يدرك النظام المصري شأنه شأن جميع الأنظمة القمعية في العالم العربي أن المساهمة في «الحرب على الإرهاب» التي تشنها الولايات المتحدة من شأنها أن تحد من انتقادات واشنطن لانتهاكات النظام لحقوق الإنسان، في الوقت الذي تبرر فيه تبني الإجراءات القمعية ضد عامة الشعب. لذا، لما اتهمت منظمة حقوق إنسان معتمدة بالولايات المتحدة الحكومة المصرية في ديسمبر/كانون الأول عام 2007 باستخدام التعذيب والاعترافات المزيفة في قضية مكافحة إرهاب شهيرة اتهم فيها اثنان وعشرون عضوا من جماعة إسلامية مغمورة - هي جماعة «الطائفة المنصورة» - بالتخطيط لهجمات على مواقع سياحية وخطوط غاز؛ لم يستدع هذا الكثير من الدهشة. ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش أن أبحاثها تفيد أن أجهزة الأمن لفقت اسم الجماعة، وأن ما زعمته كان بالدرجة الأولى يهدف إلى تبرير تمديد قانون الطوارئ ، ومع أن النائب العام نفسه أسقط التهمة الموجهة إلى المشتبه بهم، يعتقد أن عشرة منهم لا يزالون معتقلين. •••
وسط ذلك تبرز نقطة مثيرة للاهتمام هي الاحترام العجيب ذو الطبيعة المنحرفة الذي يكنه ممارسو التعذيب للإجراءات القانونية. فالقانون المصري يعرف التعذيب تعريفا محدودا فقط في سياق إجبار المتهم على الاعتراف، من هنا لا يحظر إلا بعض الممارسات فقط من الممارسات المحظورة دوليا، بل إنه في الواقع لا يجرم التهديد بالقتل أو التعذيب البدني إلا بعد اعتقال غير قانوني يقوم به شخص يزعم أنه ضابط حكومي، علاوة على أن القانون لا يتناول بأي حال التعذيب لأسباب أخرى؛ لاستخراج المعلومات، والترهيب والعقاب والإذلال أو للحالات التي لا تحمل فيها الضحية أي تهمة. ويبدو بالفعل أن ممارسي التعذيب لدرايتهم بالقانون نادرا ما يستخدمون العنف لاستخراج الاعترافات إلا مع مشتبهي نظام التسليم الاستثنائي، عندما يصبح تشجيع الولايات المتحدة بمنزلة رخصة إلهية، إلا أنهم يستخدمونه على نحو مفرط لحمل الضحايا على تجريم غيرهم أو الإدلاء بالمعلومات، كما فعلوا مع شقيق محمد الصغير، أو يلجئون إليه بلا أي سبب على الإطلاق.
