Dans la mise à jour de la culture arabe
في تحديث الثقافة العربية
Genres
إذن، فلنقف قليلا عند هذا المفتاح الذي يفتح لنا مغاليق حياتنا الفكرية كلها، ماذا كانت جذوره، ومتى بدأت ظواهره؟ في إيجاز شديد، أقول: إن مراحل الإبداع الفكري في العالم العربي، كانت قد بلغت ختامها عند ابن خلدون، ثم جاء بعد ذلك سلطان الحكم العثماني، ولأمر ما اقترن ذلك الحكم، في القرون الثلاثة التي امتدت من السادس عشر الميلادي إلى التاسع عشر، بجمود في حياتنا أدى بها إلى عقم في إبداع شيء جديد، فانكفأ العلماء في شتى مراكز العلم من أرجاء الوطن العربي، على اجترار القديم، فتناولوه حفظا، وشرحا، وتلخيصا، فلما فتحت أبوابنا على دقات الحملة الفرنسية بقيادة نابليون، وكانت في صحبة تلك الحملة جماعة من رجال العلوم الطبيعية الحديثة، كما كان في صحبتها مطبعة عربية، كانت أول مطبعة شهدتها المنطقة العربية؛ وجدنا أنفسنا عند نقطة على الطريق، قسمتنا شعبتين من الناحية الفكرية، وإنه لمما يصور لنا لحظة الانقسام تصويرا مجسدا؛ أن نذكر كيف كان هؤلاء العلماء الفرنسيون يوجهون الدعوة لعلمائنا في ذلك الحين، مجموعة بعد مجموعة؛ ليعرضوا عليهم نماذج من أعاجيب العلوم الجديدة، كالكهرباء والمغناطيسية وغير ذلك، فكان رد الفعل على معظم علمائنا، هو الدهشة أمام تلك الأعاجيب، إلا أن أحدهم ضاقت نفسه بالألاعيب المعروضة عليه؛ فسأل الفرنسيين: هل لديكم بعلومكم هذه القدرة على أن تكونوا من أهل الخطوة؟ بمعنى أن يكون الواحد منكم هنا الآن، ثم يكون في الوقت نفسه هناك في أي بلد بعيد يختاره؟ فأجاب العلماء الفرنسيون بالنفي، فقال الصوفي المصري: لكن ذلك في مستطاعنا بفضل علمنا الروحاني، وكانت تلك هي اللحظة التاريخية، التي بدأنا ننشق جماعتين عندها؛ فجماعة أقبلت فيما بعد على مصادر العلم الجديد، وجماعة أخرى أدارت ظهرها للعلم الجديد ومصادره والتزمت طريقا واحدا هو طريق السلف فيما ورثناه عنهم من مؤلفات.
لكن الذي يلفت النظر، أن هاتين الجماعتين، على اختلافهما في مضمون المعرفة التي يحصلها كل منهما، كانتا معا على اتفاق في التزام منهج واحد في التحصيل، فأما أنصار السلفية الفكرية؛ فقد أخذوا عن الماضي مضمونا ومنهجا، وأما أنصار العلم الجديد؛ فهم إذا اتجهوا باهتمامهم إلى ما أبدعته حضارة العصر من علوم، ظلوا مقيدين بمنهج السلف، وأعني بالسلفية هنا، القرون الثلاثة التي سبقت الحملة الفرنسية؛ أي ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، وأهم ما يميز ذلك المنهج هو - كما أسلفناه - الحفظ، والشرح، والتلخيص، بغير إضافة مبتكرة.
