فزراعتنا يجب أن تتطور حتى تكون صناعية. ثم هذا الأدب الذي يمارسه شبابنا هو أدب بال قائم على الألفاظ والزخارف، فيجب أن يتطور حتى يصير أدبا علميا غايته البحث عن معايير جديدة للحياة والسعادة.
ثم معيشتنا يجب أن نتناولها بالتنقيح والتبديل حتى توافق بيوتنا شروط الصحة والجمال، وحتى لا نحتاج إلى أن نهجرها إلى القهوات والحانات، كي ننسى حياتنا فيها بعض النسيان، وأيضا يجب أن نتذكر المرأة التي هي الأم والمربية والعشيرة فنرفعها إلى مستوى المرأة الأوربية حتى تكون بذلك إنسانا نأتنس به في بيوتنا، وحتى تكون حكيمة مدبرة يمكنها تربية أولادها والإشراف على مصالحهم إذا مات زوجها.
وإذا كان الإنجليز لا يتهيبون من التنقيح في الصلاة التي يتقدم بها الإنسان لربه، فإننا يجب ألا نتهيب من التنقيح والتبديل في معايشنا، فنعمل لتحرير المرأة وتعليمها الحرف التي يمكنها أن تعيش منها، ونعمل لحث الشباب على درس العلوم وممارسة الصناعات، ونعمل أيضا لحث جميع الناس على اصطناع المخترعات الجديدة، فنركب الطيارات بدل الحمير التي كان يركبها أسلافنا قبل عشرة آلاف سنة، ونخترع ونكتشف ونتقدم للعالم بحصتنا من المجهود في ترقيته؛ لأننا نعيش الآن ونحن عالة عليه، في الاختراع والاكتشاف، وليس ذلك إلا لأننا نلزم السنين القديمة والطرق العتيقة.
الفصل الثالث والعشرون
ماري
في سنة 1883 ماتت فتاة روسية تدعى «لاري بشكير تسف» وهي في الرابعة والعشرين من عمرها بعد أن أكل التدرن رئتها وبرزت أضلاعها كالقفص الفارغ.
وللتدرن من الآلام البطيئة ما يبعث السأم في النفس ويصدها عن ضروب التمتع ويحبب إليها الموت، ولكن ماري كانت بعكس ذلك تحب الحياة وتشتهي البقاء، وقد تركت في مذكراتها اليومية صورة قوية لهذا الجوع الذي كان يحثها على أن تلتهم العالم التهاما، وهذا العطش الذي كان يدفعها إلى أن تذوق حلو الحياة ومرها، وهي في اشتهائها للبقاء لم تكن تخضع لشهوات الدنيا، بل كانت تسمو وتتشوف إلى أرفع ما في هذا العالم من مطامع وأغراض.
كتبت مرة في مذكراتها تقول: «يبدو لي أنه ليس هناك أحد يستطيع أن يحب كل شيء كما أحبه: يحب الفنون الجميلة والموسيقى والرسم والكتب والاختلاط بالناس واللباس والترف، أو التفزز والهدوء والضحك والدموع والحب والحزن والادعاء والثلج والشمس ... إني أحبها كلها وأعجب بها كلها ... وأحب أن أرى هذه الأشياء بل أمتلكها وأعانقها وأندمج فيها ثم أموت في طرب هذه اللذة (لأني لا بد أن أموت بعد سنتين أو بعد ثلاثين سنة) حتى أعرف سر هذا الختام بل سر هذه البداية.»
وكتبت مرة أخرى تقول: «إني أحسد العلماء حتى أولئك المهزولين الذين يكسو وجوههم الشحوب والقبح.»
وتصيح مرة أخرى في مذكراتها حين تقول: «ما الزواج وولادة الأولاد؟ أليست الغسالات أنفسهم يقدرون على ذلك؟»
Page inconnue