وأما طه حسين فقد كانت طريقته في الجمع بين الثقافتين، أن يعالج موضوعا عربيا قديما بأسلوب غربي جديد، وأن يكون مع الدعوة إلى العقل العلمي مرة، ومع الدعوة إلى وجدان القلب مرة، فانظر إليه كيف فجر قنبلته الفكرية العقلانية سنة 1926م بكتابه عن الأدب الجاهلي، ليعود سنة 1933م، فيصدر رائعته الأدبية «على هامش السيرة» فيقول في مقدمته: «أنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه، وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها ... وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضى من العقل.»
لا عجب أن رأينا النقاد من زملائه يتصدون له بالتحليل والمقارنة، فهذا هيكل يكتب فور صدور «على هامش السيرة» فيقول: «إنه (أي طه حسين) إلى حين وضع كتابه هذا، كان من أولئك الذين يكبرون العقل ولا يثقون إلا به، فهذا الكتاب تطور عظيم في نفسية طه وفي نظرته للحياة، تطور واضح صارخ يكفي لتبيينه أن نقرأ معا مقدمتين: مقدمة «على هامش السيرة» ومقدمة «في الأدب الجاهلي» ... إن بين «في الأدب الجاهلي» و«على هامش السيرة» موضعا للمقارنة، فكلاهما يتحدث عن العصر الجاهلي الذي سبق مولد النبي عليه السلام، والذي عاصر هذا المولد، والكتاب الأول يهدم ما جاءت به الأساطير عن الجاهلية، بل يهدم الكثير مما ينسب للجاهلية من شعر ونثر، ويراه من وضع المتأخرين لأغراض دينية أو مخالفة للدين، والكتاب الأخير يجلو هذه الأساطير وينمقها، ويرى في ذلك غذاء لما سوى العقل من ملكات الناس.»
تلك كانت طريقة طه حسين في الجمع بين الثقافتين، فهو «لم يتطور في نفسيته ولا في نظرته للحياة» كما يعلل هيكل لهذا الجمع، بل إن الثقافتين كلتيهما قد اجتمعتا فيه على نحو يجسد لنا في رجل واحد، ما كنا وما نزال نأمل أن نبلغه من وحدة ثقافية تجمع لنا الطرفين، ولعل الدكتور محمد عوض محمد كان أصدق تصويرا في تعليقه على كتاب «على هامش السيرة» حين قال عن طه حسين - بطريقته الفكهة: «إن ثقافته الحقيقية هي ثقافة أزهرية متينة قوية الأسس ... وأن ليست ثقافة الغربيين ... إلا رواء وطلاء، إن يبهر العين منظره، فإنه لا يذهب إلى غور بعيد، وقديما قال نابليون في الروس: إنك إذا حككت الروسي بدا لك التتري، وفي وسعنا أن نقول إذا حككت طه حسين برفق، بدا لك الأزهري القح الصميم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضل وعلم.»
ولو كان طه حسين حين كتب «على هامش السيرة» قد تطور في نفسيته وفي نظرته للحياة - كما قال هيكل عنه - لما رأيناه بعد «على هامش السيرة» يعود مرة أخرى فيصدر كتابه الهام «مستقبل الثقافة في مصر» (1939م) ليقول به للناس إنه لا بد لنا من الأخذ عن الأصول الثقافية اليونانية، استمرارا لما كان آباؤنا الأقدمون قد فعلوا في نهضتهم الفكرية، حين طفقوا ينقلون ثقافة اليونان العلمية والفلسفية بغير حرج ولا تردد، ولا نترك الحديث عن طه حسين في هذا الموضع من المقال، دون أن نذكر ترجمة حياته الرائعة التي كتبها سنة 1929م بعنوان «الأيام»، فجاءت هذه الترجمة الذاتية من أجمل الثمار الأدبية في تلك الفترة، التي اجتمعت فيها روافد الثقافة كلها من شرق ومن غرب.
