أتريد إذن أن تتزوج؟ قلت: نعم، فإن عائلة الرجل وزوجته وأولاده موئل لقلبه من هموم هذا العالم وأحزانه؛ لأن الرجل يرى في امرأته شريك حياته وصديقه في مشتكى حزنه وأنيسه في منتهى جذله، ويرى فيها الصاحب الصادق الذي لا يمل ولا يغضب ولا يضجر ولا يتعب ولا يلوم ولا يعتب.
قال مختار: ولكن لا أظن أن المرأة تحفظ ود الرجل حفظا يأمن معه صيانة شرفه، وقد يحملها غيها على أن تبذل عرضها لأجل أن تطفي نار شهوتها. قلت : إن الرجل إذا عاش مع زوجته عيشة راضية وأظهر لها الحب والوداد ورفع من بينه وبينها أسباب الشقاق، وساسها كما يسوس الفارس الفرس، وكان صاحب النفوذ على نفسها، المالك لأمرها، ليس مع الشدة التي تمل، أو اللين الذي يسهل التغلب على صاحبه، فإنه لا يجد له أسعد من بيته أو أحب إليه من زوجته، ذلك إذا كان الزوج قادرا على العمل يجد رزقا أنى ذهب، أما إذا كان لا يزال شابا لا يدري ماذا يصنع به المستقبل، ولا يعلم لنفسه غرضا تسعى إليه، ولا يأمن الدهر وما يجلبه عليه من المصائب والحاجة، فلا يليق به أن يظلم نفسه ويجني على زوجته وعلى أطفال ربما رزق بهم، بل يجب عليه أن يعيش فردا يقدر على ضيم الزمان إذا أساء إليه. قال مختار: ما لنا ولهذه الفلسفة الآن، وها نحن قد قربنا من الدار؟!
وكل خبير بجحيم الأزبكية يعرف الزقاق الضيق المنحدر الذي يصعد إليه الناس كأنه جبل الذنوب، وهذا الزقاق مأوى البائسات اللاتي اضطرتهن الفاقة والجوع والجهل والظلم إلى بيع العرض، فبعنه بثمن بخس، وقد يمر نصف الليل ونصف نصفه الثاني، وهن جالسات على الأبواب ينتظرن رزقا، ويغنين كما يغني العمال في المعامل لتسهيل شقة العمل على أجسامهم، وكأني بهؤلاء المسكينات قد أحسسن بثقل عملهن على نفوسهن، فأخذن يسهلنه بالغناء.
على أن هذا الزقاق هو عالم في ذاته؛ لأن فيه من دروس الحياة وهمومها وأحزانها ما ليس في مدينة كبيرة، ومن الغريب أن الزقاق جمع كل أصناف الإنسانية، ففيه المصريات والتركيات والروميات والنمساويات، فهو معرض شقاء، بل هو الخشبة الموضوعة في عين القاهرة والقاهرة لا تراها، اجتمع هؤلاء النسوة من أطراف المعمورة وقصدن باب الفجور ودار المعاصي، فاستقبلتهن تلك المدينة الفاسقة بصدر رحيب، فانزوين في أركانها كما تنزوي الأفاعي والحيات في أركان الجدار القديم وتلدغ من يأوى إليه، كم من الأسرار يحفظها ذلك الزقاق! وكم جريمة تقترف فيه! وكم مصيبة نزلت منه على الشبيبة الناشئة! وكم نفس تئن بين جدرانه فتكتم أنفاسها حوائطه! وكم نفس ضائعة تائهة ضالة أوت إلى ذلك الزقاق، فآواها وزادها ضلالا على ضلال؟! إن هذا الزقاق شائبة من شوائب الحرية.
مسكينات هؤلاء النسوة، فما أحوجهن إلى الإشفاق والرحمة، مسكينات هؤلاء النسوة والمجتمع الإنساني في غفلة عنهن ولا يحسبهن من البشر، وكل ما جنينه أنهن ضاقت بهن الحال من زوج يسيء ولا يحسن، ودهر خان فأودى بما كان لدى الواحدة من المال، فلم تجد من يعولها، وطرقت أبواب الارتزاق فسدت في وجهها فعمدت إلى صناعة فيها راحة وثروة، وهي جاهلة لا تدري للشرف معنى، ولا تعلم بأنها تفرط في أثمن شيء لديها.
