وليس من الحكمة أن نبحث عن الحضارة فيما نتخيله من صفات نميل إليها بمزاجنا الذهني أو بحكم صناعتنا أو الظروف الوقتية التي نعيش فيها، وإنما علينا أن نعمد إلى الأمم التي اشتهرت بالعصور الذهبية وقت ارتقاء حضارتها ثم نفتش فيها عن الصفات البارزة التي تشترك فيها وتعد هذه الصفات شرطا للحضارة أو التمدن الراقي، وهذا هو ما فعله المستر بل، فإنه بحث حضارة الإغريق القدماء في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، ثم بحث عصر النهضة في إيطاليا، ثم العصر السابق للثورة الفرنسية في فرنسا، ووجد بالمقابلة أن هذه العصور الثلاثة تشترك في جملة صفات هي ما نعني نحن الآن بالحضارة الراقية، وهذه الصفات هي سيطرة العقل وتسويده على جميع المناحي التي ينحو إليها نشاط الأمة، وهذه السيطرة التي للعقل تورث الأمة ذوقا خاصا يحترم الحق والجمال، ويبعث على التسامح وشرف الذهن، والتأنق والمجاملة والاستطلاع، وإدراك معنى الفكاهة، وكراهة الإسفاف والقسوة والمبالغة والخرافات والحياء الكاذب، والتجرؤ على التمتع بالحياة، والرغبة في الحصول على تربية حرة، والقدرة على الإعراب عما في النفس.
وهذه هي صفات الحضارة الراقية كما يراها المستر بل في أحسن العصور الذهبية لثلاث أمم من أعظم الأمم في تاريخ العالم، وهي مقياس يمكننا أن نقيس به الدرجة التي بلغناها في معارج الرقي، وأول ما نتساءل عنه هو: هل نحن نجعل للعقل السيطرة التامة في شئوننا العامة؟ ثم هل نحترم الجمال والتسامح ونكره القسوة والمبالغة؟
إن المتتبع للغة الصحف في الشهرين الماضيين لا يتمالك الأسف لما بلغته من الإسفاف في وصف خصومها، والمبالغة في هذا الوصف، حتى لقد ذكر أحد الكتاب حزبا من الأحزاب بأن أعضاءه عواهر، ولم يقنع بهذه اللفظة العامية المعبرة عنها.
إن في سمات الحضارة الراقية التي ذكرها المستر بل أشياء جديرة بالنظر والدرس، ولكن نحن في ظروفنا الحاضرة نرى أن شروط المجاملة والتسامح وكراهة المبالغة والإسفاف قد غابت من الصحف في الشهرين الماضيين، وصار الكاتب يصف خصومه السياسيين بالجنون والخيانة والعهر وسائر مترادفات هذه الألفاظ وهو لا يبالي بما يقول، فعلينا جميعا أن نذكر أمثال هذا الكاتب بشروط الحضارة الراقية ونسأله: هل أنت متمدن؟
الفصل الثالث والخمسون
في التقدم
تتقدم الأمم وترتقي بجملة وسائل ، منها التسلط على الطبيعة، وذلك باختراع الآلات التي توفر على الإنسان مشقة العمل وتزيد بذلك حريته ورفاهيته، ومنها الارتقاء في الأخلاق، وليس هذا الارتقاء سوى الرضى بالتعاون بدلا من التنازع والنزول عن الأثرة من أجل الإيثار، ومنها رفع المستوى في التعليم حتى يفوز كل إنسان بحقه في الثقافة العالمية.
هذه بعض الوسائل التي تتقدم بها الأمم، فأما من حيث التسلط على الطبيعة واستغلالها لمصلحة الإنسان فهذا واضح من الآلات الكثيرة التي لا تجعلنا نركب الهواء فقط، بل نزرعه كما نزرع الأرض ونستخرج منه النتروجين، وكذلك تقدم الصناعة بالكيمياء التي جعلتنا، أو بالأحرى جعلت من هم أعلم منا وأثقف، يصنعون الحرير من الكرنب والموز والحطب وربما قضوا على زراعة القطن عندنا يوما ما.
ولكن إلى جانب هذا التقدم الصناعي نجد تقدما في الأخلاق، فالرق ألغي منذ القرن الماضي، وكان إلغاؤه لحافز إنساني لأن الأديان لم تحرمه قط، وكانت المرأة إلى وقت قريب في معظم أرجاء العالم تعيش كالأمة التي لا رأي لها في شأن ما أمام زوجها، ولكن الرجل نزل عن حقوقه راضيا ورفعها إلى مستواه فصار لها رأي في البرلمانات وسائر المجالس النقابية، وقد كان من الحوادث الجميلة في عصرنا الحديث أن نرى أمة كبيرة تبلغ نحو 130 مليونا من السكان، نعني بها الولايات المتحدة، ينزل فيها الرجال عن حقهم في شرب الخمور ويحرمونها على أنفسهم بشرعة خاصة وفي الوقت نفسه يمنحون المرأة حق التصويت للهيئات النيابية أسوة بهم. أليس هذا ارتقاء في الأخلاق؟
ومن الظواهر التي تدل على التقدم في الأخلاق تلك العناية التي نراها لمصلحة العمال، وتعليمهم، وإسكانهم في مساكن نظيفة، وتحديد ساعات العمل لهم، ومنحهم المعاشات عندما يبلغون سن الشيخوخة، فهذه العناية قد قام بها الأغنياء لمعاونة الفقراء، وكان الدافع إليها تلك الأريحية التي يشعر بها الرجل المهذب فتسخو نفسه بالإصلاح ولو كان فيه بعض الخسارة أو المشقة عليه، وقد قامت أحزاب الأحرار في أوروبا وأمريكا بضروب من الإصلاح لم تتحقق للآن في روسيا نفسها، بل الواقع أن في إنجلترا من الاشتراكية أكثر مما في روسيا، وليس ذلك إلا لأن في إنجلترا طبقة من الأغنياء المهذبين نزلوا عن كثير من حقوقهم راضين للعمال، ولم يكن لهم من باعث سوى أخلاقهم.
Page inconnue