إهداء
المظلة
الصيد
الإغراء الحلو
رسالة
الخلطة السرية
ترنيمة موسيقية
في انتظار سانتا
شغف صباحي
في البحث عن بداية
ريحة الكحك
ترويض
مركز ثقافي
كيس مقرمشات
بطاقة هوية
رحيل
في القفص
الطابور
البيت الرطب
المقهى
على الطريق
دقات الساعة
لقد أكلت البيض كله
الساحر
الحرز
إهداء
المظلة
الصيد
الإغراء الحلو
رسالة
الخلطة السرية
ترنيمة موسيقية
في انتظار سانتا
شغف صباحي
في البحث عن بداية
ريحة الكحك
ترويض
مركز ثقافي
كيس مقرمشات
بطاقة هوية
رحيل
في القفص
الطابور
البيت الرطب
المقهى
على الطريق
دقات الساعة
لقد أكلت البيض كله
الساحر
الحرز
في انتظار سانتا
في انتظار سانتا
تأليف
شرين يونس
إهداء
كنت أجمل كثيرا مما تمنيت، أغويتني فطاوعتك؛ فبعثتني من جديد.
المظلة
«صباحات الشتاء أكثر حميمية، وفي مدن العشاق يكون الصباح الشتوي أكثر بهاء وطهرا.» هكذا قرأت دوما، ورغم ذلك فأنا أخاف الشتاء، أقتحمه دائما محتمية بمظلتي التي ما إن يبدأ الشتاء حتى أسكنها.
ربما هي مخاوف أمي التي أودعتها لدي، وفزعها الأمومي، فجعلها تسد فسحة جسدي بطبقات تدثرني بها؛ فتحبس أنفاسي ورؤيتي.
كم كانت سببا في صغري لتلقي سخرية أقراني بالمدرسة، «البطانية المتحركة»، هكذا لقبوني، فما إن يلمحوني حتى يبدءوا عادتهم الصباحية في إحصاء عدد الطبقات على جسدي، وتساؤلاتهم ملء شفاههم: «كيف تتحركين مقيدة بكل هذا الشغف القماشي؟!»
أصبح شتاء أمي يتربص بي، يتعلق بقمة مظلتي السوداء التي كبر محيطها مع كبري، تعجزه تعويذات أمي عن الوصول إلي، فما جربت الشتاء يوما، بفعل المخاوف، والتعليمات؛ الشراب الساخن صباحا ومساء، وجواربي وقفازاتي المثقلة بصوفها، معطفي الذي يجعل مني دمية بنصف وجه.
مع الكبر عرفت وجوها أخرى للشتاء في مدينتي، جعلتني أبكر من نزولي إلى الشارع قبل موعدي المعتاد للذهاب إلى مدرستي الثانوية ثم الجامعة، أرقب من تحت درعي القماشي طهارة المدينة وهي تتكشف ببطء للصباح كانكشاف عذراء في ليلتها الأولى.
في تلك الصباحات السخية الجميع يتعرف على معنى الحميمية، البعض يحتمي بملابسه وكأنه يكتشف لذة الستر للمرة الأولى، وعشاقك يا مدينتي يختلسون القبلات خلف مظلاتهم، يلتمسون بها بضع درجات مئوية إضافية تشعل في أرواحهم وأجسادهم وهج اللذة.
أتابع كسل الحيوانات الضالة، وسكنها بالجدران والأعشاش وأسقف العربات التي تستعطفها لتكون دفئا وسلاما على أرواحها. في ذلك الموسم لا أخشى كلابا أو حتى ذئابا، فهي تلحظني وروائح الخوف تسبقني، فلا تأبه لمروري، وترد علي بخلاعة عيونها المتكاسلة.
في صباحاتك تعلمت متابعة الأحذية ذات الرقاب، ولعبت ألاعيب حسابية حول أطوالها، وأعمارها، ونسجت القصص حول أصحابها.
وعندما رحلت جدتي ظللت أعواما أبحث عن وجهها بين الطرقات، مطمئنة أنني سأعثر عليها يوما تائهة عن مسكنها الذي غابت عنه تفاصيل عنوانه بفعل ذلك المرض اللعين.
بدأ الشتاء هذا العام من دونك يا أمي، ورغم ذلك فصوتك يطن في رأسي، يشغل صباحاتي الشتوية، يلح علي حتى لا أنسى مظلتي. تعمدت نثر تعليماتك على وريقاتي الملونة، أتعثر فيها مواجهة لسريري، وعلى منضدة مطبخي، وعلى باب حجرتي ومسكني، أتابعها كل يوم كصلاة يومية سادسة.
أتدثر بمعطفي، وأحتمي بمظلتي، أستقبل أول صباحات الموسم الشتوي محمية بصوت أمي وتعويذاتها. ألحظ على بعد أطفالا في ملابسهم المدرسية، يشغلون طريقهم بنثر ضحكاتهم، ومداعبة الطرقات كإحدى ألاعيبهم السحرية.
في شكل مسرحي يشير أحدهم إلى السماء، يأمرها فتطيعه، تتراقص زخاتها الأولى؛ فيبدءون استعراضهم. أتابعهم وأمي تقف بيننا، تحول رؤيتي، فتمتد الأيادي الصغيرة تدعوني للمشاركة. تلحظ أمي إقبالي؛ فتعنفني؛ فأحتمي برأسها. يفقدون الأمل؛ فينشغلون عني بلحنهم. وقبل أن يرحلوا ألمح على جانب الطريق قطيطات في يومها الأول تتدثر بجسد أمها، وصوت موائها الخجول برد يتردد في روحي؛ فأستأذن أمي، وقبل أن أسمع رفضها، أخلع مظلتي وأمنحها للأجساد الصغيرة، وألحق بالصبية وأبدأ معهم الرقص على معزوفتي الخاصة، وصدى صوت أمي من بعيد يلومني.
الصيد
نظر خلسة يمنة ويسرة، وما لبث أن بلغ غايته، يمد يديه باحثا عن أمل، يرى كيسا كبيرا مكوما، فيفتحه بلهفة ما تلبث أن يتعكر صفوها؛ فالعلب البلاستيكية التي ملأت الكيس كانت فارغة.
انتظر لحظة، فالتقت عيناه مشاهد رواد المطعم؛ ظاهرهم لا يختلف كثيرا عنه ، ولكن بالتأكيد لم يعصف بهم الحال الذي منعه من امتلاك بضعة دراهم تكفي لشراء وجبته الخاصة.
امتعضت ملامحه لحظة، قبل أن تلمع عيناه مرة أخرى لهدف أكثر ثراء؛ فعلى الجهة الأخرى من الرصيف أنوار متلألئة لمطعم شهير للأطعمة السريعة. أسرع الخطى وهو يطمئن نفسه بأن يكون رواد هذا المطعم أكثر كرما في فضلاتهم.
يفتش الصندوق هذه المرة وسط نظرات مستهجنة من موظفي أمن المطعم، يتشبث بمحتويات العلب البلاستيكية والورقية؛ بضع شرائح من البطاطس، وبقايا شطيرة بها فتات من لحم، وأوراق من الكاتشاب. يحملها بين يديه، ويجلس غير بعيد، في نشوة، يتناول وجبته من صيد اليوم.
الإغراء الحلو
تنزل بسرعة درجات الطوابق الثلاثة، تتشبث بتلك الورقة العشرينية داخل جيب بيجامتها الكستور ذات اللون الفسفوري الباهت، تتردد في ذهنها تعليمات أمها: «امسكي الفلوس كويس، اوعي تقع منك»؛ فتثقل مخاوفها وقع خطواتها.
اتجهت مباشرة إلى وجهتها، إلى دكان البقال على ناصية الشارع، حاولت أن تلعب مع نفسها لعبة «الذاكرة»، فأخذت ترص للبائع طلبات أمها 1، 2، 3، 4، ... ثمة شيء خامس، هي متيقنة؛ فصورة أمها وإشارتها لها بكل أصابع يدها مطبوعة في ذاكرتها، خسرت رهانها، فأخرجت القائمة المكتوبة من جيبها الآخر وأعطتها للبائع.
دخل صاحب الدكان لتجميع طلباتها، فيما تلذذت عيناها بالنظر إلى كل تلك العلب المتراصة، أصناف تعشقها رغم أن الكثير منها لم تذقه بسبب قواعد أمها الصحية الصارمة، يدور بصرها بين لفائف اللبان، ولمعان أغلفة الشوكولاتة، وألوان ونكهات البسكويت، تثير العلب لعابها. «عايزة حاجة تاني؟» يطرح البائع سؤاله الختامي المغري فيما يلاحظ انشغالها، تجيبه بإيماءة رفض، وعيناها لا تزالان معلقتين بمراكز الإغراء، فيعيد إليها البائع قائمتها الورقية وكيسا به طلبات أمها.
تعود أدراجها منكسة الرأس، وإغراء الحلوى يمنحها مزيدا من الشجن، تسير ببطء هذه المرة بفعل أحمالها.
تلحظه على بعد خطوتين، مستترا بوشاح الطريق، يظهر نصف وجهه المستدير، فيجذبها بلونه الفضي ذي الإطار المذهب، فلا تنتبه لتلك الدراجة وسائقها الشقي الذي يشاكسها بحركته اللولبية، يقترب منها، ثم يتفاداها في لحظته الأخيرة، مطلقا صفارة الساخر.
تعود إليه فتجده وقد خلع نقابه، وعادت إليه استدارته الكاملة، فتمسكه بقبضتها وتحكمها عليه، تعود إلى البائع الذي يشاركها نصرها، فتختاره، وفي طريقها تتباطأ خطواتها بوقع اللذة. «جبت الحاجة كلها؟» تنتبه إلى صوت أمها، فتسلمها أشياءها ونقودها، وطعم القرمشة ما يزال يداعب روحها.
رسالة
تتابع بلهفة وميض شاشة الحاسوب، تعدل من وضع مقعدها في هذا المكان الذي اختارته بعناية بعيدا عن أعين المتلصصين.
تخاطب ساعتها: خمس دقائق فقط ويحين موعدهما. ترى أسيكون في انتظارها أم سيلتزم بالموعد كعهده معها منذ عرفته؟
في عقلها تزدحم عشرات الأسئلة وعلامات الاستفهام التي صرعتها طوال اليومين الماضيين، منذ آخر محادثة بينهما، حينما أبلغها في نهايتها بأنه سيخبرها المرة القادمة بأمر مهم يشغله ويريد مشاركتها فيه.
لم تنفع معه عبارات الاستجداء، هو الملتزم جدا، والجاد جدا، هذا الالتزام الذي جعلها ترتب أمور حياتها وفقا لموعديه الأسبوعيين اللذين حرص منذ تعارفهما على الالتزام بهما، رافضا كل الأعذار لتغييرهما، حتى إنها طوعت حياتها وتراتيبها وفقا لهما، وله.
