Dans la maison de la révélation
في منزل الوحي
Genres
أكثرت من التردد من بعد ذلك على المسجد وأحطت بكثير مما فيه خبرا، ولقد أعانني على ذلك أنني اتصلت منذ نزلت المدينة بالأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب كتاب «آثار المدينة المنورة»، وأستاذ الأدب العربي بمدرسة العلوم الشرعية، كما اتصلت بكثيرين كان لهم في إرشادي ومعاونتي فضل أذكره لهم وأشكره أجمل الشكر.
أول ما يلفت النظر في المسجد موقع الحجرة النبوية، فهي لا تتوسطه كما تتوسط الكعبة الحرم المكي، بل تقع في ركنه الجنوبي الشرقي على مقربة من باب جبريل، ولم تكن الكعبة تتوسط الحرم المكي إلى عهد الوليد بن عبد الملك الذي أصر على أن تكون في وسطه، ولو أنفق في ذلك ما في خزائن بيت مال المسلمين، ولعله قد حرص على ذلك في شأن الكعبة ولم يحرص هو ولا حرص غيره عليه في أمر الحجرة النبوية؛ لأن الكعبة قبلة المسلمين من نواحيها جميعا، إليها يولون وجوههم حيثما كانوا، فمن الحق أن تتساوى جوانب المسجد الذي بني حولها، أما الحجرة النبوية فلم تدخل المسجد إلا سنة ثمان وثمانين من الهجرة، وكان للاعتبارات السياسية دخل في ضمها إليه، وتقوم دور أثرية على مقربة من الحجرة النبوية، كدار عثمان، ودار أبي أيوب، وديار آل عمر، رئي لاعتبارات سياسية كذلك ألا تضم إلى المسجد، ويقع باب جبريل في الجدار الشرقي للمسجد في موضع ينحدر إلى الشمال بعض الشيء عن مكان الحجرة، ومكانه متوسط بين باب السلام وباب الرحمة في الجدار الغربي.
ويقع بعد باب جبريل باب النساء في الجدار نفسه، وتقع فيما بينهما دكة الأغوات، وباب النساء في هذا الجدار يقابل باب الرحمة في الجدار الغربي، وعلى الخط الموصل إلى هذين البابين أو وراءه قليلا يقع حد المسجد كما أقام النبي بناءه الثاني، وفيما وراء ذلك يمتد المسجد في مستطيل غير متوازي الأضلاع تزيد مساحته على ضعف مساحة مسجد النبي ويتناول زيادة عمر وزيادة عثمان وزيادة الوليد وزيادة المهدي، وهذا المستطيل مكشوف لا سقف له، ويسمى الحصوة، وكان به فيما مضى بعض أشجار من نخيل يطلقون عليها اسم بستان السيدة فاطمة، وبه الآن ساعة زوالية دقيقة الصنع، وتقوم حول هذا المستطيل المكشوف عمد ضخمة فوقها قباب من طراز عمد المسجد وقبابه تحيط بها سائر جدران المسجد، وهذا الإطار الذي يحيط بالحصوة تشمل ناحيته الشرقية زيادة الوليد وزيادة المهدي، وتتناول الناحية الغربية فضلا عن ذلك زيادة عمر وزيادة عثمان، وعمر وعثمان هما اللذان زادا الرواق الممتد من الحجرة إلى باب السلام فيما أمام الروضة.
والزخرف في عمارة المسجد لا يقاس إليه شيء مما في الحرم المكي، وقلما يضاهيه زخرف في غيره من مساجد العالم الإسلامي، سواء في ذلك زخرف العمارة وزخرف المحاريب، وزخرف السجاجيد وزخرف الثريات، وما اجتمع بالروضة النبوية من هذا الزخرف ينسي ما سواه في سائر أنحاء المسجد، ولا عجب، فقد تبارى الملوك والسلاطين والأمراء، فجلبوا إليها من ذلك ما يستهوي اللب وما يزيد الناظر إليها إكبارا وإجلالا، يقول برخارت في وصفها حين رآها في سنة 1815 ما ترجمته:
1 «يجري حاجز من خشب يبلغ ارتفاعه ثماني أقدام نقش نقشا عربيا بديعا مبتدئا من أعواد الحجرة الغربية موازيا الجدار الجنوبي على نحو خمس وعشرين قدما منه، حتى يبلغ أدنى باب السلام، ويمتد بذلك من الحجرة إلى عرض المسجد كله تقريبا، وفي هذا الحاجز أبواب عدة، وهو قد أقيم ليفصل بين الروضة والرواق الذي يمر منه الزائرون حين دخولهم من باب السلام متخطين إلى الحجرة خلال العمد القائمة بين هذا الحاجز والجدار الجنوبي، وهذا الجانب الذي تقوم فيه العمد الجنوبية مما يقع شمال الحاجز يعتبر أقدس مكان في المسجد بعد الحجرة ويسمى الروضة، وهو اسم خلعه عليه محمد لقوله: «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة.» ويقع منبر المسجد على مقربة من هذا الحاجز في الوسط ما بين الحجرة والجدار الغربي، واسم الروضة مقصور على المكان الذي بين المنبر والحجرة، وإن غلب اعتبار المكان الذي تقوم به العمد الجنوبية جزءا منها، ولقد نقشت عمد الروضة بالأزهار إلى ارتفاع خمس أقدام أو ست ليعاون هذا النقش الخيال، فلا يعجز عن إدراك الشبه بين هذا المكان ورياض جنة عدن، ويقوم على جانبي المنبر محرابان هما كالمنبر آية في دقة صناعة التطعيم وبراعة جمالها، وقد أهدى قايتباي أحد المحرابين من مصر إلى المسجد، وبعث السلطان سليمان بن سليم بالآخر من الآستانة.
