Dans la mise à jour de la culture arabe
في تحديث الثقافة العربية
Genres
ولهذا كان من أهم خصائصها القدرة على أن يستعين بها من شاء على التنبؤ بالحدث قبل وقوعه وعلى التصرف في ذلك الحدث حين يقع؛ لأنها ما دامت قد وصفت بأنها «علمية» فإن ذلك يتضمن الاعتراف بصدقها اعترافا أيدته المراجعات والاختبارات، وعلى أساس ذلك الصدق فيها يعول عليها الإنسان في تسيير حياته وهو مطمئن. وهنا لا بد من شرح سريع لنقطة أرجح لها أن تنشأ عند القارئ، وهي أن الحقيقة العلمية سرعان ما يظهر بطلانها، فيذهب زمانها وتحل محلها فكرة أخرى، وهذا صحيح، ولكن في حدود يجب أن يكون القارئ على علم بها، وهي أن ما يبطل فكرة علمية ليس هو أنها قد خلت من صحتها، بل هو أنها تصح على مجال معين؛ فلما أن تبين للعلماء فيما بعد أن مجال التطبيق أوسع مما كان يظن أول الأمر، حاولوا أن يجدوا فكرة علمية أخرى تصح في المجال الأوسع، مع بقاء الفكرة القديمة - إذا أردنا لها البقاء - شريطة ألا ننسى أنها مقيدة بمجالها المحدود.
تلك هي بعض الملامح البارزة في طبيعة الفكرة العلمية - أيا كان موضوعها وهو قول أكرره الآن للمرة الرابعة - فما سر إلحاحي على هذه التوسعة في فهم الفكرة العلمية وطبيعتها؟ سر ذلك ليس سرا، وإنما هو علني مذاع، معلوم لمن يهمه أن يعلم، وذلك أن تعريف «العلم» مؤسس على منهجه، وليس على نوع الموضوع المطروح للبحث؛ فلا فرق بين أن يكون موضوع البحث العلمي سرعة الضوء وقوانين انعكاس أشعته أو انكسارها، وبين أن يكون موضوع البحث هو تذكر الإنسان لما يتذكره ونسيان ما ينساه، فلماذا يتذكر وكيف وإلى أي مدى، ولماذا ينسى، وكيف، وبعد كم من الزمن، أو أن يكون موضوع البحث هو الفوارق الطبقية في المجتمع، كيف نشأت ولماذا نشأت، وهل يمكن لها أن تزول أو أنها قد تزول صورة من صورها لتعاود الظهور في صورة أخرى، أو أن يكون موضوع البحث هو التضخم المالي وارتفاع الأسعار. ولقد قصدت بهذه الأمثلة الثلاثة الأخيرة أن يكون أولها من مجال علم النفس وثانيها من مجال علم الاجتماع، وثالثها من مجال علم الاقتصاد، وهي العلوم الثلاثة التي تكون أهم ما في «العلوم الإنسانية»، لأقول: إنه لا فرق بين البحث الطبيعي في ظاهرة الضوء والبحث الإنساني في المشكلات التي ذكرتها من العلوم الإنسانية الثلاثة، اللهم إلا درجة الدقة في النتائج، وأما «المنهج» العلمي في أخص خصائصه؛ فهو محقق فيها جميعا، وإلا لما استحق أن يكون «علما» ذلك الذي لا يحقق شروط المنهج العلمي، الذي لا وطن له؛ فهو ليس منهجا خاصا بالغرب دون الشرق، ولا بالشرق دون الغرب، ولا تنفرد به أمة دون سائر الأمم؛ فهو هناك لمن يأخذه ابتغاء أن يكون مشاركا في موكب العلم.
