هذا الكوكب الأرضي بيتنا، وذلك الكون الفسيح من حولنا كتابه مفتوح الصفحات أمام أبصارنا، ولنا في بيتنا حق العيش كما نريد لأنفسنا أن نعيش، شريطة أن نحمل تبعات ما أردناه، أمام ضمائرنا وبين يدي الخالق جل وعلا، يوم الحساب، ثم علينا أن نقرأ حقائق الكون في صفحاته المفتوحة، ما وسعتنا القدرة، وما أسعفتنا الحيلة؛ وذلك لأن الحقائق لم تفصح عن نفسها في تلك الصفحات، بل لجأت إلى الرمز والإيماء، وتركت للناس أن يقرءوها كما يحلو لهم أن يقرءوا، وبالطريقة التي يطيب لهم أن يسلكوها، ولو كان المسطور في كتاب الكون معلنا في وضوح صريح، لما اختلفت العصور المتعاقبة في قراءته، لكنها اختلفت.
سار الإنسان على طريق الحياة، يطوي طريقه مرحلة بعد مرحلة، بدأه صيادا لطعامه، ثم كان راعيا يتنقل مع قطعانه إلى حيث المرعى، ثم أصبح زارعا مستقرا عند زراعته، ثم أمسى صانعا يشكل مواد الأرض على أي صورة يشاء، وكانت حقائق الكون معروضة أمامه على طول الطريق بمختلف مراحله، ولكن كانت له في كل مرحلة طريقة يقرأ بها ما يراه ويسمعه، فلم يكن إدراك صياد المرحلة الأولى، ليدرك الكائنات كما أدركها من بعده الراعي، ولا كان متاحا للراعي أن يرى رؤية الزارع، ولا اقتضت ضرورات الزراعة من فلاح الأرض كل ما أصبحت ظروف الصناعة تقتضيه من إنسان الصناعة في يومنا الراهن، وإذا شئت فقل: إن هذا الكون قصيدة كبرى، تنشدها العصور واحدا بعد واحد، فيكون لكل عصر تأويله لما يقرؤه، وللشعر قابلية التأويل على أوجه ليس لها نهاية، كان لكل مرحلة قيسها وليلاها، وكان قيس في كل مرحلة يغني بما تطرب له ليلاه.
نعم، قد تداخلت تلك المراحل بعضها في بعض، فصياد الحيوان في المرحلة الأولى عرف كيف «يصنع » لنفسه من الحجر سكينا، كما أن في عصر الصناعة هذا لا يخلو الأمر من صيد ، لكن الحكم على العصور إنما يكون على أساس الغلبة والروح السائدة، وعصرنا - بغير شك - عصر صناعة وعلوم، ولكن بطريقته الخاصة في صناعاته وعلومه، كان له أبجدية يفكر بها غير أبجديات العصور السابقة، فهل علينا من حرج إذا دعونا من لم يتعلم تلك الأبجدية الجديدة منا، أن يتعلمها عسى أن يفتح عليه الله فيدخل عصره من أوسع أبوابه، بعد أن كان خارج الأسوار مقعدا، يقنع بالأصداء الغامضة تأتيه من ثقوب تلك الأبواب؟
مأساتنا هي أننا لا نكاد نحيا في عصرنا إلا بجسومنا، وأما عقولنا فمتلكئة هناك مع أهل عصور ذهبت وذهب زمانها، نعيش في عصرنا بأشباحنا وأما أرواحنا فهائمة هناك في أرض غير أرض زماننا، وتحت سماء ليست هي السماء التي تظل زماننا، إننا بالنسبة إلى عصرنا نعيش خارج أسواره، وحتى إذا أراد لنا الله عزيمة للدخول، أمسكنا بأيدينا المفتاح المغلوط الذي لا تنفتح به الأبواب، تلك هي مأساتنا، وأما مأساة المأساة فهي أننا لا نشعر ببرودة الغربة، ولا نحس لسعة الحرمان.
فهل تريد أن تعرف ماذا هناك داخل الأسوار وخلف الأبواب؟ اسمع يا سيدي - إذن - وصفا أمينا، أستعين فيه بما رواه أولئك الذين يعلمون عن العصر وروحه واتجاهه ولفتاته ما لا علم لنا به، ولكن قبل أن أسوق إليك ما أريد لك أن تعرفه، أراه لزاما علي أن أسبق السياق لأقول إنه لا ينبغي لنا أن نأخذ عن الآخرين أخذ القردة حين يحاكون ما يرونه حركة حركة، بل إن العصر كما يعرفه صانعوه من أهل الغرب، تنقصه جوانب لا بد من إضافتها إليه، لكي يجيء الإنسان إنسانا سويا، ومن حسن الحظ أن تلك الجوانب المراد إضافتها إلى إنسان العصر، لينجو مما أصابه من تمزق وقلق ويأس وميل إلى العنف والشر، هي هي نفسها البضاعة التي بين أيدينا نحن أبناء الثقافة العربية كما ورثناها، ومن عجب أن ثقافتنا العربية هذه، لم تعد تصلح وحدها لمن أراد أن يعيش في هذا العصر بظروفه المستحدثة من علوم وصناعات، وكذلك ثقافة العصر كما تسود الغرب في يومنا، لا تصلح وحدها إذا أراد الإنسان أن يحيا حياته سليم النفس متفائلا، وسأذكر تلك الجوانب التي أعنيها، بعد أن أعرض الموجز الذي سوف أعرضه وصفا لروح العصر وجوهره.
