Pour la Couronne
في سبيل التاج
Genres
إنما الإثم على الذين يقترفون الذنوب وهم يعلمون مكانها من الرذيلة، ومكان أنفسهم من اقترافها، ويحولون زمام حياتهم بأيديهم من طريق الخير إلى طريق الشر، إيثارا لها وافتتانا بها، أولئك هم الآثمون المذنبون الذين يجدر بنا أن نقسو عليهم ونشتد في مؤاخذتهم. أما الضعفاء والمساكين الذين لا حول لهم في شأن أنفسهم ولا حيلة، فهم برحمتنا وعطفنا أحق منهم بعتبنا ولومنا، فإن وجدنا السبيل إلى معاونتهم ومساعدتهم واستنقاذهم من وهدة الشقاء التي هووا فيها فذاك، أو لا؛ فلندعهم وشأنهم تذهب بهم المقادير حيث شاءت من مذاهبها، ولا نزدهم بكبريائنا واستطالتنا بؤسا على بؤسهم، وشقاء على شقائهم.
إننا ما أصبنا بما أصبنا به من هذه النكبة الشعواء والداهية الدهياء التي نزلت بنا منذ عشرة أعوام ما تفارقنا ولا تهدأ عنا إلا من ناحية كبريائنا وخيلائنا واعتدادنا بأنفسنا في جميع شئوننا وأعمالنا، واحتقار غنينا لفقيرنا، وقوينا لضعيفنا، وسيدنا لمسودنا، فسلط الله علينا ذلك العدو القاهر الذي لا يعتمد في جميع شئونه ومواقعه إلا على قوته وأيده؛ لأننا لم نعتمد في يوم من أيام حياتنا في جميع صلاتنا وعلائقنا إلا على قوتنا وأيدنا، والجزاء من جنس العمل
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
فاصفر وجه بازيليد واربدت شفتاها، وكأنما خيل إليها أنه يلمزها ويريبها ويشير في حديثه إلى ماضيها القديم وحوادث صباها السالفة، فصمتت ولم تقل شيئا، إلا أنها انتحت ناحية وأخذت تبكي وتنتحب - والدموع هي السلاح الوحيد الذي تعتمد عليه المرأة في جميع شئونها وعلائقها - فعظم الأمر على برانكومير، وأكبر أن يخاطب ولده زوجته المحبوبة هذا الخطاب الجافي الغليظ، فأنحى عليه باللائمة الشديدة وقال له: إنك لم تسئ إلى نفسك في تنزلك إلى حماية هذه النورية الساقطة واهتمامك بشأنها، بقدر ما أسأت إلى أبيك في مجابهة زوجته ومغايظتها، وسوء الرد عليها بهذه اللهجة الشديدة القاسية. ولولا هذه الرايات الحمر التي ألقيتها اليوم تحت قدمي بأهلتها البيضاء لما اغتفرت لك هذه الجريمة التي اجترمتها، فاذهب لشأنك ولا تعد إلى مثلها.
وكذلك تم لقسطنطين ما كان يريده من إنقاذ تلك الفتاة المسكينة من يد الموت بعدما أنقذها من يد الشقاء، فذهب بها إلى الجناح الذي يسكنه من القلعة، وجلس إليها يحادثها في شأنها وشأن ماضيها، ويسائلها عن دينها ومذهبها ووطنها وقومها، فلم ير بين يديه إلا فتاة ساذجة جاهلة لا تعرف لها وطنا ولا بيئة، ولا تدين بدين من الأديان ولا مذهب من المذاهب، ولا تفهم من شئون حياتها إلا أنها فرد مبهم من أفراد هذا المجتمع المائج المضطرب، تمتد بامتداده وتنحسر بانحساره، لا تعرف الآمال ولا تفكر في المستقبل، ولا تحفل بالماضي، ولا يتسع عقلها لأكثر من الساعة التي تعيش فيها، ولا تتألم إلا كما يتألم الأطفال، ولا تفرح إلا كما يفرح المجانين، قد صفت نفسها من كل شائبة من شوائب النفوس البشرية، فلا تحقد ولا تغضب، ولا تكره ولا تحسد، ولا تطمع ولا تتطلع، ولا تشغل ذهنها بترتيب الصور والأفكار واستنتاج النتائج من المقدمات، فأصبح ينظر إليها نظر الأب الرحيم إلى طفله اللاعب بين يديه، وأصبحت تجلس تحت قدميه جلسة الكلب المخلص تحت قدمي سيده، لا تحدثه حتى يحدثها، ولا ترفع نظرها إليه حتى يناديها.