وعند هذا المنعطف من حديثنا، نبدأ في النظر الفاحص الهادئ الموضوعي إلى ما قد ارتفعت به الأصوات في أرجاء الوطن العربي منذ قريب، ثم أخذت تلك الأصوات تتزايد ارتفاعا، وتزداد مع ارتفاعها حرارة وحماسة، وهو أن يكون للعربي المسلم علومه الإنسانية الخاصة به لتحمل في طياتها خصائص الثقافة العربية الإسلامية وخصوصيتها، وأصحاب هذه الدعوة يعلنون صراحة أننا ونحن نأخذ عن الغرب تلك العلوم الإنسانية؛ فإنما نكون قد عرضنا أنفسنا لغزو ثقافي من ذلك الغرب، وسرعان ما تنمحي قسماتنا وملامحنا وننجرف بقوة ذلك التيار العنيد حتى نسقط في هوة العدم، وماذا يريدنا هؤلاء السادة أن نفعل لكي تكون لنا علوم إنسانية خاصة بنا، عربية إسلامية، إنهم يريدون شيئين - فيما يبدو - أولهما ألا تكون مراجعنا في البحث العلمي هي ما كتبه في موضوعات العلوم الإنسانية علماء الغرب، وأن تكون مراجعنا هي مراجعنا نحن؛ فنرجع إلى ما كتبه أعلامنا: الإمام الغزالي، والفقيهان ابن تيمية وابن القيم، والفيلسوف والفقيه الإسلامي ابن حزم، وفيلسوف العلوم الاجتماعية ابن خلدون. هذه قائمة من الأسماء التي رأيتها منشورة في الصحف نقلا عن توصيات الملتقى الفكري الإسلامي، الذي انعقد في الجزائر خلال الأسبوع الأول من سبتمبر 1986م. والأغلب أن تكون تلك القائمة قد أرادت بتلك الأسماء ضرب المثل لمن يمكن الرجوع إليهم في العلوم الإنسانية عندما تكون تلك العلوم عربية إسلامية، وأما الشيء الثاني الذي يدعو إليه السادة أصحاب هذه الدعوة فهو - بالبداهة - أن تنصب أبحاثنا العلمية في مجال العلوم الإنسانية على واقع حياتنا نحن؛ حتى لا تؤخذ علومنا من واقع الحياة عند آخرين، على أن السادة أصحاب الدعوة يضيفون الشريعة الإسلامية وفقهها فيما يسمى بالعلوم الإنسانية، أو هكذا قرأت في بيان الندوة المذكورة.
ولنا على هذا كله وقفة شارحة وناقدة، وجل من لا يخطئ ولا يسهو، وأبدأ - أولا - بحذف الجوانب التي يذكرها أصحاب الدعوة إلى علوم إنسانية في ثوب عربي إسلامي، ولم يكن هنالك ما يوجب أن يضيفوها إلى مطالبهم وأهدافهم؛ لأنها جوانب مفروضة، ولا ينازع في وجوبها أحد، فهم يضيفون إلى العلوم الإنسانية دراسة الشريعة الإسلامية؛ فهل يمكن للشريعة الإسلامية إلا أن تكون إسلامية الموضوع وإسلامية المراجع؟! فحتى لو كان الدارس لها مستشرقا لا هو عربي ولا هو مسلم؛ فإنه لا يجد سبيلا أمامه إلا أن تجيء دراسته آخر الأمر إسلامية الموضوع وإسلامية المصادر.
وقد تسألني قائلا: وما العيب في أن تضاف دراسة الشريعة الإسلامية في سياق دعوة الدعاة إلى «أسلمة» العلوم الإنسانية؟ وأجيب بأن ذكرها يوهم القارئ بمزيد من قوة الدعوة ومزيد من ضعف خصومها، دون أن يكون هنالك من حجة حقيقية على تلك القوة، أو على هذا الضعف؛ ما قد يصرف العقل العادي عن رؤية صحيحة لطبيعة الحوار.