والآن فلنعد ومعنا صورة هاتين الجماعتين في اتفاقهما على منهج «الحفظ» والتكرار، رغم اختلافهما على مضمون ما يحفظونه ويكررونه، أقول: لنعد الآن، ومعنا هذه الصورة، إلى ما ذكرناه، من أن الفكر العربي، منذ أواخر القرن الماضي، قد امتزج في تكوينه عنصران، في علاقته بالغرب: عنصر منهما هو شعور بالكراهية للغرب في سياساته الطامعة، وثانيهما هو شعور بضرورة الأخذ عن أصوله الحضارية والثقافية، لكنه أخذ الكاره المكره، فإذا دمجنا هذا الموقف، الازدواجي، إلى الجماعتين اللتين انقسمنا بهما في التحصيل الفكري إلى طريقين، واحد منا ينهل من علوم الغرب الجديد، والآخر ينهل من تراث السلف بعيده وقريبه، رأينا صورة الفكر العربي المعاصر بعناصرها الأساسية؛ فهو فكر لا يزال في مجموعه يلتزم منهج الحفظ والشرح والتلخيص، وبالتالي فهو فكر يوشك أن يخلو من الأصالة المبدعة للجديد المبتكر، ثم هو في هذا الإطار المنهجي، يعود فيتشعب شعبتين: شعبة تحفظ نتاج المعاصرين من أهل الحضارة الجديدة، وشعبة أخرى تحفظ نتاج أسلافنا القدماء، على أن صورة الفكر العربي المعاصر، بعناصره تلك، لا تكتمل لنا إلا إذا غلفناها بغلاف صحوة دينية، صحونا بها منذ أواخر القرن الماضي، ليس فقط لأن في قوة الإيمان الديني قوة لنا، بل كذلك لأن قوة وعينا بعقيدتنا الدينية هي أفعل وسيلة نصون بها هويتنا الفردية والقومية من أن ننجرف تحت المؤثرات الغربية المتجسدة فيما نعانيه من عدوان قوى الغرب، وفيما ننقله مضطرين عن حضارة الغرب.
وننتقل الآن إلى الشق الثاني من السؤال المطروح، وأعني تحديات العصر، فماذا نعني ب «العصر» وتحدياته؟ إنني إذا ما حاولت النفاذ ببصيرة التحليل خلال الحياة المعاصرة، بكل ما يملؤها من أشتات وتفصيلات، لأصل إلى الجذر العميق، الذي منه تنبعث وتنتشر تلك الأشتات والتفصيلات التي يعيش الناس في غمرة موجها ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم؛ فلست أجد ما هو أعمق من فكرة التطور وما يتبعها من إيمان بضرورة التغير، ثم ما يتبع ذلك من حتمية التوجه بالنظر نحو المستقبل، فإذا التفت الناس وراءهم إلى ماضيهم - وهي ضرورة محتومة - فإنما يكون ذلك لاستلهام ذلك الماضي، من أجل أن يعرف الناس كيف يقدرون لأقدامهم مواضعها الصحيحة ليطرد بهم التقدم، مع استمرارية الخط التاريخي بينهم وبين أسلافهم. لكن هذه العبارة الوصفية الموجزة تحتاج إلى شيء من الشرح والتحليل.
ليست فكرة «التطور» وما يتبعها من نتائج في حياة الإنسان، النظرية والعملية على السواء، بالفكرة الجديدة، التي لم يسمع بها تاريخ الفكر إلا في عصرنا هذا؛ فلقد سبق لها أن وردت هنا وهناك آنا بعد آن، لكن الفرق بعيد بين فكرة تظهر عابرة وتختفي، لا تكاد تترك وراءها أثرا، وبين أن تجيء تلك الفكرة نفسها لتسود عصرا بأكمله، وتوجه الإنسان في حياته العلمية والعملية معا، فإذا قلنا عن فكرة «التطور» إنها - فيما يرى كاتب هذه السطور - أعمق الجذور في وجهة النظر المعاصرة، فإنما نعني أن لها سيادة تتحكم بها في تشكيل الرؤية، مهما تكن طبيعة الموضوع المطروح للنظر؛ فلا يكاد أحدنا يهم بالتفكير في أمر من أمور حياتنا، تفكيرا يريد له أن يكون علمي المنهج بمعنى من معاني هذه العبارة؛ حتى يجد نفسه قد بدأ باستعراض المسألة منذ نشأت، ليرى كيف «تطورت» في مراحل نموها، أو في مراحل تقلصها وانكماشها، وإن هذا الموقف ليتضمن عقيدة يضمرها الباحث في نفسه، مؤداها أن كل ما يحتوي عليه هذا الكون، بل الكون نفسه مأخوذا بجملته؛ ليس ثابتا على صورة واحدة، بمعنى أن يكون الشيء في يومه، كما كان في أمسه البعيد، وكما سوف يكون في غده البعيد، لا بل هو «متطور» أبدا، متغير أبدا.
