Dans la maison de la révélation
في منزل الوحي
Genres
أما سعود وفيصل فيستقبل كل منهما في خيمة فسيحة لا مقاعد فيها، ويجلس كل منهما على فراش بسيط، فإذا دعا أحدهما بعض ذوي المكانة للجلوس إلى جانبه جلسوا على البساط المفروش في الخيمة.
خرجت بعد التشريفة أطوف بمنى لأرى بعض الصحاب وزملاء الحج، وخيمتا سعود وفيصل تتصلان بمضارب الخيام القائمة في مسيل الوادي الفسيح بين جبلي منى، وهذه المضارب أشد من مضارب عرفات تشابكا؛ لأن بطحاء عرفات أكثر فسحة، وحبال الخيام تلتقي وتشتبك بعضها ببعض حتى ليتعذر على الإنسان أن ينتقل بينها دون مشقة، وما أدري كيف يهتدي إليها أصحابها ولا كيف يعلمونها، على أن لإخواننا المصريين من اليسر في ذلك ما ليس لغيرهم، فهم يتخذون مضاربهم إلى جانب السبيل المصري أو على مقربة منه، فلا يتعذر عليهم أن يجعلوا من هذا السبيل منارا للاهتداء به.
والسبيل المصري هو وحده الواحة الباسمة وسط هذه الجبال والرمال العابسة الجرداء، بنته مصر في عهد الملك فؤاد الأول بناء أنيقا على الطراز العربي، كبناء مساجد القاهرة أو دار الكتب المصرية، تراه من بعيد فيتعلق به نظرك، وتسير إليه فيلقاك سور محيط بحديقة فسيحة أمام البناء، تتخطى الباب فإذا أنت بين خضرة باسمة ونبات وزهر، وإذا عن يمينك مجلس صفت على بسطه وسائد يستند إليها الجالسون فيه، ويستقبل الموظفون المصريون كل مسلم قصد إلى السبيل في أي من أيام العيد بكل إكرام وتجلة، هذا وإن وجد أولئك القاصدون سبيل مصر في المياه الصالحة التي يشربونها به غاية ما يطمعون فيه.
دلفت بعد التشريفة إلى السبيل، فكان لنفسي مسرة أي مسرة، إنه فلذة من وطني قامت في هذه البقعة المقدسة فتحدثت عن وطني خير حديث، إنه مصر تنتظر أبناءها الذين جاءوا ملبين ربهم ليكون مثابتهم للقاء إخوانهم المسلمين ممن ينظرون إلى مصر نظرة تقدير ومحبة وإخلاص، إنه المأوى لمن شاء أن يتخذ من الحج فرصة اجتماع للتحدث في شئون المسلمين كافة، كان به ساعة دخلته طائفة من بني وطني ومعهم مسلمون أحدهم هولندي وآخر صيني من أقصى الشرق، وبين هذا وذاك من مختلف الأمم ألوان شتى، ولم يطل بي المقام ولا الحديث حتى رأيتنا جميعا نحس إحساسا واحدا وتحركنا عاطفة واحدة هي عاطفة الأخوة الإسلامية الصادقة، فالهولندي الجالس إلى جانبي، والمغربي الجالس قبالتي، والجاوي الذي يجاورني، نحن جميعا عباد رب واحد لا إله إلا هو، لا نعبد إلا إياه، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دونه، فأرض الله أرضنا جميعا، وسماؤه سماؤنا جميعا، وما خلق - جل شأنه - في السموات والأرض هو لنا جميعا، والله - جل شأنه - يورث ذلك من يشاء من عباده الصالحين.
سمعنا جميعا في خشوع وإنابة إلى قارئ يرتل القرآن ترتيلا حسنا بصوت جميل، ثم تناول حديثنا الحج وشئون المسملين في مشارق الأرض ومغاربها، عند ذلك ذكرت قول رسول الله: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، فازداد شعوري بإخاء المسلمين في أقطار الأرض جميعا عمقا وقوة، وجعلت أنصت إلى حديث المجتمعين معي بهذا السبيل المصري وأنا أشد ما أكون تعلقا بهم ومودة لهم.
