في عالم الرؤيا
رجوع الحبيب
مرتا البانية1
صفحات مطوية
الشاعر
السيدة وردة الهاني
يوحنا المجنون
في العهد الجديد
لكم لبنانكم ولي لبناني
بنات البحر
بين ليل وصباح
البنفسجة الطموحة
حياة الحب
في مدينة الأموات
وعظتني نفسي
المليك السجين
موت الشاعر حياته
الشاعر البعلبكي
الناس عبيد الحياة
الجنية الساحرة
قبل الانتحار
الشيطان
على باب الهيكل
حفار القبور
الأمم وذواتها
الجبابرة
في عالم الرؤيا
رجوع الحبيب
مرتا البانية1
صفحات مطوية
الشاعر
السيدة وردة الهاني
يوحنا المجنون
في العهد الجديد
لكم لبنانكم ولي لبناني
بنات البحر
بين ليل وصباح
البنفسجة الطموحة
حياة الحب
في مدينة الأموات
وعظتني نفسي
المليك السجين
موت الشاعر حياته
الشاعر البعلبكي
الناس عبيد الحياة
الجنية الساحرة
قبل الانتحار
الشيطان
على باب الهيكل
حفار القبور
الأمم وذواتها
الجبابرة
في عالم الرؤيا
في عالم الرؤيا
مقالات مختارة لجبران خليل جبران
تأليف
جبران خليل جبران
جمع
محمد محمد عبد المجيد
جبران خليل جبران.
كاتب اشتهرت كتاباته في أمريكا وامتاز برقة الشعور وسمو الخيال. أتقن فن التصوير فأصبح يصور بالكلام أو بالألوان ما يجيش في خاطره أجمل تصوير.
في عالم الرؤيا
عندما جن الليل وألقى الكرى رداءه على وجه الأرض، تركت مضجعي وسرت نحو البحر قائلا في نفسي: «البحر لا ينام، وفي يقظة البحر تعزية لروح لا تنام.»
بلغت الشاطئ وكان الضباب قد انحدر من أعالي الجبال وغمر تلك النواحي، مثلما يوشي النقاب الرمادي وجه الصبية الحسناء، فوقفت محدقا بجيوش الأمواج، مصغيا إلى تهاليلها مفكرا بالقوى السرمدية الكامنة وراءها، تلك القوى التي تركض مع العواصف وتثور مع البراكين وتبتسم بثغور الورود وتترنم مع الجداول.
وبعد هنيهة التفت فإذا بثلاثة أشباح جالسين على صخر قريب وأغشية الضباب تسترهم ولا تسترهم، فمشيت نحوهم ببطء كأن في كيانهم جاذبا يستميلني قسر إرادتي.
ولما سرت على بعد خطوات منهم وقفت شاخصا بهم كأن في المكان سحرا أجمد ما بي من العزم وأيقظ ما في روحي من الخيال.
في تلك الدقيقة وقف أحد الأشباح الثلاثة، وبصوت خلته آتيا من أعماق البحر قال: «الحياة بغير حب كشجرة بغير أزهار ولا أثمار، والحب بغير الجمال كأزهار بغير عطر، وأثمار بغير بذور. الحياة والحب والجمال، ثلاثة أقانيم في ذات واحدة مستقلة مطلقة، لا تقبل التغيير ولا الانفصال.» قال هذا وجلس في مكانه، ثم انتصب الشبح الثاني، وبصوت يماثل هدير مياه غزيرة قال: «الحياة بغير تمرد كالفصول بغير ربيع، والتمرد بغير حق كالربيع في الصحراء القاحلة الجرداء. الحياة والتمرد والحق، ثلاثة أقانيم في ذات واحدة لا تقبل الانفصال ولا التغيير»، ثم انتصب الشبح الثالث، وبصوت كقصف الرعد قال: «الحياة بغير الحرية جسم بغير روح، والحرية بغير الفكر كالروح المشوشة. الحياة والحرية والفكر، ثلاثة أقانيم في ذات واحدة أزلية لا تزول ولا تضمحل.»
ثم وقف الأشباح الثلاثة، وبأصوات هائلة قالوا معا: «الحب وما يولده، والتمرد وما يوجده، والحرية وما تنميه. ثلاثة مظاهر من الله، والله ضمير العالم العاقل.»