ومررنا في طريقنا على إحدى هؤلاء النساء، ورأيت جسمها قد أكله المرض، وبلغ منها الهم مبلغا شديدا، وهي لابسة رداء من الحرير كأنه الكفن للأموات وعيناها تنظران إلى الأرض نظرة من خسرت تجارته وهما غائرتان، وأنفها بارز ولونها أصفر رغم كل تلك الصبغات البيضاء والحمراء والسوداء التي صبغت بها وجهها، ورأيت رجلا من السوقة قد مر بجانبها، فشدته إليها وجذبته بملابسه، فنفر منها، فسألته أن يعطيها سيجارة، فأبى عليها وردها فتركته آسفة، أما هو فلما رأى من هي أقرب منها إلى الجمال وقف بجانبها وبقي يداعبها وتداعبه على مرأى ومسمع من تلك المسكينة.
وعند ذلك بلغ بي الهياج درجة شديدة، فقلت لمختار: أسمعت برجل صناعته الأكل والشرب، فهو لا يتناول عملا غيرها؟ قال: كلا ما هذه الأسئلة الغريبة؟! قلت: لماذا إذن أنت تسمع بامرأة صناعتها الزنا ليل نهار لا ترفض من يقصدها في عرضها حسنا كان أو قبيحا، صبيا كان أم كهلا، قذرا كان أم نظيفا، عليلا كان أم صحيحا، ما دام يملك من المال ما تسد به رمقها وتستر به عورتها، امرأة تزني لتأكل ولا تأكل إلا إذا زنت؟ ألا يحق للمدنية أن تخجل ويصبغ الحياء وجهها ألف مرة كلما صبغت تلك البائسة وجهها مرة لتحلو في عين من يراها من الرجال؟!
كم من أم تقود ابنتها بيمينها إلى جحيم الفجور لتسد رمقها! وكم من أب تقتل ابنته شرفه على مرأى منه ولا يمنعها؛ لأن الفقر يقتله! كم من زوج يسلم زوجته بيده لأجل أن يشبع بطنه ويستر جسمه ...؟!
أشفقي أيتها الإنسانية الناعمة البال على تلك الإنسانية المعذبة، أشفقي أيتها الإنسانية على ذلك البدن النحيل وتلك النفس الضائعة وذلك القلب الضعيف من نار الخمر وآلام الأمراض وأتعاب السهر وسم الزنا!
Page inconnue
أمطري أيتها السماء نارا على من ينام هادئا وفي المدينة التي يعيش بها امرأة لا تجد كسرة من الخبز أو ثوبا من القماش حتى يجد منها الرجل الدنيء لذة!
الفصل الرابع
قال محدثي: وأنا أفكر في تلك الأمور، وإذا بمختار يقول: ها هو البيت، فرأيت بابا صغيرا فدخلناه، ووجدت نفسي في طرقة ضيقة فيها مصباح يتنفس، وكان مختار خبيرا بالسلم، فصعد وتبعته حتى بلغنا بابا في الدور الأعلى، فنقره نقرة، ففتحت الباب صبية في نحو العشرين، سمراء سوداء العينين والشعر، منبسطة الجبين، وهي كالسكارى في مشيتها ونظرتها، ولما رأت مختارا قالت له: «أهلا يا ابن الكلب.» وطوقته بذراعيها، ثم أدخلتنا إلى بهو كبير قذر، فيه بعض المقاعد التي يفضل الإنسان أن يقف ساعات ولا يجلس عليها، ولكني لما رأيت مختارا جلس على أحدها جلست بجانبه، وكان على أحد المقاعد طفل صغير - وأظنه غلاما - مستلق على ظهره، وهو نائم نوما لطيفا هادئا ولا أدري بماذا كان يحلم في هذه الساعة وهو في تلك الجحيم، أما هو فكان كثير الشبه بالفتاة، وقد عرفت فيما بعد أنه أخوها، ولما جلسنا هنيهة بدأت الفتاة تضحك وتمزح، وكذلك أخذ مختار في الكلام والقهقهة، ففتح الغلام عينيه، وقام مذعورا وقد أدهشته رؤية الوجوه الغريبة، وكان على مقربة منه امرأة عجوز أظنها أم الفتاة والولد، وهي ما بين الخمسين والستين وفوقها شال من الصوف، وبين أصابعها لفيفة من طباق، فلما رأت الغلام تيقظ ضمته إلى صدرها، لعله ينام وينسى ما رآه.
