Dans la maison de la révélation
في منزل الوحي
Genres
يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما!
أوبة الرضا
أصبحت بينبع مطمئنا سعيدا، وهبطت إلى غرفة الاستقبال فألفيت بها قوما من أهل البلد تفضلوا بزيارتي، فلما تبادلنا الحديث عجبت أن تكون لهجة أحدهم أدنى إلى المصرية، وحسبت السبب في ذلك محاذاة ينبع مصر، لكن الرجل أسرع فذكر لي أنه مصري المولد، وأن له بينبع بضع سنوات احترف فيها مهنة التعليم، وأن به إلى مصر هوى لولا ما يمسكه من لطف أهل البلاد به ومن شغفه بالأماكن المقدسة، وشعرت لحديثه كأنما هزني إلى مصر شوق زادني هوى إليها، يا عجبا! ألذلك سر؟ لقد رأيت من أمثاله كثيرين بمكة وبجدة وبالمدينة فلم تحرك لقياهم هذا الشوق في نفسي، ترى أفي نبرة هذا الرجل سلطان على هذه الناحية من النفس لم يكن للذين لقيتهم قبله، أم السر في هذه المدينة التي نتحدث فيها؟ إذ ذاك ذكرت ما يحرك اقتراب الأوبة إلى الوطن من حنين النفس إليه، وما يشتد بنا من الشوق إلى الأعزة فيه عند وقوفنا على شاطئ البحر الذي يصل بيننا وبينهم، وكأنما تحمل إلينا أمواجه من روحهم ما لا يحمل إلينا الأثير ونحن نضرب في الأرض، أم أن اقتراب اللقيا يحرك في النفس لواعج تظل حبيسة لا تثور ما كان الأمل في اللقاء بعيدا، فإذا تنسمنا ريح الوطن يدنو تمثلنا صدور الأعزة تقترب من صدورنا، وقلوبهم تمتزج بقلوبنا، فرفت في جوانحنا عواطف الود والمحبة تريد أن تطير بنا إليهم وتخلف وراءها ما بقي بيننا وبينهم من أيام؟
وخرجت من الدار مع أصحابي لزيارة أمير ينبع، فعلمت منه أن «زمزم» رست في المرفأ وأنها قيد النظر، وشربنا القهوة النجدية والشاي واجتمرنا بذلك العود الذكي الرائحة والذائع اليوم في البيئات الرسمية بالحجاز، وتناول حديثنا سفر «زمزم» ومرفأ ينبع وما يجده المتنقل منه إلى البواخر الكبيرة من مشقة إذ تنقله الزوارق الصغيرة من الشاطئ إليها في بحر مضطرب الموج أكثر الأحايين، وتابعنا الحديث في اتصال البلاد التي تتكلم العربية جميعا، وفي سهولة المواصلات بينها، وفيما أدى ذلك إليه من ارتباطها من قبل في الوحدة الإمبراطورية الإسلامية، وأسلفنا لجناية الدهر على هذه الروابط ولتفريط المسلمين في العمل على إعادتها، وانتهينا من ذلك إلى حلو الأماني، ولم يكن حديثنا في هذا كله ليتعمق في الأمور أو يقصد إلى شيء من الوقوف على أسرارها، فينبع بلد صغير، وأهله وأميره وحاشية الأمير فيه أكثر عناية بشئونه المحلية الخاصة منهم بشئون التاريخ وأطوار الحياة، وهم كأعيان ريفنا المصري كرما وترحيبا وحسن لقيا، ولقد غادرتهم شاكرا لطفهم، شاكرا للأمير ما أبدى من حرص على طمأنينتي حتى أبلغ الباخرة، ذاكرا له أن مضيفي وأهله قد بلغوا من هذا الحرص ما طوقوا به عنقي، وما جعل لهم عندي يدا لا تنسي.
وانطلقنا في ميادين فسيحة من أرض ينبع نبتغي الشاطئ حيث ضربت البعثة الطبية المصرية خيامها، فشربنا قهوة مصرية وقضينا من الوقت ما بقي إلى الظهر، وعدنا إلى الدار فأقمنا بها، فلما اقترب المساء أقبل علينا فيها إخوان من المصريين تحدثوا في سفرنا ظهر غد، وكان حديثي معهم حديث طمأنينة ورضا وشكر لله على توفيقه إيانا في سفرنا ومقامنا مذ عزمنا الحج حتى أتممنا مناسكه، وزرنا قبر رسوله الكريم فصلينا وسلمنا عليه، ورجونا الله واثقين من إجابته رجاءنا، أن ييسر عودتنا كما يسر سفرنا، وأن يهدينا بفضله صراطه المستقيم.
