وهذه «القدرة» المحكمة في حساب دقائقها ونتائجها، تكون كذلك صفة للإنسان، ولكن بدرجات متفاوتة في ضبط الحساب، وليست هذه عند الإنسان كما هي عند الله سبحانه، من إحاطة لا تغيب عنها صغيرة أو كبيرة؛ ومع ذلك فالإنسان مطالب بحكم عقيدته الدينية وإيمانه بالله «القادر» مطالب بأن يكون قادرا ما استطاع أن يكون.
وهنا يأتي الحديث عن صفة «الإرادة» فالله - جل وعلا - مريد بإرادة مطلقة لا تقيدها قيود، وأما الإنسان فهو كذلك مريد، ولكن إرادته تحدها حدود وتقيدها قيود.
والموصوف بالإرادة يكون مختارا فيما يفعله، غير مضطر إليه؛ إذ من لا اختيار له في فعله فهو مضطر؛ ونحن إذا قلنا «إرادة» فكأننا قلنا في الوقت نفسه إن للمريد «قصدا» يريد أن يتحقق؛ ومن هنا كانت إرادة المريد دائما اختيارا لقصد معين وحذفا لنقيضه أو لضده، وهنا يأتي الفرق بين القدرة والإرادة؛ فالقدرة مستطيعة فعل هذا الضد أو ذاك، ومستطيعة في هذه اللحظة من الزمان أو في تلك، وأما الإرادة فهي التي تختار بين الممكنات المتاحة أحدها، وتختار بين الأوقات لحظة بعينها، هذا يكون بصورة مطلقة عند الله سبحانه، ويكون بصورة منقوصة ونسبية عند الإنسان.
إننا في حدود الصفات الأربع التي عرضناها لو سئلنا: بأي هدف نربي الناشئ ونعلمه ونثقفه؟ لكان الجواب: الهدف هو أن نخرج من ذلك الناشئ إنسانا تسري في عروقه حياة، بمعنى أن يكون «فعالا دراكا» (بلغة الغزالي) ويكون ذا علم بما يحيط به ما أسعفته في ذلك ملكاته، وذا قدرة بما تتضمنه القدرة من حسن التقدير، وصاحب إرادة تعرف كيف تختار من الممكنات المتاحة لتتجه إليه بعزيمتها ... وكنا نستطيع أن نمضي بحديثنا حتى آخر الصفات المتمثلة في أسماء الله الحسنى.
لكننا لا بد أن نذكر في ختام الحديث أن من أسماء الله - سبحانه وتعالى - أنه «واحد» بمعنى أنه لا يتعدد، و«أحد» بمعنى أنه لا يتجزأ ولا ينقسم على نفسه، فإذا انعكست هاتان الصفتان على الإنسان ، محدودتين منقوصتين، كان الإنسان مطالبا بأن يكون موحد الشخصية: عقلا، ووجدانا، وسلوكا. إن رسالة الإسلام هي التوحيد، وإذن فبالنسبة للإنسان يكون التوحيد في بنيان كيانه أساسا وهدفا، فما يتجه إليه بقلبه ومشاعره يجب أن يكون مسايرا لما يراه بعقله كذلك، ومنسئلا في فعله، وأحسب أننا لو أمعنا النظر في واقع أفرادنا، لوجدنا شيئا آخر غير ذلك الكيان الموحد المنشود؛ إذ ما أيسر علينا أن نلبس عدة وجوه، لنقابل كل موقف من مواقف الحياة بوجه يناسبه، ثم نسمي هذا الضعف والتمزق لباقة وكياسة و«دردحة».
ألا إن الأخذ من هذا المعين الغني الغزير الفياض، ليطول بنا ما اتسع أمامنا الوقت والجهد، على أننا مهما اغترفنا منه هداية لحياتنا، فسوف نكون على يقين من الصواب، بفضل تلك البينات من الهدى.
من خصائص الفكر العربي
1
إذا تحدثنا عن الفكر العربي وخصائصه، فينبغي أن يكون واضحا منذ البداية أن تمايز الأمم في اتجاهاتها الفكرية لا يتضمن إنكارا للتجانس بين أفراد البشر جميعا في فطرة العقل، فالعقل لا اختلاف في طبيعته بين إنسان وإنسان، لكن هذا التجانس إنما هو في بنية العقل وإطار فاعليته، ولا شأن له بالمضمون الفكري الذي يملأ تلك البنية وهذا الإطار، ونقصد ببنية العقل وإطاره تلك القوانين الفطرية التي يعمل العقل على أسسها، وهي القوانين التي حددها أرسطو في ثلاثة: أولها قانون الهوية، الذي بواسطته يستطيع العقل أن يدرك بأن شيئا معينا يراه الإنسان الآن، هو نفسه الشيء الذي رآه بالأمس؛ وعلى قانون الهوية هذا يقوم علم الرياضة وتقوم علوم أخرى ومعارف لا حصر لها في حصيلة الإنسان، والقانون الثاني هو أن النقيضين ليس بينهما وسط، فالشيء المعين إما أن يكون هذا النقيض أو ذاك؛ لأنه لا ثالث بين هذين البديلين، كأن نقول عن اللون إنه إما أن يكون أبيض، وإما أن يكون لا أبيض، وهنا نلفت النظر إلى الفرق بين التناقض والتضاد، فأبيض ولا أبيض نقيضان ليس بينهما وسط، وأما أبيض وأسود فضدان، وقد يكون بينهما وسط هو اللون الرمادي ، والقانون الثالث هو عدم التناقض، بمعنى استحالة أن يجتمع نقيضان معا في شيء واحد وفي لحظة واحدة.
تلك هي القوانين الثلاثة التي على أساسها يعمل العقل البشري، وهو متضمنة في العمليات الفكرية التي ينشط بها العقل على تنوعها واختلافها، وهي التي لا ينفرد بها عقل بشري دون سائر العقول، وأما المضمونات التي هي من تلك العمليات الفكرية بمثابة اللحمة والسدى من قطعة النسيج، فهي التي تختلف من فرد إلى فرد، وتختلف بالتالي باختلاف الشعوب؛ والأمر في هذا شبيه بقولنا إن أنوال الغزل والنسج واحدة عند البشر جميعا، لكن المادة المغزولة المنسوجة هي التي تختلف من شعب إلى شعب، فواحد يغزل الصوف وينسجه، والآخر يغزل القطن وينسجه، وأما الأنوال فهي واحدة في الحالتين، وهكذا الحال في تجانس العقل بين الناس، ثم في اختلاف المضمون الفكري وتنوعه، ولولا ذلك الاختلاف والتنوع في المضمون الفكري، لما استطعنا أن نميز الخطوط الفكرية عند أمة كالأمة العربية، من تلك الخطوط عند أمة أخرى، كالفرنسية أو الهندية.
Page inconnue