لكن هذه التغيرات الواسعة والعميقة، ليست مما يبدأ وينتهي في ثلاثة عقود من السنين أو أربعة، بل لا بد لها من أمد طويل لكي تتسرب مضموناتها الجديدة إلى ملايين القلوب والعقول؛ ولهذا كان من الطبيعي - لنا ولغيرنا من شعوب الدنيا - أن نعبر هذه الفترة في خطوات متعثرة مترددة، ننشد هدفا لم تتضح كل معالمه! ومع ذلك فمن الطبيعي كذلك، أن خطأ الإنسان في نقل أقدامه على هذه الأرض الملفوفة بالضباب، لا بد أن يقل شيئا فشيئا، وأن صوابه يزداد تبعا لذلك شيئا فشيئا، كلما اقترب من هدفه الجديد، وتبينت معالمه أمام عينيه.
وفي هذا الكتاب لمحات كتبها كاتبها مستنيرا بمنطق عقله، مهتديا بنبض قلبه، مخلصا لنفسه ولوطنه ولأمته؛ والكتاب أربعة أقسام؛ في أولها وقفات عند مواطن القصور في حياتنا؛ وفي ثانيها تلمس لمنافذ الضياء المبشر باقتراب الفجر، وفي ثالثها تشوف لما يمكن أن يتحقق لنا في ساعات الضحى، وأما ختامها فهو خاص بمصر، يحاول تحليل المرحلة الحاضرة من حياتها، التي يمكن وصفها بأنها فترة تضارب فيها الرأي، وتعدد الهدف، وتناقض المذهب، وغمض الاتجاه، فكأنما هي تبحث عن ذاتها وسط أنقاض التاريخ، مهتدية في بحثها بمفتاح شخصيتها الأصيلة العريقة، وما ذلك المفتاح إلا أن يعود المصري فيكون - كما كان دائما - عاملا عابدا.
وبالله التوفيق.
زكي نجيب محمود
القسم الأول
فلول الظلام
جذور التصدع
استبدت في الرغبة منذ حين ليس بقصير، في أن أعرض على الناس صورة تصورتها عن الحياة الفكرية كما نحياها اليوم، لكنني أخذت أقدم يدا وأؤخر يدا، لا لأنني لم أكن على ما يشبه اليقين فيما تصورته، بل لأنني خشيت أشواك الطريق، وهي أشواك تأتي من صعوبة الموضوع وغرابته من جهة، ومن عسر معالجته على نحو يجد طريقه إلى عقول القارئين من جهة أخرى. ثم أراد لي الله خيرا، فساق إلي طالبا في إحدى الكليات العلمية، يكثر من القراءة ويحسنها، وهو طراز نادر بين طلابنا، جاءني ليسألني: هل يمكنه أن يتلقى عني شيئا يفهم به فهما واضحا ماذا يراد بالفلسفة؟ وماذا يقرأ ليرتاد ذلك العالم المجهول؟
أجبت الطالب بقولي: لا، لن أقدم لك ما تريده جاهزا على طبق من فضة، بل سأعرض عليك موضوعا يمس حياتنا الثقافية والفكرية في الصميم، وسنحاول تحليله معا، وفهمه معا، تعاونني وأعاونك، حتى إذا ما انتهينا معا إلى نتيجة ترضينا، فعندئذ فقط سأجيب لك عما جئتني لتستوضحه. فقال الشاب في فرحة وثقة بنفسه: لك علي ذلك. قلت: إذن فلنبدأ من فورنا، والخطوة الأولى في الموضوع، هي أن نحاول معا الإجابة عن هذا السؤال الآتي: افرض أن حياتنا اليومية العملية قد قذفت أمامنا بمشكلة يراد لها أن تحل حلا حاسما وسريعا، ولتكن - مثلا - مشكلة «النسل» وضرورة ضبطه، أو «تنظيمه»، ثم طرحت المسألة على أصحاب الرأي ليدلوا بآرائهم في حل المشكلة، وهي كما ترى مشكلة قومية، فتعال معي نحصر «أنواع» الآراء التي يمكن أن يعرضها أصحاب الرأي هؤلاء.
قال الفتى: ماذا تعني ب «أنواع» الآراء؟ قلت: أعني الاتجاهات المختلفة التي يمكن أن يتجه إليها المشاركون بالرأي. فأنا أريد لك أن تتبين الفرق بين اختلافات في الرأي تأتي من الزاوية الواحدة، واختلافات أخرى تأتي بسبب أن زوايا النظر قد تباينت، فمثلا قد ترى رجلين يتفقان على ضرورة تحديد النسل، لكنهما بعد ذلك يختلفان كيف يكون التحديد، وإلى أي حد يكون؟ ثم قد ترى رجلين آخرين لا يتفقان منذ البداية على المبدأ نفسه، إذ يقول أحدهما إن تحديد النسل لا بد منه، ويقول الآخر بأن مثل ذلك التحديد باطل من أساسه ولا يجوز الأخذ به، فكلا الموقفين: موقف الاختلاف بين الرجلين في الحالة الأولى، وموقف الاختلاف بين الرجلين في الحالة الثانية، أقول إن الموقفين كليهما يظهران اختلاف الرأي، لكن «نوعه» في الحالة الأولى لا يشبه «نوعه» في الحالة الثانية، إذ هو في الحالة الأولى اختلاف في ظل مبدأ مشترك، وأما في الحالة الثانية فلكل من الرجلين مبدأ يختلف به عن مبدأ الثاني.
Page inconnue