أسئلة عديدة: هل سيطلب أخيرا مقابلتها، بعد لقاءات «أثيرية» دامت ستة شهور؟ أم سيطلب أن يطبع تقاربهما بالنهاية التي طالما تمنتها؟ هل أفلحت إشاراتها الخفية في أحاديثها معه عن مكانته، وإطلاعه على مشاكلها وأحداث يومها المعتادة؟
أتعبت عقلها وروحها كثرة الأسئلة، وفشلت محاولات التهدئة الزائفة في إقناع نفسها بأنه ربما سيكون حديثه لشأن آخر لا يخصها.
أخيرا استكمل الجهاز استعدادته، وذيلت الصفحة بطلب كلمة السر لبريدها الإلكتروني، التي غيرتها منذ فترة لتكون حروف لقبهما سويا على برنامج المحادثة الذي جمع بينهما، وتاريخ أول لقاء.
ما إن انفتحت صفحتها الخاصة حتى ومضت الصفحة بإشعار عن رسالة باسمه، دق قلبها وتساءلت: هل سيعتذر أم إنها مجرد تحية منه كما يفعل أحيانا، فلا يترك للوقت فرصة مداواة اشتياقها له؟ لامت نفسها لأنها لم تتابع بريدها الإلكتروني خلال اليومين الأخيرين.
فتحت الرسالة، كانت سطرا واحدا:
سأرحل إلى دولة ... بعدما انغلقت الطرق أمامي في وطني، حاولت أن أبقى لتوديعك، ولكنني لم أستطع، فأنا أكره ألم الوداع والفراق.
انطفأ وميض روحها، وأغلقت شاشتها دون أن تدري هل أغلقت حسابها الإلكتروني أم لا.
على الجهة المقابلة يتابع خطواتها المثقلة بخيبتها. في خروجها تلمحه، فترمقه هو والمكان بنظرة باهتة، ينتظر لحظات ثم يقف بصعوبة بالغة، يلحظه عامل المقهى، فيأتيه، لمساعدته، كما اعتاد أن يفعل، يتحمل ترنح ثقل جسده لثوان حتى يعدل موضع عكازه، ويلحقها، فيتبعها حتى يختفي بهاؤها عن مدى بصره.
الخلطة السرية
«مين هيعمل الفول؟» «بابا.» ترد الأفواه الخمسة في نفس واحد، فتبتسم الأم، وتفرغ دماسة الفول متمتمة: «طازة ولسه مستوي حالا.»
يتحلق الأطفال الخمسة الذين تتراوح أعمارهم بين الاثني عشر والثلاثة أعوام حول أبيهم، يتابعونه وهو يعد الطبق الرئيسي على مائدة إفطار يوم الإجازة الأسبوعي، بخلطته السرية التي يمتاز بها.
بحرفنة، يقلب ويهرس حبيبات الفول حتى يروضها بين يديه، رشة كمون، وفص ثوم مدقوق، شوية «زيت تموين»، «هو الأصل مش زيت الأيام دي، لا لون ولا طعم» كما يصفه، ليمونة كاملة، وتكتمل الوصفة.
يبدأ الكل: «بسم الله.» الألسنة تلتهم اللقيمات بتلذذ تتبعها كلمات الإطراء. الأم تقول: «الرك على تدميسة الفول.» بنبرة ساخرة يرد الأب: «الرك على النفس وأنت الصادقة.» ثم يرمقها بنظرة متعالية، يخففها بكلماته: «مطرح ما يسري يمري.»
يغيب الأب لفرصة عمل بدولة خليجية، فتحاول الأم الحفاظ على العادة الأسبوعية، ولكن الأطفال يعقدون المقارنات دائما بين الخلطتين؛ فتفشل المحاولات، ويبقى الفول في قدره أياما حتى يجف.
اكتفى الجميع بشراء الفول الجاهز من المطعم، خاصة بعدما بدأ أصحابه استخدام خلاطات الفول لهرسه، وابتكار الخلطات.
سنوات مرت، وكبر الأطفال، فعاد الأب، وانتظرت الأم عودة العادة الأسبوعية، قامت بتدميس الفول في أول إجازة أسبوعية، وانتظرت إعداد الأب لخلطته السرية، ولكن الأب جاء محملا بأكياس من السوبر ماركت، وبها كثير من الفول المعلب بخلطات مختلفة.
ترنيمة موسيقية
على وقع أنفاس اللحن غزلنا سويا ترنيمتنا الخاصة، عشرون ثانية فقط هي عمر رقصتنا، ينطلق اللحن بمجرد إضاءة المنصة. أنا وأنت فقط رغم العيون المتلصصة.
ينكشف أمامنا المدى، تدعوني فأتردد لحظة، فتحمل بين كفيك يدي، نتمايل معا على وقع اللحن، فلا أعلم إن كنت أتوه في فلك عينيك أم بين ذراعيك. يرسم لنا اللحن خطواتنا المحسوبة؛ فندور في دائرة عشقنا الأبدي.
تطلقني بأطراف أصابعك؛ فأسقط فريسة لاشتياقي، ثم ترفق بي فتلملمني مرة أخرى وتعيدني لعوالمك المتمايلة. أغمض عيني وينتصب جسدي، ثم تتقوس أجسادنا وتنفرج لتكمل لوحة قلبينا مطيعة أوامر النغمات.
تمتد يداك لخصري، ثم ترفعني لحدود أخرى، ترسم بعطرك لوحة أحلامنا، وتصبغها بألواني المفضلة، ألوان بلا نهايات كرقصتي معك.
وفجأة يتوقف اللحن، وتشهق رقصتنا أنفاسها الأخيرة، وقبل إذعاننا للصمت، تطبع قبلتك الأخيرة على جبيني.
ينطلق حماس طفولي بتصفيق عال، وتلح الطفلة على أمها بالسماح لها بالحصول على «رقصتنا»، فتحملنا ملفوفين في ورق لامع، وتنطلق ووقع اللحن في أذنها.
في انتظار سانتا
في تلك البلاد الباردة التي يتدثر أهلها بالعشق، يتابع وحده من شرفته سكان المدينة.
تلك الليلة على الأخص، الوجوه مختلفة، تسير متخففة من ثقل الروتين النهاري وراء طقوس احتفالية. اللون الأحمر مزدهر، والأخضر يعلن نفسه ملكا متوجا بتاج البهجة، والشجر ذو الشكل المثلث يصبح فجأة بطل المدينة الأوحد.
حتى فقراء المدينة حاولوا المشاركة بطقوس تسول مبهجة؛ فلونوا وجوههم، وزينوا صناديقهم الصغيرة، استقبلوا الهبات على وقع أغان ورقصات تناسب الاحتفال.
أما هو فشجرته فقيرة من البهجة والألون والأنوار، اشتراها من باب الوصال الرمزي مع المدينة التي يسكنها منذ عقدين.
ينتظر سانتا كلوز يأتيه على عربته؛ ليحقق له أمنياته التي يحفظها له منذ سنوات، تأخر موعده، ولكنه على يقين بمجيئه. هكذا أعلموه.
فجأة يطرق سانتا بابه، يبحث في جرابه الأحمر عن أمنياته، وبحركة سحرية يخرج له قناعا مغلفا وصورتين، وساعة كبيرة منضبطة عقاربها على منتصف الليل تماما، ففهم أنه موعد تحقيق أمنيته. فرح وهلل، واطمأن؛ لأن سانتا لم يكن كجني علاء الدين الذي وضع لطلباته شروطا.
يعد نفسه فيرتدي أفضل ما لديه. حزن ولام نفسه لأنه لم يشتر رداء جديدا للعيد. يعيد تنظيف شجرته، ويزينها ببعض الشرائط الملونة والورود الصناعية والمصابيح الصغيرة، ويخبز فطائر العيد.
في تمام الثانية عشرة، يجلس مترقبا، فيزيح عن القناع غلافه؛ فيجد وجها أقل شيبة، رآه قبل ذلك، معلقا في أحد إطاراته، إنه وجهه يوم أن جاء إلى هذه البلاد، كان في منتصف العقد الثاني، حاول أن يرتديه، فلم يستطع؛ أبعاد وجهه تغيرت بفعل السنوات، حاول مرارا، ثم أحبط، فوضعه جانبا.
فتح غلاف الصورة الأولى؛ كانوا جميعا فيها، أسرة كبيرة، فرح بداية، رغم التحيات الباردة المتبادلة، وحين جلسوا اكتشف أنه لم يعرف معظم الوجوه؛ أطفال ومراهقون من أعمار مختلفة، انشغل بعضهم بمتابعة حواسبهم وهواتفهم النقالة، وتحدثوا بلغة لم يستوعبها، فظن أن سانتا قد أخطأ ومنحه أسرة غير أسرته. «سأكتفي بالأمنية الأخيرة»، قالها لنفسه، وفتح الصورة الأخرى؛ معالم حفظها في دروس اللغة العربية والتاريخ، قلعة صلاح الدين، وجامع محمد علي، والأهرامات، وتمثال أبي الهول. كتب اسمه حسب تعليمات سانتا؛ فأصبح هناك. فاجأته نوبة سعال شديدة بفعل عوادم السيارات التي تملأ المكان.
حاول أن يعبر الطريق، فبحث عن إشارة للمرور فلم يجد، انتظر طويلا فوجد الجميع يمرون، بشرا وسيارات وحميرا، لمح نظرات السخرية من المارين به لانتظاره الطويل، وحينما حاول المرور سقط في إحدى البالوعات المفتوحة، صرخ فلم يجد مجيبا، وجد سانتا يرحل بعربته. ناداه؛ فابتسم سانتا، وأخبره أنه سيعود في العام القادم ليحقق أمنيته الجديدة.
شغف صباحي
لا أتذكر متى ولد عشقي لك، أو كيف أصبح على مدى سنوات موعدك أهم طقوسي الصباحية، أسرع من تناول إفطاري حتى لا أتأخر عنه، وأحيانا أكتفي ببضع لقيمات أو ملعقة عسل؛ فموعدك مقدس لا يقبل التأخير.
أبدأ طقوس مقابلتك؛ أغلق ستائري، وزجاج شرفتي؛ لأهرب من المتلصصين. أسقي ورود شرفتي؛ زهور الياسمين، ووريقات الريحان؛ فأنا أحب أن أختلي بك في شرفتي؛ ليكون ثالثنا ضوء السماء. آنس بصحبتك؛ لترتوي روحي من عبقك.
حاضرة دائما في مسراتي وأحزاني، تتوسطين جلساتنا العائلية، وتشاركيننا سمرنا وضحكنا، وفي أعياد الميلاد تحضرين دائما، فأنت «صاحبة واجب».
ولم تسأمي مني في فترات اكتئابي، رغم كثرتها، فكنت رفيقة دائما، وكنت خير شاهد على إبداعاتي الكتابية.
زاد شغفي بك، فلم أعد أكتفي بلقاء واحد، ولم أعبأ يوما بهالاتي السوداء، أو ما تسببينه من فقدان لشهيتي؛ فكلها أعراض معتادة للعشق.
