إنها مكيافلية من طراز جديد، ومكيافلي - إذا أردت أن تتذكر - سياسي ومؤرخ إيطالي، عاش في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر، وقد ظفر بشهرته فيلسوفا سياسيا، بكتابه «الأمير» الذي ألفه وأهداه إلى أمير فلورنسة، وفيه يحلل العوامل التي لا بد من توافرها للأمير، إذا أراد الاحتفاظ لنفسه بالإمارة؛ ولقد كان محور التفكير في هذا الكتاب، هو أن الوسائل تبررها الغايات؛ فكل وسيلة تنتهي بك إلى تحقيق الغاية التي تنشدها، هي فعل مقبول، حتى لقد كان من أقواله في هذا المعنى، قوله: «إن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لا بد له في كثير من الأحيان، أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين.» ولهذا أصبحت كلمة «مكيافلية» تعني في الاستعمال الجاري، الوصول إلى الغاية بأي وسيلة تعين على الوصول، بغض النظر عن موقعها من موازين الأخلاق.
لكن المكيافلية الجديدة عندنا اليوم، والتي أشرت إليها منذ حين، تختلف قليلا عن النموذج الأول؛ فمن الإنصاف لمواطنينا أن نقول إنهم في سعيهم للوصول، يندر أن يخالفوا الذمة والمروءة والإنسانية والدين، إنهم في الحقيقة أخلاقيون إلى حد كبير، لكن الذي ينقصهم هو مشاركتهم الأنفار؛ فليس شرطا لملاحظ الأنفار في البناء أو في تفريغ السفن، أن يكون هو نفسه قادرا على أن يؤدي هذه أو تلك؛ وكذلك ملاحظو الأنفار في مجالات حياتنا اليومية، بكل أنواعها؛ قد يتربع على عروشها من ليس بالضرورة عليما بأسرارها؛ لكنه ملاحظ فقط، وهذا يكفل له - في مقاييسنا - أن تخلع عليه الصفات التي لا هي منه ولا هو منها، تماما كملاحظ الأنفار.
على أن أنصار المكيافلية الجديدة عندنا يلتقون في نقطة جوهرية مع المكيافلية في نموذجها الأول، وتلك النقطة هي ما أوصى بها مكيافلي أميره، بأن يحرص أشد الحرص على التظاهر بما ليس فيه، مما قد يكون له قوة الجذب عند الجماهير؛ فمثلا ليس من الضروري أن يكون رحيما رقيق القلب في حقيقته، فليعصف بالناس كما شاءت له نزواته ومصالحه الخاصة، شريطة أن يفعل ذلك وهو متستر بقناع من هو رحيم رقيق القلب؛ لأن هذه الصفة هي مما يجذب إليه الجمهور، وليكن في حقيقته بخيلا مقبوض اليد كيفما شاء، على شرط أن يبدو للناس كريما، وهكذا؛ وأظن أن أنصار المكيافلية الجديدة عندنا، لم يفتهم هذا الدرس المفيد؛ فملاحظ الأنفار إذا وجد أنفاره من العلماء، عرف كيف يظهر وكأنه أعلم العلماء؛ وإذا كان أنفاره من رجال الفن، أتقن الظهور بمظهر العليم بأسرار الفن وخفاياه.
قال صاحبي الذي كنت أتحدث معه بهذا كله: كأني بك قد جعلت ظاهرة التسلط، التي تستبد بنا، تظهر عند أصحابها في شكلين مختلفين: ففي المرحلة التي عشتها أنت في شبابك، كانت هي النمور الرابضة بين الضلوع، تنتهز الفرصة لتنقض على الفريسة، وفي هذه المرحلة الراهنة، أخذت شكل «ملاحظي الأنفار» الذين يستمدون مكانتهم من عمل غيرهم، فإذا كنت قد أحسنت فهمك، كانت مصيبتنا في هذه المرحلة أفدح؛ لأن النمور - كما قلت - يمكن تجويعها، وأما ملاحظ الأنفار، فكيف نتقيه؟ يا ليتك استطعت أن تستخدم طريقة التشبيه بالحيوان في هذه الحالة الثانية، كما استخدمتها في الحالة الأولى لعلنا نهتدي.
