Dans le Monde de la Vision
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
Genres
غبت عن بيروت بضعة أعوام ولما رجعت إليها ذهبت لزيارة رشيد بك، فوجدته ضعيف الجسد مكمد اللون، تتمايل على سحنته المنقبضة أشباح الأحزان، وتنبعث من عينيه الحزينتين نظرات موجوعة تتكلم بالسكينة عن انسحاق قلبه وظلمة صدره. وبعيد أن بحثت في محيطه ولم أجد أسباب نحوله وانقباضه سألته قائلا: ما أصابك أيها الرجل؟ وأين تلك البشاشة التي كانت تنبعث كالشعاع من وجهك؟ وأين ذهب ذاك السرور الذي كان ملاصقا شبيبتك؟ هل فصل الموت بينك وبين صديق عزيز؟ أم سلبتك الليالي السوداء مالا جمعته في الأيام البيضاء؟ قل لي بحق الصداقة، ما لهذه الكآبة المعانقة نفسك وهذا النحول المالك جسدك؟ •••
فنظر إلي نظرة متأسف أرته الذكرى رسوم أيام جميلة ثم حجبتها، وبصوت تتموج في مقاطعه معاني اليأس والقنوط قال: إذا فقد المرء صديقا عزيزا والتفت حوله يجد الأصدقاء الكثيرين فيتصبر ويتعزى، وإذا خسر الإنسان مالا وفكر قليلا رأى النشاط الذي أتى بالمال سيأتي بمثله فينسى ويسلو. لكن إذا أضاع الرجل راحة قلبه فأين يجدها وبم يستعيض عنها؟ يمد الموت يده ويصفعك بشدة فتتوجع، ولكن لا يمر يوم وليلة حتى تشعر بملامس أصابع الحياة فتبتسم وتفرح. يجيئك الدهر على حين غفلة ويحدق بأعين مستديرة مخيفة، ويقبض على عنقك بأظافر محددة، ويطرحك بقساوة على التراب ويدوسك بأقدامه الحديدية ويذهب ضاحكا، ثم لا يلبث أن يعود إليك نادما مستغفرا، فينتشلك بأكفه الحريرية ويغني لك نشيد الأمل فيطربك. مصائب كثيرة ومتاعب أليمة تأتيك مع خيالات الليل، وتضمحل أمامك بمجيء الصباح، وأنت شاعر بعزيمتك متمسك بآمالك. •••
ولكن إذا كان نصيبك من الوجود طائرا تحبه وتطعمه حبات قلبك، وتسقيه نور أحداقك، وتجعل ضلوعك له قفصا ومهجتك عشا، وبينما أنت تنظر إلى طائرك وتغمر ريشه بشعاع نفسك إذا به قد فر من بين يديك وطار حتى حلق السحاب، ثم هبط نحو قفص آخر وما من سبيل إلى رجوعه. فماذا تفعل إذ ذاك أيها الرجل؟ قل لي، وأين تجد الصبر والسلوان؟ وكيف تحيي الآمال والأماني؟
لفظ رشيد بك الكلمات الأخيرة بصوت مخنوق متوجع، ووقف على قدميه مرتجفا كقصبة في مهب الريح، ومد يديه إلى الأمام كأنه يريد أن يقبض بأصابعه المعوجة على شيء ليمزقه إربا إربا، وقد تصاعد الدم إلى وجهه وصبغ بشرته المتجعدة بلون قاتم، وكبرت عيناه وجمدت أجفانه، وأحدق دقيقة كأنه رأى أمامه عفريتا قد انبثق من العدم وجاء ليميته، ثم نظر إلي وقد تغيرت ملامحه بسرعة، وتحول الغضب والحنق في جسده المهزول إلى التوجع والألم، وقال باكيا:
هي المرأة. المرأة التي أنقذتها من عبودية الفقر وفتحت أمامها خزائني، وجعلتها محسودة بين النساء على الملابس الجميلة والحلي الثمينة والمركبات الفخيمة والخيول المطهمة.
المرأة التي أحبها قلبي وسكب على قدميها عواطفه، ومالت إليها نفسي فغمرتها بالمواهب والعطايا.
المرأة التي كنت لها صديقا ودودا ورفيقا مخلصا وزوجا أمينا، قد خانتني وغادرتني وذهبت إلى بيت رجل آخر لتعيش معه في ظلال الفقر، وتشاركه بأكل الخبز المعجون بالعار، وشرب الماء الممزوج بالذل والعيب.
المرأة التي أحببتها، الطائر الجميل الذي أطعمته حبات قلبي وأسقيته نور أحداقي، وجعلت ضلوعي له قفصا ومهجتي عشا، قد فر من بين يدي وطار إلى قفص آخر محبوك من قضبان العوسج، ليأكل فيه الحسك والديدان، ويشرب من جوانبه السم والعلقم. الملاك الطاهر الذي أسكنته فردوس محبتي وانعطافي قد انقلب شيطانا مخيفا، وهبط إلى الظلمة لتعذب بآثامه ويعذبني بجريمته.
وسكت الرجل وقد حجب وجهه بكفيه كأنه يريد أن يحمي نفسه من نفسه، ثم تنهد قائلا: «هذا كل ما أقدر أن أقوله، فلا تسألني أكثر من ذلك، ولا تجعل لمصيبتي صوتا صارخا، بل دعها مصيبة خرساء لعلها تنمو بالسكينة فتميتني وتريحني.»
فقمت من مكاني والدموع تراود أجفاني والشفقة تسحق قلبي، ثم ودعته ساكتا لأنني لم أجد في الكلام معنى يعزي قلبه الجريح، ولا في الحكمة شعلة تنير نفسه المظلمة.
Page inconnue