وبعد أن جلسنا في ذلك البهو قليلا، أدخلتنا الفتاة إلى قاعة نومها، وهي غرفة صغيرة فيها شرفة تطل على الطريق، وفيها مقعد ومنضدة من المرمر عليها مرآة كبيرة، وصندوقات صغيرة، وإلى جانب من الغرفة قد وضع سرير مرتفع عن الأرض، ذلك السرير الذي أباحته شرائع الحرية، وقالت: «لينم عليك أيها السرير كل من ترغب فيه صاحبتك.» ولم تخط قدماي عتبة هذه الغرفة حتى خرجت منها رائحة كريهة قد سببها عدم تصريف الهواء وكثرة اتقاد المصباح فيها.
وبعد أن جلسنا لمحت في وجه مختار اصفرارا وفي يده ارتجافا، وبعد قليل طلب مختار خمرا فأتى بها، وبقيت الفتاة تملأ ويشرب، وهي تحادثه بكلام كله بذاءة ووقاحة، وتخلط كلامها في كل حين بقولها: «أحبك يا ابن الكلب، أحبك ...»
وإنا لكذلك، وإذا بأصوات مزعجة وصرخات متوالية، قد بلغتنا من الشرفة المطلة على الطريق، فنهضت قائما لأرى سبب هذه الأصوات، ونظرت وإذا أمامي امرأة مطلة من نافذة في البيت المقابل للبيت الذي نحن فيه، وهي تصرخ بأعلى صوتها وتستغيث بالناس، وملابسها مشتعلة بالنار وشعرها كذلك، وعيناها في أم رأسها، وهي صفراء كالأموات، وتحاول أن تمزق ملابسها المشتعلة فلا تستطيع، ولما رأتنا أمامها استغاثت بنا، وصرخت قائلة: «يا منيرة يا أختي خذيني.» وهذا اسم محبوبة مختار، وكانت منيرة في هذا الحين تقول: «مسكينة يا فاطمة ليس في استطاعتي ذلك، وليتني يمكنني أن أطفئ تلك النار.» ولما يئست تلك المسكينة من النجاة، ألقت بنفسها إلى الأرض، فسقطت بلا حراك وبدون أن تصرخ، وكان الناس قد اجتمعوا تحت النافذة رجالا ونساء، فلما رأوها سقطت فروا هاربين خوفا وجزعا إلا قليلا من أخواتها في الشقاء، فإن إحداهن أخذتها على تلك المسكينة الشفقة والحنان، فأتت بماء وأخذت تصبه على جسمها حتى كادت تموت حرقا وغرقا؛ لأن النار كانت قد أحرقت ثديها وجزءا من وجهها، ولما أحست بالماء البارد صارت تئن والدم يخرج من حلقها، وفي ذلك الحين كان رجال الشرطة قد أقبلوا فحملوها وأدخلوها دارها.