وسائل التعذيب التي يستخدمها ضباط الأمن تتسم بالطبع بأنها مبتكرة كعهدها منذ الأزل. والاقتصاد العالمي بيئة مناسبة لها، يمكنها فيها أن تتزايد لتتيح لضباط الأمن الوسائل كافة التي يحتاجونها وأكثر. كتب كاتب الرأي الإسرائيلي المولع بالمعارضة سام فاكنين يقول: «تصنع وسائل التعذيب في الأغلب في الغرب، وتباع كثيرا علنا في الدول النامية إلى أنظمة الحكم البغيضة وعبر الإنترنت. ووسائل التعذيب التكنولوجية المتقدمة كثيرة منها: المسدسات الصاعقة بالكهرباء المسببة للتشنجات، والأغلال المؤلمة، ومصل الحقيقة، والمواد الكيميائية كرذاذ الفلفل. وتصاريح تصدير تلك المعدات بسيطة ومباحة على مستوى العالم، وهي تتجاهل تماما الخصائص التقنية لتلك المعدات (مثلا: هل من الممكن أن تقتل أم أنها تستخدم للإيلام وحسب).» وقد كشفت مؤسسة أوميجا بإنجلترا ومنظمة العفو الدولية عن وجود ما يزيد عن مائة وخمسين شركة مصنعة للمسدسات الكهربية الصاعقة في الولايات المتحدة، وهؤلاء المصنعون يواجهون منافسة شرسة من ألمانيا (التي يوجد بها ثلاثون شركة)، وتايوان (تسع عشرة شركة) وفرنسا (أربع عشرة شركة) وكوريا الجنوبية (ثلاث عشرة شركة) والصين (اثنتا عشرة شركة) وجنوب أفريقيا (تسع شركات) وإسرائيل (ثماني شركات) والمكسيك (ست شركات) وبولندا (أربع شركات) وروسيا (أربع شركات) والبرازيل (ثلاث شركات) وإسبانيا (ثلاث شركات) وجمهورية التشيك (شركتان). وقد ظهرت الدروع الأمريكية الصاعقة بالصدمات الكهربية عالية الفولطية في تركيا، ووصلت المسدسات الكهربية الصاعقة إندونيسيا، وظهرت العصي والدروع الصاعقة بالكهرباء ومسدسات الصعق بالنبال في المملكة العربية السعودية. وتسيطر أيضا الشركات الأمريكية على صناعة الأحزمة الصاعقة، وتقتبس منظمة العفو الدولية عن دينيس كوفمان مدير شركة ستان تيك إنك الأمريكية قوله: «الكهرباء تتحدث جميع اللغات المعروفة لدى الإنسان، ولا تحتاج إلى ترجمة. الكل يخاف من الكهرباء، وهذا لسبب وجيه.» ويصر كوفمان على أن منتجات شركته ليست مصممة للتعذيب وإنما لاستخدامها في الإصابة بشلل مؤقت دون إلحاق أذى، وقد منح الاتحاد الأوروبي وفقا لمنظمة العفو الدولية جائزة الجودة لشركة تايوانية تصنع العصي الكهربية الصاعقة في وقت ما، لكن عندما ووجه الاتحاد لم يستطع الاستناد إلى دليل على إجراء اختبارات أمان مستقلة لهذه العصي أو إلى دليل يثبت أن دول الاتحاد قد استشيرت حتى في هذا الصدد.
إلا أن أهم ما أدخله عصرنا الجديد إلى التعذيب - كما يتضح من سجن أبو غريب - هو التأكيد على أهمية استخدام الإذلال المتعمد، لا سيما الإذلال الجنسي مع الرجال (فلطالما استخدم الإذلال الجنسي مع النساء). نقلت منظمة العفو الدولية عن طالب في الثانية والعشرين من العمر قوله: «أسوأ ما حدث لي هو تجريدي من ثيابي، فهذا أثر بالسلب علي نفسيا.» فيما قال أبو عمر الذي تعرض للتعذيب: «تعرضت للاعتداء الجنسي والشرجي مرتين، وكان هذا أسوأ ما مررت به، فآثار التعذيب البدني تختفي في آخر الأمر ويذهب الألم، فيما تبقى التداعيات النفسية والمرارة وفضيحة التعرض للاعتداء الجنسي. تعرضت للاعتداء الجنسي مرتين، قيدت فيهما قدماي وعقدت يداي خلف ظهري وجلس شخص فوقي وبدأ يحاول اغتصابي، فصرخت عاليا بقوة حتى إنه أغشي علي، ولا أعلم إن كان قد اغتصبني أم كان يحاول ترهيبي وتهديدي فقط.» فإن بدت لك الجملة الأخيرة توحي بالتراجع - لاحظ أن قائلها انتقل من قوله: «تعرضت