وكان يقول في نفسه كلما نظر إليها وإلى سذاجتها وطهارتها، وبلاهة عقلها وغفلته: أهكذا قضي على الإنسان في هذه الحياة ألا تخلص نفسه من شوائب الرذيلة والشر حتى يسلب عقله وإدراكه قبل ذلك، وألا يمنح مقدارا من الصدق والشرف حتى يحرم في مقابله مقدارا من الفطنة والذكاء، فليت شعري هل عجزت الطبيعة عن أن تجمع للمرء بين هاتين المزيتين: مزية العقل الذي يعيش به، والخلق الذي يتحلى بحليته، أو أن لله في ذلك حكمة لا نعلمها ولا ندرك كنهها؟
وكأنما كان يشعر في نفسه باقتداره على أن يجمع لتلك الفتاة المسكينة بين هاتين الفضيلتين، وأن يصوغ من نفسها ذلك المثال الغريب الذي عجزت يد الطبيعة عن صياغته، فبدأ يهتم بشأنها اهتماما عظيما، ويتبسط معها في الحديث تبسط النظير مع نظيره، ذاهبا معها في كل واد من أوديته، معنيا كل العناية بتثقيفها وتعليمها وإنارة ما أظلم من بصيرتها، ولكن بأسلوب غير الأسلوب الذي كان يعلمه به معلمه في المدرسة، فأرشدها إلى وجود الله، لا من طريق البراهين الجدلية والقضايا الكلامية، بل من طريق الآثار والمصنوعات الناطقة بجمالها ولطف تكوينها عن قدرة صانعها وإبداع خالقها، وأرشدها إلى الفضيلة من طريق الفضيلة نفسها لا من طريق الترغيب في الثواب والتخويف من العقاب؛ ليكون أدبها أدب نفس لا أدب درس، ولتمتزج الفضيلة بنفسها امتزاجا لا تزعزعه عواطف اليأس ولا عوامل الرجاء، فكانت تعجب لحديثه ومراميه عجبا شديدا، وتجد فيه من اللذة والغبطة ما لا تذكر أنها شعرت بمثله في حياتها في حديث أي متحدث يتحدث إليها، وتعجب أكثر من كل شيء لتنزل مثل هذا الأمير الجليل والسيد الشريف إلى مجالستها ومثافنتها، والنزول على حكمها فيما يغضبها ويرضيها، فقالت له مرة وهي تحاوره: إنك تحدثني يا مولاي كأنك لا تعرف من أنا، قال: إني أعرفك كما تعرفين نفسك، وأعرف أنك أختي في الإنسانية، وهي الأم الرءوم التي لا يستطيع أحد من بنيها أن يمت إليها بأكثر مما يمت به إخوته، وما للأخت ملجأ تلجأ إليه في شدتها غير عطف أخيها وحنانه عليها، قالت: ولكنك تعلم أني فتاة مذنبة ساقطة، قال: كل الناس مذنبون آثمون، وإنما تختلف صور الذنوب وأشكالها وأساليب اقترافها، قالت: لم أر في حياتي مذ نشأت حتى اليوم عفيفا قط ابتسم في وجهي! قال: ذلك لأن الناس مراءون مخادعون يزعمون لأنفسهم من الفضائل والمزايا ما تنكره نفوسهم عليهم، فهم يحتقرون المذنب ويزدرونه؛ لا لأنهم أطهار أبرياء كما يزعمون، بل ليوهموا الناس أنهم غير مذنبين، ولو أنهم تكاشفوا وتصارحوا، وصدق كل منهم صاحبه الحديث عن نفسه لتتاركوا وتهادنوا، ولما آخذ أحد منهم أحدا بذنب ولا جريرة!
