ذاع صيت الأقصر منذ زمن بعيد على أنها «مدينة الخطيئة» في مصر. كشف علماء آثار من جامعة جونز هوبكينز - يعملون حاليا في معبد «موت» بالمدينة - كيف أن الجنس والخمر كانا عنصرين رئيسيين في الطقوس التي يؤديها الأفراد لإرضاء الآلهة في العصر الفرعوني. ووفقا لعلماء الآثار اشتملت الطقوس على شرب نبيذ الشعير وممارسة العلاقة الحميمة قبل أن يفقدوا الوعي ويستيقظوا مبكرا في الصباح التالي من أجل الطقوس الدينية. ولا يزال الجمع المقلق والمتزايد بين الخمور والجنس والدين مميزا لطبيعة الحياة هنا إلى حد كبير؛ على الأقل لدى الزوار الأجانب و90 بالمائة من ذكور المدينة العاملين بقطاع السياحة، التي تهيمن على الاقتصاد المحلي تماما.
تجذب الأقصر في الغالب البريطانيين والألمان الباحثين عن دفء الشمس، الذين يغادرون مقاعدهم المشمسة بجوار حمامات السباحة داخل فنادقهم الراقية بين الحين والآخر، للذهاب إلى الأسواق المحلية حيث يختلطون بغيرهم من الأجانب الذين جاءوا لقضاء يوم واحد، والذين ترسوا سفنهم على طول نهر النيل الفسيح الخلاب. وكثيرا ما يكون سياح الرحلات الجماعية المنظمة موضع سخرية الرحالة الأكثر إقداما على المغامرة بسبب بقائهم داخل الفنادق، والحقيقة أن بوسع الكثيرين منهم البقاء في أي مكان ما دامت تشرق شمسه في الشتاء، وما دام هناك ملهى يرتادونه في المساء. بل إن الكثيرين منهم لا يزورون الأماكن الأثرية. ومع هذا فحتى هؤلاء الذين يحركهم حب الاستطلاع الثقافي - خاصة من يصطحب معه أطفالا صغارا - يفضلون عدم المجازفة بالخروج بمفردهم مرة ثانية بعد تعرضهم أول مرة للمضايقات التي تفوق الحدود في شوارع المدينة. لا يوجد مكان آخر في العالم العربي (أو ربما في العالم كله ) بهذه الشراسة والقسوة.
يتسكع سائقو التاكسي ومحترفو مطاردة السائحين وسائقو الحنطور والشباب العاطل والأطفال المزعجين في زاوية كل شارع، في انتظار فرصة مرور السائحين بهم لجني بضعة دولارات يشترون بها قوت يومهم. نقل عن زهير جرانة وزير السياحة قوله إن مضايقة السياح تشكل تهديدا لقطاع السياحة في مصر أكبر من تهديد هجمات المتطرفين، وأقر بأن العديد من السياح يغادرون مصر «ولديهم إحساس بالمرارة، وقد أخذوا على أنفسهم عهدا ألا يعودوا إليها أبدا» بسبب إحباطهم من ترصد محترفي مطاردة السياح لهم في الطرقات. فإبعادهم عن الطريق مهمة شاقة حتى على من يتحدثون اللغة العربية، ويكون الملاذ الأخير هو التهديد باللجوء إلى العنف.
غير أن هؤلاء الذين يستطيعون الانفراد بأنفسهم بضع دقائق يجدون كورنيش النيل - الممتد مسافة كيلومترات في حلته القديمة - مكانا رائعا للتنزه تزينه معالم مثل فندق «قصر الشتاء» ومعبد الأقصر المهيب. أما من يتجولون في رحلة بحرية في النيل فإنهم يحظون بمشاهدة المناظر الخلابة لمدينة يقسمها نهر النيل إلى شطرين. في البر الشرقي - أو الشطر العصري من مدينة الأقصر - توجد الفنادق الرئيسية والمطار والأسواق ومحطة القطار وجميعها خضع مؤخرا لعمليات ترميم بتمويل من منظمة اليونسكو. وفي البر الغربي الفقير - المتواري خلف تلال طيبة - يوجد وادي الملوك ووادي الملكات ومعبد حتشبسوت الأسطورية وخلفها الصحراء القاحلة والجبال.