للاعتداء الجنسي» إلى قول: «لا أعلم إن كان قد اغتصبني» - فإن هذا لا يؤكد إلا أن الإذلال الجنسي هو أقوى وسيلة لتحطيم الضحية عبر إلحاق العار بها، سواء أكانت من العرب أم من غيرهم. من هنا سلط احتجاج العالم العربي العنيف على صور التعذيب في سجن أبو غريب الضوء على الاعتداءات الجنسية إلى حد بلغ درجة الهوس، أو ركز بالأحرى على إجبار السجناء قهرا على ممارسة الجنس. وتلك وسيلة شديدة الإيلام، ومن ثم شديدة الفعالية كأداة للتعذيب، لأن الشذوذ محرم في العالم العربي والعالم الإسلامي بوجه عام. إلا أنه ليس فقط متنفسا طبيعيا في الثقافات التي تشدد بدرجات مختلفة على منع الاختلاط بين الذكور والإناث، بل إنه أيضا عادة منتشرة في الشرق الأوسط، لكنه لا يعترف به علانية في المعتاد بسبب هوس مضاد ومساوي في القوة بالذكورة والشرف الرجولي. •••
سألت نفسي فيما كنت أقف في ميدان لاظوغلي المزدحم بالمرور بجنوب القاهرة، وأنا أتطلع إلى القوس الرخامي الأسود الذي يبدو رمزا رائعا لسطوة النظام الوحشية فوق مدخل المقر الرئيسي لوزارة الداخلية، أو المقر الرئيسي لقوات الأمن المصرية: ما الهدف من كل هذا التعذيب؟ أقصد: ما جدواه؟ فأبو عمر أطلق سراحه مع كل هذا دون أن توجه إليه أي تهمة في آخر الأمر، شأنه شأن الكثيرين؛ ترك وحسب في الشارع بعد أربعة أعوام تقريبا من اليوم الذي يقال إن عملاء المخابرات المركزية الأمريكية زجوا به لأول مرة في شاحنتهم.
كان حاضرا في ذهني مشهد آخر نشر على موقع يوتيوب وقتما زرت ميدان لاظوغلي في منتصف عام 2007، يظهر في صورة المشهد المزغبة المشوشة، التي التقطتها كاميرا هاتف محمول؛ شرطي قوي البنية في قسم شرطة، يرتدي زيه الأبيض الشبيه بزي مضيفي السفن، يضرب مجموعة من المدنيين الذين يبدو أنهم قد ألقي القبض عليهم حديثا . أول ضحيتين له لا يصل طولهما على أقصى تقدير إلى رأسه، ويرتديان غطاء رأس يميز أهل القرى، ويقفان بمواجهة حائط يرتعدان، ويحاولان حماية رأسيهما بيديهما ويتوسلان طلبا للرحمة. لكن الشرطي ظل يأمرهما بأن يواجها الحائط ويعدل من وقفتهما مرارا جاذبا إياهما من مؤخرة عنقهما وضاربا جبهتيهما بالحائط، دافعا كليهما إلى النقطة التي يجب أن يقفا فيها وهو يصرخ فيهما. كان يتحرك بسرعة وخفة لكن بحركات حادة مفاجئة وغريبة، وكأنه طائر غابات عجيب في موسم تزاوج. ظلت يده اليمنى مرفوعة في زاوية قائمة وهو يدور حول ضحيتيه هابطا بكف غليظة مرة بعد الأخرى على مؤخرتي عنقهما، وكأنه يوجه ضربة كاراتيه خاطفة غير بارعة. وهو يبدو غير مبال، شاعرا بالضجر أو مصابا بوسواس قهري، وكأنه لا يدري ما الذي عساه أن يفعله بكل تلك السلطة التي عليه أن يمارسها. تتراجع الكاميرا في لحظة ما لتظهر عدة سجناء آخرين ينتظرون بالصف، يدفعهم شخص ما خارج إطار الصورة لينالوا النصيب نفسه من المعاملة، فيصدمهم الضابط بالحائط، ويضربهم ضربة خاطفة على مؤخرة أعناقهم بضع مرات، ولا يلبث أن يجلب عصا مطاطية لا تظهر ضرباتها العنيفة المتقطعة بالصورة، ويتبع صوتها صوت أنات ضحايا آخرين ندرك حينها أننا كنا نسمع أناتهم طيلة المشهد. يعيد هذا إلى الضابط شعوره بالإثارة لوقت قصير وهو يهبط بقوة بالعصا على فخذي السجينين الأولين، لكنه بعدئذ يشعر بالسأم ولا يهديه تفكيره إلى شيء آخر يمكنه فعله، من ثم يلتفت إلى الكاميرا بابتسامة عريضة على وجهه الوسيم ثم يبسط يديه وكأنه يقول: «وهكذا نتعامل مع أعداء الدولة»، وينتهي المشهد.