وأرض الروضة مفروشة بعدد من السجاجيد الثمينة من صنع الآستانة، وهي كمثيلاتها بمكة أثمن ما رأيت بالمسجد، وقد تبلغ قيمتها جميعا نحو ألف من الجنيهات، ومدخل الروضة من ناحية باب السلام رائع المظهر، فالألوان المختلفة المنبعثة من كل ناحية، والعمد البراقة الصقل كأنها البلور، والسجاجيد البديعة، والرصف الثمين، والكتابة الذهبية المنقوشة على الحائط الجنوبي، وتلماع أعواد الحجرة فيما وراء ذلك، هذا كله يبهر النظر لأول وهلة، لكنه ما يلبث بعد هنيهة أن يبدو على حقيقته ظاهرا من الزخرف البراق ليس فيه شيء من النفائس الصحيحة.»
ويضيف الحاج عبد الله برخارت: «فإذا ذكرنا أن هذا المكان من أقدس أماكن العالم الإسلامي كله، وأنه اشتهر بروعته وفخامته ونفاسة حليته، وأنه زخرف بكل ما اجتمع من هدايا الغلاة في هذا الدين، ازددنا دهشة وعجبا أن يكون ذلك كل مظهره، فهو لا يقاس إلى مثوى بقية من رفات قديس، وإن هان شأنه، في أية كنيسة من كنائس أوروبا الكاثوليكية، وهو بهذا ينهض دليلا مقنعا على أن المسلمين لم يساووا المسيحيين الغلاة في هباتهم الدينية في أي عهد من العهود، ودع عنك أحوالا كثيرة أخرى تؤيد الاعتقاد أنه مهما يكن من تعصب المسلمين وأوهامهم، فإنهم لم يبدوا قط ميلا للبذل والتضحية المالية من أجل منشآتهم الدينية، كما يضحي الكاثوليك، بل كما يضحي المسيحيون البروتستنتيون من أجل منشآتهم.»
سقنا هذه الملاحظة الأخيرة للسويسري المسلم المدفون بالقاهرة لموازنتها بما كتب غيره ممن ولدوا مسلمين، من هؤلاء صاحب الرحلة الحجازية محمد بك لبيب البتانوني الذي رأى الحجاز عام 1907 في صحبة خديو مصر عباس حلمي الثاني، وهو قد تحدث عن الروضة حين حديثه عن المسجد النبوي، فأشار إلى موضعها من المسجد وإلى أن داربزينا من النحاس الأصفر يبلغ ارتفاعه نحو متر يفصل بينها وبين زيادتي عمر وعثمان اللتين في جنوبها، ثم قال: «والروضة على الدوام غاصة بالناس لشرف مكانتها، وفيما يلي هذا الدرابزين ربعات قرآنية كثيرة، وعدد كبير من المصاحف المختلفة الحجم، منها ما هو بحرف الطبع، ومنها ما هو بخط اليد الجميل، وإلى جانبها نسخ كثيرة من دلائل الخيرات، وكل ذلك موقوف عليها للقارئين من الزوار، وفي غرب الروضة الشريفة قبلته
صلى الله عليه وسلم ، وهي آية من آيات الله في كمال بهجتها، وجمال صنعها، وهي على استقامة المقصورة الشريفة من جهة القبلة، وضعها - عليه الصلاة والسلام - يوم الثلاثاء الموافق نصف شعبان من السنة الثانية للهجرة عندما أمره الله - تعالى - بالصلاة إلى الكعبة المكرمة، وإلى غرب القبلة المنبر الشريف، وهو من الرخام المنقوش بالليقة الذهبية الفاخرة وعلى غاية في الجمال ودقة الصناعة، أرسل هدية من السلطان مراد الثالث العثماني إلى الحرم سنة ثمان وتسعين وتسعمائة للهجرة، فوضع في مكان المنبر الذي كان به منبر قايتباي، وهو في نفس المكان الذي كان به منبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
Page inconnue