قلت: إذا استخدمت طريقة التشبيه بالحيوان، أحللت «الثعالب» محل «النمور»؛ فالتسلط هو التسلط في الحالتين، لكنه بينما كان افتراسا للضحايا عندما كانت الظروف السياسية والاجتماعية تسمح بذلك، نراه اليوم قد أصبح «دهاء»، وأما العلاج في هذه الحالة فقد نهتدي إليه من الطريقة التي كان يتبعها النبلاء في صيد الثعالب، وهي أن تصحبهم كلاب الصيد، التي تشم رائحة الثعلب وهو على بعد بعيد، فتتعقبه مهما بلغ خفاؤه في ظلمات الغابة، حتى تعود به قتيلا، وما دمنا قد ذكرنا الثعالب، فلا بد أن نذكر ما قاله المتنبي عن ثعالب مصر أثناء زيارته لمصر؛ إذ قال ما معناه: إن أعين الحراس في مصر قد غفلت عن ثعالبها، حتى امتلأت بطون تلك الثعالب بالعنب، ومع ذلك فكلما أتت الثعالب على العناقيد الموجودة، أثمرت لها الكروم عناقيد أخرى، وهكذا دواليك، خيرات لا تفنى، وثعالب ما فتئت متربصة تأكل الخيرات، وكأنه لا حراسة ولا حراس.
نظرت إلى الموقف في شبابي، فرأيت نمرا، واستطعت قتل النمر تجويعا بإهماله؛ وها أنا ذا أنظر إلى الموقف في شيخوختي، فكأني أرى ثعلبا، وما زلت حائرا كيف أتقيه.
ردة في عالم المرأة «1»
ما أبعد الفرق - في حياة المرأة المصرية - بين الليلة والبارحة! وليلتها التي أخذ يتغشاها الغسق بظلامه، هي هذه المرحلة الراهنة من حياتها، وأما بارحتها التي تنفس فيها صبح جديد، حسبناه يومئذ بشيرا لها بإشراقة الضحى، فهي تلك الأعوام الخمسون التي امتدت من أول هذا القرن إلى منتصفه، كانت المرأة المصرية في بارحتها تتوثب طموحا وكأنها أرادت أن تبلغ الأفق البعيد بقفزة واحدة، إنك لو رأيت المرأة المصرية في الأعوام الأولى من بارحتها تلك، إذن لرأيت ما يشبه القوس المشدودة إلى صدر راميها، وقد سنحت بالتحفز، حتى إذا ما ارتخت عنها قبضة الرامي، طارت حتى نافست نسور السماء وصقورها، وبضربات منها سريعة متلاحقة، حطمت قيود الحريم، واستردت كرامتها المفقودة وإنسانيتها الضائعة، أو قل إنها أوشكت أن تسترد كرامتها المفقودة وإنسانيتها الضائعة، أو قل إنها أوشكت أن تسترد تلك المفقودة وهذه الضائعة، ثم ما هي إلا أن رأيناها مجاهدة في كل ميدان، يعطونها القليل فلا يرضيها إلا ما يتكافأ مع قدراتها، وقدراتها كانت في طليعة القدرات.
كانت تلك الوثبات الطموح سمة واضحة في بارحتها، وأما في ليلتها فقد فترت العزيمة وما حسبناها تفتر بهذه السرعة الخاطفة، فلقد ضحك عليها من ضحك، وخدعها من خدع، وكانت مأساتها أن جازت عليها الحيلة فصدقت أن دنياها ليست هي دنيا الناس، من علم وعمل، وفن وأدب وفكر ورأي، وريادة وهداية وجهاد، صدقت أن «المرء» و«المرأة» بينهما من التباين ما بين الروح والجسد، أو ما بين الطيران الطامح في صعوده، والقعود المكبل بأغلال الكسيح، ضحك عليها من ضحك، وخدعها من خدع، فصدقت البريئة أنها حلية يتملكها من يقتنيها، ومن حق هذا المقتني أن يلف حليته باللفائف، وأن يحفظها في الخزائن، ونسيت أنها فرع من فرعين يتألف منهما «الإنسان»، ولقد تعمدت منذ أسطر قليلة أن أستعمل كلمتي «مرء» و«مرأة»، بدل كلمتي رجل وامرأة، لعل البريئة تدرك كم يتشابه الفرعان، حتى بعد أن يتفرعا من الأساس «الإنساني» المشترك، لكن البريئة صدقت، وراحت تلف نفسها قبل أن يلفها مقتنيها، ولم نعد نسمع منها إلا حنينا إلى العودة لتنخرط مرة أخرى في معتقل الحريم.
تعالوا نناقش الأمر فيما هو أهدأ من الهدوء، تعالوا نناقشه بأعصاب محكومة ، لعلنا نميز الحق من الباطل، وبعدئذ يكون لكل منا - مرءا ومرأة - أن يختار لنفسه طريق حياته وهو أو هي على بصيرة ووعي بما يختار أو تختار، وسأكون في هذه الخطوة من خطوات الحديث محدد الكلمات واضح المعاني، فليس يعنيني إلا أن نصل إلى حقيقة نستريح إليها، وسأطرح هذه الخطوة من خطوات حديثي، على مرحلتين: (1)
Page inconnue