وإذا أردت توضيحا للفرق بين الرؤية العصرية، والرؤية كما كانت فيما مضى؛ فربما وجدنا التوضيح إذا قلنا إن الإنسان فيما مضى، كان ينظر إلى الوجود والموجودات بنظرة «الرياضي»، في حين أنه ينظر اليوم بنظرة «المؤرخ»، فالحقيقة الرياضية، كقولنا عن «المربع» إنه قائم الزوايا متساوي الأضلاع؛ حقيقة لم تتغير منذ الأزل، ولن تتغير إلى الأبد، فالمربع ذو حقيقة ثابتة، هكذا كان، وهكذا هو كائن وسوف يكون، وذلك لأن أمره مرهون ب «التعريف» الذي عرفناه به، فإذا وجدنا شكلا هندسيا لا تتوافر فيه عناصر ذلك التعريف؛ قلنا إنه ليس مربعا، وأما الحقيقة التاريخية فهي على خلاف ذلك؛ لأن «التاريخ» يتضمن امتدادا زمنيا طال أو قصر، فالكائن من الكائنات - أيا ما كان - إنما هو «سيرة» قوامها أحداث تتابعت، فإذا أردت أن تصوره، لم يكن سبيلك إلى ذلك هو أن تورد «تعريفا» له، كما هي الحال في المربع والمثلث والدائرة، بل سبيلك إلى ذلك هو أن تذكر «أطواره» التي اجتازها منذ نشأ وحتى المرحلة التي بلغها، وقل هذا الشيء نفسه في كل جوانب الحياة الإنسانية، فكيف نشأ المجتمع وكيف تطور؟ كيف نشأ نظام الحكم وكيف تطور؟ كيف نشأ نظام التعليم وكيف تطور؟ كيف نشأ الشعر وكيف تطور؟ كيف نشأت العمارة وكيف تطورت؟ وهكذا ... وهكذا ... خذ ما شئت من جوانب الحياة، تجد أنك إذا أردت استيفاء الحديث عنه؛ كنت مضطرا إلى تعقبه منذ نشأ لتنظر بعد ذلك كيف تطور.
رؤية عصرنا إلى الأشياء، والكائنات الحية، والنظم، والعلوم ، والفنون، وإلى أي موضوع نطرحه للبحث؛ هي رؤية تاريخية، بعد أن كانت الرؤية فيما مضى يغلب عليها الرؤية الرياضية، بمعنى أنهم فيما مضى كانوا يبحثون في كل شيء عما أسموه «جوهر» ذلك الشيء، وجوهره هو «تعريفه»، تماما كما تبحث عن تعريف المثلث وتعريف المربع، وما دمت قد وقعت على «التعريف»؛ فقد وقعت على ما هو ثابت على امتداد الزمن، فحتى إذا تغيرت أوجه الحياة بعد ذلك تغيرات ترصدها العين، قيل إنها إنما تغيرت في العوارض الزائلة، أما جوهرها فثابت، لا فرق فيه بين ما كان وما يكون.