وأصبحت فأعددت متاعي للسفر، وودعت مضيفي شاكرا، وذهبت ومن صحبني إلى «الجمرك»، ثم أقلنا زورق صغير إلى الزورق البخاري «السويس» ليقلنا إلى «زمزم»، ونحن في شوق أي شوق إلى ركوب ظهرها، ولقد كنا السابقين إلى الزورق البخاري فلم يصله غيرنا إلا بعد ربع ساعة من مجيئنا له، ووقفت عند مؤخرته أحدق في الشاطئ وما عليه، ما أعظم هذا الحشد الهائل هناك! ما أشدهم تدافعا بالمناكب، أولئك الحجاج المصريون الذين عزموا العودة على زمزم وعلموا أنها تبحر بعد ساعات، فهم مشفقون أن تفوتهم؛ وهم لذلك يقتتلون يريدون النزول إلى البحر لإدراكها قبل أن تطلق لمحركاتها أعنتها، انظر إلى هؤلاء الجنود حولهم يريدون تنظيمهم فيأبى أقوياؤهم إلا أن يتقدموا الضعفاء، وكأنما نسوا الحج وما يجب عليهم بعده من حماية الضعيف وعدم الاعتداء على حقه! هذه معركة تقوم بين بعضهم وبين الجند، لكنها ليست حامية، إنها سرعان ما هدأت وعاد القوم إلى احترام النظام، ويجيء بعد ذلك إلى زورقنا بعض ذوي المكانة من العائدين إلى مصر فنلقاهم بالترحاب وقد عرفناهم جميعا أو عرفنا أكثرهم بمكة أو بالمدينة، أما ذلك الجمع الحاشد على الشاطئ فقد أعدت لهم «صنادل» فسيحة الرحاب تتسع لهم جميعا، ويسحبها زورقنا بعد أن يتم عليها جمعهم، ولو أدرك أقوياؤهم ذلك ما تدافعوا بالمناكب ولا اشتبكوا بالجند ما دام آخرهم سيلحق على الصندل بأولهم ثم يبلغون الباخرة جميعا في وقت واحد، أم أن الناس درجوا على أن يتنافسوا وأن يستبقوا وإن في غير موضع لمنافسة أو سبق، وألفوا أثناء تنافسهم أن يشتبكوا وأن يقتتلوا ثم لا يصيبهم من ذلك خير وقد يصيبهم منه الضر والأذى.
وإنا لفي موقفنا نشهد ما يجري على الشاطئ إذ أقبل علينا ممثل شركة مصر للملاحة البحرية ينبئنا بأن «زمزم» لن تبحر اليوم بسبب هياج البحر، وأن من الخير أن نعود إلى ينبع نقضي بها إلى بكرة الصباح، وفيما هو يحاورنا ونحاوره في ذهاب «السويس» بنا إلى زمزم لنقيم بها، أبحرت اليوم أو أبحرت غدا، أقبل مضيفي وطلب إلي أن أعود معه، وشكرت له دعوته واعتذرت إليه عن إجابتها بأني وقد ركبت البحر معتزما السفر فلن أعود إلى الشاطئ، ولن أذر البحر حتى أبلغ غرضي أو يقضي الله قضاءه، وألح الرجل في الدعوة حرصا على راحتنا وطمأنينتنا، ورأيت بعض الذين معنا يميلون إلى العود لينبع حذر البحر وهياجه، أما أنا فأصررت على البقاء ما دمت قد عزمت السفر، ولم أنزل عن رأيي، وذلك دأبي، ادعه عنادا أو ادعه ما شئت، فهكذا خلقت: لا أرجع عما بدأت حذر مشقة أو خوف عناء، فالمشقة لا قيمة لها عندي، وأنا اليوم أكثر استهانة بها بعد أن قضيت بالحجاز ستة أسابيع أصعد في الجبال وأجوب البادية وأقضي الليل بالمسيجيد أو ببني حصان في منازل خير منها العراء، وليس في ينبع ما تهوى إليه النفس من أثر يزار أو علم يستفاد، ومهما يبلغ البحر من هياجه فالمقام على ظهر «زمزم» والتمتع بنسيمه الجميل خير من كل ما يدعونني إليه، ولم يجد مضيفي بدا آخر الأمر من الإذعان لمشيئتي، وكل الذي صنعه فضاعف به لطفه وثنائي عليه أن ترك من السجائر ما يكفيني يومين كاملين.