وحدث إذ ذاك سكوت مفعم بحفيف أجنحة غير منظورة وارتعاش أجسام أثيرية، فأغمضت عيني مصغيا إلى صدى الأقوال التي سمعتها.
ولما فتحتهما ونظرت ثانية لم أر غير البحر متشحا بدثار الضباب، فاقتربت من الصخرة حيث كان الأشباح الثلاثة جالسين، فلم أر إلا عمودا من البخور متصاعدا نحو السماء.
رجوع الحبيب
ما جاء الليل حتى انهزمت الأعداء وفي ظهورهم بضع السيوف ووخز الرماح، فعاد الظافرون حاملين ألوية الفخر، منشدين أهازيج النصر على توقيع حوافر خيولهم المتساقطة كالمطارق على حصباء الوادي.
1
أشرفوا على الجبة وقد طلع القمر من وراء فم الميزاب، فظهرت تلك الصخور الباسقة متشامخة مع نفوس القوم نحو العلاء، وبانت غابة الأرز بين تلك البطاح، كأنها وسام مجد أثيل علقته الأجيال الغابرة على صدر لبنان.
ظلوا سائرين وأشعة القمر تتلمع على أسلحتهم والكهوف البعيدة تتقلد تهاليلهم، حتى إذا ما بلغوا جبهة العقبة أوقفهم صهيل فرس واقف بين الصخور الرمادية كأنه قد منها، فاقتربوا إليه مستطلعين، وإذا بجثة هامدة مرتمية على أديم التراب المجبول بنجيع الدماء، فصرخ زعيم القوم قائلا: «أروني سيف الرجل فأعرف صاحبه.»
فترجل بعض الفرسان وأحاطوا بالمصروع مستفسرين، وبعد هنيهة التفت أحدهم نحو الزعيم وقال بصوت أجش: «لقد عانقت أصابعه الباردة قبضة السيف بشدة، فمن العار أن أنزعه.»
وقال آخر: «لقد لبس السيف غمدا من الدماء فاختفى فولاذه.»
وقال آخر: «لقد تجمدت الدماء على الكف والقبضة، وأوثقت الشفرة بالزند فصيرتهما عضوا واحدا.»
فترجل الزعيم واقترب من القتيل قائلا: «أسندوا رأسه ودعوا أشعة القمر ترينا وجهه.»
ففعلوا مسرعين، وبان وجه المصروع من وراء نقاب الموت، ظاهرة عليه ملامح البطش والبأس والتجلد، وجه فارس قوي يتكلم بلا نطق عن شدة رجوليته، وجه متأسف فرح، وجه من لقي العدو عابسا، وقابل الموت باسما، وجه بطل لبناني حضر موقعة ذلك النهار ورأى طلائع الاستظهار، ولكنه لم يبق لينشد مع رفاقه أهازيج النصر.
ولما أزاحوا كوفيته ومسحوا غبار المعمعة عن وجهه المصفر، ذعر الزعيم وصرح متوجعا: «هذا ابن الصعبي، فيا للخسارة ...!»
فردد القوم هذا الاسم متأوهين ثم جمدوا في أماكنهم. إن قلوبهم السكرى بخمرة النصر قد فاجأها الصحو، فرأت أن خسارة هذا البطل هي أجسم من مجد التغلب وعز الانتصار. ومثل تماثيل قد أوقفهم هول المشهد وأيبس ألسنتهم فسكتوا، وهذا كل ما يفعله الموت في نفوس الأبطال؛ فالبكاء والنحيب حري بالنساء، والصراخ والعويل خليق بالأطفال، ولا يجمل برجال السيف غير السكوت هيبة ووقارا، ذلك السكوت الذي يقبض على القلوب القوية مثلما تقبض مخالب النسر على عنق الفريسة، ذلك السكوت الذي يترفع عن الدموع فيزيد بترفعه البلية هولا وقساوة، ذلك السكوت الذي يهبط بالنفوس الكبيرة من قمم الجبال إلى أعماق اللجة، ذلك السكوت الذي يعلن مجيء العاصفة، وإن لم تجئ كان هو نفسه أشد فعلا منها.