وكل ذلك حدث في زمن قصير جدا، إنما كان تأثيره في نفسي شديدا، وكذلك رأيت علائم الحزن بادية على وجه منيرة، أما مختار فقد أسف لهذه الحادثة ؛ لأنها أقلقت راحته وأقلقت راحة محبوبته، وبعد أن جلسنا رويدا دخل علينا خادم منيرة، فسألته مولاته عن الخبر، فقال: «إن هذه الفتاة فاطمة كان لها رفيق تحبه، وهو يأتي إليها كلما سنحت له الفرص، وهذا الرفيق يوناني لص، وحدث أنه أتى إليها الليلة فوجد عندها رجلا غريبا وكان سكران، فحقد عليها، ولكنه أظهر لها الود حتى خلا بها، فطلب منها مالا كعادته فلم تعطه، فازداد غيظا وضربها، فصرخت، فقذفها بالسراج، وكان الباب مقفلا من الداخل، فلم تستطع أن تخرج واشتعلت ملابسها وشعرها بالنار، ثم جرى ما رأينا.»
وبعد ذلك بقليل استأذنت مختارا في أن أذهب، فأذن لي باشا، فخرجت حزينا كئيبا.
الفصل الخامس
قال محدثي: وقد حكى لي مختار بعد ذلك يصف ليلته مع حبيبته، قال مختار: ولما خلوت بها بدأت أشرب خمرا، وهي تشرب كذلك، وكنت في كل لحظة أميل إليها ميلا شديدا، وأنسى أهلي وعائلتي وشرفي، وأظن أنه ليس في الحياة إلا هذه المرأة، وحياتي بدونها تكون هباء منثورا، أما هي فقد غابت عيناها في أعلى جفنيها من السهر والخمر واسترخت مفاصلها، وكنت كلما يخطر ببالي أمر أهلي أو أمر المستقبل أو أمر تلك المسكينة التي أحرقت وأغرقت، كنت أجتهد في طرد تلك الأفكار السوداء عني حتى لا تكدر صفوي، ثم قامت منيرة وخلعت ملابسها ولبست للنوم ثوبا من الحرير الأحمر ولم تلبس سواه، وقامت إلى السرير ونامت، فقمت وخلعت ملابسي ولبست ثوبا من ثيابها، وذهبت إليها وقبلتها قبلة حارة، فأحسست أن نفسي تكاد تطير إليها شعاعا ... وفي ذلك الحين أحسست بسعادة غريبة، فإن القاعة المقفلة علينا والليل الهادئ الساكن وضوء المصباح وقنينة الخمر ومنيرة في السرير، كل تلك هيجت عواطفي هياجا شديدا.
Page inconnue
قال محدثي: وأظن أن مختارا في مثل هذه الساعة قد غابت نفسه عن جسمه، فانتصر الحيوان الذي فيه وصرخ طالبا شهوته الدنيئة، ومن الغريب أن كل رجل في مثل هذه الحال ينسى كل شيء ولا يخشى عواقب ما سوف يعمله، ولا يحسب للمرض حسابا ، ولا يذكر ربه ولا دينه ولا شرفه، ولا يذكر شيئا مطلقا، ولو بلغه أن أباه مات أو أن الدنيا ومن عليها قد تغيرت وتغيروا أو أن القيامة قامت لا يعبأ بخبر من تلك الأخبار ولا يهمه شيء مطلقا، وأمثال هذه الساعات هي التي تتغلب على فكر الشاب وتصغر في عينيه الفقر والفاقة والمرض وضياع الثروة والشرف، والدليل على ذلك ما حكاه مختار، فإنه قال: فكنت أملأ الكأس من الخمر وأدنو من منيرة، فأشرب وأقبلها قبلة، ثم أسقيها من الكأس، فتشرب وهي نائمة، وأقول في عقلي: يا إلهي، هل في كل النساء اللاتي خلقتهن من حواء إلى الآن امرأة أجمل من منيرة؟ كلا، كل شيء فيها جميل، في نومها وفي يقظتها، في سكرها وفي صحوها، إن نفسي طارت إليها شعاعا ...
