نظرت إلي بعيون مشاغبة خلف عباراتها المتوسلة، تعجبت لها. ورغم شغبها عسكت ملامحها براءة لا تناسب من هم مثلها فقدت أرواحهم على جوانب الطرقات.
أشحت برأسي بعيدا عنها، وتظاهرت بعدم انتباهي لوجودها؛ فقد كنت عاهدت نفسي منذ زمن على تجاهل المتسولين، مهما كانت أعمارهم وطرقهم المبتكرة للتسول.
أعطيت ابنتي كيس المقرمشات ألهيها به، فيما تسمرت قدماها هي عند باب الميكروباص، ومدت نصفها الأعلى للأمام، فاستندت بذراعيها على المقعد المجاور. كنت الراكبة الأولى، وكان اليوم عطلة، وبعيدا عن ساعة ذروته، فيما كان السائق منشغلا بكوب شايه، أو ربما بحكم عشرتهما لهذا الميدان تجاهل وجودها.
مرت دقائق ظننت بعدها أنها رحلت، ولكنها كانت لا تزال هنا صامتة، تلتفت ثم تعود لتسمر نظراتها على وجه ابنتي، يسكرها طربا صوت المضغ، وتلهيها بقايا الطعام على فم ابنتي عن صياحات بعض الراكبين الذين بدءوا في التوافد، طالبين منها الابتعاد عن الباب.
ظلت واقفة، وظللت أدعي عدم الانتباه، وامتنعت هي عن ممارسة ألاعيبها اللفظية. سكننا الصمت فشعرت بتقديسها للموقف، غلبتني بشبح ابتسامتها، وصمتها الرائق الذي لا يناسب مظهرها الرث.
فتحت حقيبة يدي وأخرجت الكيس الآخر من المقرمشات، وحينما مددت يدي إليها؛ انفرجت ابتسامتها وتحولت لفرح كبير تشوبه الدهشة. شعرت بترددها وهي تمد يديها، فطمئنتها بابتسامة، فاحتضنت الكيس وانسحبت.
بطاقة هوية
«ابقوا في منازلكم، ابقوا في منازلكم.» تتعالى وتتردد النداءات عبر مكبرات الصوت، دون أن يكملوا عبارتهم: «الموت سيأتي لمضاجعكم؛ فلا تتعبوا أنفسكم، ولا تتعبونا»! هكذا علمتنا السياسة والصراع. «أنت بأمان.» أحاول أن أطمئن طفل جارنا الذي تعثرت به مختبئا بحديقتهم، عيناه تتهمني بالكذب، بعدما تلطخ جسده بدماء أبيه الذي حاول أن يلهيهم عنه.
الوجوه متشابهة؛ فالملامح الغاضبة واحدة. تحمل العصا أو البندقية، لا يهم، فنية القتل واحدة لا تقبل التأويل.
هل تستطيع غلق العيون وطمأنة تلك الوجوه المتكدسة في عربة محتمية خلف شعار الملاجئ والمستشفيات، غير واعين أنهم أول الضحايا، فلا سعر أو قيمة لهم؟
Page inconnue