فهنالك دعامتان أساسيتان، يقوم عليهما بنيان الحياة في عصرنا هذا، الأولى هي العلوم بصورتها التقنية الجديدة (وسأتناولها بشيء من الشرح والتوضيح)، والثانية هي أن تقام الأخلاق، وأعني معايير السلوك في تعامل الناس بعضهم مع بعض، على ما ينتج عنها من منفعة، لا للفرد الواحد، بل للصالح العام (وسأتناول هذا الجانب أيضا بالإيضاح)، هاتان هما الدعامتان الأساسيتان في بنيان الحياة العصرية، ونظرة واحدة إلى حياتنا - وحياة الأمة العربية في جملتها - تكفي لنتبين منها أننا لا نحن نفكر بالمنهج الذي من شأنه أن ينتج علوما من النوع الذي يتميز به عصرنا، ولا نحن نسلك في حياتنا العملية مسالك من شأنها مراعاة المصلحة العامة.
ولنبدأ بشرح النقطة الأولى في إيجاز، فأقول: إن الحياة العملية في مراحل تاريخها، لم تنهج نهجا واحدا امتد بها ومعها طوال ذلك التاريخ، بل كان ذلك النهج يتغير كلما تغيرت طبيعة الموضوع الذي شغل به العلماء، كل مجموعة منهم في عصرها الخاص. نعم، إن ما هو حق من الناحية العلمية هو حق دائما، وإذا لم يكن كذلك، فإنما يكون أصحابه قد تساهلوا مع أنفسهم حين زعموا له الصواب على أساس علمي، لكن الذي حدث، والذي يحدث، وسيظل يحدث، هو أن الإنسان في عصر ما، حين يصب فكره العلمي على موضوع معين فإنه - بالطبع - لا يلم إلا برقعة ضيقة، هي رقعة الموضوع المعين الذي اختاره لبحثه، فهو لا يستوعب في لحظة واحدة كل ما يمكن أن يكون ذا صلة بعيدة بموضوع بحثه؛ ومن هنا نرى نتائجه العلمية تتعرض للقصور، عندما تأتي الأيام المقبلة بمشكلات تمس ذلك الموضوع الذي كان العلماء قد فرغوا منه في عصرهم، وعندئذ لا يتسع أبناء الزمن الجديد إلا أن يعيدوا النظر، لعلهم يجدون نتيجة علمية أوسع نطاقا في تطبيقها من النتيجة السابقة، بحيث تشمل النتيجة الجديدة ما كانت شملته سالفتها، ثم تشمل كذلك الجوانب الأخرى التي استحدثت مع مر الزمن، فأرسطو أيام اليونان القديمة، حين تحدث عن حركة الأجسام - مثلا - لم يكن قد شمل بنظرته تلك الجوانب التي شملتها نظرة جاليليو بالنسبة لحركة الأجسام، وأيضا لم تكن نظرة جاليليو - بدوره - قد شملت ما جاءت نظرة عصرنا الحالي لتشمله من حركة، إذا أضاف عصرنا إلى أسلافه، النظر في حركة الكهارب داخل الذرة الواحدة، وهكذا كان أرسطو مصيبا، ولكن في دائرة بحثه، ثم كان جاليليو مصيبا أيضا، ولكن في دائرة بحثه، وجاءت نظرة عصرنا لتصيب في دائرة أوسع وأشمل، ومن يدري ماذا تكون نظرة الغد إلى الموضوع نفسه، حين تظهر ظواهر توجب على العلماء أن يوسعوا رقعة النظر من جديد على أن العلم كلما وسع من مجال النظر، ليجيء بفكرة علمية جديدة، تشمل ما لم تشمله الأفكار العلمية السابقة، قد يضطر إلى انتهاج منهج جديد غير المنهج الذي كان أسلافه قد اصطنعوه في بحوثهم، حتى ليمكن القول - بصفة عامة ومبسطة - إن العلم قد استخدم في تاريخه ثلاثة مناهج، كل منهج منها جاء في عصره ليسد نقصا في المنهج الأسبق. ولاحظ بدقة أنني لا أقول إن منهجا ما كان «خطأ» في عصره وفي مجاله؛ بل أقول إنه «قصر» دون أن يشمل رقعة أوسع، وإذا أردت تشبيها موضحا، فقل إن الإنسان في رؤيته البصرية للأشياء، يستخدم عينيه المجردتين، ثم يتبين له أن عينيه لم تريا إلا في حدود معلومة، إذ قد يكون هناك خارج المجال البصري، ما هو أبعد من أن تراه العينان، وما هو أصغر من أن ترياه، فيستحدث نوعين من المناظير لتغطية أوجه النقص، نوعا منهما يقرب البعيد (التلسكوب) ونوعا آخر يكبر الصغير (الميكروسكوب) فيرى الإنسان ما لم يكن يراه، لكن هل يعني ذلك أن العين البشرية في مرحلتها الأولى قد «أخطأت» الرؤية؟ كلا، فقد رأت ما رأته رؤية صحيحة، لكنها لم تكن كافية، وهكذا شأن المناهج العلمية حين يكمل بعضها بعضا على تعاقب العصور.