سقطت يوما من أثر عشقك، فاستعرض لي الطبيب شكوى جسدي بفعل هواك، وصدمني بقراره: «لا بد من إنهاء تلك العلاقة فورا.» حاولت مفاوضته؛ لقاءان في اليوم، أو لقاء واحد، فرفض وأصر. أحزنني قراره، وسكنت سريري أياما، لا أعلم إن كان للتداوي من عشقك أم لفراقك.
أمر على الواجهات الزجاجية، أتغزل بشبيهاتك، وأتتبع رائحتك، وأتابع وجهك المستدير على شاشة التلفاز، فأتعجب لهذا الكائن الصغير كيف له كل هذا السحر، أضعف، فأبحث عنك، وأتابع بشغف فورانك البطيء، وأعد فنجانك، وأختلس لحظاتك في شرفتي على شرف رائحة الياسمين والريحان.
في البحث عن بداية
في رحلتي ألملم متاعي؛ ورقا، وحواسا أشحذها جيدا. أتلصص إلى ثرثرة الجميع؛ لألتقط البدايات وأنسج بها الحبكات. أوصي هدهدي بتتبع الأخبار، وأن يأتيني بأنبائه العظيمة.
أحمل في حقيبتي العديد من تذاكر الحافلات العامة، والميكروباصات والقطارات، تبدأ عادتي مع الصباحات الجديدة، تلتقط عيني صور البؤس في الوجوه، وترتيبات الفقر التي تجيد مدينتي نسجها.
أختبئ بين جناحي تلك الطائرة الورقية التي ورطتني صغيرة، فأبحر عبرها، وأتباهى بذاتي وأنا أتطلع إلى ضآلة البشر.
يوسوس لي شيطاني باختلاس النظر إلى عهر الطرقات وعورات الشرفات المغلقة، وأكتب بها آلاف الحكايات، فأجعل من ساكنة الخيمة المهترئة سندريلا هذا العصر، لن تنتظر الخادم ليحضر لها حذاءها الضائع، وإنما ستبحث عنه في إشارات المرور وبين صناديق القمامة.
وهذا الطفل النائم مستترا بسقف العربة، يحاكم في أحلامه الجني عن عمره الذي سرقه تجار الأزقة والطرقات.
أجيد مزاحمة الطوابير، فأمد أذني بامتداد الأيادي، أتابع ملامح العشق المولود، وثرثرات النساء وخيباتهن، وأداعب الأطفال فوق الأكتاف، لأسرق براءتهم وأهبها لأبطالي.
وكلما حل دوري، أستعرض لطفا متكلفا، فأقدم علي هذا العجوز الذي قضى العمر في صفوف لا تنتهي للحصول على الدعم، والدواء، وبعض الكسوة، أو ربة المنزل التي تختلس لحظات العيش بين آلاف الفرص للموت جوعا وكمدا وقهرا .
وحينما يواجهني الخباز بانتهاء الطابور، أشتري رغيفا أو اثنين أسد بهما تربصه وتحفزه.
أسافر في حقيبة علي بابا الذي اختار التصالح مع «الأربعين حرامي»، وشاركهم سرقتهم، وناسبهم، وأنجب آلاف اللصوص.
في نهاية يوم أبحث عن هدهدي، وحينما أكتشف هروبه، أتوعده بعقاب لن أنفذه، ثم أجمع أوراقي وأعد قلمي للمقصلة. أكتب جملا افتتاحية عدة، وأمارس ألاعيبي الكتابية. أتربص بمرآتي وأسألها عن أفضل حكاياتي، وحينما تجيبني؛ أحطمها بغرور كتابي. أبدأ في محو بعض الكلمات، ثم أمزق وجه ورقتي؛ فلا تعجبني البدايات، وأبدأ من جديد للبحث عن قصتي.
ريحة الكحك
تراقص سيدات العائلة العجين باحتراف في طقس نسائي يتباهين به أمام رجالهن، تتوسطهن جدتي كمايسترو، ورغم تهالك عظام يديها تبقى إشاراتها الأكثر سحرا.
تتابع وضع المقادير، وتشعر بعطش العجين أو ارتوائه، وتلقي بالتعليمات، فتكافئ أمي بابتسامة، وتعاتب أخرى بإيماءة.
تجلس الصغيرات مسحورات بطقوس أمهاتهن، تتابع الأيادي، تتمطى كالأمواج في مدها وجزرها. يتحول الطقس إلى سيمفونية لها موسمها السنوي الوحيد.
لم تؤمن جدتي يوما بالتكنولوجيا، رغم محاولات أبنائها إقناعها باستعمال خلاط العجين، تجيبهم أن على المرأة الإحساس بما تقدمه لأهل بيتها، فحبها هو ما يضفي السحر على طعامها.
هذا العام تضاف لجدتي مهمة إطلاعنا نحن الصغيرات على سر الخلطة، وأصول الطقس النسائي، تجيب عن أسئلتنا البلهاء بصوتها المعطر بطيبتها.
تلاحظ انبهارنا فتمنحنا قطعة عجين، نحملها كقطعة ماسية نخشى خدشها، تدفعنا جدتنا لغرس أسنان «المنقاش»، والضغط لإثبات النقشة، فتعلمنا النحت بدروس عملية. ترسم لنا بقبضة يديها وانفراجها تعليماتها، لا يسكب الحليب مرة واحدة، ولكن مع العجن المستمر، عدم الإكثار من الماء لكيلا يفقد الكحك ليونته. «يعني إيه ريحة الكحك يا تيتة؟» تجيبني: «حاجة كدة صغيرة ميبقاش الكحك كحك من غيرها.» ثم تبدأ اختبارها لها، تمنح كلا منا قليلا على يدها، تحثنا على إغماض عيوننا واختبار طزاجتها، نقلدها بعيون نصف مغلقة، نتلصص عليها وهي تغازل ما بين يديها؛ فنتبادل الضحكات المستترة؛ فتنتبه وتؤنبنا بابتسامتها.
ينتهي العيد ويودعنا هذا العام حاملا معه أجمل روائح العائلة، نودعه إياها كأفضل أماناتنا. تبقى الأواني بأماكنها في الخزائن التي صنعت خصيصا لها، يسكنها الحزن والذكرى بعدما فقدت رائحتها المميزة. ولبستنا نحن الصغيرات تلك العادة؛ نشتري بقليل من مدخراتنا تلك الرائحة، نبسط كفوفنا، ونغمض عيوننا ونبدأ في الغزل.
ترويض
لم يكن الأمر سهلا أبدا، هو الخوف الذي لا يمكن أن تتجاهله، علاقة بين نقيضين وثالثهما الشك، قواعد اللعبة إما غالب أو مغلوب، نفهمها كذلك، حتى لو كان أحدنا بلا عقل.
تعاملني برأسك المغرور، فأعلن عصياني وتمردي، أنا الذي عاملت العالم بإحساسي وغريزتي فكانت سببا لبقائي.
تعرفني بصوتي، وأعرفك برائحتك، والروائح مثيرة للذكريات، فتبقى في ركنها البعيد مستعصية على النسيان.
تبحث عن ترويضي؟ من منا يحتاج إليه؟ أنت بغرورك، أم أنا بخوفي؟ تعلم أنني حساس مثلك، تداعبني الألحان لحد الرقص، فلا تغضبني بغرورك؛ فغضبي يشبه العواصف، لا تطلب مني الثقة بك، بل أطلب منك أنا أن تطلق لجامنا، وأن ننطلق معا، أن نتهادى فوق اللاحدود، حتى يملأ عيوننا البياض.
دعك من صوتك، وصهيلي، فلا أعترف بالأصوات لغة، يمكنك الاكتفاء بالهمس، واربت على ظهري، وحاور خصلي؛ فاللمس لغة لا يفقهها إلا أمثالي، ولا تخش؛ فقطعة سكر تكفي بالنهاية كمكافأة.
مركز ثقافي
جلست متململا في كرسيي، أحاول أن أواري سوءة خجلي، أسائل نفسي كيف طاوعت شيطاني للمجيء، يجيبني عقلي ببراءة مصطنعة: «إنه الفضول.» فأرده بسخرية: «اعترف، ولا ترم صديقك بحجر التحريض.» ثم أبدأ شماتتي، وأعدد له خطاياه؛ فلطالما ضبطت شياطينه وهي تحيك الحواديت بمجرد المرور بهذا البناء.
يختلق ذهني الضحكات المستترة والآهات التي تعصف بها الرغبات، والشائعات التي رسمت في خيالاتي صورة لساكنيه بجرأتهم وألوانهم الصاخبة. وتلك اللافتة بحروفها اللاتينية المتراقصة، وهذا الهدوء النهاري الذي يعوض الصخب الليلي متفردا عما حوله من مؤسسات حكومية. كلها أسباب دفعتني لترضية فضولي بالاطلاع على ما وراء هذا العالم الخلفي الذي يقبع ساكنا «هائجا» في قاع المدينة، رغم بنائه في أحد أشهر شوارعها.
كان المكان هادئا على غير توقعي، لا ضحكات خليعة متناثرة، ولا أشباه عراة على جوانب الغرف ، فقط أبواب مغلقة، راسمة جدرانا خرسانية عازلة للصوت والغرائز، هدوء هدم تلك الخيالات والقصص في رأسي.
استقبلتنا امرأة في منتصف الثلاثينيات تبدو وكأنها تدير المكان، هادئة الملامح، تولى صديقي التفاوض معها، وحينما دعاني، كان خجلي قد أنهى جولة عنتريتي المصطنعة لصالحه، فاكتفيت بجلستي المتململة لحين عودة صديقي من جولته.
خوفا من جولة أخرى، وهزيمة متجددة؛ شغلت بصري بملاحقة المكان، وجلساته المستديرة، الموضوعة بشكل يحفظ بعض خصوصيتها، وبعض المناضد العالية التي تسمى «البار» للزائرين الفرادى، وضعت بحيث تقابل ظهورهم تلك الجلسات المستديرة.
على إحدى الأرائك لمحتها، بفستانها الذي بالكاد يغطي ركبتيها، والمنحسر عن أكمامها، مظهرها لا يتناسب مع سيجارتها التي تمسكها بأطراف أصابعها وتنفثها بعصبية، وجهها باهت من الألوان، ولكنه لا يخلو من حلاوة طبيعية، دخل أناس عدة ألقوا إليها نظرة سريعة ثم ما لبثوا أن بلعتهم الأبواب المغلقة بعنفوانها.
انتبهت إلى نظراتي؛ فأشارت إلي بنصف ابتسامة، تاه ردها على فمي، فأجبتها بمزيد من البحلقة، ترجمتها هي تجاوبا، فتبعتها بدعوة صريحة بإيماءة من رأسها.
عاد الصراع خفقانا في القلب وارتعاشة في اليد، حاولت أن أدير وجهي لإيقاف تطلعاتها، وحينما ظهر إشعاع جرأة آخر؛ عدت بنظري إليها فوجدتها ما زالت على موقفها.