تقود دقيقتان وثلاث وثلاثون ثانية فقط هي مدة هذا المشهد إلى شعور المشاهد بالملل، حتى إنني راودتني رغبة في إنهاء عرضه. لم يكن هذا لأنني لم أستطع احتمال العنف الذي ينطوي عليه بقدر ما كان - مع الأسف - لتوقعي سلوكا أكثر فضحا من هذا العبث المتكرر الذي لا يجدي. ومن هنا أدركت أن مشاعري تلك قد تكون مفتاحا لفهم كنه مشكلة التعذيب في مصر التي تتبدى على سبيل المثال في قضية الفتى الصغير محمد، الذي سببت لي مشاهدة التسجيل الخاص به كوابيس بعد أن قرأت أنه توفي. ظللت أتساءل لم لم يودعه الإخوان المسلمون أفضل مستشفياتهم حيث كانت ستسنح له على الأقل فرصة للنجاة؟ ولكي يصعق رجال الشرطة - مهما بلغت وحشيتهم - طفلا في الثالثة عشرة من العمر ويصيبونه بحروق ويغتصبونه لسرقة عبوة شاي، فلا بد أنهم قد أصابهم الملل الشديد من الاعتداء الروتيني والعنف الذي يكيلونه لضحاياهم الناضجين الذين ارتكبوا مخالفات قانونية أكبر. وهذا يدل بلا شك على أن التعذيب مستوطن في مصر منذ زمن طويل، وسط ثقافة لا تعاقب عليه يدعمها قانون الطوارئ، وهو راسخ بقوة إلى حد أنه أصبح منفصلا تماما عن غاية تنفيذ القانون، التي ربما كانت غايته الأصلية في وقت من الأوقات، ليصبح هو في حد ذاته غاية. وفي هذا المناخ الخطير، إلقاء اللوم على النظام ليس شائعا، فالسبب الرئيسي للتعذيب في مصر بالطبع هو ترهيب عامة الشعب المقهورين أكثر. غير أن الدراسات التي تتناول القتل الجماعي على سبيل المثال تظهر مرة بعد أخرى أن الشرفاء تماما قد يتحولون إلى قتلة إن أتاح لهم النظام بيئة بلا عقاب وأنهم يصبحون أجرأ فأجرأ في القتل كلما طال تمكينهم من ذلك. وهذا بالضبط ما فعله النظام المصري في مسألة التعذيب.
