Dans la maison de la révélation
في منزل الوحي
Genres
كانت أم السلم أول محلة مررنا بها بعد جدة، وقد وقفت السيارة عند مخفر الشرطة وقدم السائق إليه «الكوشان» كيما يتابع سيره، ومخفر الشرطة بدوي في بنائه، لا شيء فيه من مظاهر نظام العمارة، ولا يلفت النظر منه غير بدويته الساذجة، وليس حوله مظهر عمران إلا بعض مبان من نوعه، وبعض عرائش من فروع الشجر اليابسة يستريح من شاء من الحجاج إلى ظلها، ويجد فيها فنجانا من الشاي الذي يقدم في كل مكان، أما القهوة فدون الشاي حظا، وإن كنت تجد النجدية منها إلى جانب الشاي إن أردتها.
وعاودنا سيرنا نمر بمثل القوافل التي مررنا بها، فنجتازها مسرعين حيث كان الطريق صالحا، مبطئين كلما أمسكت الرمال عجلات السيارة، فحالت بينها وبين الإسراع، وبلغ من إمساك الرمال السيارة في بعض الأحايين أن كانت تقفها عن الحركة، وذلك حين تبتلع عجلاتها وتجعل دورانها عبثا لا طائل وراءه، ولطالما وجدنا في هذه الحالات عونا من رجال القوافل، إذ كانوا يسارعون إلى تلبية رجائنا فيرفعون السيارة ويدفعونها لتعاود سيرها.
لم تكن هذه المعونة تقتضي أكثر الأمر غير فترة وجيزة لا يكاد سائقنا ورجال القوافل يتبادلون أثناءها حديثا، لكنها كانت تطول حين يغوص بطن السيارة مع العجلات في الرمل الناعم، وحين يتعذر لذلك رفع السيارة إلا بتكرير الجهد، فإذا استراح القوم هنيهة تبادلوا الحديث ترويحا عن أنفسهم ، وكان الحديث كله يدور حول الحج والقادمين له، سأل السائق أحدهم عن قافلته فأجاب أنهم من الجاوة، وأن زميلا له يسير بقافلة من أهل فلسطين، أما الذين أعانونا من السائرين رجالا فقد بدا على وجه أحدهم أنه صيني، ولم نستطع أن نعرف جنسية آخر، لا من سحنته، ولا من لهجة حديثه، وكذلك كانت هذه الجموع المحرمة كلها، المتوجهة كلها حاجة بيت الله، تجمع بين المسلمين من مختلف أقطار الأرض ممن استطاعوا إلى الحج سبيلا، فجاءوا يحدوهم إيمان بالله تذوب دونه المتاعب وتصبح المشاق في سبيله يسرا ومثوبة، ومن عليا السموات أرسل القمر على هؤلاء السعداء بأداء الفريضة - فما ينفكون ينادون ربهم لبيك لبيك - أشعة رطبة ندية تهون على الدواب السير، وتبعث إلى نفوس المشاة في إحرامهم أشعة أعظم منها ضياء؛ تلك أشعة الأمل الصادق في وجه الله وفي مثوبته وغفرانه، أمل يتردد فيما يتبادلونه من حديث الطواف والسعي والصلاة في الحرم والشرب من ماء زمزم.
طبع هذا المنظر أعمق الأثر في نفسي، فهذه القوافل من المشاة والركبان تقصد إلى غاية واحدة وترجو في ربها الرجاء الأسمى، وهم جميعا سواسية في اتجاههم، سواسية في إيمانهم، سواسية في تفكيرهم، وهم جميعا قد نسوا كل شيء إلا هذه الغاية الروحية السامية التي تندفع نحوها جسومهم، وتطير إليها جوانحهم، وتزداد امتلاء بها أفئدتهم وقلوبهم، كلما ازدادوا قربا من مهبط الوحي ومن بيت الله، ليس يذكر أحدهم ما له من ثروة أو جاه أو ولد، وإنما يذكر أنه وهؤلاء المسافرين معه أخوة في الله، وأنهم جميعا قد أتوا قاصدين بيته، ملبين داعيه؛ ليشهدوه على أنفسهم؛ وليطهروا بين يديه مما قدمت أيديهم؛ وليبدءوا بذلك حياة جديدة يبتغون فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا، ويحسنون كما أحسن الله إليهم، ولا يبغون الفساد في الأرض؛ لهذا جاءوا من كل فج عميق؛ ولهذا ركبوا البر والبحر واستهانوا بالمشقة ونسوا كل شيء إلا الله؛ ولهذا أحرموا آية إخائهم ومساواتهم، إيذانا بأن أقربهم إلى الله أتقاهم، ومظهرا لميلادهم الروحي الجديد؛ ليتخذوا من هذا الميلاد عدتهم لحياة جديدة؛ ولهذا تتصل قلوبهم وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم ولهجاتهم، وهم يعبرون عن هذا الشعور بالتلبية تنفرج عنها شفاههم في حبور وغبطة مطمئنين إلى رحمة الله ومغفرته، إنه يغفر الذنوب جميعا، لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وبلغ من عمق هذا الأثر في نفسي أن ازددت نسيانا لنفسي وفناء في الله وفي إخوتي هؤلاء، وقد قصدنا جميعا وجهه مخلصين له الدين حنفاء، نعم! نحن جميعا إخوة، وأقربنا إلى الله أشدنا بهذه الأخوة شعورا، فأنا المصري أخ لهذا العربي ولهذا الجاوي ولهذا الصيني وللمؤمنين جميعا رجالا ونساء شبانا وشيبا وأطفالا، وأنا الذي نلت حظا من العلم أخ في الإيمان لمن نال من العلم أضعاف ما نلت، أخ لمن لم ينل من العلم أي حظ، أخ للبائس والمحروم إخائي للغني وصاحب الجاه والسلطان، والبائس والمحروم من الجاه والسلطان والعلم أدنى إلى قلبي؛ لأنهم أحوج إلى محبتي وإخائي، ذلك وحي هذه الساعة الفذة من ساعات حياتي، والتي اتصلت فيها لأول مرة بمكان خطت فيه قدما محمد النبي العربي، أكبر من دعا إلى المحبة والإخاء، وأكبر من دعا إلى السعي والجهاد.