وكذلك أصبحت ميلتزا العزاء الوحيد لقسطنطين عن همومه وآلامه، فقد وجد بين جنبيها تلك النفس الطاهرة البريئة التي طالما نشدها قبل اليوم فأضلها، وتطلبها فأعياه طلابها، ووجد في صدرها ذلك القلب المحب المخلص الذي بكاه وندبه ندبا شديدا يوم ماتت أمه، ويوم تولى عنه حنان أبيه، وكان يتحدث معها في كل شيء من شئون الحياة دقيقها وجليلها، ويفضي إليها بكل خبيئة من خبايا نفسه، إلا ذلك الهم العظيم الذي كان يعالجه في أطواء نفسه وأعماقها، ويكابد منه ما يقلق مضجعه ويصل ليله بنهاره؛ وهو استحالة حال أبيه، وانتفاض قلبه عليه، وانقياده ذلك الانقياد الأعمى إلى تلك الفتاة اليونانية الدخيلة التي لا يعنيها من شأنه سوى أن تتخذ من عاتقه سلما تصعد عليه إلى سماء المجد، ثم لا تبالي بعد ذلك أن تدفعه بقدمها بعد بلوغ غايتها، فيسقط في الهوة التي قدر له أن يهوي فيها، إلا أن ميلتزا الذكية بفطرتها، المتفانية في حبها وإخلاصها، لم يكن يفوتها أن ترى بعين فطنتها وذكائها في تلك الزاوية المظلمة من زوايا قلبه ذلك الهم الخفي المكتن، وكان يساعدها على فهمه واستكناهه تلك الأحاديث التي كانت تسمعها تدور من حين إلى حين بين القائد وزوجته، عندما كانا يمران بها أو يقفان على مقربة منها وهي جالسة تحت بعض الجدران، أو في ظلال بعض الأشجار لا يحفلان بها ولا يلقيان لها بالا.
فقد سمعته مرة يقول لها: إنني أحبك يا بازيليد حب المرء نفسه التي بين جنبيه، ولقد عشت حياتي كلها قانعا من العيش بتلك اللذة الوحشية الدموية، لذة القتل والأسر وسفك الدماء وتقطيع الأوصال، حتى رأيتك تتطلعين إلى تاج الملك، وتشتهين أن تضعيه فوق رأسك، فأحببته من أجلك، وأصبحت لا أقترح على الدهر أمرا سوى أن أرى تلك الجبهة اللامعة المضيئة يتلألأ فوقها ذلك التاج المرصع البديع، فلا تيأسي منه ولا تقنطي، واعلمي أنني سآتيك به وإن كان كوكبا نائيا في آفاق السماء ، أو درة راسبة في أعماق البحار.
وسمعتها مرة تقول له: ما أجمل وجهك يا برانكومير! وما أبدع ضياءه ولألاءه! وما أنصع هذه الشعور البيضاء التي تدور به دورة الهالة بالقمر! وما أجمل تاج الملك يوم يوضع على رأسك فتتحد الأضواء الثلاثة جميعها، ويموج بعضها في بعض فتتراءى في أجمل شكل وأبدع منظر! إنك ستكون ملكا يا مولاي، وستكون أعظم ملوك العالم شأنا، وأرفعهم مقاما، وستجتمع فوق عرشك الرفيع الأمجاد الثلاثة: مجد النسب، ومجد الحروب، ومجد الملك. وقد ألقى الكاهن في نفسي كلمته التي تنبأ لي بها، وما هو بالكاذب ولا المجنون، فكن على ثقة من صدقه وحكمته، واعلم أنه ليس بينك وبين التاج إلا خطوة واحدة، فاخطها بهمة وعزيمة تبلغ الغاية التي تريد.
Page inconnue