وإذا كانت فكرة «التطور» هي في صميم الصميم من رؤية أبناء هذا العصر؛ عرفنا أن «التغير» أمر محتوم، إذ كيف يتطور الوجود بكل موجوداته ولا يتبع ذلك أن تتغير صور الحياة وتتغير معها مسالكنا إزاءها وردود أفعالنا لمثيراتها؟ لقد حدث للفيلسوف اليوناني القديم «هرقليطس» أن رأى هذه الرؤية بلمحة من بصيرته النافذة، فتصور عالم الأشياء وكأنه نهر دفاق المياه وقال في ذلك قولته الشهيرة: «إنك لا تضع قدمك في النهر مرتين.» مريدا بذلك أنك إذا وضعت قدمك في ماء النهر مرة، ثم رفعتها لتضعها مرة أخرى؛ كان الماء في النهر غير الماء في المرة الأولى، لكن فكرة هرقليطس ذهبت خطفا كما جاءت خطفا، ولو أنها قيلت في عصرنا؛ لكانت معبرة عن العصر كله، فالأوضاع السليمة السوية قد أصبحت في عصرنا هي الأوضاع التي ما تنفك تتغير مع تغير الظروف.
إننا قد نجد مفتاح الحقيقة في الفرق بين وجهة النظر في الماضي ووجهة النظر اليوم، في تصور العلماء للذرة، ففي كل العصور حاول العلماء تحليل الطبيعة إلى أصغر وحداتها؛ إذ إن مثل هذا التحليل الذي يرد موضوع البحث إلى وحداته أو إلى عناصره الأولية، هو جانب مهم من المنهج العلمي، فلما كان بحث علماء الطبيعة فيما مضى عن الوحدات الصغرى؛ أي الذرات التي من تجمعاتها تتألف الأشياء، تصوروا الذرة جسما مصمتا لا ثقوب فيه ولا حركة، في حين أن الذرة في تصور عصرنا هي كون صغير قوامه كهارب تتحرك في أفلاكها، كما هي الحال - مثلا - في كواكب المجموعة الشمسية، فما الذرة إلا حركة، إنها إشعاع، بل إن الحركة فيها تتميز ب «الحرية»! أي إن المبدأ الحاكم فيها ليس هو مبدأ الحتمية، بل هو مبدأ «اللاحتمية»؛ لأن العلماء لم يجدوا تلك الكهارب في انتقالها من فلك إلى فلك محكومة بقانون حتمي صارم. ومن هذه الحقيقة عن طبيعة الذرة الصغيرة، وهي أنها حركة دائمة، وتغير دائم؛ نستطيع أن نصعد إلى المتطور نفسه بالنسبة إلى المركبات الكبرى، أشياء كانت أو كانت مواقف ونظما اجتماعية.
تلك هي رؤية عصرنا من أساسها، فإذا أدركناها حق الإدراك؛ عرفنا النتيجة التي تلزم عنها، وهي أن اتجاه السير لا بد أن يكون نحو «مستقبل» ما، وأن الماضي قد مضى، وأقصى ما يستطيعه هو أن يرجع إليه ليساعدنا على فهم حاضرنا كيف جاء، وفهم مستقبلنا وكيف ينبغي له أن يجيء، وإذا شئت فانظر حولك، تجد - أينما وجهت النظر - سرعة محمومة في تغير الأوضاع بكل صنوفها: علم يتغير كل يوم، لا ينسخ ماضيه، بل بالإضافة إليه نظم سياسية تدول ونظم سياسية تقوم قوائمها، ثورات لا تنقطع أسبابها، بعضها رأسي يبدأ في إقليمه وينتهي في إقليمه، وبعضها أفقي يمتد ما امتدت أقطار الدنيا، فيشمل فئات من البشر تتشابه ظروفها وإن تباعدت أوطانها، كالعمال، والشباب، والمرأة، وهكذا. إن كل شعوب الأرض في يومنا يأخذها قلق على المصير، سواء أكانت الشعوب ممن تقدم أم كانت ممن تخلف؛ فمن تقدم تقلقه سرعة التقدم حتى ليفزع على سلامة مصيره، ومن تخلف يقلقه بطء خطواته نحو أن يلحق بالركب؛ فالمستقبل هو ملتقى أنظار الجميع، ثم يأتي في هذا الإطار حنين الإنسان إلى ماضيه، ولا سيما إذا كان ذلك الماضي - مثل ماضينا - ساطعا بأمجاده.
Page inconnue