وبعد رويد لم أعد أستطيع صبرا عن وصالها، فصعدت إلى السرير وضممتها إلى صدري ضمة كانت فيها لذة شديدة لا يمكن أن أتصورها، ففتحت عينيها وابتسمت، فبدأت أبث لها لواعج شوقي وهي تتيه وتدل وتأبى وتنفر، وكان كل ذلك يزيدني بها تعلقا وإليها شوقا و... بعد أن ملكت قلبي ولبي ونفسي وجسمي، وما زلنا كذلك حتى الصباح، ولم أنم، وهي كذلك لم تنم حتى أشرقت الشمس، فغلبني التعب والسهد والغرام والخمر ورائحة القاعة فنمت، ولا أدري متى تيقظت، ولكني لما تيقظت كان السراج لا يزال مشتعلا، ووصلت إلى أذني أصوات الناس وغاغة العجلات، فهببت ونظرت في وجه منيرة الجميل فإذا به قبيح، فتغلبت شهوتي على نظري ودنوت منها أقبلها، فشممت من فمها رائحة كريهة، وكأنها أيضا قد شمت من فمي رائحة كريهة، فحولت وجهها عني، ثم قمنا كلانا.
وفي هذه اللحظة فقط قد شعرت بأنني أتيت مع هذه المخلوقة القبيحة الوجه القذرة الرائحة ذنبا عظيما لا يغتفر، فلم أكلمها، وهي كذلك لم تكلمني، بل نظرت في وجهها، فلم أجد فيه تلك المعاني التي كنت أجدها فيه في الليل، أين رقتها؟ أين عيناها البراقتان؟ أين صوتها النسائي الجميل؟ كل ذلك ذهب، فرأيتها صفراء كئيبة حزينة، وقامت وأطفأت المصباح، وجلسنا بوسخ وجهنا وأيدينا وأجسامنا ونفوسنا ... حتى استرحنا من النوم ...
ثم قمت إلى بيت الخلاء، وكانت معدتي قد أثر بها السهر، فأصابها إمساك شديد، فعدت وقد زاد ضغط الطعام الغير المهضوم على مخي، فكنت في غيبوبة شديدة حتى كنت أكاد لا أتذكر ما صنعته وما رأيته في الليلة الماضية.
ونظرت إلى وجهي في المرآة، فإذا به أصفر وعليه نظرة حيوانية، وكنت لا أزال بثوبها فخلعته، وغسلت وجهي بماء لا أدري إن كان نظيفا أم قذرا، ونشفت وجهي بمنشفة قذرة قديمة.
ثم دخل علينا الخادم، وكان صبيا في ربيع شبابه، فلما نظرت إليه رأيته أحمر الوجه، معتدل القامة، مبتسما؛ لأنه نام نوما هادئا في هواء نقي، وليس على نفسه أثر الذنوب، فحسدته على نعمة الصحة والعافية، وأقول الحق إنني تمنيت لو أكون أنا ذلك الخادم الصغير على ما فيه من العيوب وما له من الصحة والطهر، وأن يكون هو أنا بعللي وأمراضي وقذارتي وذنوبي.
وبعد أن حيانا الخادم، سألنا عن طعام الإفطار، فتناولت قطعة من النقود، وسألته أن يأتي لنا بأي شيء؛ لأنني لم أكن في حالة تطلب معها نفسي الأكل، وكانت شهيتي ميتة لا لشبع أو قناعة، إنما لانحطاط قواي وضعف معدتي عن هضم ما فيها.
وفي هذه اللحظة، تذكرت أيام حياتي الأولى أيام كنت فتى صغيرا أتيقظ بنشاط في كل صباح آكل بشهية وأذهب إلى المدرسة، ولو لم أستح لبكيت أمام تلك المرأة وهذا الخادم على أيام الماضي الجميل، يا إلهي، هل أصبحت أسير شهواتي فلا أستطيع أن أهرب منها؟ هل ذهب الماضي بشبابه وصحته وهنائه، وأصبحت في حالة تبكيني؟!
الفصل السادس
قال محدثي: قال مختار: ولما انصرف الخادم، قمت فلبست ملابسي وودعت منيرة، ووعدتها بأن أزورها الليلة في قهوة الرقص، فقبلتني قبلة عربونا على الليلة القادمة، ونزلت، ولما بلغنا الطريق كنت كمن كان يمثل دورا في رواية محزنة، ثم نزلت عليه الستار وخرج.
