سقراط هو مثلنا الأول، نسوقه نموذجا للمثقف الثوري الذي تتمثل فيه الخصائص التي بيناها في الأسطر السابقة، هاله أن يرى الناس يسلكون في حياتهم على غير مبدأ، فما يفعله هذا عن إيمان قد يفعل نقيضه آخر وعن إيمان كذلك، كأنما أمور العيش مرهونة بأمثال هذه النزوات المجنونة الهوجاء، وكأنما أمور العيش هذه يستحيل عليها أن تنطوي تحت أحكام عقلية يتساوى فيها جميع الناس على حد سواء، فهل يجوز لرجلين أن يذهب كل منهما على هواه في زوايا المثلث كم يكون مقدارها؟ كذلك - فيما أعتقد سقراط - ينبغي أن تكون حالهم في أمور الحياة الجارية، فإما أن تكون الفكرة صوابا، على أساس علمي عقلي، فيأخذ بها الجميع، وإما أن تكون خطأ فيرفضها الجميع، تلك إذن هي الصورة التي ارتسمت في ذهن سقراط وكان يمكن أن يقنع بها ويستريح، لكنه بدأ بنفسه أولا وأخضع تلك النفس إخضاعا، لا هوادة فيه، لأحكام العقل في كل صغيرة وكبيرة من صغائر الحياة وكبائرها، وهنا أيضا كان يمكن أن يرضى بذلك ويستريح، لكن صوتا قويا أخذ يدوي في فؤاده، ألا يستريح وألا يطمئن، حتى يحمل سائر الناس، على قبول ما قد ارتسم في ذهنه، فطفق يجوب في الطرقات وبين المتاجر، ويطوف بالأصدقاء ويجتمع حوله التلاميذ، يناقش ويناقش، ويحاور ويحاور، حتى يتبين له وللناس جميعا وجوب أن يكون زمام الأمر كله لمبادئ العقل؛ أعني وجوب أن تؤسس الحياة على العلم، فلا نزوة ولا رغبة ولا عاطفة أجدى على الإنسان من عقله، فلئن كانت التفرقة متعذرة بين نزوة ونزوة، ورغبة ورغبة، وعاطفة وعاطفة، ففي ميدان العقل وحده لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ها هنا يكون الفرق واضحا بين الصواب والخطأ، بين الهدى والضلال.
غير أن الحياة بدفعة العاطفة سهلة ميسرة، وأما الحياة مقيدة بقيد العقل ولجامه فصعبة عسيرة، ما أهون أن تحب شيئا فتأخذه وأن تكره شيئا فتنفر منه وتتركه، لكن ما أشق أن يصرفك العقل عن شيء تحبه، وأن يرغمك العقل على شيء تكرهه؛ ولذلك جاءت دعوة سقراط إلى احتكام الناس إلى عقولهم في أمور الحياة اليومية مضنية مرهقة، فما استراح الناس عندئذ إلا بعد أن جرعوه السم ليموت وتموت معه دعوته، فينصرفوا من جديد إلى دفعة النزوة والهوى بغير وازع من العقل ولا رادع من العلم، فلو كان سقراط «مثقفا» وكفى لنعم بفكرته وعاش، لكنه أبى إلا أن يكون «مثقفا ثوريا» يحاول تغيير الناس وتبديل الحياة، فمات ضحية دعوته، لكنه مات سعيدا برسالته.
ومثلنا الثاني للمثقف الثوري هو أفلاطون، ارتسمت في ذهنه صورة عقلية للدولة المثلى كيف تكون بحيث تجيء دولة قائمة على دعامة العدل، وأخذ في محاورة «الجمهورية» يفصل القول في صورة هذه الدولة العادلة، بادئا ببحث مستفيض - على طريقة المحاورة - عن معنى العدل الذي يريده، متناولا بالتحليل معنى بعد معنى، وزعما في إثر زعم، حتى ينتهي إلى ما ظنه هو معنى العدل المقبول عند العقل، وهو أن تتاح الفرصة لجميع الأفراد، بحيث يوضع كل فرد في المكان الذي يلائم طبيعته واستعداده وقدراته، قائلا في ذلك إن الدولة هي فرد كتب بخط كبير، فما يكون في الفرد الواحد يكون في الدولة، إلى آخر ما ذهب إليه من تفصيلات في رسم الصورة المثلى، مما أحسبه قد بات معرفة شائعة عند أوساط المثقفين.