وفاض بي هذا الشعور فتندت عيني، وخفق قلبي، وانفرجت شفتاي عن آي الحمد والشكر: لبيك اللهم لبيك لبيك ... وسمعت أذناي الأودية والجبال والقوافل السارية بينها جميعا يدوي فيها هذا النداء، فازداد شعوري فيضا، وقلبي خفقانا، وازددت لله شكرا وبه إيمانا.
وقفت بنا السيارة عند بحرة، وبحرة هي المحلة الثانية في طريق مكة، وهي تلفت النظر بالأضواء الكثيرة البيضاء المنتشرة فيها دلالة استعداد مقاهيها البدوية لاستقبال القوافل بها؛ ذلك أن قوافل الإبل تقطع الطريق بين جدة ومكة عندها تقضي ساعات الراحة بالنهار أو الليل فيها، أما السيارات فتجتازها كما تجتاز أم السلم بعد وقفة عند مخفر الشرطة يطلع رجاله أثناءها على «الكوشان»، وقد لا يأبى بعض راكبي السيارات أن يتناولوا فنجانا من الشاي بها.
آخر محلة قبل مكة الشميسي، وكنت أعرف من قبل أن الشميسي اليوم هي الحديبية على عهد رسول الله؛ وكنت لذلك أرجو أن أقف عندها لأتبين مواقع المسلمين الذين جاءوا حاجين فصدتهم قريش، وكادت الحرب تنشب بينها وبينهم لولا حكمة الرسول وأناته وجنوحه إلى السلم وحسن سياسته مما انتهى بينه وبين أهل مكة إلى عهد الحديبية، وإلى إقرار قريش أن يزور المسلمون مكة معتمرين عامهم المقبل، ولكن أنى لي أن أنزل المكان والليل قد انتصف وقد هدنا الجهد وشاقنا الوصول إلى مكة! ولم أطلب إلى السائق أن يقف، ولم أزد على أن سألته عما بقي بيننا وبين أم القرى، وظل هو في انطلاقه يسرع كلما ساعفه الطريق، ويبطئ أو يقف إذا أبطأه غوص العجلات في الرمال أو وقفه.
وجعلت في السويعة الباقية على دخولنا مكة أرسم في ذهني صورة أم القرى كما عهدتها على الخرائط، لكن القمر لم يجل أمامي الصورة التي خلت، ولو أن الشمس كانت ساطعة لما زادت الصورة أمامي جلاء، فكيف يحيط النظر المحدود بما حوله من وهاد وجبال بكل ما هو مرسوم على الخريطة من مجموع هذه الوهاد والجبال؟ وكذلك تخطت السيارة بابا فسيحا قيل: إنه باب مكة، ووقعت العين على مبان قيل: إنها مبانيها، فلم نجد في شيء من ذلك ما يلفت النظر إليه، وإن أيقنا أننا صرنا في حدود مناسك الله.
وكان دخولنا مكة منتصف الليل، دخلناها متعبين مما مر بنا في يومنا ويوم أمس، وكانت ساعتئذ متشحة برداء الليل وموليات ضوء القمر، فازدادت قداسة ومهابة. والسيارة تجري في طريق لا ينيرها غير هذه البقية من ضوء ساهر السموات، وإنا لكذلك إذ نجمت أنوار كثيرة من الكهرباء لدار عند منعطف من الطريق؛ تلك الدار بيت وزير المالية، وتخطينا هذه الأنوار إلى بقية ضوء القمر حتى كنا أمام أضواء ناصعة لمصابيح معلقة في مكان وقفت السيارة عنده، ذلك مقهى من مقاهي مكة، ونادى صاحبي من السيارة: يا شيخ إبراهيم، فجاء المطوف وصحبنا إلى بيت مضيفنا أمين العاصمة الشيخ عباس قطان، حيث كانت تسطع أنوار الكهرباء سطوعها عند بيت وزير المالية.
Page inconnue