وعندما نتعمق في جميع التصريحات والكلام المرسل والوعود وتأجيج مشاعر الخوف من اعتلاء الإسلاميين للسلطة، سوف نضع أيدينا على المعضلة، وهي أنه لا أحد من ذوي النفوذ يريد التخلي عنه. إذا كنت ذا نفوذ، فالتخلي عن جزء منه قد يعرضك لخطر تدهور الوضع على نحو يصعب السيطرة عليه. وصل النظام المصري إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب، وفي ذروة حالة من الاضطراب كان من الممكن أن تخرج عن نطاق السيطرة؛ ربما إلى حد وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة. وأيا كان السبب فقد أرغم قادة الانقلاب الملك فاروق على النزول عن العرش، وسمحوا له بالذهاب إلى المنفى ليصير في طي التاريخ إلى أن ساءت الأوضاع في مصر لدرجة جعلت اسمه مرتبطا بالحنين إلى الماضي. وليس كل الزعماء المخلوعين عن عروشهم سعداء الحظ هكذا. وهنا تكمن المعضلة التي لا حل لها؛ فالسماح بحرية الرأي والمنافسة يهددان بفقدان السيطرة، بينما يهدد قمع المعارضة بتوليد مشاعر إحباط مكبوتة إما أن ينتهي بها الحال بضرورة شن حملة قمع جماعية أو حدوث انفجار يخرج عن نطاق السيطرة وربما ينتهي بكارثة على النظام والشعب على حد سواء. أخبرني بدراوي صراحة أنه «لا توجد ثقة بين الحكومة والشعب»، وأن الواقع ينذر بعواقب وخيمة. فذوو النفوذ الذين يستحبون الوضع الراهن لا يثقون في الشعب، ويعتبرون السخط والعنف دليلا على خطر كامن متربص سيظهر لو غابت القبضة الصارمة.
تتسم مثل هذه الأفكار بمقاومتها للتغيير، وتقيم الحجة بسهولة على غليان الشارع المصري. وربما تكون الأحداث الأخيرة خير شاهد على هذا الرأي. فأثناء ربيع وصيف 2007، اندلعت مئات الإضرابات العشوائية في العديد من القطاعات وذلك في موجة احتجاجات عمالية تضمنت مئات الآلاف من العمال على نطاق لم تشهده مصر منذ السنوات التي أدت إلى انقلاب 1952. وأعني بكلمة عشوائية هنا أنها غير مرخصة من قبل نقابات العمال الرسمية والحكومية. ونقابة العمال نفسها نتاج الحقبة الناصرية عندما كانت الصناعة الخاضعة لرقابة الدولة محمية من المنافسة الخارجية عبر مجموعة مختلفة من السبل؛ وغني عن القول إن هذا أسفر عن انعدام الكفاءات على نطاق واسع، وإهدار الموارد، وانتشار البطالة المقنعة، وكلها أساليب تهدف إلى ربط الشعب بالحكومة. وقد ظهر الحديث عن إطلاق الحريات والخصخصة منذ وقت طويل؛ والواقع أنهما عصبا خطط الإصلاحيين بالفعل. لكن النتيجة النهائية هي تهديد العمال، الذين يفرضون بدورهم تهديدا على النظام أكبر بكثير من تهديد نشطاء المعارضة الليبراليين مكتوفي الأيدي الذين يلتفون حول صحف (لا يقرأها سوى قلة من النخبة) وأحزاب سياسية تعاني من تضييق حكومي ونزاعات داخلية مستمرة تنشأ بسبب أمور تافهة في كثير من الأحيان.
