Dans la maison de la révélation
في منزل الوحي
Genres
وانطلقت بنا السيارة نحو الطائف سالكة طرقا أكثر يسرا من الطريق الذي جاءت فيه، ورأى أصحابنا طمأنينة السائق في مجلسه؛ فسأله أحدهم: أكان قد ضل فلم يسلك هذا الدرب المعبد، أم أنه شبع بعد تناول إفطاره فقويت ذاكرته فسلك السبيل السوي؟ ولم يغضب الرجل ولم تغلبه حدته، وفيم الغضب وكل شيء ميسر أمامه؟! وبلغ الطائف ووقف عند مخزن البنزين فأخذ صفيحة وأفرغ في السيارة أخرى وعاود انطلاقه لنبلغ الهدة قبل الظهر.
واتجهنا غرب الطائف في أودية جرداء حينا ومزدانة بالشجر النامي الذي يبعث فيه روح الحياة حينا آخر ، وكان وادي مسرة أدنى الأودية إلى الطائف من هذه الناحية، وهو يقع على مقربة من بستان الشريف الشهيد ابن عون الذي يعرف اليوم باسم «معشي» على قول صاحبي، ولقد جاوزته السيارة إلى ما بعده من أودية وهي ترتفع على هضابها حينا، وتهوي إلى بطونها آخر، مطمئنا سائقها إلى الطريق سلكه قبل اليوم غير مرة، وبعد ساعة ونصف ساعة من الطائف انفسح أمامنا سهل يجاور جبلا رفيع الذرا، أما السهل فوادي محرم الذي كان يعرف أيام السلف باسم قرن المنازل، وأما الجبل فهو الهدة المتصل بجبل كراء.
ووادي محرم - أو قرن المنازل إن شئت - مفرق طرق تصل بين بادية الطائف ومكة، ولاثنين من هذه الطرق شهرة، يتجه أحدهما من وادي محرم إلى حمى النمور فالثنية المقابلة للشرائع فمكة، ويتجه الآخر صاعدا من وادي محرم خلال النقب الأحمر إلى الهدة، والهدة: سطح جبل كراء، ومن هذا السطح ينحدر الإنسان إلى جبل كراء المتصل بشداد فخريق نعمان فعرفات فمكة، وهذا الطريق هو الذي سلكه الرسول - عليه السلام - حين جاء من مكة إلى الطائف قبيل الهجرة، والطريق الأول هو الذي سلكه في العودة من الطائف إلى مكة بعد أن رده أهلها وآذوه، وهذان الطريقان ما يزالان مسلوكين إلى اليوم للسائرين على أقدامهم وللممتطين الزوامل التي مرنت على تسلق الجبال؛ فهما أقصر من طريق الشرائع فالزيمة فالسيل الكبير بمراحل، وأهل البادية أشد ميلا لاتباع الطريق الموجز وإن شق السير فيه، وليس يدفعهم إلى ذلك حرصهم على الوقت وكسبه، أو تقديرهم أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، بل يدفعهم إليه ميل طبيعي إلى المجهود الأقل، ومشقة الطريق لا قيمة لها عندهم ما يسر قصره للإنسان أن ينال بعده راحة كاملة تعوضه عن كل جهد ومشقة.
وتقع الدار البيضاء بأسفل وادي محرم، وحذار أن يثير اسم الدار البيضاء في نفسك ما أثاره في نفسي من صورة البيت الذي أنشأه الأمريكيون لمقام رئيس الولايات المتحدة بواشنجتن! فلقد خدعت حين سمعت هذا الاسم وجعلت، إذ وصلنا وادي محرم ، أدير بصري يمنة ويسرة أريد أن أرى هذه الدار البيضاء أين هي؟ فيرتد إلي البصر ولم تأخذ به دار بيضاء ولا دار حمراء، وإنما كان أكثر ترددي في السؤال عنها مخافة أن أثير الإشفاق في نفس أصحابي كيف لا أرى هذا القصر المنيف يخر دونه قصر الرئيس الأمريكي ساجدا؟! فلما جازفت بكل جرأتي وسألت القوم، إذا الدار البيضاء قرية من قرى البادية قامت بها بعض منازل صغيرة حقيرة، وإذا أنا الذي يثور عجبي بل إشفاقي ذهبت ألتمس للقوم عذرا عن هذه التسمية الفخمة للعزبة الحقيرة، إنها ربما كانت دارا بيضاء ذات بهاء وجلال في الماضي؛ فلما هوت إلى حيث هي اليوم بقي لها هذا الاسم الذي لا يتناسب معها، كما تبقى لأشخاص ضعاف ضئيلة في الحياة قيمتهم هين بين الناس قدرهم، أسماء أجداد اهتزت بأسمائهم عصورهم؛ فلما ثوى الأجداد في الثرى وأورثوا أسماءهم من بعدهم عبثت يد الزمن بالأسماء لعبثها بوارثيها.