Page inconnue
وكانت قواي وأنا سائر منتهكة حتى كادت رجلاي لا تقويان على حملي، فسرت منحنيا، مطأطأ الرأس، بطيئا كمن بلغ من الكبر عتيا.
ولكن رغم كل هذه الهموم والأحزان، كانت عواطفي لا تزال في يد هذه المرأة، كنت أسيرها؛ جسما وروحا، وقد سئمت الحياة إلا بجوارها، وكرهت الناس إلا هي، فلا أكرهها ولن أكرهها إلى الأبد، أحبها على نفورها وإبائها، أحبها على ما تجلبه علي من الهم والحزن! أحبها وهي تخرب حياتي! أحبها وهي بغضتني في الناس وبغضت الناس في! أحبها مع كل تلك الأمور.
يقولون إن الحب الطاهر هو الحب القوي الشديد الذي يملك العواطف ويأسر النفوس، أما الحب النجس فهو حب تشتعل به النفس أمدا ثم تطفئ شعلته الفضيلة، فلماذا أنا أحبها أكثر من كل إنسان وأكثر من كل شيء؟ ولماذا أعبدها وأسجد لها؟! لقد سبب لي حبها لعب القمار، والاندفاع في الخمر، وجفاء عائلتي، والبعد عن أهلي. هل حبها ذنب حتى جرني إلى كل هذه الذنوب والآثام؟ نعم، نعم، أنا أحبها فلا بد من رضاها ولو نسفت الجبال نسفا وجفت البحار جفافا، أحبها ولو أمسيت فقيرا مدقعا، أحبها ولو سألت الناس كسرة خبز، إنني مدفوع بعامل أقوى من الفقر والسؤال والعقل والصبر والفضيلة، وأقوى من كل شيء، فيا أسفي ويا حسرتي!
وبعد السير قليلا، وجدت أنني تعبت ولا بد لي من الجلوس والراحة، فدنوت من إحدى القهوات التي يجلس أمامها الناس يتحادثون ويلعبون، فجلست وحيدا منفردا عن الناس، وبدأت أنظر لعلي أجد صاحبا يسليني أو صديقا ألهو بحديثه، ولكن رأيت كل واحد منهم مشتغلا بشئونه، وربما بينهم من هو مثلي أسير شهواته.
ومن الأسف أنني اعتدت عادة قبيحة مذمومة، وهي أن أبلع حبات مصنوعة من العنبر، فأخرجت من جيبي حقا صغيرا، وأخذت منه عشر حبات صغيرة، وبلعتها، ثم شربت بعدها القهوة؛ ليذوب العنبر ويسري في جسمي سريان الدم في العروق، ولم يكن هذا أول يوم بلعت فيه حبوب العنبر، ولكنني اليوم فطنت لأمرها، وعلمت أنني آكل سما بطيئا، فلما خطر ببالي هذا الخاطر صرفته عني؛ لئلا يكدر صفوي ، وقلت إن الحياة القصيرة اللذيذة خير من الحياة الطويلة المنغصة المملة، وماذا يهمني لو مت شابا أو شيخا، ثم قمت فسرت قليلا، وخطر ببالي أن أذهب إلى دار أمي وأختي؛ لأنني لم أكن قد رأيتهما منذ يوم وليلة.
الفصل السابع
تاريخ عائلة
قال محدثي: ويليق بي أن أذكر لك شيئا عن تاريخ عائلة مختار؛ لتقف على أخبار حياته الأولى، كان أبوه موسى بك ... من سلالة عائلة كبيرة عريقة في المجد، وهو تركي الأصل، أتى جده إلى مصر مع من أتوا منذ مائة عام، وكان جده مقربا من أمير كبير، فوهب له الضياع وأجرى عليه الأرزاق، وأكرمه بعد أن أغناه.