ولا غرو في أن العمال لم يعودوا قادرين على تحمل الأجور الثابتة التي تتآكل بفعل التضخم فضلا عن احتمال فقدانهم لوظائفهم. نفد صبر العمال في نهاية الأمر بعد أن ذاعت الأقاويل عن تواطؤ مسئولي «نقاباتهم» مع النظام. وبالرغم من أن مظاهرات العمال كانت متفرقة ومحلية وتفتقر إلى التنسيق، فقد ظلت تثير قلق النظام. ومن وجهة نظر المؤيدين للنظام، كانت تلك الاحتجاجات بمثابة فرصة؛ فقد أمكنهم الإشارة إلى المظاهرات باعتبارها مؤشر على خطر التمرد البالغ، إذا ما انتشرت على نطاق أوسع وصارت أكثر تنظيما وتعدى سقف مطالبها المطالب الاقتصادية العاجلة، وفي الوقت نفسه استطاعوا القول إن الإصلاحيين يتحملون المسئولية مضاعفة؛ أولا بسبب دعوتهم إلى الخصخصة (التي تثير غضب العمال)، وثانيا بسبب دعوتهم إلى الإصلاح السياسي (الذي منح العمال الثقة وحرية التغطية الإعلامية لوسائل الإعلام المعارضة). ويرى هؤلاء الأوفياء للنظام أن أيا من الخيارين لا يصلح؛ فالوضع الراهن المتمثل في حماية الأفراد مع قمعهم في الوقت نفسه أفضل من المخاطرة بإجراء إصلاح سياسي أو اقتصادي، ناهيك عن إجرائهما معا في آن واحد. ولا شك أنه يمكننا تفهم هذا الوضع، بالرغم من أنه خاطئ على نحو واضح. •••
مصر ليست الدولة الأولى - ولن تكون الأخيرة - في مواجهة تلك المعضلة. فثمة نموذجان ظهرا منذ العقد الأخير من القرن العشرين؛ وهما الاتحاد السوفييتي والصين. حاول النموذج السوفييتي فتح الباب أمام الإصلاح السياسي والاقتصادي في الوقت نفسه مع تقديم الإصلاح السياسي على الاقتصادي. وجاءت النتيجة على عكس ما ترتضيه الأنظمة الاستبدادية؛ فتفكك الاتحاد السوفييتي، وفقدت النخبة الحاكمة نفوذها. ويبدو النموذج الصيني أكثر نجاحا على الجانب الآخر؛ حيث شجعت الدولة الانفتاح الاقتصادي مع تقييد الانفتاح السياسي، فلم يكن الحزب الحاكم يتورع عن سحق المعارضة عندما يشعر بأي تهديد من شأنه أن يؤدي إلى ضياع نفوذه. لكن يبقى السؤال الذي ينتظر الإجابة هو: هل ستصلح تلك السياسة على المدى البعيد، بمعنى أن يظل الحزب الحاكم محتفظا بالسلطة؟
لكن هناك عدد من الفروق الجوهرية بين مصر من جانب وبين الاتحاد السوفييتي سابقا أو الصين من جانب آخر. بادئ ذي بدء، استند نظام الحكم في الاتحاد السوفييتي والصين على أيديولوجية فيها من العقلانية والمنطقية ما يجعل الشعب يؤمن بها بصورة أو بأخرى. كان للحزب الشيوعي السوفييتي والصيني قدم راسخة داخل المجتمع، وكانت المكافآت الضخمة جزاء الامتثال بينما العقاب الأليم جزاء المعارضة. استطاع السوفييت والصينيون الحديث عما يتحقق من إنجازات مهمة في الوقت نفسه الذي يحجب فيه كل نظام ما يرتكب من أعمال وحشية بمرور الزمن عن الشعب؛ رسميا على الأقل. ويمكننا الحديث عن نقطتين من بين النقاط العديدة التي تميز النموذجين السوفييتي والصيني. النقطة الأولى أن النخبة في الاتحاد السوفييتي بدأت دون مبرر واضح تفقد إيمانها بعقيدتها، وتقطع أمرهم بينهم، وهو ما أتاح الفرصة أمام الدخلاء لتصعيد الوقوف في وجه النظام والإطاحة به أخيرا. والنقطة الثانية أن الصينيين كانوا أكثر قدرة على تغيير طبيعة العلاقة مع الشعب عن طريق الإسراع في توفير مزايا اقتصادية وأمل في التحسن.
أبشع ما في نظام مبارك هو حالة الإفلاس التي وصل إليها حتى صار يتخبط على غير هدى؛ فلا هو يقدم أساسا منطقيا أيديولوجيا، ولا هو يملك المبادئ التي يمكن حشد الشعب حولها. تخلى النظام عن حلم الوحدة العربية منذ زمن بعيد؛ وصار الإسلام حلا تطرحه المعارضة. وعلى الرغم من تحقيق نمو اقتصادي، لم يكن التوزيع عادلا بالمرة، ورجحت كفة المنتسبين للنظام ما أدى إلى تزايد مشاعر السخط والإذعان أيضا. ويفتقر الحزب السياسي الحاكم إلى الصلة الحقيقية بالشعب، ويكاد يغيب عن الساحة خارج المدن الرئيسية. باختصار، يفتقر نظام مبارك إلى أي من المقومات التي أبقت على الأحزاب الشيوعية السوفييتية أو الصينية في السلطة. فلا سبب وراء بقاء هذا النظام سوى تشبثه بالسلطة.