ووقفنا هنيهة ننتظر المطي التي تصعد بنا خلال النقب الأحمر إلى الهدة، وأقبل فتيان من البدو تسبقهم حمر تلهث مسرعة كأنها مستنفرة فرت من قسورة، ووقف الفتيان الحمر على مقربة منا، واختار أصحابي أحدها لركوبي، ولم أعرف لاختيارهم سرا؛ فبين الحمر وبراذعها من الشبه ما يثبت اليقين بديمقراطية الحمر في البادية كديمقراطية كل شيء فيها، على أني شكرت للقوم حسن الاختيار، وعلوت مطيتي كما علوا مطيهم، وانطلقنا نغذ السير في طريق لا عوج فيه ولا أمت، وخيل إلي أننا سنصعد كذلك في هون حتى نبلغ غايتنا، وما راعني إلا الجبل انبعث صعدا في السماء أمامنا، ولم يدع لنا طريقا نسلكه إلا نقبا أحمر يتلوى صاعدا مع الجبل بين صخور كأنما صهرت في أتون خلع عليها لون النار، ووقفت المطي أمام هذا النقب وألقت برءوسها وآذانها إلى الأرض وفحصت بأرجلها الصخر تبلو متانته، ثم تقدمت في حذر تصعد الجبل، تضع رجلا فوق صخرة وتنقل الثانية إلى ما يليها، وتقف هنيهة حتى تتثبت من موقفها، ثم تنقل رجلها كرة أخرى ممعنة في الصعود، وأمسكت أنفاسي وأمسك القوم أنفاسهم ، ورفعت طرفي في لمح البصر إلى أعلى الجبل ورددته إلى موضع الخطو لهذا الحمار المختار الذي أركبه، وفي هذه اللحظات الأولى القليلة القصيرة مرة بنفسي مئات الخواطر، وإني لكذلك إذ زلفت رجل حماري على صخر فاستردها مسرعا، عندئذ دعوت الفتى البدوي صاحب هذا الحمار فاستوقف دابته واعتمدت على كتفه ونزلت فوق صخرة وتركت الحمار يتابع تصعيده.
قال أصحابي: «ما لك؟! ومم تخاف؟ ...» قلت: «أوثر أن أصعد هذا الجبل على قدمي كما صعدت حراء وثورا، وما أحسبه أكثر ارتفاعا من أيهما.» قالوا: «لا تخف! فهذه الحمر قد مرنت على صعود الجبل مرانة البدو، ونحن معك، يسبقك بعضنا ويلحقك بعض.» قلت: «لئن كانت الحمر قد مرنت على الصعود لقد مرنت أقدامي كذلك عليه، لكن فاتتني هذه المرانة في الصعود على ظهور الدواب.» وذكرت لهم كيف صعدت أرز لبنان في سنة 1924، ولما تكن طريق السيارات قد مهدت له، ثم أردفت: «ولقد امتطيت يومئذ حمارا كهذا الذي تفضلتم باختياره لركوبي فإذا هو لا يطيب له السير إلا على حافة الجبل وحافة الهاوية، حتى لقد كان يخيل إلي في كل لحظة أني على شفا جرف هار؛ وذلك شأن الحمر جميعا، وهو شأنها اليوم، وسيظل شأنها أبد الآبدين ودهر الداهرين؛ وقد مضت اثنتا عشرة سنة من ذلك اليوم وأنا مع ذلك لا أنساه، وما أحسبني بعد هذا الزمن كله في مثل ما كنت فيه من نشاط الشباب وإقدامه، مع ذلك كنت يوم ذاك ممسكا قلبي بيدي حذر الموت، وأين لي اليوم هذا القلب وتلك اليد التي كانت تمسكه؟! فبالله عليكم إلا ما تركتموني أصعد راجلا، فمشقة الأقدام والسير أهون من مشقة الأعصاب وخفق الفؤاد.»
وابتسم السيد صالح القزاز لروايتي وترجل عن حماره ولحق بي وقال: «إذن نصعد راجلين معا، وإن كنت لا أشاركك في مخاوفك.» وقال البدوي صاحب الحمار الذي أركبه: «جعلت فداك لا تخف، فهذا الحمار أبر بي وبراكبه من أن يحدث أمرا، والأمر بعد لله، والله معنا .» وترجل صاحبي وجاء هو كذلك إلينا يسير معنا، فقافلة الحمر لا تقف أثناء الصعود إلا كارهة، ولقد رأيتها تتخطى أمامي من صخرة إلى صخرة في حذر ليس كمثله حذر، ورأيتني تنزلق قدمي فوق الصخور حيث لا تنزلق حوافرها، وسمعت كأن هاتفا يهتف في أطواء قلبي: «لم تخاف ولكل أجل كتاب؟! ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا!» والأمر بعد أهون من أن أجعله موضع رجاء أصحابي، والتماس البدوي صاحب الحمار، ودقة الملاحظة لخطو الحمر، وهذه الفلسفة الجبرية التي بدأت تهتف بي، على أني مع ذلك آثرت أن أجعل عودي إلى امتطاء الدابة نزولا مني على إرادة صاحبها، ووقف الرجل الحمار في بطن النقب، وعلوت صخرة استويت منها إلى مركبي، وعادت القافلة تسير في نظام مطمئن.