وكان موسى بك أبو مختار قد نشأ في النعيم ودرج في حجر السعادة وذهبت عنه خشونة الترك، وفي كلمة واحدة نشأ كما ينشأ أهل الطبقات العالية في كل الأمم، قوي الجسم، ضعيف النفس، محبا للشهوات، لا غرض له إلا السرور، مدفوعا إليه بطبيعته، وأدخله أبوه المدرسة تقليدا لغيره من أبناء الأكابر لا حبا في العلم، فلم يربح الولد شيئا، وخرج من المدرسة أجهل منه لما دخلها.
وقد أكسبه وجود عائلته في مصر زمنا طويلا رقة في الطباع، ولينا في العريكة، وخمولا وكسلا، وكان أبوه يأمر بالصلاة والصوم، فكان يظهر أمام أبيه بالتقوى والورع؛ لأنه رأى أن أباه في آخر أيامه، واستحسن أن لا يكدر عليه ما بقي من حياته بمخالفة أوامره؛ لأنه لم يكن له إخوة، وكان أحب الناس إلى أبيه.
Page inconnue
وأخيرا مات أبوه، ذلك العجوز القديم المحب للقديم، التقي الورع، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، فأحس موسى بأن حملا كبيرا كان على ظهره رفعه الموت، ولكنه كان يحتشم إكراما لأمه ويظهر أمامها بالخضوع، ولكن أمه كانت مريضة، وقد بلغت من الكبر عتيا، فلم تبق بعد أبيه طويلا حتى لحقت به، فخلا الجو لموسى بعد موت أبيه وأمه، لا سيما ولم يكن له إخوة ولا أخوات ولا أقارب ينازعونه الإرث الهائل الذي وصل إليه بموتهما، فجال وصال في ميدان اللهو واللعب ، وأسرف في ماله، وفتح داره للغادات والغواني وغيرهن، وأولم الولائم، وفرط عقد الاحتشام، وعقد لواء الأنس، ولم يدخر وسعا في الجري وراء الملاذ، ولم تفر منه فرصة السرور، ولو كلفه ذلك ما كلفه، وكان أبوه المسكين قبل موته بأيام قلائل يفكر في زواجه بمن تصلح له من الفتيات الكريمات، ولكن مات الرجل ومات أمله ودفن معه في قبره.
وكانت لموسى بك أبي مختار ضياع وعمارات وديار وحوانيت في القاهرة، فأتى على أغلبها بيعا ورهنا.
ويلوح لي أن ظواهر المدنية التي دخلت مصر منذ ثلاثين عاما، بهرت عيون أهلها؛ لأنهم هبوا من نومهم فوجدوا القاهرة في عهد إسماعيل كباريس في عهد لويس السادس عشر، وجدوها زاهية، زاهرة، فيها الملاعب والملاهي، الحرية ضاربة أطنابها، الطرق الفسيحة المضاءة بالأنوار، الحدائق الغناء والقصور الباذخة فيها ما فيها، النيل يرقص ويصفق، وأبو الهول يضحك، لا خوف ... لا وجل ... أمان أمان ... حرية ... حرية ... حرية، رقص، لعب، لهو. اضحكوا يا مصريون، العبوا يا قاهريون، هذا عصر المدنية، فاعبثوا فيه كما تشاءون ...!
فلم يكن موسى بك هو الشاب الوحيد الذي جن بتلك الزخارف، بل كان المسكين سفينة ضالة في بحر السرور، تقذف بها الأمواج وتزفها الرياح كما تشاء، فتكسر قلوعها وتقطع حبالها، وكذلك ضاعت ضياع موسى ودياره وحوانيته وعماراته إلا قليلا، وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره، كل ذلك وهو لم يتنبه من غفلته ولم يحسب للفقر والفاقة حسابا، ولكنه سئم تلك الحياة المضيعة، وتاقت نفسه إلى شيء من السكون والراحة بعد الجري وراء الملاذ، فعقد نيته على الزواج، فطرق أبواب الأغنياء يلتمس منهم فتاة تتزوجه معتمدا على شرف عائلته واسم أبيه وجده بعد أن أضاع أغلب ما كان له، فردوه وطردوه بعد أن علم كل الناس أنه سيئ السلوك لا يصلح للحياة العائلية، فلم يشاءوا أن يضحوا ببناتهم لأجله، فعاد المسكين بصفقة المغبون، وليس في يده صنعة يتسلى بها، وليس في داره إلا الخدم، وليس له قريب يحنو عليه، فعدل عن الزواج، ولكنه بعد قليل استأجر امرأة تخدمه، وكأني به قد انتقاها جميلة لتقوم بأغراضه، وأغلب هؤلاء الخادمات نساء فاسدات، وقد خان إحداهن في عفتها شرير، ثم رمى بها في ديجور الحياة، فخرجت ضالة لعل غيره يعثر بها.