عرفت نوعي، توقعت ذلك حينما وجدتها تبادر بالقيام من مجلسها، وتقترب من مكاني، ألح علي هذا اللعين لصيق حياتي بالهروب. كم أكرهه! كم من تجربة أضاعها علي! كم من جولات فتتني فيها! لم تكن تعنيني مغامرة ليلية، ولكنني تمنيت فقط مغالبة غريمي، الذي جعلني مضحكة بين أصدقائي.
قررت فض طهري بأكثر الطرق صخبا؛ حملت لها ابتسامة عريضة بدت بلهاء، شجعتها على الحضور بخطوات متسارعة، ثم جلست بجانبي، وحينما مدت يدها لتلمسني؛ انتبهت إلى غريمي وقد أعلن انتهاء الجولة. صفقت الباب ورائي وسط نظرات دهشتها المعجونة بخيبتها. •••
ترددت لحظة ولحظتين قبل أن أعيد الطرق، حتى انتبهت إلى أن الباب مفتوح، دخلت مترددا، لمحتها تجلس في ركن، بفستانها الذي يشبه بساطتها وجمالها الطبيعي. ما إن لمحتني حتى باركتني بنصف ابتسامة، ثم عادت لتصفح هذا الكتاب بين يديها.
فحصت المكان بنظرات مضطربة؛ المنضدة ذاتها في استقبال الداخل، وهدوء تلك الجالسة وراءه التي انشغلت بمتابعة بعض الملفات الورقية.
فوقها تماما تتوسط الحائط لافتة تبدو جديدة بإطاراتها المذهبة، وبخط نسخ جميل كتب عليها:
في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، تم افتتاح المركز القومي للتنمية الثقافية.
وكأنها انتبهت فجأة لوجودي، سألتني: «أيوة يا فندم؟» فأجبتها: «من فضلك، أريد الاستفسار حول ورشة كتابة القصة.»
كيس مقرمشات
نظرت إلي بعيون مشاغبة خلف عباراتها المتوسلة، تعجبت لها. ورغم شغبها عسكت ملامحها براءة لا تناسب من هم مثلها فقدت أرواحهم على جوانب الطرقات.
أشحت برأسي بعيدا عنها، وتظاهرت بعدم انتباهي لوجودها؛ فقد كنت عاهدت نفسي منذ زمن على تجاهل المتسولين، مهما كانت أعمارهم وطرقهم المبتكرة للتسول.
أعطيت ابنتي كيس المقرمشات ألهيها به، فيما تسمرت قدماها هي عند باب الميكروباص، ومدت نصفها الأعلى للأمام، فاستندت بذراعيها على المقعد المجاور. كنت الراكبة الأولى، وكان اليوم عطلة، وبعيدا عن ساعة ذروته، فيما كان السائق منشغلا بكوب شايه، أو ربما بحكم عشرتهما لهذا الميدان تجاهل وجودها.
مرت دقائق ظننت بعدها أنها رحلت، ولكنها كانت لا تزال هنا صامتة، تلتفت ثم تعود لتسمر نظراتها على وجه ابنتي، يسكرها طربا صوت المضغ، وتلهيها بقايا الطعام على فم ابنتي عن صياحات بعض الراكبين الذين بدءوا في التوافد، طالبين منها الابتعاد عن الباب.
ظلت واقفة، وظللت أدعي عدم الانتباه، وامتنعت هي عن ممارسة ألاعيبها اللفظية. سكننا الصمت فشعرت بتقديسها للموقف، غلبتني بشبح ابتسامتها، وصمتها الرائق الذي لا يناسب مظهرها الرث.
فتحت حقيبة يدي وأخرجت الكيس الآخر من المقرمشات، وحينما مددت يدي إليها؛ انفرجت ابتسامتها وتحولت لفرح كبير تشوبه الدهشة. شعرت بترددها وهي تمد يديها، فطمئنتها بابتسامة، فاحتضنت الكيس وانسحبت.
بطاقة هوية
«ابقوا في منازلكم، ابقوا في منازلكم.» تتعالى وتتردد النداءات عبر مكبرات الصوت، دون أن يكملوا عبارتهم: «الموت سيأتي لمضاجعكم؛ فلا تتعبوا أنفسكم، ولا تتعبونا»! هكذا علمتنا السياسة والصراع. «أنت بأمان.» أحاول أن أطمئن طفل جارنا الذي تعثرت به مختبئا بحديقتهم، عيناه تتهمني بالكذب، بعدما تلطخ جسده بدماء أبيه الذي حاول أن يلهيهم عنه.
الوجوه متشابهة؛ فالملامح الغاضبة واحدة. تحمل العصا أو البندقية، لا يهم، فنية القتل واحدة لا تقبل التأويل.
هل تستطيع غلق العيون وطمأنة تلك الوجوه المتكدسة في عربة محتمية خلف شعار الملاجئ والمستشفيات، غير واعين أنهم أول الضحايا، فلا سعر أو قيمة لهم؟
على الطريق قابلنا فريقا من أربعة يعتصرون تحت أقدامهم وعصيهم وسيوفهم إنسانية آخر، لا يختلف عنهم كثيرا في ملامحهم، فيما تتواصل أحاديث البحث عن مخرج ومنقذ.
وحينما وصلنا إلى الفندق، كانت الحشود الجريحة تحاول اقتحامه للحصول على فرصة لمداواة جروحهم وأرواحهم. تردد المدير خشية على سمعة فندقه ذي النجوم الخمس، وفي النهاية وافق على منح بعضهم غرفتين من غرف الموظفين يداوون فيها تشوهاتهم.
تكدس الجميع، وحينما سألتهم عن هويتهم، أجابت عيونهم: «ليتنا نستطيع تمزيق بطاقاتنا لتكون أضحية عن أرواحنا.» هذا الختم اللعين كان سببا لكل هذا، لو كان يدرك آباؤنا، ما كانوا حاربوا طويلا من أجله. ولا تزال آذان الجميع تنصت إلى التلفاز حول مجهودات الإنقاذ.
سألني عجوز في احتضاره: «لماذا البشر قساة لهذا الحد؟» وتوقفت الإجابة في حلقي، فيما حلقت أنفاسه هو لحدود أخرى أكثر براحا.
على وقع الرصاص أرغمت على السير للحصول على مؤنة تضمن لنا الصمود بضعة أيام، تتحرك الحافلة، أحاول أن أمني نفسي بحماية المتمردين أو الثوار أو القوات الحكومية أو الأممية، ولكن هذا لا يمنح الحق في الحياة والاطمئنان.
في طريق العودة أرشدونا إلى طريق «نظيف»، وسارت بنا الحافلة تتهادى على وقع الجثث الطازجة، أخبرونا أن الطريق آمن، ولكن كيف يأمنون أرواحا تلعنهم آلاف المرات تحوم حولنا وحولهم. «أتستطيع حمايتي؟» أردد السؤال على رئيس الشرطة، وحينما لاحظت تردده، تابعت: «أستطيع أن أمنحك زجاجة جعة تشرب نخب دمائنا وأوطاننا، أو أعطيك عشرات من الدولارات التي ادخرتها من أصدقائي حينما كنت في خدمتهم وقبل رحيلهم عند بدء القتال.»
نردد لأطفالنا: «سيأتون لإنقاذنا.» رغم الشك، نمني أنفسنا بها، ثم نستمر في متابعة أجهزة الإذاعة والتلفزة، نتشبث بها كأمل أخير. الجميع يدلون بأحاديثهم حول مجهوداتهم، ويتجاهلون مجهوداتنا في توفير الرشاوى التي تكفيهم.
أصدقاؤنا من خلف المكاتب يؤكدون تحركاتهم لتوصيل معوناتهم، وحينما جاءت أخيرا؛ حملوا جميع اللحم الأبيض، ورحلوا. تركوا لنا فضلاتهم، ووطنا إما أن تصبح فيه قتيلا أو قاتلا، وطنا أصبح سببا إضافيا للقتل.
رحيل
أخيرا أعلنت المضيفة عن ضرورة ربط أحزمة الأمان، وبدء إقلاع الطائرة، أحاول جاهدة أن أغمض عيني لأنال قسطا من الراحة التي خاصمتني طوال الأسبوعين الماضيين، وسط النوم المضطرب والأحداث المتسارعة.
ينازعني النوم، فيأبى إطاعة أوامري؛ فأفتح النافذة وأتطلع بعيون نصف زائغة، فيما يطن في أذني صوت محركات الطائرة. أودع المدينة التي عاشتني بتفاصيلها، ولهجاتها المتعددة، ووجوه ساكنيها، ومبانيها الزجاجية، وناطحاتها، والتي جاء قرار الترحيل منها مفاجئا، ونصف سار في الوقت ذاته.
ما زالت تفاصيل ذلك اليوم حاضرة في ذهني، أعيدها عشرات المرات، أحاول جاهدة أن أغير بعض تفاصيله، ولكن تفاجئني النهاية ذاتها مع كل محاولة.
حينما جاء زوجي من عمله في موعده المعتاد، ولكن عينيه الزائغتين نبأتاني بأن يومه لم يكن عاديا، سألته، فطلب تأجيل الحديث لما بعد الغداء، ولكنه أمام إلحاحي أخبرني بأن مديره أبلغه بقرار إنهاء عمله، وضرورة ترحيلنا خلال عشرة أيام، دون أية تفاصيل؛ لأنه هو ذاته لم يكن لديه سوى خطاب إنهاء الخدمة فقط.
في تلك اللحظة شعرت بأنني السبب، وألحت علي تحذيرات طالما سمعتها من زوجي وزملاء العمل، بالكف عن التطرق إلى الكتابة في السياسة ومجاوزة الخطوط الحمراء، والاكتفاء بالتقارير الثقافية أو الاقتصادية الاعتيادية، ولكنني في كل مرة كنت أتهمهم بالمبالغة في المخاوف، وأكرر أن ما أكتبه ليس على هذه الدرجة من الأهمية.
ثم تذكرت ذلك التقرير الذي نشرته قبل بضعة أيام، والذي تلقيت بمجرد نشره تعليقات حامية من أصدقائي وأفراد عائلتي، ولوما مستورا من زوجي.
أخبرته بهواجسي، فأجابني بأنه لا داعي لاستباق الأحداث، ولكن عندما عاد لعمله في اليوم التالي، عرف بشكل سري أن تقريري هو السبب وراء قرار الجهة الأمنية بإنهاء وجودنا بالبلد.
تلك الليلة طلب مني ولأول مرة منذ سنوات أن أترك ابنتي مع أمي التي تزورنا منذ أسبوع، والخروج معه، فظننت أنه يريد أن يلقي على مسامعي لومه ومسئوليتي، خرجت معه متحفزة، فقد سمعت من الأهل والأصدقاء طوال اليوم ما يكفي من اتهامات.
شعر باضطرابي، فاحتضنت يده يدي، وأشعرني بدفء مفقود في تلك الليلة الشتوية، فطمأنتني لمساته وكلماته، وأخبرني بأن تقريري أهم عنده من مؤسسة خدمها تسع سنوات فلم تحفظ موظفيها ولم تدافع عنهم.