وازددنا طمأنينة بعد ربع ساعة من مسيرنا، فقد استوى الجبل في صعوده واستوى النقب طريقا تجري الدواب فيه جريها في السهل، لا تخاف شيئا ولا تخشى، وظللنا كذلك فترة نسينا أثناءها ما استولى علينا من الصمت في الفترة الأولى؛ فهذا يقص أنباء كراء، وذاك يقص أنباء كر، وثالث يتحدث عن الصخرة الضخمة على سطح الهدة وما عليها من كتابة ونقوش، وآخر عن البركة الواقعة على منحدر كراء إلى الكر، ويشترك البدو أصحاب الدواب في هذا الحديث بما يعرفونه من أنباء هذه الأماكن، وإنا لفي مرحنا وفي قصصنا إذ آن للجبل أن يعتدل عموديا في ارتفاعه، وللنقب أن يعود شاقا مخوفا، وآن لنا أن نستأنف الصمت الأول، وأن نشد أبصارنا إلى مواقع الخطو من هذه الدواب الحذرة المجازفة، ويقوس الحمار ظهره إذ يعلو بقدميه الأماميتين صخرة نابية في نتوئها، ويبلغ من تقوسه أن يكاد الإنسان ينزلق هاويا وراء ذنبه لولا أن يشد اللجام بيد ويمسك البرذعة بالأخرى، ويخفق القلب لهذه الحركات «البهلوانية» المتئدة خفقا شديدا، وتتمتم الشفاه بعبارات الاستعانة بستر الله في همس لا تسمعه إلا أذن قائله، بل تتخيله هذه الأذن تخيلا.
ماذا عساي أصنع؟! أأترجل عن دابتي كرة أخرى أم أبقى متسنما ظهرها ويفعل الله ما يشاء؟! ترى كم بقي إلى غايتنا، ليكن ذلك بضعة أمتار، فالسقوط عن الدابة ودق الرقبة يتمان فيما دون الثانية الواحدة، وإذا ترجلت وعاد القوم يخاطبونني ويشجعونني وعاد البدوي صاحب الحمار يرجوني فيا خجلا! فإن لم يكن بعد ذلك بد من أن أستجيب لرجائهم فخير ألا أترجل أو أحدث في القافلة ما لا مفر أن يحدث من هرج ونحن في هذا المضيق الدقيق، ويستدير الحمار فوق صخرة يقف عليها بأربعه، وأكاد أراني هاويا متدحرجا على الصخور إلى رحمة الله، فيثب قلبي في صدري ويتعطل كل تفكيري وأشير إلى البدوي السائق ليدنو مني فأعتمد عليه وأهبط عن الدابة في صمت، وأسير بضعة أمتار على قدمي لا أحدث أثناء ذلك ضجة ولا جلبة، ولا يكاد يفطن أحد ممن معي لما فعلت، ويسبقنا الحمار ويسير البدوي إلى جانبي، ثم يشير إلي بعد قليل أنا صرنا على مقربة من القمة، وأن الطريق استقام أو كاد، وأني أستطيع في غير خوف أن أعود فأمتطي دابته، ويمسكها وأعلوها، وتسير في طريق ما يزال وعرا كما كان، لكنني كدت آلفه، ووعورته للسائر على القدم ليست دون خطره على ممتطي الدابة، فأنت منه بين أمرين أحلاهما مر؛ وأنا أداول بين الأمرين دراكا وما دمنا قاربنا الغاية فلأن أبلغها فارسا مع السادة خير من أبلغها ماشيا مع قادة الدواب.
وكنا على رأس النقب حين بدت لنا دار حمراء لم أدر أبنيت من الآجر أم من أحجار هذا النقب، دار قائمة في عزلة الصومعة شيدت على قمة عالية، وعلى صورة البرج، كيف الطريق إليها؟! انقطع النقب واستدارت الحمر على سطح للجبل مخضر تجري خلاله طرق ملتوية في تصعيدها، حيل بينها وبين خضرة الزرع بأحجار رصفتها أيد حريصة على هذا الزرع حذر أن تدوسه أقدام المشاة أو حوافر الدواب وأخفافها، وتلوت قافلتنا في هذه الطرق تسير صعدا نحو الدار في طمأنينة من أدرك غايته، قال صاحبي وهو يتبعني على أتانه حتى يكاد رأس الأتان يمس ساقي: «هذه الهدة هي السطح من جبل كراء، وهي ترتفع عن الطائف بستمائة متر، وعن سطح البحر بمائتين وألفين من الأمتار، أو ترى هذا الجبل المصعدة قمته في الجو هناك في الناحية الجنوبية؟ إنه جبل سفار، وهو أعلى قمة في هذه الناحية من جبال الطائف، ويبلغ ارتفاعه عن سطح الهدة خمسين ومائتي مترا، والبدو يرون البحر منه عند منحنى الليث الواقع على مقربة من جدة، وهم يرونه ساعة مغيب الشمس إذا كان الجو صفوا فلم يحل دون امتداد البصر إلى غاية الأفق حائل.»
Page inconnue