ونوجه أنظارنا إلى روسيا فنذكر أول ما نذكر أن الكلمة الإفرنجية التي تعني «المفكرين» - وهي كلمة
Intelligentsia - كلمة روسية نشأت هناك في القرن الماضي، حين نفرت جماعة متمردة ناقمة لتبذر بذور ثورة فكرية تمهد لانقلاب اجتماعي سياسي شامل، وهي جماعة قريبة الشبه في المهمة التي اضطلعت بها بفلاسفة التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، ولقد وفقت كلتا الجماعتين فيما أرادت أن تحققه؛ فقامت الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، وقامت الثورة الروسية في أوائل القرن العشرين.
وبحكم الرابطة القوية في روسيا بين المفكرين والثورة، كان لا بد من اتصال الفكر بالشعب اتصالا مباشرا، بمعنى أن تمتد جذوره في الأرض الروسية وله بعد ذلك أن يرتفع كيف شاء، نعم قد كان في الروسيا في القرن الماضي جماعة أخرى من المثقفين أرادت وصل ثقافتها بأصول يلتمسونها في غربي أوروبا، لكن هؤلاء لم يكونوا ليحدثوا في الشعب ثورة مهما علت ثقافتهم واتسع مداها.
قامت الثورة الروسية وتغيرت أوضاع الحياة فيها وفق التصور الجديد، فأصبح من المفارقات التي تلفت النظر أنه بينما يستبد القلق والضجر والرغبة في التغيير بأوروبا الغربية، ترى الأمر في الروسيا على عكس ذلك يريد أن يستقر حتى يصلب عوده ويضرب في الأرض بجذوره، وكان لهذا نتائجه في منحى الفكر، ففي الغرب يكثر الأفراد الشذاذ الذين يأبون التجانس مع محيطهم، وفي الروسيا يشتد التجانس بين الأفراد حتى ليوشك الشذوذ الفردي أن يمتنع، ومعنى ذلك أن نتوقع رومانسية في الأدب والفن في غربي أوروبا، وكلاسية في الروسيا، ذلك أن الثقافات في سيرها يتناوب عليها الرومانسية والكلاسية واحدة بعد الأخرى في تتابع لا ينقطع، فرومانسية إبان فترة التغير، وكلاسية إبان فترة الثبات، وفي فترات التغير يكثر ظهور الأفراد المتمردين اللامنتمين إلى محيطهم وما يسوده من قيم، وفي فترات الثبات يقل ظهور هؤلاء الأفراد أو ينعدم، ويسود التجانس بين أبناء المجتمع الواحد؛ لأنهم يلتقون جميعا على قيم واحدة؛ ولذلك فزمام الفكر في الحالة الأولى قمين أن يتولاه أفراد، وزمام الفكر في الحالة الثانية يغلب أن تتولاه الهيئات صاحبة السلطان.
وفي آسيا وفي أفريقيا موقف مختلف، فها هنا كان المستعمر لفترة من الزمن تقصر هنا وتطول هناك، يفرض ثقافته على «الصفوة»، وبذلك انقطعت الصلة بين الفروع العليا والجذور، حتى كادت الفروع تذوي والجذور تذبل لولا ما فيها من حيوية، وما إن ثارت هاتان القارتان ثوراتهما العارمة التي أطاحت بالمستعمر - والثائرون غالبا من القلة المثقفة - حتى وجد الناس أنفسهم فجأة حيال تبعات جسام في إقامة البناء الجديد، فمن ذا الذي يتم البناء؟ فلا عامة الشعب لديها القدرة، ولا المثقفون الذين أشعلوا الثورات بادئ الأمر قد أعدوا للبناء، فكان حتما أمام ضغط الموقف الناشئ أن تنتقل الريادة من جماعات «المفكرين» إلى قادة الثورات، وكان بعضهم من المفكرين وبعضهم لم يكن، أعني أن تنتقل الريادة من ميدان الأدب والفن إلى ميدان السياسة، فيكون الرائد سياسيا يخطط للتغيير الاجتماعي والاقتصادي، لا كاتبا يتصور أو رساما يصور، بل ولا عالما باحثا قد ينعزل في بحوثه عن تيار الحياة المتجددة ... وعند هؤلاء القادة في آسيا وأفريقيا نلتمس مصادر الفكر المعاصر .
وفي عالم اليوم، الذي تسوده وسائل الإعلام التي تنقل المعرفة من طرف إلى طرف بسرعة البرق، يصعب القول أن في هذا الركن من أركان الدنيا كذا وفي ذلك الركن كيت؛ لأن الفكرة الواحدة سرعان ما تدور حول الأرض فتعم أركانها جميعا في لحظة، إلا أننا مع ذلك نستطيع القول في إجمال وتعميم أن الفكر المعاصر في أوروبا وأمريكا مشغول بإيجاد هدف واضح يعيش من أجله الناس ويكافحون عن طواعية، وأما في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية فهو مشغول بالبناء والتصنيع والتقدم العلمي وإدخال التقنيات الفنية لأن الهدف أمامه واضح، وهذه كلها هي وسائل تؤدي إليه.
ولا تتم صورة الفكر المعاصر لمن أراد تصويرها كاملة، إلا إذا أدخل في حسابه أقطار الأرض جميعا.
روح العصر من فلسفة
ليس الحديث عن خصائص العصر وسماته البارزة من الهينات التي يسهل فيها أن تقول القول فيصادف عند الناس قبولا خالصا؛ ذلك لأن نسيج الحياة كثير الخيوط، فيها المتشابه وفيها المتباين، بحيث لا تكاد تصف العصر بسمة عامة حتى تصادفك شواهد نقيضها، فقرب المسافة بيننا وبين معالم عصرنا يحول دون الرؤية الواضحة من جهة، ويميل بنا نحو النظرة غير المنزهة عن أهوائنا من جهة أخرى، هذا على فرض أن الناس ما داموا يعيشون في فترة زمنية واحدة فهم ينتمون جميعا إلى عصر حضاري واحد تتجانس فيه الخصائص والسمات، مع أنه فرض بعيد عن الصواب.
وإذن فلا مناص للكاتب وهو يصف روح العصر من نظرة ذاتية، قد يختلف عنه فيه كاتب آخر ينظر بمنظار آخر، وعندئذ لا يعني تعدد وجهات النظر إلا أن الحق متعدد الجوانب، تنظر إليه من هنا فإذا العصر يسوده العلم بنظرته الموضوعية، وتنظر إليه من هناك فإذا العصر يسوده «العبث» و«اللامعقول»، أهو - يا ترى - عصر القوميات المستقلة، أم هو عصر التكتلات والأحلاف، وعصر المؤتمرات الدولية وعصر جمعية تضم «أمما متحدة»؟ هل يغلب على عصرنا - كما يبدو في نتاج الفكر والفن - رغبة في أن تكون الأولوية للجماعة على الفرد، أو تغلب عليه الرغبة في أن تكون الجماعة وسيلة لسعادة الفرد وتحقيق ذاته؟ بل أنت لا تدري إذا كان الناس اليوم في اهتماماتهم الفكرية أكثر انشغالا بتراث ماضيهم أم بإرسال البصر إلى بناء مستقبلهم؟
Page inconnue