بلغت ميزانية مصر للحفاظ على الأمن الداخلي في عام 2006 مليارا ونصف المليار دولار، وهو مبلغ يفوق حجمه حجم ميزانيتها القومية للرعاية الصحية، ويقدر أن هناك نحو 1,4 مليون فرد أمن تقريبا يشكلون طاقما يبلغ حجمه تقريبا أربعة أضعاف حجم الجيش المصري. وقد أنفقت مصر - وفقا لصفحة رأي كتبها سعد الدين إبراهيم في صحيفة واشنطن بوست بعنوان «القمع غير المحدود في مصر» - 1,5 مليار دولار على الأمن الداخلي في عام 2006 وهو مبلغ يفوق ما أنفقته على الرعاية الصحية. كتب سعد الدين إبراهيم أيضا أن الجيش المصري لا يمثل حجمه إلا ربع حجم قوات الأمن الداخلي التي تضم 1,4 مليون فرد، وأن منظمة حقوق الإنسان المصرية كشفت أنه «في الوقت الذي تضاعف فيه تعداد سكان مصر في الأعوام الخمسة والعشرين الأولى من عهد نظام مبارك، تزايد عدد السجون ليصل إلى أكثر من أربعة أضعافه، ووصل عدد المحتجزين أكثر من عام بلا تهمة إلى أكثر من عشرين ألف سجين.» لقد أصبحت مصر، كما قال الثوري إبراهيم عيسى مدير تحرير جريدة الدستور المعارضة: «دولة بوليسية بامتياز.» وفي الفترة التي انخرطت فيها الصحافة المصرية في تحليل الأوضاع المصرية في أعقاب وفاة الصغير محمد، أشار آخرون إلى أن النظام المصري في جوهره معتل. قال أحمد حجازي من منظمة حقوق الإنسان العربية بالقاهرة لصحيفة الأهرام الأسبوعية إن المشكلة تبدأ من تدريب صغار الطلاب الملتحقين بجهاز الشرطة؛ وأردف: «يتسم جزء كبير من التدريب بأنه ذو طابع عسكري، ويكون التركيز على بناء القوة البدنية.» وأضاف أيضا أن عمل الشرطة الحقيقي لا يدرس تقريبا، والأساليب التي تدرس تكون في العادة عتيقة، من ثم لا يلبث ضباط الشرطة أن يتعلموا أن الضغط البدني على السجين قد يحقق نتائج أسرع من الاستجواب السليم، ويفطنون من مجموعة من القضايا واسعة الشهرة أنه من المستبعد أن تؤدي وفاة السجين في فترة اعتقاله إلى أي تداعيات. وبما أن قبضة مبارك على السلطة تضعف، فقد يبرر هذا إضافة أي أسباب ربما لم تكن موجودة من قبل لتبني إجراءات أكثر صرامة تجاه التهديدات التي يواجهها النظام، أو - وهو الأرجح - محاولة ترهيب الشعب المصري بنماذج لا تنفك تزداد وحشية. لكن كما هي الحال مع التقارير الصحفية التي تزعم أن عدد الوفيات من التدخين «يتزايد»، يصعب تبين ما إن كان تزايد وحشية الشرطة مرده ببساطة إلى نمو الوعي بوحشيتها أم اتساع تغطية نماذجها. يقع اللوم بالأساس على الرئيس عبد الناصر بقدر ما يقع عليه في كثير من السوء الذي أصاب مصر، بما أنه أسس مراكز تعذيب تعرف رسميا بالسجون تتسم بطابع شديد الوحشية إلى حد أن سجناءها الذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف كانوا يشيرون إليها باسم «معسكرات الاعتقال». •••