وتركت السبيل أبتغي زيارة بعض معارفي في الخيام المتصلة به، وبعد لأي في السير بين خيام يقصر الطرف دونها ألفيت أصحابي جلوسا بها تحت سقوف واطئة يتلظون بحر الشمس وما نزال في الشتاء، ترى ما حال أمثالهم إذا استدارت أشهر الحج إلى أيام القيظ، وأرسلت الشمس من أشعتها شواظا ولهبا! أولا يجمل بأهل البلاد وبحكومتها أن يقيموا بدل الخيام مساكن قليلة النفقة يجد الحاج فيها من طمأنينة الحياة ما لا يجده في الخيام؟ وأفضيت بهذا السؤال إلى بعضهم، فعجب منه وظن فيه تيسيرا لمشقة الحج يذهب بالكثير من ثوابه؛ لأن الأجر على قدر المشقة، وعجبت لما قاله صاحبي وسألته: أفلا يشجع التيسير الناس على أداء الفريضة فيزداد عدد الذين يؤدونها وينالون ثوابها آلافا مؤلفة؟
وأويت إلى الدار ممتلئ القلب بقوله
صلى الله عليه وسلم : «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وشغل ذهني أمر المنازل في منى حين الحج، أوليس حقا على الذين آتاهم الله من فضله أن يعملوا لمزيد من الطمأنينة لإخوانهم الذين يحجون البيت، كما يفكرون في طمأنينة أنفسهم؟ لقد كان النبي وأصحابه يقيمون بالخيام أيام منى؛ لأن الخيام كانت منازل ذلك العصر في شبه الجزيرة، فلم يكن أحد من أهلها ليضيق بالخيام ذرعا، أما اليوم فهذا عاهل شبه الجزيرة ابن السعود، وهو بدوي شديد الولع بالبداوة، وهؤلاء أبناؤه وأهله ووزراؤه وذوو اليسار من عشيرته، يقيمون في منى بمنازل توفر من الطمأنينة ما لا توفر الخيام، وإن كانت البساطة كل البساطة ولم يكن فيها من الترف شيء، فمن الحق علينا لكمال إيماننا أن نوفر مثل هذه الطمأنينة لكل من نستطيع أن نوفرها لهم ممن يفرضون الحج ويجيئون إليه من أقصى الأرض.
عدت غداة يوم النحر من رجم الجمرة الوسطى ومعي صاحب يسألني عن رجم الجمار ما حكمته وأية مثوبة فيه؟ وتمثل لي وأنا أسمع لقوله صاحب عرفات إذ يقول: إن مناسك الحج فروض نؤديها ولا نعرف حكمتها، كما ذكرت ما يقوله أهل الحجاز من أنهم إنما يرجمون الشيطان بالجمرات حتى لا يعود فيوسوس إليهم ليردهم إلى المعصية والإثم، لكن صاحبي لا يقتنع بهذا القول ولا بذاك، وإنما يريد أن يعرف رأي المجددين من مفكري المسلمين، قلت له: إن هؤلاء العلماء يرون في إلقاء الجمار إعلان المشيئة على طرح ما في النفس من زيف، وصدق الإرادة لدوام طهرها بعد أن غفر الله بالحج ماضي حوباتها، وإشهاد ملأ المسلمين على ذلك كله، قال صاحبي: «هذا كلام أدنى إلى تصور العقل، وإن يكن كلام أهل الحجاز أكثر اتفاقا مع ما يقصه الرواة الأقدمون في بطون الكتب، لكني أحسب حكمة الله أبلغ من هذا ومن ذاك.»
وتداولنا الحديث في الأمر، وانتهينا إلى رأي لعله أكثر اتفاقا مع ما جاء في القرآن من حكمة الحج، فأول اجتماع للمسلمين في الحج بعرفات، وهم يومئذ يجتمعون محرمين ملبين مستغفرين ربهم مستمعين إلى خطاب أمير المؤمنين أو من ينوب عنه، وفي ذلك كله ما يشغلهم عن التعرف والتشاور وشهود المنفعة المشتركة التي تربطهم بعضهم ببعض؛ لذلك وجب عليهم ، متى أفاضوا من عرفات ونزلوا منى، أن يجتمعوا وأن يتعارفوا وأن يشهدوا منافع لهم، واجتماع ألوفهم المؤلفة ساعات معدودة لا يحقق هذا الغرض؛ لذلك فرضت أيام النحر الثلاثة ليحسنوا التعارف والتشاور وشهود المنافع، ولإتمام ذلك بما يتفق وروح الإسلام وجلال موقف الحج سنت لهم مناسك يؤدونها إلى الله لتظل نفوسهم نقية وأرواحهم طاهرة، وأي منسك خير من أن يشهدوا العقبة التي شهدها الرسول - عليه الصلاة والسلام، وأن يلقوا بسواعدهم جمرات يعلنون بإلقائها أنهم على عهده في بيعة العقبة، ينفع بعضهم بعضا، ويذود بعضهم عن عقيدة بعض، ويكفل الكل بذلك حرية العقيدة الإسلامية وحرية الدعوة إليها، ويشهدون على أنفسهم إذ يلقونها أنهم على استعداد لإلقاء مثلها في وجه عدوهم إذا حاول فتنتهم عن دينهم أو حاول إخضاعهم وقهرهم؟
Page inconnue