لا تزال المناطق المأهولة بالسكان في البر الغربي - بين نهر النيل والمقابر - عبارة عن سهول خصبة ومساحات خضراء: مشاهد البطاقات البريدية المصورة للفلاحين الذين يعملون في حقول قصب السكر، والغلمان الذين يرتدون الجلاليب ويركبون الحمير على طول الطرقات غير الممهدة في القرية المبنية بالطوب اللبن. وعبور نهر النيل من البر الشرقي إلى البر الغربي على متن معدية يضاهي الرجوع بالزمن إلى الوراء: من الحضر إلى الريف ومن الحداثة إلى التقليدية الموغلة في القدم. •••
يسكن صديقي علاء - وهو رجل قصير القامة بدين في أواخر الثلاثينيات من العمر شعره أسود كثيف مجعد - في إحدى القريتين المجاورتين لنهر النيل في البر الغربي من المدينة. تربط بينه وبين جميع الأشخاص الآخرين في محيط قريته صلة قرابة من قريب أو بعيد؛ فتلك منطقة قبلية، وكما هو الحال في جميع مدن صعيد مصر يتسم المسلمون والمسيحيون الذين يعيشون هنا بالتحفظ والانغلاق الأسري. في الصباح يعمل علاء مدرسا في إحدى المدارس الحكومية، لكني اعتدت على قضاء الوقت معه كل مساء في الجانب الآخر من المدينة في بهو استقبال فندق بسيط يعمل فيه، وفيه أيضا نزلت في إحدى زياراتي الأولى للمدينة. غير أن علاء أدرك فجأة بعد بضعة أشهر أنه سيوفر المال إذا ما جلس في بيته في المساء؛ فراتبه الشهري في الفندق لا يتعدى 26 دولارا شهريا، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية نفقات انتقاله من وإلى البر الشرقي، وشراء علبتي سجائر يدخنهما بشراهة أثناء وردية عمله التي تستمر اثنتي عشرة ساعة في جو من الرتابة، فضلا عن شراء طعام في بعض الأحيان.
حسبما تشير ظروف علاء والمشاحنات التي تحدث في الطرقات فإن قطاع السياحة في مصر عالم مصغر من عالم الاقتصاد الأوسع. فعشرات قليلة من الشركات تهيمن على القطاع، بدءا من الحافلات التي تنقل الأفواج السياحية من وإلى المطار، وانتهاء بالفنادق الفاخرة التي ينزلون فيها ومراكب الرحلات التي يستقلونها للتنزه في نهر النيل. وهكذا لا يبقى للمهمشين من أمثال علاء سوى انتظار فتات المائدة. أخبرني علاء أنه شعر بسعادة بالغة عندما توقف عن إزعاج السياح ليأخذوا معه جولة على ظهر الحمار، وهو عمل ثانوي بائس كان يؤديه أثناء عمله بالفندق. وعندما قال ذلك علت وجهه ابتسامة خجل، ربما لأنه تذكر كيف قضى نصف الساعة الأولى معي في وصف مزايا (وتكلفة) هذه الجولة حول البر الغربي مع شروق الشمس. أضاف أنه أيضا لم يكن يشعر بالرضا للعمل في مكان يبيع الخمور. أما الآن فأصبح بوسعه الحصول على قسط كاف من النوم ليلا، وقضاء وقت مميز مع زوجته وطفلته الصغيرة.
جلسنا فوق سطح منزله الذي لم يكتمل بناؤه، وتجاذبنا أطراف الحديث حتى حلول المساء، والشمس تغيب رويدا في الأفق. بعد فترة أشرت إلى أن جميع المباني - هنا وفي القرية الأخرى المجاورة لنهر النيل - تكاد تكون مشيدة حديثا، وأن عددا لا بأس به من هذه المباني عبارة عن فيلات فاخرة، وهو ما يختلف اختلافا لافتا للنظر عن بيوت الطوب اللبن التي ما زال يسكنها معظم الفلاحين في البر الغربي. كان يتملكني الفضول لمعرفة مصدر ثروة ملاك هذه المباني.
قال لي علاء: «تسعون بالمائة من هذه المنازل والأراضي المبنية عليها يملكها أجانب، فجميع الشباب هنا يقدمون الآن على الزواج من أجنبيات عجائز.»
في البر الشرقي - حيث كنت أقضي وقتي بالكامل تقريبا - اعتدت أن أرى أجنبيات عجائز (غالبا في الستينات أو السبعينات من عمرهن) يسرن متشابكات الأيدي مع شباب في مقتبل العمر من أهل المدينة. ظننت أنهن يعشن قصة غرام تنتهي بانتهاء إجازتهن، لكن اتضح من حديث علاء أن عددا كبيرا منهن يعشن هنا في البر الغربي. بعدها تحققت من الأرقام الرسمية؛ ووفقا لوزارة العدل فإن خمسة وثلاثين ألف مصري تزوجوا من أجانب، ونحو ثلاثة أرباع هذه الزيجات جمعت بين ثقافتين مختلفتين، وأطرافها رجال مصريون ونساء أجنبيات. وعلى الأرجح لا يشتمل هذا الرقم على الزيجات العرفية التي يتجنبها المصريون باعتبارها إحدى صور البغاء، ولكنها كانت توفر غطاء قانونيا للأغلبية الساحقة من العلاقات بين المصريين والأجنبيات. فهذا النوع من الزواج يمكن الطرفين من العيش معا في شقة واحدة دون الخوف من مهاجمة الشرطة لهما، ومن ثم التشنيع بسمعة الأسرة نتيجة اتهامها بممارسة الرذيلة. أيضا يوفر هذا النوع من الزواج طمأنة ضمنية للمصريات اللاتي يتزوجهن المصريون غالبا - إلى جانب الأجنبيات - بأن زيجاتهن هي «الأصلية» على عكس زواج الأجنبيات الذي يكون من أجل المصلحة المادية فحسب.
Page inconnue