إن وقفنا على تحقيقات مذبحة بني مزار الشهيرة التي وقعت في ديسمبر/كانون الأول عام 2005، فسنجد أن العمل الشرطي السليم قد اندثر تماما منذ زمن بعيد، فلا تزال مهزلة جمع وضرب العدد المعتاد من المشتبه بهم خيارا متاحا سهلا. وفي قضية بني مزار التي احتلت الصفحات الأولى للجرائد شهورا، ذبح ذبحا شعائريا أربعة رجال وامرأتان وأربعة أطفال في 29 من ديسمبر/كانون الأول عام 2005 في بلدة بني مزار التي تقع على بعد 225 كيلومترا جنوب القاهرة. ووفقا لوصف صحيفة ديلي نيوز إيجيبت، عندما اكتشفت جثث الضحايا كانت قد أصبحت متيبسة. تشير بقع الدم الذي سال منها إلى أنها نزفت حتى الموت، وبها إصابات على الرءوس والرقاب، وكانت بطونها مبقورة. الذكور من الرجال والأطفال بترت أعضاؤهم التناسلية، أما النساء فشقت بطونهن وصولا إلى أعلى المستقيم. بعض الضحايا كانت بأيديهم جروح من أثر الدفاع عن أنفسهم، لكن الشرطة ارتأت أن من تغلب على الضحايا العشر كان جارا مختلا عقليا وحيدا عملاق الجسم ذكاؤه أقل من المتوسط، يدعى محمد علي، يبدو أنه سبب إزعاجا على سقف بيت تلك الأسرة ذات مرة، لكن لم يبد عليه أي علامة على الإطلاق تشير إلى أنه مريض نفسي. وكانت المرة الوحيدة التي اهتاج فيها تحت ملاحظة نفسية مستقلة هي عندما أخبر بأن الشرطة ستسأله المزيد من الأسئلة. غير أن الأمور لم تسر حسب ما خططت النيابة هذه المرة؛ بل سلطت محاكمة محمد علي في يوليو/تموز عام 2006 الضوء على افتقار الشرطة تماما للكفاءة في تلفيقها التهمة لمحمد علي، على نحو بدا أقرب إلى نسخة للكبار فقط من سلسلة أفلام كيستون كوبز الكوميدية الساخرة منه إلى مؤامرة تستحق أن يطلق عليها هذا الاسم.
على سبيل المثال: بالرغم من أهمية القضية لم تستدع الشرطة خبير رفع بصمات إلى مسرح الجريمة، زاعمة في المحكمة أن الطوب اللبن بالمبنى الذي قتلت فيه الضحايا لم تكن لتظهر عليه أي بصمات بأي حال، ثم زعمت الشرطة أن محمد علي قادها إلى الموقع الذي خبأ فيه الأجزاء المبتورة من جثث ضحاياه الذي قصده قبل أن يذهب إلى بيته؛ ناسيا أن يغسل الجلباب الذي ارتداه أثناء قتل الضحايا، والذي لم تظهر عليه الكثير من الدماء على حد قول الخبراء الذين استدعاهم الدفاع، وهو ما يتناقض مع ذبح دستة تقريبا من الأشخاص. وكانت أعضاء الضحايا التناسلية في الموضع الذي ذكر محمد علي أنها ستكون فيه، وهو ما يشير إلى أنه دسها هناك متبعا تعليمات الشرطة. وأضاف محاميو الدفاع أن الجريمة وفقا لتقرير وكيل النيابة لم يعد محمد تمثيلها - وهو الإجراء المعتاد - بل مثلها شخص آخر لأن محمد كان «متعبا». كما طلب أيضا من محمد علي في المحكمة تجريب مقاس حذاء أودع بين الأدلة وزعم أنه عثر عليه في منزله وربط بينه وبين الجريمة فيما بعد، فلما فعل ذلك لم يناسبه الحذاء. وبعد ثلاث محاولات لارتداء الحذاء، فحص الحذاء الذي ارتداه بالمحكمة؛ فكان مقاس الحذاء الذي ارتداه خمسة وأربعين، غير أن مقاس الحذاء الذي عرض دليلا كان اثنين وأربعين. لكن في اليوم التالي، وعندما استدعي خبير، أصبح الحذاء بأعجوبة يناسب مقاس قدم محمد علي. غير أن القضية اشتملت على ثغرات أخرى من بينها التقارير الجنائية وشهادات الشهود المتناقضة، التي أبرزها فريق الدفاع عن محمد علي بقيادة عضو البرلمان عن إحدى دوائر محافظة المنوفية طلعت السادات، الذي لعب دورا محوريا في إعادة النظر في القضية بواسطة أكاديميين مستقلين. ذكر السادات أن الشرطة» اهتمت فقط بسد الخانات بدلا من إجراء تحقيق حقيقي». وكانت كل هذه الأدلة أكثر من أن يحتملها القضاء، وإن كان كالقضاء المصري، فبرأت المحكمة محمد علي من الاتهامات كافة.
Page inconnue