ولو اكتفى أفلاطون بهذه الصورة العقلية للدولة يتصورها ويرسمها كتابة مفصلة، لعددناه «مثقفا» يرى «الفكرة» ويحللها ويصل إلى النتائج التي يطمئن إليها، فيسترخي ويستريح، لكنه كان «مثقفا ثوريا» بالمعنى الذي حددناه، وهو أن يلتمس طريق التنفيذ لفكرته التي ارتآها، فما أرسل إليه ديونيسيوس الشاب، الذي آل إليه الحكم في سرقوسا - بجزيرة صقلية - بعد أبيه، أقول ما أرسل إليه هذا الحاكم الشاب يدعوه لتطبيق فكرته على دولته، حتى لبى الدعوة فرحا؛ لأنه أراد أن يشهد فكرته مجسدة في حياة، ولكن الملك الشاب سرعان ما ضاق بالفلسفة وقيودها، وكاد يبطش بالفيلسوف لولا أن الفيلسوف قد لاذ بالفرار عائدا إلى أثينا، وتمضي أعوام، ويعود ديونيسيوس مرة أخرى إلى دعوة أفلاطون، ليحاول تطبيق فكرته محاولة ثانية، ويقبل فيلسوفنا الدعوة برغم ما كاد يتعرض له من أذى في الدعوة السابقة؛ وذلك لشدة رغبته في أن يجاوز بفكرته حدود ذهنه إلى حيث العالم الحي، لكن الذي حدث للحاكم الشاب من ضيق في الزيارة الأولى، عاوده في الزيارة الثانية، وفر أفلاطون من تعذيب أوشك هذه المرة أيضا أن يناله من الحاكم العابث، كما فر في الدعوة الأولى.
والحاكم الشاب هنا في ضيقه، هو كشعب أثينا في حالة سقراط حين ضاق الشعب بدعوته إلى الأخذ بأحكام العقل دون نزوات الهوى، ففي كلتا الحالتين «مثقف ثوري» يدرك الفكرة، ولا يريد قصرها على نفسه ليتركها حبيسة رأسه، بل يخرج بها إلى الحياة الواقعة، فيجد الناس على عناد وتشبث بما ألفوه، فيكون الصراع وما يؤدي إليه الصراع من غلبة هنا أو هناك، فقد تكون الغلبة لصاحب الفكرة فتتغير الحياة برغم عبيد العادات المألوفة، أو قد تكون الغلبة لهؤلاء على صاحب الفكرة، فتختفي الفكرة حتى ينهض لها على مجرى التاريخ داعية جديد.
وفي ظني أن الغزالي - في تاريخ الفكر الإسلامي - هو خير الأمثلة التي تضرب للمثقف الثوري؛ لأنه غير بفكره حياته وحياة الناس من بعده لعدة قرون، فليس الفرق بين «المثقف» و«المثقف الثوري» فرقا في الكم، بحيث يكون الثاني أغزر إنتاجا من الأول، أو أكثر فكرا منه، بل هو فرق في «الكيف» لأن الأول والثاني معا كليهما «يعلم» لكن الثاني وحده هو الذي ينقل العلم إلى عمل وسلوك، فالجاحظ وأبو حيان التوحيدي يمثلان قمة ما وصل إليه «المثقف» العربي في العصور القديمة، بمعنى الثقافة العام، الذي لا يتخصص في فلسفة أو لغة أو فقه أو نحو ذلك، لكن لا الجاحظ ولا أبو حيان كان ثوريا في ثقافته؛ لأنك تقرأ لهما فتزداد «علما» لكنك لا تدري كيف تغير من أوضاع حياتك وفق هذه الزيادة العلمية، وأما الغزالي فشأنه غير هذا؛ لأنك تقرأ له، فإذا أخذت بوجهة نظره، كان لا بد لك من تغيير أسلوب الحياة والنظر، فها هو ذا رجل يقول لك إن التجربة النفسية - لا المنهج العقلي - هي طريقك إلى رسم خطة الحياة، وإن الحياة المثلى هي الحياة الروحية العملية في آن، فالروحانية بغير عمل خواء، والعمل بغير روحانية جفاف ويأس، وألف الغزالي كتاب «الإحياء» ليبث به في «علوم الدين» حياة جديدة يتحقق بها ما قد أوصلته إليه تجربة نفسية مارسها وعاناها.