وقد قرب موسى تلك الخادمة من فراشه، وما زال يداعبها ويجود عليها بالمال ويعدها بالخير، ويحبب نفسه إليها حتى قضى منها وطرا ... وحملت منه، فلما ظهرت عليها علائم الحمل، حادثته في الأمر، وأشارت عليه بأن يأتي إليها بدواء يهلك الجنين في بطنها، فلم يقبل بذلك، وقال لها: «إني كفيل بتربيته.» وبعد تسعة أشهر وضعت تلك الخادمة طفلا ضعيفا هزيل البدن مملوءا بالأمراض والسقام التي جناها عليه أبوه، وهو يرتع في جحيم الزنا، ويجرع من سم الخمور.
هذا الوليد هو مختار المسكين الذي جنى عليه أبوه وما جنى هو على أحد، ولما جاء ذلك الغلام أحبه أبوه كثيرا وزاد في إكرام أمه، وبعد ذلك بعام حملت المرأة ثانية ووضعت بنتا، ويظهر أن الرجل بامتناعه عن الزنا والخمر وما يتبعهما مدة عامين وباعتكافه في داره بعد أن هذبته الأيام والليالي، قد حسنت صحته واعتدل في حياته، فجاءت البنت أصح وأجمل من الولد الأول الذي كان دائما حليف الأمراض والسقام حتى يئس أبوه من حياته.
وبعد أن وضعت المرأة تلك البنت، عقد الرجل نيته على زواجه بها، وكان ذلك، وأصبحت حليلته بعد أن كانت خادمته وخليلته، ونمت البنت ودرجت، وأما الولد فكان في كل يوم في حاجة إلى الطبيب والعقاقير، وأخيرا وضع يده في يد أخته وانتصب قائما على قدميه، وسار أول خطوة من خطواته، ففرح به أبوه فرحا شديدا وسرت به أمه؛ لأن مختارا كان ذكرا، وهو أكبر الطفلين وحياته ضرورية لبقاء نسل العائلة الكريمة ... ولو علم الرجل وزوجته بماذا كان يخبئ الدهر لذلك الطفل المسكين وأخته لبكيا بكاء مرا بدل أن يفرحا.
وما زال الطفلان ينموان تحت ظل أبيهما، وهو الرجل الساقط الذي لم يرجع عن الذنوب إلا تعبا منها، وأمهما وهي تلك المرأة الساقطة الجاهلة، حتى بلغ الولد العاشرة من عمره، والبنت التاسعة من عمرها، وكان من يرى الطفل لا يظنه إلا ابن خمسة أعوام لنحافته ورقته وخموله، وعند ذلك بعث به أبوه إلى مدرسة الذكور وبأخته إلى مدرسة البنات.
وكان مختار في المدرسة تلميذا متوسطا قادرا على عمله، ولكنه لم يكن قادرا على الجري والقفز والطفر والمسابقة وباقي الألعاب الجسمانية؛ لأن جسمه كان ضعيفا جدا، وكان لا يتمم عمل سنة في سنة، بل كان يحتاج إلى سنتين.
ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره نال شهادة، فسعى أبوه إلى إلحاقه بوظيفة كتابية صغيرة في إحدى دوائر الحكومة، ثم رد البنت إلى خدرها.
Page inconnue