Dans la mise à jour de la culture arabe
في تحديث الثقافة العربية
Genres
اللغة ... هذا المخلوق العجيب! (2)
صنع الإنسان كلماته ليكون سيدها، فلم تلبث أن أمسكت هي بزمامه، حتى صار لها تابعا! فلقد أنشأت كل جماعة من الناس لغتها لتكون وسيلة وصل بين أفرادها، لكن تلك اللغة التي هي صنيعة الناس، سرعان ما جعلت لهم من نفسها سجنا هيهات أن يفلت من جدرانه وقضبانه إلا قلة قليلة شاء لهم ربهم أن يكون لهم هم السلطان على اللغة التي أبدعوها، فإذا سألت عن أحد من عامة الناس: ما حدود علمه؟ وجب أن يكون الجواب: إن حدود علمه هي نفسها حدود كلماته، وأما إذا سألت عن أحد من تلك القلة القليلة التي أنعم الله عليها بمواهب الإبداع - في العلم أو في الأدب شعرا ونثرا - ما حدود علمه؟
كان الجواب هو: أنه هو الذي يضع لنفسه الحدود؛ لأنه إذا لم تسعفه اللغة القائمة بأدوات التعبير عما يريده، أضاف إليها من عنده جديدا يخدم به أغراض نفسه، فتسير بقية الناس بعد ذلك على دربه.
هذه اللغة العجيبة تحمل في جوفها كل ضروب الصيد، ينطق بها الناطق لتكون نارا تشوي الأنفس والأجساد، فإذا هي النار التي أراد لها أن تكون، أو ينطق بها لتكون نورا يهدي إلى سواء السبيل، فإذا هي النور الذي ابتغى لها أن تكون. إن كلمات ينطق بها إنسان قد تجعل منه وليا من أولياء الله الصالحين، وكلمات أخرى ينطق بها إنسان آخر قد تجعل منه زنديقا فاسقا! إن كلماتنا كالبذور نبذرها لتنبت كل كلمة منها نباتا من جنس ما قد انطوت عليه في جوفها : فشهدا بشهد، وحنظلا بحنظل:
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين ، وانظر أيها القارئ إلى قول الله تعالى في هذه الآية الكريمة:
أصلها ثابت وفرعها في السماء ؛ لتعلم أن طيب الكلام هو الذي يخدم حياة الناس هنا على هذه الأرض وفي هذه الدنيا، وذلك هو «الأصل الثابت»، ثم ينفع صاحبه عند إقامة الميزان يوم الحساب، وذلك هو الفرع الذي في السماء.
ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، وأريد للقارئ مرة أخرى أن يقف طويلا عند قوله تعالى:
اجتثت من فوق الأرض ؛ ليعلم القارئ أن ما ليس له جذور في حياة الناس هنا على هذه الأرض وفي هذه الدنيا، لن يكون له أثر في الميزان.
إنك لترى أبناء الشعب الواحد متفرقين أفرادا، تفصل بينهم فواصل المكان وفواصل الزمان؛ فهذا الفرد هنا وذلك الفرد هناك، وفرد كان بالأمس وفرد كائن اليوم؛ فتسأل: أين الروابط التي جعلت من هؤلاء الأفراد - على تفرقهم - شعبا واحدا؟ والجواب هو: اللغة قبل أي شيء آخر؛ فاعجب لخيوط من هواء تشد الناس بعضا إلى بعض، فإذا هي بينهم كروابط الفولاذ! إن هذه الكلمات التي تصل ناطقا بسامع، أو تصل كاتبا بقارئ، ما هي في حقيقة أمرها إلا نفوس طارت من أعشاشها لتبلغ غاياتها، إنها كالحمام الزاجل يعرف إلى أين يطير؛ وذلك لأن كلماتك - منطوقة أو مكتوبة - هي نفسك انطلقت من محبسها بين الضلوع؛ نعم فآلة التصوير تقدم قسماتك في بعدين، في حين أنها في حقيقتها ذات ثلاثة أبعاد! وأما كلماتك - علمت أو لم تعلم - فهي صورة نفسك بكل أبعادها.
إننا إذ نقول هذا عن اللغة في قدرتها على إخراج ما استتر من خفايا النفوس، لتعبر بها عبورا من السر إلى العلن؛ فإنما نغض النظر مؤقتا - عامدين - عن لغة العلم، التي إذا ما بلغت ذروتها من الدقة؛ أفرغت نفسها إفراغا تاما من كل ما هو ذو شأن بالنفوس وما تخفيه ، حتى ليصبح محالا على الفاحص أن يستشف شخصية العالم من رموزه العلمية، وإن شئت فانظر إلى صفحات من كتاب في الرياضة، أو في الكيمياء، أو في أي فرع من فروع الفيزياء، وحاول أن تستنتج من رموزه شيئا عن ملامح الشخصية عند العالم صاحب الكتاب: أهو منقبض النفس أم هو في حالة من المرح والتفاؤل؟ أهو ذو سخاء وعطاء أم هو قابض يده إلى عنقه؟ لكن الحديث عن لغة العلم وضبطها أمر قد نتناوله في موضع آخر من هذا الحديث.
Page inconnue