ونعبر القرون لنصل إلى تاريخنا الثقافي الحديث، فنرى الأمثلة واضحة للمثقف المعتزل، والمثقف الثوري، وأبدأ بجمال الدين الأفغاني، الذي هو «سقراط» حياتنا الفكرية الحديثة، يطوف كما كان يطوف سقراط، ويجادل ويناقش كما جادل سقراط وناقش، ويخلق التلاميذ والأتباع كما خلق سقراط تلاميذه وأتباعه، يشعل الروح كما أشعل، ويوقظ النفوس كما أيقظ، نعم إن رسالة الأفغاني لم تكن هي رسالة سقراط، لكن الأداء واحد في الحالتين، كانت رسالة سقراط - كما أسلفنا - أن يكون الاحتكام في أمور الحياة كلها إلى العقل في تجريده المنطقي الخالص، وكانت رسالة الأفغاني أن يكون الاحتكام إلى القومية الدينية المفهومة على ضوء العقل، لا على ضلال الخرافة، لكن طريقة الأداء عند الرجلين متشابهة، فكلاهما مثقف ثوري؛ لأن كليهما لم يكفه أن «يعرف» لنفسه، بل أراد أن يعرف للناس من حوله.
ويجيء بعد الأفغاني إمامنا محمد عبده، فيكون هو «أفلاطون» حياتنا الفكرية الحديثة، فهو تلميذ الأفغاني كما كان أفلاطون تلميذا لسقراط، وهو يستقر للكتابة والدرس والمحاضرة بعد تطواف أستاذه الأفغاني، كما استقر أفلاطون للكتابة والدرس والمحاورة بعد تطواف أستاذه سقراط، كان مستقر الإمام هو الأزهر، وكان مستقر أفلاطون هو الأكاديمية، كلاهما يتصور بعقله حياة جديدة، ويجعل وسيلته إلى إقامتها تعليم الناس وتنوير العقول، لم يكن الإمام محمد عبده يدرس ما يدرسه ليزداد فقها لنفسه، بل كان يفعل ذلك ليزداد فقها بما يغير دنيا الناس، كان يفعل ذلك ليصلح وليبني ولينشئ وليعلم وليربي، لم يكن «مثقفا» وكفى، بل كان «مثقفا ثوريا».
وقل هذا في قاسم أمين، وفي لطفي السيد، فالأمر فيهما أوضح من أن يحتاج إلى شرح وتوضيح، الأول يكتب ليغير أوضاع الحياة بالنسبة إلى نصف الشعب، المرأة، والثاني يكتب ليؤصل حياة سياسية على أصول ديمقراطية، كلاهما مثقف ثوري، يحصل العلم، لا ليضعه في رأسه كما توضع الآثار في المتحف، بل ليتخذ منه أداة فعل وعمل وتطوير وتغيير.
إن التفرقة بين «المثقف» و«المثقف الثوري» هي نفسها التفرقة بين «العلم للعلم» و«العلم للمجتمع»، نعم، إنه لا مراء في أن العلم في حد ذاته قيمة، فمن يعلم خير ممن لا يعلم، مهما تكن مادة علمه، لكن العلم الذي من شأنه أن يعالج مشكلات الناس في حياتهم اليومية، فيه علم وزيادة، فيه قيمة العلم مضافا إليها قيمة التطبيق، والحق أني - بحكم ما أذهب إليه في فلسفة المعرفة بصفة عامة - لا أعترف بعلم لا تكون فيه قابلية التطبيق، بل لا أدري كيف يكون ذلك، اللهم إلا في حالة واحدة، وهي أن يجعل الدارس من نفسه «ذاكرة» تحفظ ما قاله الأولون، وعندئذ لا يكون ثمة «علم» بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بل يكون في رأس الدارس «مكتبة» يرجع إليها كما يرجع إلى الكتب المرصوصة فوق الرفوف.
Page inconnue