تلك واحدة، ومسألة أخرى نريد حذفها من قائمة ما يطالب به أصحاب الدعوة، وهو وجوب أن تبنى الأبحاث العلمية في العلوم الإنسانية على واقع الحياة في الأمة العربية الإسلامية؛ فذلك أمر مفروض مقدما، وليس له بديل آخر نخشاه، فهل يمكن لباحث عربي، يريد البحث في مشكلات «المراهقة» - مثلا - (في ميدان علم النفس) فلا يجعل الأفراد الذين يدير حولهم بحثه أفرادا من هذا المجتمع؟ هل يمكن أن يسافر إلى النرويج أو إلى اليابان ليجري بحثه هناك على مراهقين ومراهقات من هذا الشعب أو ذاك ثم يعود إلينا قائلا: هاكم بحثا عن سن المراهقة في بلادنا؟ وأقسام علم النفس في جامعاتنا لا تنفك باحثة عن طريق الدارسين دراسات عليا في جوانب من ميدانها العلمي، معتمدة في جميع الحالات على «عينات» مأخوذة من مجتمعنا؛ لأنه لا بديل لهذا الطريق. ومرة أخرى نقول، إن إضافة هذه البدهية العلمية قد تضيف في وهم القارئ قوة للدعوة وضعفا لخصومها دون أن تقام هذه الأحكام على مبرر مقبول.
وبعد هذا الحذف، نتجه بأبصارنا نحو لب المشكلة المعروضة للنظر، وأعني الدعوة إلى «أسلمة» العلوم الإنسانية التي هي أساسا علوم ثلاثة قد تنبثق منها فروع، والعلوم الثلاثة موضع النظر هي: علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد. وعلينا أن نلحظ أنها - منطقيا - يجب أن ننظر إليها وهي على هذا الترتيب التنازلي؛ لأن النتائج العلمية التي يصل إليها علم النفس هي المسلمات الأولية التي يقيم عليها علم الاجتماع بناءه، إذ هو يبني تصوراته على حقائق في طبيعة الإنسان، أمده بها علم النفس، ثم يأتي بعد علم الاجتماع علم الاقتصاد؛ لأنه إذا كان الأول يعنى بالتفاعل بين الناس في حياة مشتركة فإن علم الاقتصاد يركز على ضرب واحد من ضروب ذلك التفاعل، وهو الضرب الخاص بالإنتاج في شتى ميادينه وبتوزيع ذلك الإنتاج.
وأول ما ألحظه في دعوة «الأسلمة» لهذه العلوم، هو أن السادة الدعاة - فيما يبدو - ينظرون إلى تلك العلوم الإنسانية من زاوية «التلميذ» الذي يدرس مادة من تلك المواد؛ فيكون السؤال الرئيسي عنده وعند القائمين على تعليمه هو: أي الكتب يقرأ؟ وعندئذ يجيء جواب السادة الدعاة قائلا: اقرأ ما كتبه الأعلام من أسلافنا العرب المسلمين، بدل أن تستنفد قواك في قراءة علماء الغرب فيصيبك بهذا الانحراف غزو عقلي ونفسي، يوهمك بأن علم الغرب هو كل شيء، أما نحن فلا شيء، لكن انظر إلى الموقف من ناحية «الباحث العلمي» لا من ناحية «التلميذ» الدارس لما قد تم إنتاجه من نتاج العلوم، انظر من ناحية ذلك الباحث الذي يريد أن يضيف إلى العلم جديدا، ويجد لمشكلات الحياة داخل مجالات تلك العلوم حلولا لم يسبقه إليها أحد، أفنقول لمثل هذا الباحث - في علم النفس أو الاجتماع أو الاقتصاد: اقرأ الإمام الغزالي، وابن تيمية، وابن القيم وابن خلدون؟ نعم، إنه لا بد أن يقرأ عند هؤلاء ما له صلة بموضوع بحثه؛ ليبدأ من حيث انتهوا، إذ هو يحيل الأمر إلى عبث، إذا هو بدأ من حيث بدءوا، فلم يفعل بذلك سوى أن يجعل نفسه وكأنه نسخة بشرية من مؤلفات هؤلاء العلماء، ثم ما هو أهم من ذلك، وهو أن البحث العلمي الأصيل في العلوم الإنسانية أو غير الإنسانية مما له علاقة بكائنات الدنيا؛ يجب أن ينصب مباشرة على تلك الكائنات، وإلا لما جاءت بجديد، فهل نقول للباحث العلمي الذي يريد أن يعرف الأسس النفسية التي يقام عليها «التعلم» اقرأ في ذلك عند ابن تيمية وابن القيم؟ أو أن نتائجه يجب أن تقام على بحث تجريبي يلتزم أصول المنهج التجريبي أيا كان موضوعه؟ والحق أننا - في هذه النقطة - إنما نضع أصابعنا على سر الأسرار وعلى عمق الأعماق، بالنسبة إلى التخلف العلمي والنهوض منه، وذلك لأن التخلف العلمي في بلد ما، أو في عصر ما، ليس إلا أن تدور الحركة العلمية والتعليمية كلها حول «كتب» الأقدمين، تقرأ وتشرح وتلخص وتحفظ، فيصبح من أجاز هذه الأشياء «عالما»، عالما بماذا؟ إنه عالم بما في كتب الأقدمين وليس عالما بحقائق الواقع الجديد في ميدان علمه.