الخوف إذن هو الذي يبقي على النظام في السلطة في ظل غياب كافة مظاهر الشرعية. فأعمال العنف اليومية التي تجتاح المجتمع على أيدي زبانية التعذيب في مراكز الشرطة والأجهزة الأمنية هي صورة أساسية من صور ترويع المواطنين. فعندما يلقى القبض عشوائيا على مواطن بريء في الشارع ويلزم الصمت خوفا من التعرض للإيذاء الجسدي، وعندما يلقى القبض على طفل بتهمة سرقة عبوة شاي وينتهي به الحال جثة هامدة، وعندما يحتجز باحث معروف يحظى بتقدير دولي مثل سعد الدين إبراهيم، وبعدها يخشى العودة إلى بلاده؛ فذاك ترويع للمجتمع يطول كافة فئاته. وهؤلاء هم من لا يستفيدون من النظام. أما المستفيدون من النظام فإنهم يذوقون لونا آخر من ألوان الخوف؛ وهو فقدان دعم النظام لهم فلا يملكون بعدها الوصول إلى ذوي النفوذ وموارد الكسب التي تعود عليهم بامتيازات مالية هائلة وغيرها من الامتيازات الأخرى. الخوف من فقدان السيطرة يمنع الزمرة المهيمنة على النظام من السماح بوصول المناقشات الداخلية بين الإصلاحيين والمحافظين إلى آفاق بعيدة، إما في صورة لجوء الإصلاحيين إلى شرائح أخرى من النخبة السياسية والاقتصادية طلبا للدعم - وليس معنى ذلك أن هذه النخبة ذات بأس شديد بعد ما مارسه النظام ضدها من قمع - وإما مناداتهم بانفتاح أكبر على الصعيدين السياسي والاقتصادي والتصدي الحقيقي لداء الفساد على نحو يتخطى المحاكمات الشكلية العارضة. الخلاف مباح، وقطع الوعود مشروع ما دامت لن تدخل حيز التنفيذ. لكن لا ينبغي للاختلافات أن تتحول إلى انقسامات. فضلا عن ذلك فإن الأجهزة العسكرية والأمنية على استعداد دائم لسحق من يصدقون تلك الوعود ويمتعضون حال اكتشاف سرابها. وفي الخلفية دائما نراهم يلعبون على وتر فزاعة الإخوان المسلمين. •••
للمصريين قدرة على تحمل المعاناة تثير الإعجاب والاكتئاب في الوقت نفسه، لكن مسألة استعدادهم لمواصلة هذه المعاناة ليست محسومة على الإطلاق. أسفرت قوى العولمة عن العديد من الآثار بدءا من السياح الأجانب الذين يقضون أوقاتهم في التنقل من فندق إلى متحف إلى معلم أثري، إلى المهاجرين الأفارقة الذين يعتبرون القاهرة مثالا للتقدم مقارنة ببلادهم، إلى رأس المال الدولي المستثمر في مصر. وللأثر الأخير بعض الثمار المفيدة، لكنه قد يؤدي أيضا إلى تراجع فرص الحياة أمام من يفتقدون التعليم أو المهارات - والواسطة، الأهم منهما في كثير من الحالات - اللازمة للمنافسة.
الوضع المضطرب الذي يسود المجتمع المصري يدق ناقوس الخطر. فالغضب المنصب على جهاز الشرطة السري، والتعذيب والفساد المتوطنين في المجتمع، والنخب التي تلبس عباءة الغرب وتنهب البلاد بدعوى تحرير اقتصادها وفتح آفاق جديدة أمام المستثمرين الأجانب؛ كل هذا يذكرنا بإيران أثناء الأيام الأخيرة من حكم الشاه. ومثلما كانت إيران تحت حكم الشاه - وعلى عكس كل من الاتحاد السوفييتي والصين - فإن القوى المحركة للوضع في مصر ليست داخلية فحسب. وبعبارة أخرى، تلعب الولايات المتحدة دورا فعالا في السياسات التي تتبناها الحكومة المصرية.
لا شك أن هذا الوضع يختلف تمام الاختلاف عن عصور الاستعمار قديما عندما فرض البريطانيون سطوتهم على خزانة الدولة، وتدخلوا دائما في القرارات التي تتخذها الحكومة، وتحكموا في قناة السويس وشركتها ، إلى جانب الإبقاء على وجود عسكري قوي. ولت أيام السيطرة الاستعمارية المباشرة هذه. لكن في ظل السعي نحو الانفتاح السياسي والاقتصادي المتنامي تارة والسعي بعيدا عنه تارة أخرى، تأخذ الحكومة والشعب على السواء رؤى واشنطن بعين الاعتبار. ولا عجب في هذا إذا نظرنا إلى الأموال الطائلة التي تقدمها واشنطن إلى مصر. فهذا الجزء من الصفقة يكاد يكون مقدسا، وحتى في ظل السلام البارد في أحسن الظروف تبقى مصر محورا رئيسيا في تطبيق سياسة واشنطن متمثلة في حفظ الاستقرار داخل المنطقة. لكن هذا لا يعني أن العلاقة تخلو من التوترات، أو أن النظام سيسعى إلى إرضاء واشنطن على حساب المجازفة بتقويض نفوذه، وهذا أمر يدركه صناع السياسة في الولايات المتحدة جيدا.
Page inconnue