هكذا قضينا أعوام العقدين الثالث والرابع من هذا القرن، نمد ذراعا إلى تراثنا فنحييه، وذراعا إلى الثقافة الأوروبية فننقلها، وإنه لجدير بالذكر في هذه المناسبة، أن نشير إلى عدد من المجلات التي ظهرت عندئذ وشاعت شيوعا واسعا، وكانت من أفعل الأدوات الثقافية التي هيأت النفوس والعقول لتقبل نهار جديد في تاريخنا الثقافي، ستظهر بوادره بعد الحرب العالمية الثانية، ويبلغ النضج بعد ثورة 23 يوليو 1952م - وأما هذه المجلات التي نشير إليها، فهي «السياسة الأسبوعية» التي كان يرأس تحريرها محمد حسين هيكل، و«البلاغ الأسبوعي» الذي كان يكتب فيه العقاد، و«المجلة الجديدة» التي أصدرها وكان يرأس تحريرها سلامة موسى، و«الرسالة» التي أصدرها، وكان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات و«الثقافة» التي كان يشرف عليها أحمد أمين، وأصدرتها لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي لجنة تتألف من جماعة من رواد الثقافة الجديدة، أنشئت سنة 1914م لتدل باسمها وبنوع جهودها على اتجاهات الحركة الثقافية في هذا القرن العشرين كله، إذ هي حركة تقوم على «الترجمة» عن الفكر والأدب الأوروبيين، و«النشر» لذخائر التراث القديم، لتخرجها إلى النور من خزائن الكتب، و«التأليف» الجديد الذي يحمل طابعنا الحديث بما فيه من أصالة تستمد غذاءها من المادة المترجمة والمادة المنشورة على السواء.
لا أحسب الحركة الثقافية التي عاشتها مصر فيما بين الحربين، تحاول فيها الجمع بين ثقافتين، لا أحسب تلك الحركة تتضح معالمها بأنصع ما تتضح به في أمثلة نسوقها لبعض الموضوعات التي كانت تشتجر فيها الأقلام خلال تلك الفترة، خصوصا إذا تذكرنا حقيقة هامة جدا في هذا الصدد، هي أن الكاتب الواحد قد يأخذ بهذا الرأي مرة وبذلك الرأي مرة أخرى، مما يدل على أن فوران الآراء والمذاهب لم يأذن لأحد عندئذ بالاستقرار على فكرة واحدة أمدا طويلا، ما دامت هذه الفكرة ماسة بأركان البناء الفكري الجديد الذي كان المصريون عندئذ في سبيل إقامته، ومما يدل كذلك على إخلاص المفكرين حينئذ لبلوغ غايتهم في بعث الأمة بعثا فكريا شاملا، إخلاصهم لذلك إخلاصا لم يسمحوا لأنفسهم معه أن يتعصبوا لفكرة أو لأخرى، إذا أثبت تطور الأحداث خطأها وتعويقها لمجرى التاريخ.
وأول موضوع نسوقه مثلا للصراعات الفكرية في عشرينات هذا القرن وثلاثيناته، هذا الموضوع الأساسي بالنسبة إلى إقامة البناء الثقافي الجديد: ما هي الأصول الأولى التي نرد المصريين إليها؟ أهي أصول فرعونية أم هي أصول عربية لا نجاوزها إلى ما وراءها في التاريخ؟ وقد ناصر الفرعونية سلامة موسى ومحمد حسين هيكل وغيرهما إلا أن هيكلا عاد فتبين وجه الخطأ فيما بدأ بالدفاع عنه، فقد بدأ هيكل - بمناسبة صدور كتاب عن «قصص البردي» لعالم أثري عصري (1926م) - بدأ هيكل في ربط الصلة بين مصر القديمة ومصر الحديثة مؤكدا أن بين الحالتين «اتصالا نفسيا وثيقا ينساه كثيرون ويحسبون أن ما طرأ على مصر منذ عصور الفراعنة من تطورات في نظم الحكم وفي العقائد الدينية وفي اللغة وفي غير ذلك من مقومات الحياة، قد فصل بين هذه الأمة الحاضرة وبين الأمة المصرية القديمة، فصلا حاسما، جعلنا إلى العرب أو إلى الرومان أقرب منا إلى أولئك الذين عمروا وادي النيل في ألوف السنين التي سبقت المسيحية.»