وتوالت الأحداث سريعا، بين إجراءات تسليم لعهدته، وإنهاء لإجراءات سفرنا، وشحن ما تيسر لنا، والبحث عن مشتر لما بقي لنا من أثاث وأجهزة، وسط سقوط لأقنعة من حولنا، وأصدقاء ادعوا يوما تلك الصداقة، فمنهم من رفض الرد على اتصالاتنا، والبعض اكتفى بكلمات الوداع الروتينية، وآخرون أجابوا عن رسائلي بطلب البحث عن فرص أخرى بالعمل بحجج واهية كسياسة التوطين التي تنفذها مؤسساتهم، وصعوبة توظيف جنسيات معينة بفعل الأحداث السياسية في بلدانهم.
تطاردني المخاوف في وطني؛ فلا عمل، وبيت نصف مجهز، وعائلة تتربص بلومها، وطفلة لم يتعد عمرها سنوات أربع، فرحة بعودتها لأحضان عائلتها، ومتخوفة من مستقبل لها لم نخطط له بعد. ينتفض جسدي قلقا، فيلاحظ اضطرابي، فيحمل يدي مرة أخرى يهدهدها بين يديه، وهو نصف نائم ونصف مستيقظ، ويستمر الأزيز يطن في أذني.
في القفص
خرجت من باب المستشفى، في مثل تلك الساعة التي دخلت فيها منذ أسبوعين، كانت الشمس حامية والحرارة شديدة، ولكنها مع ذلك كانت تسير بخطى مسرعة، تحمل طفلها الوحيد بين يديها، لا تصدق أنه نجا أخيرا من شبح المرض الذي سكن جسده الهزيل طويلا.
ورغم تأكيدات الطبيب لها بأن ابنها شفي تماما، فقد حرصت كل حين على أن تلمس جبينه وتلصق أذنيها بصدره لتطمئن إلى انتظام ضربات قلبه.
تهبط فزعة الطريق الذي سبق أن صعدته وصولا إلى المستشفى، تتذكر ما عانته في هذا المكان الذي يشبهها في بؤسها وفقرها، ثمنا لتمريض طفلها، فاتورة سددتها وهي تغسل وتمسح بلاط العنابر القذرة ، وطرقات المستشفى التي أكلت جدرانها الرطوبة، وذكرتها ببيتها نصف المتهدم.
تتذكر رعبها حينما أبلغوها في اليوم الأول لمجيئها بضرورة دفع ثمن أكياس الجلوكوز، والمحاليل والأدوية لطفلها، وبكاءها للممرضة القاسية الملامح، والضخمة الجثة، وتشبثها بسور السرير الحديدي، الذي وضعوا فيه طفلها، والذي غاب عن ملاءته لونها لكثرة مرضاها ولكثرة ما ارتوت من أجسادهم.
دفع بكاؤها عجزا عن دفع ما طلبوه منها إحدى الممرضات الأصغر سنا للتوسط للممرضة الضخمة، هامسة لها بأنه يمكن توظيفها في التنظيف تسديدا لثمن الأدوية، فرمقتها الممرضة الضخمة بنظرة مشمئزة، طالبة منها أن تبدأ بتنظيف الأحواض والحمامات.
مكثت في العذاب أسبوعين، تسمع الأوامر وتطيعها، رضخت حتى لاستغلال الممرضات لها في القيام بما يطلب منهن، طمعا للحصول على بعض سويعات الراحة، أو في الثرثرة أو في عدم الالتزام بمواعيد دوامهم اليومي.
حملت التراب ونفايات المرضى وأهاليهم. حتى اسمها تنازلت عنه طوعا، حينما اكتفوا بمناداتها بضميري «هي» و«أنت».
ورغم العمل طوال عشر ساعات، كان نومها متقطعا، فكانت تتابع بكاء الأطفال في العنابر فيرتجف قلبها، محاولة بجهد التخفيف من بكائهم من خلال الكمادات وبعض الهدهدة التي تخفف بها لوعتهم لفراق أهاليهم.
لم تصدق أذنيها وهي تستمع إلى الطبيب الشاب وهو يبشرها بشفاء ابنها، وأعادت عليه السؤال متوسلة للتأكد من الشفاء، متوجسة أن تكون بشراه مجرد رغبة لإخلاء السرير لمريض آخر.
وبعد تأكيدات الطبيب حملت طفلها، خرجت من باب المستشفى الذي جلس بجواره العديد من البشر على الرصيف المتكسر، أو القرفصاء، انتظارا لسماع أسمائهم، أو لحين موعد الزيارة الرسمي.
سارت وسط نساء أخريات متوشحات بسواد الفقر والبؤس، مكتفية بفوزها بطفلها، تحاول أن تقنع نفسها بأنه هو سيكون مخلصها.
تتفاجأ بسيارة تقف بجوارها، يزعجها صوتها المرتفع الناتج عن وقوفها المفاجئ، نظرت فأطل منها وجه الطبيب الشاب الذي سبق أن بشرها بشفاء طفلها: «تعالي أوصلك يا فاطمة.» للمرة الأولى تسمع اسمها منذ أسابيع الشقاء، حلوا وهادئا ومثيرا للاطمئنان، عادت به إنسانيتها، ورغم ذلك رفضت طلبه على استحياء، وتشبثت بحضن صغيرها، ورحلت.
الطابور
الساعة السادسة صباحا، يأتي الصوت صاخبا من خلف نافذتنا الزجاجية، ألمح تلك الأجساد المتراصة، أتعجب، وأسأل نفسي: «متى يبدأ هؤلاء يومهم؟» أتابع الصفوف التي تقوم بتمارين صباحية ككتيبة عسكرية، ثم انتباههم الشديد لرئيسهم وهو يلقي عليهم تعليمات اليوم.
في طريقي تلفت انتباهي تلك الوجوه المحترقة بفعل العمل ساعات طويلة تحت أشعة الشمس والحرارة التي تتعدى درجاتها الخمسين، والرطوبة التي تقترب نسبتها من الثمانين بالمائة، فجعلت الجميع في هذا الزي الموحد، كدمى متراصة من مصنع واحد.
تزعجني تلك النظرات التي تلاحقني من بعضهم في فترات تناولهم الطعام، لا يهم ماذا أرتدي، وكيف أسير، وحدي أم برفقة أحد؛ فالنظرات الجائعة تلاحق النساء المارات جميعا.
في بداية إقامتي بتلك المدينة كنت أضيق بتلك النظرات، فأردها احتقارا، ولكن بعد حين التمست لهم ألف عذر حينما خبرت المزيد من الصحف وحكايات الأصدقاء عن هؤلاء الرجال وأمثالهم، وكيف أنهم يعيشون على بضع مئات من الدراهم شهريا، يتجمع العشرات منهم في بيوت خالية من التهوية، محرومين من صحبة الأهل، ومن الزواج، يتقاسمون حتى الطعام ليستطيعوا إرسال ما تيسر لهم إلى أهاليهم.
مؤخرا فاجأني العمل بتلك المنطقة المواجهة لمسكني، فبت قريبة من بؤسهم، ألحظ طوابيرهم الصباحية، وعملهم المستمر طوال اليوم، لا يهم صباحا أو مساء، شتاء أو تحت الشمس الحارقة، متلفحين بالملابس الرسمية، والخوذات، والأحذية ذات الرقاب المرتفعة، التي تضيف ثقلا آخر إليهم فوق ثقل العمل وثقل الفقر.
وفي فترات راحتهم تكتفي الأجساد بالتمدد متلاصقة تتظلل بالجدران الحديدية المبنية حول منطقة العمل، أو أرضية الحدائق الرطبة، وفي أيام عطلتهم يكتفون بتجمعاتهم وافتراش الأرصفة جلوسا.
في ذلك اليوم لم أسمع أصواتهم الصباحية الصاخبة، وفي طريق عودتي لاحظت الوجوه متجهمة، ممتنعة عن العمل، بعضهم يجلس القرفصاء، والآخر يشوح بيديه بانفعال في أحاديث جانبية.
استمر الامتناع عن العمل أياما، وبعدها بدأت اللافتات تظهر في موقع العمل، بداية على استحياء، حتى ملأت المكان، صور لأشخاص بالسحنة نفسها تغطيها الدماء، سقطوا أثناء العمل بفعل الإعياء الحراري، مذيلة بعبارات محتجة بلغات عدة، مطالبة بامتيازات إضافية : زيادة ساعات الراحة، خاصة فترة الظهيرة بالصيف، ومساكن أكثر آدمية، وسائل تنقل تليق بالبشر، ورواتب تفي بالحاجة.
تابعت الصحف المحلية الخبر بتغطيتها الخاصة، فوصفت الحادث بأنه أعمال شغب من قبل عمال، منتقدة تلك الاحتجاجات بأنها نكران لجميل بلد آوتهم من الموت فقرا ببلدانهم، وأذاعت مختلف وسائل الإعلام الأرقام الرسمية عن ملايين الدراهم التي تحول كل عام من «خير البلد» بسبب أولئك الوافدين.
أخلي الموقع، واكفهرت المنطقة، وتوقف البناء، وبت أسمع بديلا من أصوات الطوابير الصباحية، أصوات أزيز الآلات الضخمة والروافع الحديدية بفعل الرياح، وبعد أسابيع انتبهت على صخب، نظرت من نافذتي، كانت هناك حافلات تحمل وجوها أخرى أكثر نضارة، تحمل في عيونها بعض الأمل، تتبع أوامر بتنظيف المكان من النفايات، ثم توالت التمرينات الصباحية كل يوم.
البيت الرطب
تزعجني الأصوات الصاخبة التي تملأ أرجاء بيتنا، لم أتعود على هذا العدد من الضيوف، وتلك المصابيح الملونة المتلألئة، والموزعة بأرجاء البيت وعلى سلالمه وواجهته، وجوه أعرفها من جيراننا وأقاربنا، بعضهم ألقاه دوما بحكم المسكن القريب، والبعض يأتينا أحيانا أو نزورهم في بلدة أمي.
أهرب من أغاني المذياع المرتفعة، وتحيات الضيوف، وتربيتاتهم على كتفي وتأكيدهم بأنني «كبرت خلاص وبقيت راجل». أتسلل إلى غرفة أمي، أنظر إليها. لم أرها يوما بكل هذه الزينة، أو هي لم تكن متزينة يوما، ودعت زينتها وألوانها منذ وفاة أبي منذ أربعة أعوام. يومها لم أكن قد أكملت عامي السادس، ولم أكن أعرف ماذا تعني وفاة الأب، فقد فوجئت ببيتنا يلفه السواد، وتلاوة القرآن لا تنقطع ليلا أو نهارا، كنت أضيق بها أحيانا لأنها تؤرقني وتمنعني من النوم.
لم يكن لدي سوى ذكريات بعيدة عن أبي، ونسختين من صورته، تتوسط إحداهما غرفة صالوننا، والأخرى منتصبة على المنضدة بغرفة أمي.
