Dans la maison de la révélation
في منزل الوحي
Genres
وشغلت إدارة الباخرة بالأميرة وما تختاره من الغرف لنفسها ولمن معها، فلما فرغت من ذلك أذنت للخدم في دعوة الناس للطعام، وجلس طلعت باشا حرب مدير شركة مصر للملاحة البحرية إلى مائدة تتوسط غرفة الطعام، ودعاني إلى الجلوس معه، كما دعا آخرين منهم محافظ السويس وحكمدارها الإنكليزي وربان كوثر، ودار حديث اشترك فيه الربان بالإنكليزية تارة وبالفرنسية أخرى، وما كنت لأشير إلى هذا الحديث لولا ما أصاب الباخرة ساعة وصولها إلى جدة، وتركنا الربان وما نزال على المائدة، فذكرت لزملائي عليها أن إنكليزيته وفرنسيته تدلان على أنه ليس إنكليزيا ولا فرنسيا، قال طلعت باشا: بل هو إيطالي، إذ ذاك توجهت إلى الحكمدار الإنكليزي وقلت مبتسما: ذلك خير، فلئن أصبح البحر الأحمر ميدان حرب بين إيطاليا وإنكلترا أثناء سفرنا لنكونن في حمايته الإيطالية.
وسارع طلعت باشا إلى التعقيب على عبارتي هذه بقوله: لقد دعوته منذ نشأت الأزمة الدولية الأخيرة ونبهته في حزم إلى احتمال وقوع حرب يشتبك وطنه فيها، وسألته ما يكون موقفه يوم ذاك؟ فأكد لي بشرف البحار أنه يخدم بإخلاص العلم الذي يظل الباخرة التي يقودها كائنة ما تكون الأحوال التي تحيط به.
وأردف الحكمدار الإنكليزي بهذه العبارة العميقة المغزى: قد تكون الحوادث أحيانا أقوى من كل ما نقسم به.
ونهضنا وغادرنا غرفة المائدة إلى حيث جلسنا نتحدث ونشهد تقلب الموج، وتناول حديث بعض الحاضرين زميلتنا في الحج إلى بيت الله، الأميرة خديجة حليم شقيقة عباس حلمي خديو مصر السابق وأرملة الأمير سعيد حليم الصدر الأعظم في تركيا في أخريات حكم السلطان الخليفة محمد رشاد، ودار الحديث حول تصور الأمراء للحج، وما يلتمسون أثناءه من مغفره الله لهم، وإنا لفي هذا الحديث إذ أقبل علينا الأمير محمد عبد المنعم ابن الخديو عباس حلمي وولي عهد مصر السابق، وكان قد جاء يودع عمته بالسويس، وانتقل الحديث لمجيئه إلى موضوعات أخرى كان من بينها فيلم «وداد» السينمائي الذي أخرجته المغنية أم كلثوم في شركة مصر للتمثيل والسينما، وكان مدير هذه الشركة في مجلسنا، وكان حريصا على أن يسمع رأي الناس في هذا الفيلم، قال الأمير عبد المنعم: إنما ألاحظ على هذا الشريط صورة المسجد فيه والنداء للأذان به.
ولاحظ الأمير صمت الحاضرين وعدم إبدائهم الموافقة على ملاحظته، فقال: صحيح أن المناسبة التي ألقي فيها الأذان من فوق مئذنة المسجد حسنة جدا؛ فقد كان الناس يختصمون، فلما سمعوا الأذان انصرفوا عن الخصومة وولوا وجوههم شطر بيت الله، لكن السينما تنتقل من بلد إلى بلد، ولا عجب أن يعرض هذا الشريط في أوروبا، والغربيون يستهزئون حين يسمعون الأذان وحين يسمعون القرآن، ومن الواجب علينا ألا نعرض ما نقدسه إلى استهزاء الغير به.
ودار حول رأي الأمير حوار دل على أن كثرة الحاضرين لا تؤيده وإن اختلطت عبارات هذا الحوار بكثير من ألفاظ التبجيل والاحترام، وتنقل الحديث من بعد في مسائل شتى ، تركنا الأمير على أثرها ليقيم سويعة مع عمته قبل سفرها، ولعله تركنا غير راض عن الذين خالفوا رأيه عن الأذان في السينما.
ولم أشترك في حوار الذين حاوروا الأمير، ولم أرد أن أذكر ما ورد في القرآن عن الذين يستهزئون حين يسمعون كلام الله وأن الله يستهزئ بهم ويردهم في طغيانهم يعمهون؛ فما كنت لأثير جدلا حول أمر يتصل بعقيدة صاحبه، وليس من اليسير أن يصرفه الجدل عن رأيه، أو يحمله على المصارحة بالعدول عن عقيدته فيه.
على أني لم أعجب لهذا الرأي من شاب نشأ في أسرة مالكة، وكان يوما ولي العهد لعرش دولة لها مكانتها في العالم الإسلامي كله، فهؤلاء يبالغون في الحرص على تقديس ما يعتقدونه مقدسا ليبالغ غيرهم في تقديس الدين وما يصدر عنه، وهم لا يؤمنون كما يؤمن أبناء الشعب بصوت الشعب وأنه من صوت الله، وإنما يؤمنون بصوت الملك وأنه من صوت الله، فإذا حجوا ليستغفروا أو يطهروا، كفاهم أن يرتقوا إلى عرفات ولهم في سعة مالهم من أسباب الفدية ما يحسبون أنهم يفتدون به كل الأوزار والخطايا، وإن منهم من لا يرضى أن يحرم يوم عرفة؛ لأنه لا يؤمن بالمساواة، فهو يريد أن يفتدي منها كأنما يفتدي من عذاب يوم عظيم.
وإنما عجبت أن لم يذكر أحد من الذين جادلوا رأي الأمير ما سمعته غير مرة من أن الأذان بصوت حسن كان مما حمل كثيرين من غير المسلمين على أن يدينوا بالإسلام، ولقد عرف هذه الحقيقة من أقاموا من قبل في تركيا حين كانت تختلط في عاصمتها زمر الأمم المختلفة الأديان، والحق أن كلمات الأذان البسيطة العذبة جديرة حين ترتل ترتيلا يؤدي معناها بكل قوته أن تنفذ إلى أشد النفوس صلابة، وأشد النفوس استكبارا، وهل هناك أقوى من قولك: الله أكبر، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر، لا إله إلا الله؟!
وغير المسلمين يسمعون إلى آي الذكر الحكيم حين يقصد من ترتيله إلى حسن فهمه بإجلال وإكبار كإجلال المسلمين وإكبارهم، فلا عجب أن يحرص المسلمون على أن يذاع القرآن ويذاع الأذان بكل وسائل الإذاعة، ولا عجب أن يحتج المسلمون من أقطار الأرض كافة حين يسمعون أن محطة الإذاعة في مصر ستعدل عن إذاعة القرآن أو تقلل من تلاوته.
Page inconnue