فيرد على هذه النزعة الفرعونية كتاب يؤمنون بأن جذورنا عربية، وبأنه من العبث أن نردها إلى أبعد من ذلك في التاريخ، لتضل في متاهات القرون، ومن هؤلاء أحمد حسن الزيات حين قال: «اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان أو ثلاثة من رجال الجدل وساسة الكلام، فبسطوه في المقالات ... حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة وأن ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر - رأس البلاد العربية - قد جعلت المآذن مسلات، والمساجد معابد، والكنائس هياكل، والعلماء كهنة.» وبعد أن يمضي الزيات بأسلوبه العربي البليغ في التهكم من الفكرة الفرعونية وأصحابها يلخص الموقف بعبارة، فيقول: «وبعد، فإن ثقافتنا الحديثة إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفي آدابها على الآداب العربية والغربية، وفي علمها على القرائح الأوروبية الخاصة، أما ثقافة البردي فليس يربطها بمصر العربية رباط، لا بالمسلمين ولا بالأقباط.» •••
ونسوق مثلا ثانيا للموضوعات التي اختلف فيها رجال الفكر في الفترة التي نحللها، وكيف جاء اختلافهم في موضوع الخصائص الأصلية التي يتميز بها المصريون، وهل هي أقرب إلى خصائص اليونان، أو إلى خصائص العرب، ومرة أخرى ننبه إلى نقطة هامة، وهي أن المتعارضين لم يثبتوا على آرائهم فيما كانوا يعرضون بالرأي فيه، ومبادلة الرأي هذه المرة كانت بين توفيق الحكيم وطه حسين، فيطرح الحكيم المشكلة بقوله: إنما الأمر الذي يحتاج إلى كلام هو معرفة مميزات الفكر المصري، معرفة أنفسنا، حتى تتبين لجيلنا مهمته: هذه هي المسألة (وليلاحظ قارئ اليوم أن هذه نفسها ما زالت هي المسألة المطروحة أمام المفكرين، وقد دنونا من ختام العقد السابع من القرن العشرين) ... ويمضي الحكيم في حديثه ليؤكد أن الروح المصرية والروح العربية مختلفتان، ولقد اختلطت إحداهما بالأخرى على نحو يصعب معه فصلهما، لنميز الواحدة من الأخرى، لكن هذا الفصل أمر لا بد منه، إذا أردنا أن نتبين أنفسنا، ويعرض الحكيم تحليله هو على قرائه، فيبين - أولا - أن دراسة الفن المصري والفن الإغريقي كفيلة بأن تبرز الفرق بين العقليتين: «ما بال تماثيل الآدميين عند المصريين مستورة الأجساد، وعند الإغريق عارية الأجساد؟ هذه الملاحظة الصغيرة تطوي تحتها الفرق كله، نعم، كل شيء مستتر خفي عند المصريين، عار جلي عند الإغريق، كل شيء في مصر خفي كالروح، وكل شيء عند الإغريق عار كالمادة، كل شيء عند المصريين مستتر كالنفس، وكل شيء عند الإغريق جلي كالمنطق، في مصر الروح والنفس، وفي اليونان المادة والعقل»، وبعد هذه المقارنة يجري الحكيم مقارنة أخرى لتتم له المقدمات، مقارنة بين اليونان والعرب، فيقول إن خط الإغريق مماثل لخط العرب: «كل تفكير العرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة، عند الإغريق الحركة، أي الحياة، وعند العرب السرعة.» والخلاصة هي أنه «من المستحيل أن نرى في الحضارة العربية كلها أي ميل لشئون الروح والفكر بالمعنى الذي تفهمه مصر والهند من كلمتي الروح والفكر.» و«لا ريب عندي أن مصر والعرب طرفا نقيض: مصر هي الروح، هي السكون، هي الاستقرار، هي البناء، والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الطعن، هي الزخرف، مقابلة عجيبة: مصر والعرب وجها الدرهم، وعنصرا الوجود، أي أدب عظيم يخرج من هذا التلقيح؟ إني أتمنى للأدب المصري الحديث هذا المصير: زواج الروح بالمادة والسكون بالحركة، والاستقرار بالقلق، والبناء بالزخرف.»
ويرد طه حسين على الحكيم، رافضا أن تنسب الروح المصرية إلى أصول تبعد بها عن العرب وعن اليونان، ذلك أن الغوص بالروح المصرية الحديثة إلى الأصول الفرعونية مضطر إلى الضرب في مجاهل التخمين، على أن النسبة إلى العرب أمر قائم مشهود: «نحن - إذن - أمام أمرين، أحدهما عرضة للشك الشديد، لا تكاد تعرف منه شيئا، والآخر لا سبيل إلى الشك فيه، أحدهما حياة مصر القديمة وحضارتها العقلية - إن صح هذا التعبير - والآخر حياة العرب وحضارتهم، فإلى أي الأمرين نفزع لنقيم عليه بناء أدبنا الجديد؟ أإلى الشك أم إلى اليقين؟» ويمضي الدكتور طه حسين في رده على الحكيم ليخلص إلى جوهر الموضوع، وهو: مم تتكون روح مصر منذ استعربت؟ ويجيب بأنها تتكون من عناصر ثلاثة، أولها العنصر المصري الخالص الذي ورثناه من المصريين القدماء، وثانيها هو العنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة، وثالثها هو العنصر الأجنبي الذي أثر في الحياة المصرية دائما، والذي سيؤثر فيها دائما، وهو هذا الذي يأتيها من اتصالها بالأمم المتحضرة في الشرق والغرب، جاءها من اليونان والرومان واليهود والفينيقيين في العصر القديم، وجاءها من العرب والترك والفرنجة في القرون الوسطى، ويجيئها من أوروبا وأمريكا في العصر الحديث (راجع مجلة الرسالة، أعداد شهر يونيو 1933م).
Page inconnue