وغادرنا مضيفي ومندوب شركة الملاحة إلى زوارقهم يصحبهم من آثروا العودة إلى الشاطئ انتظار الغد، وانتقلت أنا إلى قمرة على الزورق جلست فيها وحيدا أفكر في هذا التأجيل لسفر «زمزم» من ينبع، وأذكر حادث «كوثر» إذ نحن بمرأى من جدة أول ما بلغنا الحجاز، وألتمس في الحادثين آية من الله وعبرة لنا، ولم يطل بي التأمل إذ رأيت الحجيج على الشاطئ وما يزالون في تدافعهم بالمناكب وفي تنافسهم وحرصهم على السبق إلى «السنابك»، ألم يأتهم نبأ البحر وهياجه وزمزم وإرجاء سفرها؟ أم أنهم مثلي لا يريدون الرجوع عن أمر عزموه؟ وسألت ربان زورقنا الذهاب بنا إلى «زمزم» كيما نقضي الليل بها، فاستمهلني حتى يرى ما يكون من أمر زملائي الذين يفدون إلينا، ولا يحول دون وفودهم إرجاء السفر، فلما أذن العصر لم ير بدا من الذهاب إلى «زمزم» حتى لا يشق علينا المبيت بزورقه وليس فيه من أسباب العيش ما ألفنا، ووقف في غرفته التي كنت أرقب الشاطئ منها وصفر لينبه رجاله بصفيره إلى أنه سيصدر إليهم أوامره، وبدأ يلقي بهذه الأوامر من بوق في الغرفة بلغة لم أفهم أكثر ألفاظها؛ لأنها اصطلاحات فنية لا تقيدها مجامع اللغة في المعجمات ولا يفهمها لذلك إلا أهل الفن!
وبعد سويعة انطلق الزورق ميمما شطر زمزم، وربانه في موقفه يلقي أوامره ويمسك بيده عجلة القيادة، وبعدنا عن المرفأ ومبانيه وانكشف أمامنا البحر في جلاله ورهبته وجماله، وسرى إلينا نسيمه وارتفع إلينا رشاش موجه فبعث إلى النفس السرور والغبطة، وأية غبطة وأي سرور كاتصالنا بالكون في فسحته وعظمته، ننهل من نوره وهوائه، ويشتمل نظرنا سماءه وماءه، ونندمج فيه بكل حواسنا، ونشعر بأننا ذرة منها سابحة في نظام أثيره سبح الكواكب والأفلاك وسبح الأحياء والخلائق كافة.
وإنا لفي منتصف الطريق إلى «زمزم» إذ بدأ الزورق يعلو مع الموجة يمنة ويسرة، ويشعرنا بتمايله وارتفاعه وهبوطه من شدة هياج البحر ما أرجأ سفرنا، هنالك أخذتني نشوة غلبت في نفسي عبث الموج بزورقنا وبطمأنينتنا، هي نشوة ساذجة كثيرا ما يأبى الناس الإفصاح عن مبعثها، وهي التي تحركهم مع ذلك في كثير من مواقف الحياة، تلك نشوة الظفر بالبحر واقتحام موجه على ظهر زورقنا الصغير، وإقدامنا بذلك على مغامرة خشيت «زمزم» الضخمة العظيمة أن يقدم الناس عليها، ها هي ذي أمامنا، وها نحن أولاء نقترب منها، واستعان الربان بمنظاره الكبير ليرى رجالها على سطحها، وأطلق صفارة «السويس» في أنغام مختلفة لينبههم إلينا كيما ينزلوا السلم لنرقى عليه إلى الباخرة، والموج يزداد تقلبا كلما ازددنا من الباخرة قربا، فيزيد في تمايل الزورق وفي ارتفاعه وهبوطه على نحو يبعث إلى النفس الرهبة لولا أننا كنا مأخوذين بنشوة الظفر.
Page inconnue