أقول إن الإنسان قد عرف في مراحل تاريخه العلمي ثلاثة مناهج متعاقبة، أحدها صيغت نظريته وقواعده على أيدي اليونان الأقدمين، وهو الذي يطلق عليه اسم منهج «القياس» بمعنى أن الباحث فيه يستخلص نتيجة (لفظية) من مقدمات (لفظية كذلك)، وكان منهج القياس هذا هو الذي أخذه العرب السابقون وهم في عز نشاطهم العلمي، من علوم اللغة، إلى الفقه، إلى العلوم الطبيعية والرياضية، وهكذا لبثت السيادة المطلقة معقودة لمنطق القياس في مجالات النظر العلمي، طالما كان مدار العلم «كلاما» من نوع أو من آخر، وطالما كان المطلوب من العالم هو أن يستخرج كلاما من كلام، أعني أن يستخرج لفظا من لفظ آخر.
فلما جاءت المرحلة التي يسمونها ب «النهضة» الأوروبية، وكان ذلك في نحو القرن السادس عشر، وجد المشتغلون بالعلم أن الذي أصبح مطلوبا هو قراءة ظواهر الطبيعة قراءة مباشرة، لا أن يقرأ عنها في كتب الأولين، فأحسوا عندئذ بضرورة تقنين منهج علمي جديد، يقوم على أسس مختلفة عن الأسس التي كان منهج القياس يقوم عليها، ففي مكان المقدمات اللفظية التي كانت توضع في الصدارة، ليستخرج الباحثون مضموناتها، أصبح المطلوب هو «مشاهدة» ظواهر الكون ذاتها، بالعين أو بما يساعد العين من مناظير مقربة أو مكبرة، وبذلك ولد منهج علمي جديد، كان مداره هو الكشف عن مواضع الاقتران بين الظواهر، حتى إذا ما وجدت ظاهرتان مقترنتين دائما إحداهما بالأخرى، عد هذا الاقتران بينهما قانونا من قوانين الطبيعة، يستخدم في التنبؤ العلمي؛ لأنه إذا وقعت إحدى الظاهرتين؛ توقعنا حدوث ما يقترن بها.
ودار الزمان دورته، وجاء القرن التاسع عشر، فجاءت معه رؤية جديدة للكون وظواهره، كما جاءت معه «قدرة» جديدة، فأما الرؤية الجديدة فكان مؤداها أن كل شيء - جمادا أو حيوانا - إنما هو كائن ذو تاريخ، أي أن حقيقته كامنة في تسلسل ما طرأ عليه وما سوف يطرأ عليه من أحداث يتطور معها من حال إلى حال، وأما القدرة الجديدة، فهي اصطناع «الأجهزة» العلمية في إجراء البحوث العلمية، إذ لم يكن الإنسان قبل ذلك قد استخدم من هذه الأجهزة إلا القليل، بل الأقل من القليل، وماذا تصنع تلك الأجهزة؟ إنها تفعل ما تفعله الحواس الطبيعية في جسم الإنسان، ولكن بدقة أكثر، وبهذا العنصر الإضافي الجديد، دخل العلم في أكناف منهج جديد، وذلك هو أدق المعاني لكلمة «تكنولوجيا»؛ إذ هي كلمة تعني - حكما بمقطعيها اللذين تتكون منهما - «علم بواسطة الأجهزة». ثم حدث أن كان من نتائج العلم القائم على هذا المنهج، أن تمت صناعات آلية كثيرة، كالطائرة والسيارة والثلاجة وهلم جرا، فانتقل استخدام كلمة «تكنولوجيا» من كونها اسما للمنهج الجديد، إلى كونها أيضا اسما لمنتجات ذلك المنهج.
Page inconnue