En philosophie de la critique
في فلسفة النقد
Genres
إنني أنظر، مقارنا بين العشرينيات والسبعينيات، فأجد أهل العشرينيات أقوى استعدادا لقبول الجديد من أبناء اليوم، فأبناء اليوم تشد أعناقهم إلى الخلف لتتجه أبصارهم إلى الوراء، بدرجة أكثر جدا مما يجوز لمن أراد أن يواكب عصره، ولست أريد أن أزيد على هذه العبارة الموجزة حرفا.
ماذا صنعت لنا خمسون عاما في حياتنا الثقافية؟ سؤال أوحت به إلي مناقشة سمعتها في إحدى وسائل الإعلام دارت بين فريق من الصف الأول في جماعة المثقفين، وكان موضوع المناقشة مما يمس الموقف الثقافي في الصميم، ومعذرة إذا قلت إني لم أسمع إلا ما لم يكن يجوز أن أسمعه في موضوع كهذا ومن نفر كهؤلاء، وسألت نفسي ساعتها: ترى لو طرح هذا الموضوع نفسه سنة 1920م ليتحدث فيه لطفي السيد والعقاد وطه حسين وهيكل، فهل كنا نسمع مثل هذه القشور السطحية؟
إني لأتمنى أن أكون قد أخطأت النظر وأخطأت التقدير .
كان عصر طه حسين
سيقول التاريخ الأدبي عن السنين الخمسين التي توسطت هذا القرن العشرين: لقد كان عصر طه حسين.
فما أظن كاتبا خلال هذه السنوات الخمسين - من العقد الثاني إلى العقد السابع - قد كتب شيئا دون أن يهمس له في صدره صوت يقول: ماذا عساي أن يكون وقع هذا عند طه حسين إذا قرأه؟ ترى هل يصادف عنده السخط أم الرضا؟ وهكذا كان هو المعيار المستكن في صدور الكاتبين، كأنه لهم في حياتهم الأدبية ضمير يوجه ويشير.
ورد عند أندريه جيد قوله: «لتكن حياتك ثائرة مثيرة، ولا تجعلها هامدة ساكنة!» وأحسب أن نداء كهذا ألقاه عصرنا على طه حسين، فجاءت حياته في دنيا الفكر والأدب ثائرة مثيرة، لم تعرف سكونا ولا همودا، جعل أمامه منذ بداية الشوط هدفا، فكان جبلا وعرا؛ حصر همه في بلوغ القمة، فلم يشغله دون ذلك ما يلاقيه على طريق الصعود من عقبات. إنه لم ينشط بكل هذا النشاط الجم الذي ملأ به حياتنا حركة وفاعلية، لم ينشط به تفريغا لطاقة تزخم شعاب نفسه وعقله، ثم لا يأبه بعد ذلك كيف جاء تفريغها وأين، بل جعل لنفسه الهدف منذ أول سفر، فكان هدفه ذاك هو الهادي على الطريق.
وما هدفه ذلك نقلة ينقلنا بها من عصر السذاجة في النظر والتصديق، إلى عصر يسوده العقل بدقة منهجه، شأنه في ذلك شأن قادة الفكر على طول التاريخ؛ فليست الرسالة عند هؤلاء جميعا هي أن يزيدوا المعرفة معرفة من جنسها، بل رسالتهم هي أن يغيروا من نوع المعركة كذلك، فينقلونها إلى «كيف» جديد. هكذا كانت رسالة سقراط، رسالة الجاحظ، رسالة أبي العلاء، رسالة ديكارت، وسائر الأئمة الذين كانوا ينقلون الفكر من طراز قديم إلى طراز آخر يتلوه على سلم الصعود.
لئن كانت أبصارنا وأسماعنا وقلوبنا وعقولنا جميعا - أعني أبناء الأمة العربية في مرحلتها الفكرية الراهنة - مشدودة كلها إلى غاية مرجوة؛ فغايتنا في دنيا الفكر والثقافة هي أن نجمع مجدنا الموروث إلى النتاج الإنساني الحديث، ولقد تجسدت في شخص طه حسين هذه الغاية المأمولة، حتى ليمكن أن يعد مثالا قائما لما ينبغي أن يكون عليه هذا الجمع بين قديم وجديد، فاستمع إلى كلمات بركليز في خطابه الجنائزي المشهور، الذي ألقاه تكريما لمن سقط من أبناء أثينا في ساحة الحرب، وحدد به بعض معالم الشخصية اليونانية - وعنها تفرعت فيما بعد الثقافة الأوروبية - تجدها معالم واضحة في شخصية أديبنا الراحل، قال بركليز في خطابه ذاك: «إننا نمجد الموهبة أيا كان مجالها؛ لأن التفوق الممتاز هو في ذاته جدير عندنا بالتمجيد. إننا نحب الجمال في غير إسراف، ونحب الحكمة دون أن تفقدنا شهامة الرجال. إن أحدا منا لا يستسلم لأحد في أمر يمس استقلاله الروحي وإبداعه المثمر، وإننا لنعتمد على أنفسنا اعتمادا كاملا.» وهكذا كان طه حسين.
ولكن إلى جانب ذلك، أو قل إنه قبل ذلك وفوق ذلك، عربي حتى النخاع؛ فهو ممن عايش أسلافنا معايشة خيل معها إليه وإلينا أنه إنما يعيش مع إخوة له معاصرين، يكتب عنهم وكأنه يبادلهم الحديث؛ ومن ثم استطاع أن يجعل من نفسه زميلا لهم، لا تابعا ينظر إليهم ذاهلا مشدوها، كمن يتجول بين شخوص نحتها النحاتون من حجر فأبدعوا، لا، إنه قد عايشهم ليكون معهم، ومنهم؛ وبهذا جعل من الماضي مادة يشكل منها حاضرا ومصيرا.
Page inconnue