ومع ذلك فلننظر إلى العلوم الإنسانية الثلاثة الأساسية علما علما، لنرى هل يمكن أن يكون العلم منها علما وافيا بما نريده منه، إذا نحن اكتفينا بقراءة «الكتب» أو ما إلى الكتب مما أصدره قدماء أو محدثون؟ قد يكون ذلك كافيا «للتلميذ» الدارس، ولكن هل يظل كافيا بالنسبة إلى «العلماء».
ولنبدأ بعلم النفس، وأول سؤال أطرحه على الدعاة إلى «أسلمة» العلوم الإنسانية هو: بأي منهج علمي تريدون للعالم العربي المسلم أن يجري بحثه العلمي في الظاهرة النفسية التي يختار البحث فيها؟ كأن يختار - مثلا - عوامل التوافق بين الفرد والجماعة التي يعيش بينها فردا فيها، وإنني لأعيد هنا ما قد أسلفته، من أن تعريف العلم مؤسس على منهجه وليس على نوع الموضوع الذي يتناوله الباحث بذلك المنهج؛ إذ الموضوعات العلمية تتعدد وتتنوع، وأما منهج البحث العلمي فواحد من حيث المبادئ الأولية. وأعود فأسأل السادة أصحاب الدعوة إلى «الأسلمة»: بأي منهج تريدون لعلم النفس الإسلامي أن يبحث؟ فإذا كان الجواب هو أن المنهج لا يكون إلا ذلك الذي أقرته الخبرة التاريخية الطويلة؛ أي إنه هو المنهج التجريبي الذي يفحص «العينات» المختارة في حدود الموضوع المطروح للبحث، فحصا معروف الخطوات والتفصيلات الإجرائية، ثم تحسب النتائج بعملية «إحصائية» رياضية (وعلم الإحصاء علم قائم بذاته يدرسه الباحث في ميدان علم النفس أو لا يدرسه فيستعين بأحد علمائه). أقول: إنه إذا كان هذا هو الجواب؛ إذن يكون العالم الباحث عالما باحثا بغض النظر عن عقيدته الدينية، وبغض النظر أيضا عن المادة التي وردت في كتب السالفين أو في كتب المعاصرين، إلا إذا جاء ذلك على سبيل المقارنة التي يريد بها الباحثون عادة، أن يبينوا أين «الجديد» الذي أضافوه؟ وأما إذا سألنا السادة أصحاب الدعوة إلى علوم إنسانية إسلامية: ماذا يكون منهج البحث عندئذ فيما ترون؟ فكان جوابهم هو أن يعيد الباحث دراسة التراث الخاص بموضوعه، ليحاول جهده أن يستخلص منه أحكاما فيما أراد أحكاما فيه؛ وقعنا في أحبولة التخلف الذي يبدي في قديمه ويعيد، وتسير الدنيا بالناس إلى جديد ونحن هناك في ظل التراث ننعم بالنسيم العليل! حتى إذا ما جد بنا الجد في مسألة تؤرقنا، وأردنا لها حلا أرسلنا نستدعي «الخبراء الأجانب».
Page inconnue