وقد كانت الرشوة إلى عهد قريب يتسامح فيها الجمهور ولا يعدها جريمة، فكانت لذلك كثيرة الشيوع لأن مرتكبها كان يعتقد أنه لن يفقد كرامته أمام بني وطنه إذا تلبس وثبتت عليه، وهو إلى حد ما لا يزال كذلك، وفي هذا فساد كبير للإدارة، ولن تصلح هذه الإدارة حتى يسلط الجمهور سوط احتقاره على جميع من ينهبون الحكومة بأية صورة.
ولقد كتبت الصحف كثيرا عن ضرورة إقبال الشباب على الأعمال الحرة، ولكننا نعتقد أن أكبر ما يمنع إقبال الشباب عليها هو احتقار الجمهور لها، فلو أن الشاب وجد أن كرامته، إذا كان صاحب قهوة أو حانة أو مطعم، محفوظة مصونة في عين الجمهور كما تصان إذا توظف في الحكومة لما أحجم عن مثل هذه الأعمال الحرة، ولكن أكبر ما يجعله يحجم عنها هو احتقار الرأي العام لها، فإننا ما زلنا نجري على طبائع الاستبداد القديمة في إكبار كل ما يتصل بالحكومة واحتقار ما عداها، وقد نزل إلينا هذا الاعتقاد من السلف الذي كان يرى في الحكومة سلطانا أي سلطان للاستبداد بالأفراد والنهب والتسخير، وسنعيش مدة طويلة وشبابنا عالة على الحكومة حتى يتربى الجمهور ويعرف للعمل الحر قيمته، ويحترم القهوجي الشريف كما لا يحترم المأمور السافل الذي يضرب الناخبين لكي يترقى، ويكرم صانع الأحذية كما يكرم المحامي الذي يشكو الآن من قلة الأعمال ويطلب منع دخول محامين جدد في مهنته.
إن للجمهور سوطا قويا هو سوط الاحتقار الذي يستطيع أن يسلطه على الخامل والسكير والمجرم والزاني والمرتشي والمتزلف فيصلح بذلك أخلاق الأمة بما لا تستطيع الشرائع المكتوبة أن تصلحها؛ لأن حياء الناس أكبر من خوفهم، فهم إذا رأوا عين الاحتقار انزووا أو تصاغروا وساروا على النهج القويم.
الفصل الرابع عشر
سلطانك على نفسك
من الأقوال التي تستوقف العقل وتلزمه التفكير قول الدكتور كارنو: «إن جروح الجنود الظافرة تبرأ بأسرع مما تبرأ جروح الجنود المهزومة.»
ولم يقل الدكتور كارنو هذه العبارة إثباتا لنظرية بل تحقيقا لاختبار اختبره بنفسه، وجدير بنا أن نقف نحن نتأمل مغزى قوله في ضوء الأبحاث النفسية الحديثة.
فإن الجندي الظافر يجد في قلبه من البهجة والسرور وفي نفسه وجسمه من النشاط ما يجعل جروحه سريعة البرء . بينما الجندي المهزوم يجد في الخيبة والفشل ما يكسر نفسه ويملأها غما ونكدا فتنحط بذلك قواه المعنوية وتؤثر في أعصابه. ثم تعود أعصابه فتؤثر في جسمه فيتأخر لذلك شفاؤه.
وكلنا في ميدان الحياة جنود، فمنا من ينظر إلى الدنيا متفائلا من خلال زجاج وردي فتبدو له في زهوة وبهجة يبتسم لها فتبسم له، يعمل أعماله وهو واثق بالظفر يتوهمه خيالا في نفسه فيتحقق في الوقاع، ومنا من يتشاءم، ينظر إلى الدنيا من خلال زجاجة سوداء، يتوقع الهزيمة في كل مكان، ويخشى الفشل في كل وقت، وما أسرع ما يفشل في الواقع.
فنجاحنا في هذا العالم يتوقف على خيالنا، فإذا تخيلنا أنفسنا ظافرين فنحن لا شك ناجحون في كل ما نتناوله من عمل؛ لأن عقلنا يتسلط على جسمنا وأعصابنا ويوجه جهودنا في سبل النجاح، وإذا تخيلنا الفشل وتوقعناه فهو لا بد واقع.
Page inconnue