نظرات حزن رمقني بها المعزون، ومصمصات شفاه النساء، وثرثراتهن بأن «البنية لسه صغيرة على الترمل، والصبي أصبح يتيما مبكرا، وما زال أمامه مشوار طويل ليكبر ويتحمل المسئولية.» لم أكن أفهم يومها معنى اليتم، غير أنني حرمت من الحلوى التي كان يأتيني بها أبي كل مساء أثناء عودته من عمله.
رغم غياب أبي، كان حضوره في سواد أمي الذي لم تخلعه، شعرت أنه زادها جفافا مع الوقت، ظهر في تجاعيد مبكرة على وجهها، وبعض الشعيرات البيضاء، وأيضا في معاملتها لي التي ازدادت خشونة.
ودخلت المدرسة، وشعرت حينها أن لليتم مزايا؛ فما إن يعلم مدرسي وزملائي بأنني يتيم، حتى يخصوني بمعاملة ودودة، مزيد من الترحيب الصباحي، وتشجيع على المذاكرة، وتأكيد رجولتي المبكرة.
منذ ما يقرب من شهر، دبت في بيتنا حركة أخرى غير ما اعتدتها، زارنا بداية أخوالي من البلد، زيارات متقاربة لم أكن معتادا عليها، وعبارات كثر ترديدها في منزلنا: «رجل ملو هدومه، أنت هتفضلي لامتى كده؟ الولد كبر ومحتاج أب يفهمه ويوعيه.»
حوارات جانبية ونسائية، كانت أمي تحرص على إبقائي بعيدا عنها، وتحثني على المكوث بغرفتي، بمجرد إلقاء التحية على الضيوف. ثم خصني خالي الأكبر بحوار منذ أيام، وبعد مقدمة طويلة حول تحمل أمي المسئولية في ريعان شبابها، وأنني بحاجة إلى أب يدخل ويخرج من البيت، وأحكي له مشاكلي، أخبرني أن عريسا تقدم لوالدتي، وأنه بالسؤال عنه عرف أنه مناسب لها.
لم أكن أستوعب ما قاله خالي، غير أن هناك رجلا آخر سيسكن بيتنا، وبطبيعة الحال فقد أصبح أمرا واقعا، ولا خيار لي إلا مباركته.
النساء المتحلقات حول أمي يضفن مزيدا من الزينة إلى وجهها، يغطين الشعيرات البيضاء بمزيد من الصبغ، تتفاجأ أمي بوجودي فيحمر خداها، تحتضنني، ثم تبلغني بضرورة الوقوف خارجا مع «الرجالة» حتى تنتهي.
أتسلل إلى غرفتي غير عابئ بالضيوف، وأضيق بقطع أثاثنا التي كومتها أمي في غرفتي؛ لتتسع صالتنا للكراسي التي استؤجرت للمناسبة. أحاول أن أفتح بعض كتبي المدرسية، ثم أغلقها سريعا، وأكتفي بالتمدد على سريري والنظر إلى سقف غرفتي.
يزداد الصخب وتعلو زغاريد النساء، وأحد الصبية ينادي: المأذون حضر. يكتب الكتاب، ويبدأ الجميع في الرقص والتصفيق، وأمي تجلس بكامل زينتها بجوار هذا الرجل الذي لا أعرفه، ولم أجلس إليه سوى مرات قليلة أثناء الحديث عن ترتيبات الزواج.
يأخذني خالي إلى منزله بضع ليال، ثم أعود إلى بيتنا، فأرى أمي بوجه آخر، اختفت الخصيلات البيضاء تماما، وازداد تورد وجهها، اختفى الأسود من بيتنا، فغاب أبي وحمل معه صوره.
استيقظت قبل موعد يقظتي المعتادة، أذني تلتقط همهمات، وضحكات مستورة، وصوت مداعبات زوج أمي، أحاول العودة إلى النوم الذي لا يأتيني، أحملق في سقف غرفتي، حتى يخرجني صوت منبهي من تخيلاتي، أخرج على مهل، وألاحظ هدوء الأصوات.
أبحث في حقيبتي عن طعامي المدرسي فلا أجده، فأحاول أن أشغل نفسي بتناول كوب من الحليب فتزعجني برودته، فقد عودتني أمي على تناوله ساخنا.
أتعثر بأمي خارجة من الحمام، تتفاجأ هي أيضا بي وكأنما تذكرت وجودي على حين غفلة. رأيتها ندية، بنظرات خجولة، ألقت تحية صباحها على عجل، ثم دخلت غرفتها وأغلقت بابها خلفها.
المقهى
ينادي يوسف أو «جو» حسبما يلقبه زبائنه، عبد الله عامل القهوة الأقدم بين العاملين لديه، ليسرع في رص ما بقي من أشياء مهمة في الصناديق المعدة لذلك.
يراقب جو عبد الله وهو ينزل الصور المعلقة بمختلف جدران المقهى التي يزيد عمر بعضها عن سني عمره، يتحسس إطاراتها المذهبة القديمة كأحد كنوز علي بابا. هو يعلم بحزن عبد الله لقراره ببيع المقهى، يتذكر محاولاته لثنيه عن قراره بطرق عدة؛ كإقناعه بأنه سيقوم بأعمال التنظيف إلى جانب تقديم الطلبات، موفرا بذلك أجرة عامل، أو أن يقتطع جزءا من أجور العمال من أجل تجديد المقهى لعل ذلك يزيد من رواده ويعيد زمنه الذهبي.
يوسف وعبد الله في العمر نفسه تقريبا، لا يعتبره يوسف مجرد عامل. بدأ ارتباطهما بالمقهى منذ الصبا، ولكن بالطبع كان يوسف هو ابن صاحب المقهى، اليوناني، الذي ولد وتربى في مصر، ورغم ذلك فقد كان لقبه دائما «الخواجة جو» تمييزا له عن «الخواجة» والده.
في صغرهما لم يملا أبدا من مراقبة والده وهو يعامل الزبائن، يتحرك بكد ونشاط، لا يكتفي بمتابعة عماله، بل يسارع لخدمة زبائنه بنفسه، يتأكد من ضبط توابل الأطعمة التي تقدم إليهم، ويشتري أفخم أنواع الشيشة، ويشرف على تنظيف الطاولات والأرضية بعد ذهاب كل زبون.
اعتادا زيارة المخزن الصغير المرفق بالمقهى، والذي كان يضع فيه «الخواجة» الأجهزة والأدوات التي لم تعد تستخدم؛ كالبكرج، والجرامافون، وأسطواناته السوداء. كانا مبهورين بتلك التفاصيل، ينتشيان وهما يودعان آخر زبون مع أذان الفجر. وفي جلساتهما مع الأصدقاء يتباهيان بمعرفتهما لمعاون النيابة والعمدة وابن المأمور الذين كانوا من رواد المقهى.
كان مقهى «الخواجة» علامة مسجلة بالمنطقة، تميز خلال الخمسينيات والستينيات عن المقاهي الشعبية الأخرى، يجتمع به الموظفون، وتقدم لهم «الشيشة» بدلا من «الجوزة» التي تقدم بالمقاهي الشعبية، وكذلك المشروبات المغلية على البكرج، والجلاس، والأطباق النظيفة التي تقدم بها وجبات خفيفة.
أما ليلة الخميس من أول كل شهر، فكانت ليلة تعلن فيها حالة الطوارئ بالمقهى؛ استعدادا يليق بحفلة «الست» أم كلثوم، تزيد فيها المشروبات، وينظف الراديو من الغبار، ويتم التأكد من نقاء الصوت حتى لا يعكر صفو المستمعين شيء طارئ.
وكان الخواجة بلكنته اليونانية ولهجته المصرية المكسرة، محبوبا من الجميع، يحرص على استقبال زبائنه باحترام وإظهار تبجيله لهم، وهم يودعونه أسرارهم ويشاورونه في مشكلاتهم.
وعندما دخلا، جو وعبد الله، مرحلة البكالوريا، مات والد عبد الله؛ فتوقف عن استكمال دراسته، واكتفى بساعات إضافية في العمل بالمقهى، بينما أكمل جو تعليمه حتى حصل على بكالوريوس التجارة.
افترق الصديقان، فلم يعد جو يزور المقهى إلا لماما، حتى أيام عطلته كان يقضيها بصحبة أصدقائه بأحد المقاهي «المودرن» حسبما يسميها، فيما أصبح عبد الله جزءا من المكان، وكان «الخواجة» يعتبره ساعده الأيمن.
مع مرور السنوات تقدم العمر بالخواجة، وأصبح متمسكا بالتقاليد القديمة علامة للمقهى، استمر في شراء صور عبد الناصر والسادات وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وتوزيعها على جدران المقهى، رغم تبدل الزمن.
في الوقت نفسه افتتحت مقاه أخرى، بداية بهذا المقهى ذي الأنوار النيونية الملونة، كان أكثر حداثة من مقهى «الخواجة»، فكان أول من استعمل شرائط الكاسيت بالمنطقة، ثم التلفاز، بينما اكتفى مقهى «الخواجة» بالمذياع سنوات طويلة، وانحازت المقاهي الجديدة إلى المطربين الجدد، واستخدمت الكراسي ذات السيقان العالية المعدنية، التي يجلس عليها الزبائن فيما يعرف ب «البار»، وتنوعت المشروبات المقدمة، وظل أكثرها محتفظا بأسمائها الإنجليزية.
مات الخواجة واستلم ابنه إدارة المقهى، ورغم ذلك فقد احتفظت بشيخوختها وكأنها جزء من الخواجة الأب، برزت على جدرانها آثار الرطوبة، وزادت شكاوى الزبائن من «الحمامات البلدي» رغم وعود «جو» المتكررة لزبائنه بتغييرها، واكتفى المقهى بتقديم البسكويت الجاهز عوضا عن قوالب الكيك التي كان يوصي بها الخواجة، والتي أصبحت تبقى أياما عدة بالثلاجة بعد انخفاض عدد طالبيها.
كان رواد المقهى يتحدثون بداية همسا عن رغبتهم في «تجريب» المقهى الجديد، ذهب الموظفون أولا، خاصة الجدد منهم بالمنطقة، ثم توالى الآخرون. فقد المقهى أيضا الكثير من عماله بعدما جذبتهم تلك الألوان الصاخبة، والأرضية من السيراميك، وحوائط القيشاني بالمقاهي الجديدة، وبالطبع الأجور الأعلى.
يتوجه عبد الله إلى جو طالبا منه أن يمنحه تلك الصورة القديمة للخواجة وهو يتوسطهما في صغرهما، وفي خلفيتها يقف عمال المقهى بأزيائهم الزاهية النظيفة، بجانب البكرج والجرامافون. يوافق جو على عجل، فقد لمح دخول المشتري في موعده المحدد.
على الطريق
على جانب الرصيف يجلس منزويا يختفي أياما، ثم يظهر على حاله نفسها، ملتصقا بالزاوية ذاتها من الطريق، دون أن يعلم أحد أو يهتم أين يذهب أو كيف يعرف طريق عودته، يبدو وكأنه جزء من هذا الشارع، بملابسه التي اهترأت تشبعا لكثرة ما ارتوت من قسوة سنوات التيه على جوانب الطرقات، وشعره الأشعث الذي لا تعلم إن كانت رماديته لشيبة أم بفعل مجالسة الطريق.
