أخذت أطمئن نفسي بأن هذا احتمال عجيب وغير وارد، فالمصريون - بالرغم من ظروفهم الاجتماعية الصعبة - يقيمون وزنا كبيرا للخصال الشخصية كالأمانة والجدارة بالثقة، وحتى غير الأسوياء سيحاولون إبعاد الشبهة عنهم عندما يخططون لاقتراف أمر ما للحفاظ على سمعتهم في المجتمع. لكن عباس أخبرني بأنه سيعود على الفور، وبما أن هاتفه الخلوي كان مغلقا ما كان من مخاوفي إلا أن زادت. تفقدت شقتي، فوجدت أن ملابسه لا تزال مكومة تحت فراشه، لكن لم سيحتاج إلى ملابسه إن كان قد سرق ملابسي؟ لذا قررت أن أقصد مغسلة الملابس.
لدى محمد - وهو صبي يعمل بالمغسلة - أجوبة لكل شيء، أخبرني الصبي أن عباس أودع بالفعل الملابس لدى المغسلة، وستصبح الملابس جاهزة صباح اليوم التالي. بعدها استطرد الصبي قائلا إن عباس بعد أن غادر ناداه ضابط شرطة وطلب منه أن يريه بطاقة هويته. وبعد أن ألقى الضابط نظرة سريعة عليها، طلب من عباس أن يصعد إلى ظهر شاحنة الشرطة، ولم يمض وقت طويل قبل أن تمضي به الشاحنة مع عدد من تعساء الحظ الآخرين إلى قسم الشرطة المحلي على الأرجح. حكى الصبي كل ذلك وهو يدخن سيجارة بلا مبالاة وكأن ما حدث أمر طبيعي إلى أقصى حد.
سألته: «لكن ما الذي اقترفه؟»
فسأل الصبي بدوره مستنكرا: «ما الذي فعله؟» قال هذا وعيناه تدوران في دهشة وكأنه يقول: أنت لا تحتاج إلى (فعل) شيء في هذا البلد ليأخذك رجال الشرطة.
اتصلت بأحد معارفي يدعى موسى، كان أخوه ضابط شرطة متوسط المستوى، فشرحت له ما حدث. كان باستطاعتي أن أطلب منه أن يسديني معروفا لقاء معروف كنت قد صنعته له؛ إذ منحته في حفل زفافه قبل بضعة أشهر مبلغا كبيرا من المال مهنئا إياه، ظنا مني أن هذا استثمار جيد في بلد بإمكانك أن تتخلص فيه من المآزق كافة بالمحسوبية. طلب مني موسى أن أرتدي قميصا وربطة عنق أنيقة وأن ألقاه بعد نصف ساعة عند أقرب قسم شرطة للمكان الذي اعتقل فيه عباس، وأضاف موسى أن بشرتي البيضاء وهيئتي الرسمية تفيان لربح نصف معركة إطلاق سراح عباس، أما النصف الآخر فيربح بحمل بعض من النقود تحسبا لتوزيع الكثير منها كبقشيش، ثم سألني قبل أن ينهي معي المكالمة الهاتفية عن اسم عباس بالكامل ورقم بطاقة تحقيق الشخصية الخاصة به، فاعترفت بأن كل ما أعرفه عنه هو أن اسمه عباس وبأنه من مدينة أسوان من الأصل . فتمتم قائلا إن هذه المعلومات تفي بالغرض؛ فمن المستبعد أن تلقي الشرطة القبض على أكثر من شخص بهذا الاسم من مدينة أسوان الجنوبية في نفس الحي القاهري.
كان موسى بانتظاري خارج قسم الشرطة، وكان قد حصل بالفعل على معلومات تفيد بأن شاحنة قد وصلت إلى القسم قبل نصف ساعة محملة ب«مجرمين» يجري استجوابهم داخل القسم. قال لي بهدوء: «أعطني عشرين جنيها» - وهو ما يعادل مبلغا يربو قليلا عن الثلاث دولارات - ثم سار إلى حارس يرتدي زي الشرطة عند مدخل القسم، وصافح يده ليعطيه رشوة أخفاها في كفه خلسة ثم همس للشرطي بشيء في أذنه، ثم أشار إلي أن أتبعه إلى داخل القسم. قادتنا سلسلة من الدرجات يسارا إلى طابق أعلى، وقفنا حيث ثلاثة رجال شرطة آخرين، فأخذ موسى مني حفنة أخرى من النقود ثم عرف نفسه لرجال الشرطة بأنه أخ لضابط، فسمح له من جديد بالمرور. وأعلى الدرج سمح لنا إعطاء المزيد من البقشيش بدخول مكتب قذر لضابط أعلى رتبة، خاض معه موسى محادثة أثناء انتظاري بالخارج. ولما عاد طلب مني أن أعطيه كل ما أحمله من مال (أربعون دولارا)، ورأى أنه من الأفضل أن أعود إلى الشارع. وبعد عشر دقائق خرج عباس من قسم الشرطة، وكان موسى معه يحيط كتفه بذراعه. حياني عباس بالقبلات والأحضان، وطلبنا أول سيارة أجرة هرعت بنا إلى شقتي بعد أن أكدت لموسى أنني سوف ألقاه «فيما بعد» لأقدم له - كما يفترض أن يفهم - شكري على معروفه. كنت سأدفع له في التو واللحظة، لكن لم يتبق معي من المال الذي أحضرته سوى عشرة جنيهات ممزقة احتجتها من أجل دفع أجرة سيارة الأجرة.
سألت عباسا عندما عدنا إلى شقتي: «لماذا ألقوا القبض عليك؟»
فأجابني: «هذا هو ما يفعلونه دائما، إنهم يعملون وفق نظام حصة، فيلقون القبض على عشرين أو ثلاثين رجلا من الشارع كل يوم ثم يفتشونهم داخل القسم بحثا عن مخدرات أو أي شيء غير قانوني، فإن لم يكن بحوزتك شيء من هذا القبيل ، فستنتظرهم إلى أن يتحروا من ملفك على أجهزة الكمبيوتر، ليروا هل صدرت بحقك أي مذكرات اعتقال معلقة، وإن لم يجدوا، أطلقوا سراحك.»
فهل كانوا سيطلقون سراحه على أي حال إن تركته هناك وحسب؟
فشرح لي عباس الأمر قائلا: «قد يستغرق الأمر يوما أو اثنين، لا يسمح لك فيهما بالاتصال بأي شخص لإعلامه بمكانك أو ما يحدث لك، ويزج بك في غرفة صغيرة مع الكثيرين. ويسعد ضابط الشرطة إن حالفه الحظ باعتقال شخصين أو ثلاثة من العشرات الذين يحضرهم، وعندها يستطيع أن يخبر رئيسه في العمل أنه أوفى بحصة المجرمين المطلوب منه اعتقالهم.»
Page inconnue