يمضي غير عابئ بالنظرات المتسائلة أو بالخطوات التي ما إن تلمح مجلسه حتى تغير مسارها، يتلفت يمينا ويسارا، باحثا حينا بين صناديق فضلات ساكني الحي، وأحيانا تراه جالسا مزهوا، ينفث بقايا سيجارة ألقاها أحد المارين بالقرب من مجلسه.
لا يتحدث عادة، كل ما يسمع منه مجرد همسات لا تستطيع فهمها، تفسرها حينا بأنها سباب للأطفال المشاكسين الذين يعبثون بوجبته، أو كدفاع عن نفسه حينما يلقون الحجارة عليه أثناء نومه، أو تترجم إشاراته تسولا حينما يجيبها بعض المارة أو أصحاب السيارات بقليل من الجنيهات أو أكياس بقايا الطعام.
لغة خاصة بينه وبين بائعي أكشاك البضائع تجعلهم يحتفون بمروره، تحية حارة منهم، يقابلها بردود مقتضبة لا تزيد أحيانا عن بضع إشارات باليد أو هزات بالرأس.
لم يعد يتساءل الناس عن عمره، أو حاله الذي جعله أحد معالم هذا الشارع؛ فقد قضوا الكثير من الوقت بحثا عن إجابات لأسئلتهم: من هو؟ ومن أين جاء؟ ومتى استوطن هذا الشارع، حتى أصبح جزءا منه؟
تناثرت الأحاديث؛ فالبعض يقول إن زوجته هجرته لقلة الرزق، فهام على وجهه بحثا عنها، والبعض أكد أنه انتظر خطاب تعيين الحكومة سنوات طوالا، فهرب من نظرات التحسر، وآخرون يقولون إنه ولد «مجذوبا» فألقى به أهله بالمستشفى العام، حتى ضاق بها وبمعاملة الأطباء له كحيوان اختبار، وجشع الممرضين واستهزاء الطلبة به، فتركها واحتمى بالشارع. اجتهد كثيرون، ولما خابت إجاباتهم، انشغلوا بحالهم وقبلوه على حاله.
اليوم يبدو مختلفا؛ يلتف حوله أصحاب الأكشاك، وبعض الباعة الجائلين، حتى الصبية المشاكسون، يصفقون له تشجيعا، تتسع الدائرة مرحبة بالمشهد الجديد، تتعدد التعليقات: «نعم متسعة قليلة لكنها مختلفة، أكثر نظافة، أثقل بعض الشيء مما يحتمل الطقس، لكن لا يهم، يمكنه خلعها ليلا لافتراشها، أو أن يهش بها ذباب الطريق.» يقف مزهوا بنفسه، مرتديا سترة نصف مهترئة، وجدها في صندوق القمامة القريب، ما زالت تحمل بقايا ألوانها، يرد على تحيات الملتفين ببعض الابتسامات، ثم يعود لزاويته، وينفض الجمع.
دقات الساعة
لهاث يلاحقه لهاث، وأنفاس تتكسر على نصل حياة كالمتاهة الكبرى يدور فيها عمرك، لا لسنوات عشر، أو عشرين أو حتى أربعين.
تتربص بك أحلامك، أنت دائما تجري، لتلحق بقطار أو موعد اختبار، أو اجتماع، والتأخير لا ينتهي، بينك وبين سيارتك، أو باب غرفة الاجتماع أو الامتحان، خطوات قليلة وقدمك ترفض الانصياع لك، ترجوها أن تتحرك أو تستعطف عقلك ليوقظك، وجميعهم يعلنون تمردهم.
تستيقظ متعبا من ثقل جبال الثلج على صدرك، تتعجب ما الذي أرهقك وأنت لم تبرح مكانك، تحاول أن تتذكر ما كنت تفكر فيه أثناء نومك، فلا يطاوعك عقلك. فيما يشتد بك وقع أنفاسك، ترفع بصرك إلى ساعتك التي تصم أذنيك بدقاتها، تتفاجأ وقد تنازلت طوعا عن عقربيها لثالثهما الأسرع.
تنظر إلى المرآة فلا تكشف لك ملامحك، فتقنع نفسك أنها مجرد أضغاث أحلام، يزعجك استمرار رنين المنبه رغم إغلاقك له مرات، تستحم وتتناول فنجانك من القهوة، هذه المرة تجربه بقليل من السكر، فلا تجد فرقا بينه وبين الخالي منه، تتأنق أمام مرآتك، رغم غياب صورتك، فتتشكك في تأثير قهوتك.
خطوات مثقلة بفعل الطين، تتعرف من خلاله على دخول مدينتك فصل الشتاء، تتناثر بقعه البنية على ثيابك فتسب المدينة وساكنيها مرات ثم تستمر في السير. باستثنائك، الجميع من حولك يركضون، فتتعجب، ثم يأتيك من فوق عدة طوابق صوت تلاميذ يتبارون في رفع أصواتهم وأيهم أسرع استجابة لتعليمات معلمتهم بترديد عباراتها.
سائقو التوكتوك، والميكروباصات، لا يأبهون لتعرجات الطريق، يضيفون مزيدا من البقع على ثيابك، وأنت ما زلت مقيدا بخطواتك. تمر حافلات مسرعة، تحاول أن تشير لسائقها بالتوقف، ولكن حينما تجدها تنقل صفوفا من قطيع برءوس مخروطية لا تعرف من أي الكائنات هي، ترفض نداءات السائق وتفضل السير.
يلفت انتباهك سقوط بعض الأحمال من سيدة مارة بسرعة، فتحاول مساعدتها، فتسبك وتستمر في السير، ورءوس عديدة تتعارك، حينا على جنبات الطريق، وأخرى خلف أبواق الحافلات.
تصل عملك، تلقي التحيات للجالسين خلف مكاتبهم، كعادتك الصباحية، تفزع حين تراهم بأجسادهم المترهلة وكروشهم المتدلية، وتلك الطرابيش المنحنية على رءوسهم. يتوه عقلك ويمتد بصرك إلى «النتيجة» المعلقة لتعلم في أي عام أنت، فتجد التواريخ ممحية، ولكنك تتفاجأ بظهور عقربي الدقائق والساعات وعودة إيقاع ساعتك إلى طبيعته؛ فتلهيك سعادتك عن بحثك.
يمر عليك الوقت متثاقلا، تتمنى لو عاد عقرب الثواني لسطوته. تختنق أنفاسك من الطربوش الجاثم فوق رأسك، وجسدك الذي ملأ الكرسي، ثم تمتلئ الغرفة ببشر لا ترى سوى حدود وجوههم الهندسية، الجميع جاء لحاجة، والغريب أنك والجميع ماكثون في أماكنكم وبالوضعية نفسها. تمتد أيادي البشر أمام المكاتب دون قدرة على تلبية حاجاتهم .
تحاول أن تفتح شباك الغرفة لعله يسمح لمزيد من الهواء بالدخول حتى تنخفض حرارة الأنفاس اللاهثة، يدخل دخان أسود، فيضيف مزيدا من السعال.
يرتفع فجأة صوت الساعة، إنها ساعة الانتهاء. الغريب أنه عند الخروج، تخلع الطرابيش وتترك هامدة فوق المكاتب.
ما إن تظهر طرقات الشارع، حتى يعود الركض، المدينة تمر بجانبك، تتعداك، وأنت تستمر في محاولاتك للتخلص من القيد، تفشل مرة ومرتين، وطنين الساعة التي فقدت عقلها في رأسك، تنبهك أن ما بقي قليل، فيما الشارع ما يزال ممتدا.
لقد أكلت البيض كله
بسيطة هي كعادتها، لكن شيئا ما نضب منها، وكأن سنوات الانتظار أهلكت ما بقي لها من نضارة العمر.
جالسة متكومة في جانب البيت، عيناها حائرة ما بين الباب والنافذة، وجهها جفت حمرته، ككل شيء في هذا المنزل، لن تشعر بوجودها إن لم تبدأها بالحديث، تجر كلماتها من فمها كحمل ثقيل، وتكتفي بإجابات مقتضبة وعبارات من كثرة ترديدها ألفتها وحفظتها.
زهدت في كل شيء، حتى في أن تهيئ نفسها كما كانت تفعل في السابق بمجرد علمها بوجود بعض الزائرين، وعملها الذي لم تعد تهتم بالمواظبة عليه، حتى إن رؤساءها في العمل تعاطفوا معها؛ فتوقفوا عن سؤالها عن سبب التأخير أو الغياب، واكتفوا بالخصم من راتبها الذي لم تعد تهتم بإحصائه عند أول كل شهر.
لم تعد تتذكر كم من السنوات انتظرت، كل ما تتذكره أنه بدأ مع تلك الزيارة التي أعدت لها سيدات العائلة منذ سنوات.
زيارة فرضت ترتيبات عدة، اختيار توقيت مناسب تتواجد فيه كل بنات «العيلة»، واستعدت أمها بأن أخلت صالة المنزل من أثاثه ليتسع للجميع، أزالت جميع الصور الخاصة بالعائلة أو التي تصور أي كائنات حية كما «أمر» قبل حضوره، فيما أبرزت اللوحات القرآنية.
تعمدت أمهات العائلة إخفاء سبب الزيارة الحقيقي عن بناتهن حتى لا «تفتح عيونهن قبل الأوان»، وتحججن بأن الزيارة فقط لرقية البيت والبنات من الحسد والعين، وإدخال البركة، فيما كانت الفتيات تتندر على «تغفيل الأمهات لهن»، رغم أن عقولهن الصغيرة باتت كاشفة ، وحرصن على إظهار عدم المبالاة للسبب الرئيسي، وادعين أن تواجدهن سيكون فقط من باب الفضول.
هي فقط كان حديثها مقتضبا، صمتت، وتحمست لحماس أمها، وأذعنت لأوامرها، هي كانت تعلم أن «نصيبها» بسيط مثل جمالها وتعليمها ووظيفتها، ورغم ذلك لم تطمع بالمزيد، أرادت هذا البسيط أن يطرق بابها؛ لأنه ما يمكن أن ترضيه، خاصة وأن عداد العمر بدأ عمله، وساعة الرمل لا يوقفها شيء.
حضر الجميع؛ الأمهات المهتمات بفك نحس البيت، والفتيات المتراوحة أعمارهن ما بين بداية العقد الثاني ومنتصفه.
ثم جاء هو بلحيته الطويلة، وبنطاله الذي لا يبلغ كعبيه، وطلب منهن وهو غاض بصره الاصطفاف أفقيا، وأطلق لسانه بالدعاء والأذكار وتلاوة القرآن، وطلب منهن أن يبلغنه إذا ما شعرن بأي دوار، أو بأن هناك ما يدفعهن للخروج من الصف، ورغم النظرات الجانبية والضحكات المستترة التزمت الفتيات بالتعليمات.
كانت هي أولى المترنحات؛ فأجلسها على الكرسي، وخصها ببعض الأدعية والأذكار، وفي نهاية الجلسة أسر إلى الأمهات، بأن تأكل كل فتاة ثلاث أو خمس أو سبع بيضات مقروءا عليها بعض الآيات القرآنية الحارسة.
في اليوم التالي وأثناء اجتماع الفتيات مساء، أخبرنها جميعا بأنهن لم يهتممن بأكل البيض، فالأمر بالنسبة إليهن كان دعابة. لم تعرف إن كن صادقات أم لا، بينما لم تخجل هي من الاعتراف بأنها أكلت البيض، رغم نظرات السخرية في أعين قريباتها.
بدأ الانتظار، وأعدت للتجهيز للزيارة المرتقبة، كانت تحرص على أن تكون في كامل زينتها داخل المنزل وخارجه، اشترت كميات إضافية من مساحيق التجميل الرخيصة الثمن التي تناسب ميزانيتها، ووفرت جزءا من راتبها لشراء ملابس جديدة.
تأخرت الزيارة، فألقت اللوم بداية على أمها لأنها لم تتبع التعليمات، وقامت بإعادة الصور العائلية والبورتريهات إلى أماكنها على الحائط والمناضد، وأزالتها رغم اعتراض أمها.
ثم ظنت أنه عقاب لها؛ لأنها اكتفت في المرة الأولى بثلاث بيضات فقط؛ فتناولت هذه المرة خمس بيضات، وبعد شهور أكملت السبع، ثم كررت محاولاتها كل بضعة شهور، ثم شكت في أن وضوءها لم يكن صحيحا تماما عند قراءة الآيات على البيض، فأعادت محاولاتها، ثم خصصت جزءا من راتبها للتبرع للمساجد والأولياء.
طال الانتظار، وانفض الجمع من حولها، وحضر جمع آخر، أكثر صخبا؛ ففتيات العائلة لم يعدن يأتين بمفردهن، فكل واحدة عادت بأطفالها. في البداية كن يمزحن معها بعبارات حول عمى الرجال عنها، وأنها «ست البنات»، وأن الأيام تخبئ لها الأفضل، ثم تعمدن الشكوى أمامها من المسئولية و«وجع الدماغ» من العيال وتربيتهم، حتى اكتفين أخيرا بالصمت.
وفي يوم فاجأتها صديقة لها بالعمل بأن زميلا لها يريد زيارتهم بالمنزل؛ طار العقل، وتردد السؤال: هل «وفى البيض بوعده؟» نزلت يومها لتشتري ملابس جديدة، وأعادت تنظيف المنزل، واستبدلت المصابيح التي انطفأت أنوارها منذ زمن، وكست وجهها بمساحيقها التي هجرتها.
جاء الزائر، نعم هو سمين بعض الشيء، راتبه لا يكفي لمسئولية بيت، ويسكن مع والدته، لكن لا يهم كل ذلك، المهم أن انتظارها حانت نهايته، ولكن جاءت عباراته بما لا تشتهي أحلامها، نعم جاء طالبا، ولكن ليد أختها الصغرى المتبقية معها بالبيت، والتي رآها في إحدى زياراتها لها بالعمل، فتعلق قلبه بها.
حينها لم تدر بماذا أجابت، وإنما دخلت مسرعة إلى المطبخ وفتحت باب ثلاجتها، حملت كل ما بها من بيض وألقت به في وجه مرآتها، وحينما رأت وجهها مكسوا ببياضه وصفاره، جلست باكية، وارتفع صوتها: «لقد أكلت البيض كله! لقد أكلت البيض كله!»
الساحر
يروق لك جلوسي بين مقاعد معجبيك، أتابعك مشدوها، فيأخذك غرورك، فتفتتني لمساتك وتعيد تشكيلي. تسكنني على بياضك آلاف الأرواح، كعرائس الماريونيتات تحركني، تلبسني حينا وجه تلك العجوز الشمطاء التي لا تعترف بصدق مرآتها، تغمرني بمساحيقها، وتضيف لوجهي ملامح أخرى أكثر صخبا.
تثير ذعري سخريتك، فتعلقني بعنقود عنب يتدلى، فيظلل براءة طفولية تخطو أولى خطواتها للعشق. وقبل أن يتسنى لي اختلاس النظر، تجلسني مرة أخرى بين جماهيرك، تأخذ رأسي بألاعيبك العقلية، فاندفع فجأة بغضب التمرد بين جناحي خنفساء مرقطة، أنشغل بالتسلل ضاحكة مستبشرة وسط ذعر ساكني البيوت، ومطارداتهم.
ترهقني خطواتك السريعة المتصارعة بين حباتك اللؤلؤية، وحكواتك عن الحنين والغربة والصراعات اليومية، أتوه بين تفاصيلك وشخوصك وأعبائك التي تهيلها على قلبي. تغضبني فسحة خيالك؛ فأعلن تمردي على أفكارك، وألملم دفتيك، أجلسك بين رفوفي، وأتابع زحف ذرات التراب على وجهك. تطل علي بعيون حزينة، تستعطفني، فأشتاق إلى أحزانك، فأعود طفلة تداعبها، أو كهذا العجوز الذي يطل من نافذته موزعا بسماته وضحكاته على المارين نظير كلمة أو تحية يضيء بها ليله الطويل.
تتناسى عهدك وقربانك، وتعود لعصيانك، تستعرض عصاك وكرباجك أمام عيني، فأستحلفك تلك المرة أن ترفق بعقلي، وأن تعيده إلي، فتأبى حتى تسقطني هامدة بين بياضك الممتد وأحبارك السوداء.
الحرز
الحركة بالمكان أصبحت غير المعتادة، قلق وتربص، وعيون مترنحة بين الوجوه، لم يعد الطلبة يفترشون السلالم ومداخل الكليات كما كان الأمر منذ أيام، ولم تعد ضحكات فتيات «سنة أولى» تسطو على القلوب والمكان.
بدأت تلك الحالة منذ صدور القرار الذي فاجأ الجميع؛ أساتذة، وطلبة، بعد مشاجرة بين عدد من الطلبة استخدمت فيها «أسلحة بيضاء».
بقدر ما كانت المشاحنة صادمة لسقوط مصابين وقتيل، فإن القرار الذي اتخذه مجلس الجامعة، بالاتفاق مع الجهات الأمنية، بتشكيل لجنة لتفتيش الطلبة المشتبه فيهم، كان هو أيضا لا يقل رعونة.
قام فراشو الكليات بتعليق القرار على الجدران، ومداخل الجامعة، وداخل الحمامات، وعلى أبواب القاعات، ولم تسلم الكافتيريات، وأشجار الحدائق، وأماكن تجمعات الطلبة، حتى لا يتحجج أحد بعدم رؤيته للقرار.
تجمهر الطلبة على المكان المعلق به القرار وتعالت الصيحات وتناثرت الأحاديث الجانبية الساخرة منه، تعددت التأويلات ما بين من رأى فيه مجرد حجة للتضييق الأمني على العمل السياسي بالجامعة، مع «عدم وضوح آليات الاشتباه، أو الأشياء التي ستعتبر أحرازا مشبوهة»، فيما سخر آخرون من القرار، ووصفوه بأنه «حبر على ورق»؛ فالأعداد التي تضمها الجامعة ستعوق تنفيذه. وقال خبثاء آخرون: «إنه فرصة للتعرف على الخبايا والممنوعات لدى الطلبة»، وسط ضحكات غير بريئة.
وامتعض بعض الأساتذة، وقالوا: «إنه مدخل إلى التدخل في عمل الجامعات، وإذا كان القرار يقتصر على الطلبة حاليا، فقد يمتد ليشمل الأساتذة، وقد يفاجأ الأساتذة باقتحام محاضراتهم، والتدخل في المناهج وفي عملهم بحجج مماثلة.»
مضت الأيام التالية للقرار خالية من أي تغيير، فلم تظهر اللجنة المذكورة، ولم تظهر سوى بوابات إلكترونية على أبواب الجامعة، أشاعت جوا من المشاحنات المكتومة بين حراس الجامعة والطلبة، وسكنت الوجوه نظرات الشك بين الجميع، خاصة مع عدم الإعلان عن أسماء كل أعضاء اللجنة، ومخبريها.
اليوم، اقتحم أعضاء اللجنة محاضرة لأحد الأساتذة، مدججين بالقرار الإداري، فلم يستطع الأستاذ الاعتراض. تقدموا بنظرات فاحصة للوجوه، مروا على المقاعد، وطالبوا ببطاقات الهوية من بعض الطلبة، تحرشوا بحقائب الفتيات وسط نظرات بعضها مستنكرة وأخرى تتربص للتعرف على أسرار الحقائب اللامعة.
في آخر القاعة كانت تجلس، متململة في مقعدها، تطل من جبينها قطرات الخوف، محتضنة شنطة يدها في فزع.
التقت عيناها بعيني عضو اللجنة، مرة، مرتين، وفي الثالثة انتبه العضو لقلقها، فمال على رأس كبيرهم، وأنصت الأخير إليه لحظات، تبعها تربص للعيون بها، ثم اتجهت الخطوات إليها بتؤدة وهدوء مفتعلين، فأشاعت برودة زادت من قشعريرة جسدها.
في طريقه تفحصها كبير اللجنة، بمظهرها المتوسط الحال، ودفاترها الباهتة الألوان التي تشبهها. فكر أنها من النوع الذي يسهل «اصطياده» من قبل الجماعات المتطرفة، أو ربما تكون شنطتها عامرة بما اصطادته هي من الشنط الثمينة.
سألها أن تعطيه حقيبتها، فرفضت، فسألها ماذا تخبئ بها، فصمتت، والتزمت صمتها، وسط همهمات زملائها. اقتادوها وهي متشبثة بحقيبتها، وبنظرات الحسرة على وجهها الذي حاولت أن تديره عن نظرات الاستفهام من حولها.
في مكتب عميد الكلية، حاولوا أخذ الحقيبة، فرفضت بوجه دامع، مستعطفة أن يبقوها لها، فطلبوا منها أن تبلغهم بما فيها، على أن يرفقوا بها إن أبلغتهم بمن حرضها على فعلها، وهل قامت بالفعل بما طلب منها، أم أنها في مرحلة «التخطيط».
بعدما دارت بعقلها الأسئلة والاستجوابات، وافقت على منحهم سرها الأكبر، في شنطتها وجدوا بقايا سندوتشات الطلبة التي تجمعها من الطاولات بالاتفاق مع عامل الكافتيريا، أو من مقاعد الدراسة بعد انتهاء وقت المحاضرات.
تسمرت أعين أعضاء اللجنة على الحرز، فيما تعالت أصوات الاحتجاجات من زملائها خارج المكتب، تدين اعتقالها وتضييق الحريات على الطلبة، وتطالب بالسماح بالعمل السياسي والحزبي داخل الجامعة.
Page inconnue