خلعوا أثواب الفتى المصروع ليروا أين وضع الموت يده، فبانت كلوم الشفار في صدره كأنها أفواه مزبدة تتكلم في هدوء ذلك الليل عن همم الرجال. فاقترب الزعيم وجثا مستفحصا، فوجد دون سواه منديلا مطرزا بخيوط الذهب مربوطا حول زنده، فتأمله سرا، وعرف اليد التي غزلت حريره والأصابع التي حاكت خيوطه، فستره بالأثواب وتراجع قليلا إلى الوراء، حاجبا وجهه المنقبض بيده المرتعشة، تلك اليد التي كانت تزيح بعزمها رءوس الأعداء قد ضعفت وارتجفت وصارت تمسح الدموع؛ لأنها لامست حواشي منديل عقدت أطرافه أصابع محبوبة حول زند فتى جاء ليشهد يوم الكريهة مدفوعا ببسالته فصرع، وسوف يرجع إليها محمولا على أكف رفاقه.
وبينما نفس زعيم القوم تتراوح بين مظالم الموت وخفايا الحب، قال أحد الواقفين: «تعالوا نحفر له قبرا تحت تلك السنديانة، فتشرب أصولها من دمه وتتغذى فروعها من بقاياه، فتزيد قوة وتصير خالدة، وتكون له رمزا فتمثل لهذه الطلول بطشه وبأسه.»
فقال آخر: «لنحملنه إلى غابة الأرز ونقبره بقرب الكنيسة، فتظل عظامه مخفورة بظل الصليب إلى آخر الدهر.»
وقال آخر: «اقبروه ها هنا حيث جبل التراب بدمائه، واتركوا سيفه في يمينه واغرسوا رمحه بجانبه وانحروا حصانه على قبره، ودعوا أسلحته تؤنسه في هذه الوحدة.»
وقال آخر: «لا تلحدوا سيفا مضرجا بدم الأعداء، ولا تنحروا مهرا يخوض المنايا، ولا تتركوا في الوعر سلاحا تعود هز الأكف وعزم السواعد، بل احملوها إلى ذويه لأنها خير ميراث.»
وقال آخر: «تعالوا نجثوا حوله مصلين صلاة الناصري، فتغفر له السماء وتبارك انتصارنا.»
وقال آخر: «لنرفعه على الأكتاف جاعلين له نعشا من الرماح والتروس، فنطوف به في هذا الوادي ناشدين أهازيج النصر، فيشاهد أشلاء الأعداء وتبتسم شفاه جراحه قبل أن يخرسها تراب القبر.»
وقال آخر: «تعالوا نعليه سرج جواده ونسنده بجماجم القتلى ونقلده رمحه وندخله الأحياء ظافرا؛ فهو لم يستسلم إلى المنية إلا بعد أن حملها من أرواح الأعداء حملا ثقيلا.»
وقال آخر: «تعالوا نودعه لحف هذا الجبل، فيكون له صدى الكهوف نديما وخرير السواقي مؤنسا، فترتاح عظامه في برية يكون فيها وطء أقدام الليالي خفيف الوقع.»
وقال آخر: «لا تغادروه ها هنا، ففي البرية وحشة مملة ووحدة قاسية، بل تعالوا ننقله إلى جبانة القرية فيكون له من أرواح جنودنا رفاقا يناجونه في سكينة الليل، ويقصون عليه أخبار حروبهم وأحاديث أمجادهم.»
فتقدم الزعيم إذ ذاك إلى وسط رجاله وأسكتهم بإشارة ، ثم قال متنهدا: «لا تزعجوه بذكرى الحروب، ولا تعيدوا على مسامع روحه الحائمة فوق رءوسنا أخبار السيوف والرماح، بل هلموا نحمله ببطء وهدوء إلى مسقط رأسه، ففي ذلك الحي نفس ساهرة تترقب قدومه، نفس حبيبة تنتظر رجوعه من بين الأسنة، فلنعده إليها كي لا تحرم نظرة من وجهه وقبلة من جبينه.»
حملوه على المناكب مطأطئي الرءوس خاشعي العيون، ومشوا ببطء محزن يتبعهم فرسه الكئيب يجر مقوده على الأرض ويصهل من وقت إلى آخر، فتجيبه الكهوف بصداها كأن للكهوف أفئدة تشعر مع البهيم بشدة الضيم والأسى.
بين أضلع ذلك الوادي حيث أشعة القمر تسترق خطواتها، سار موكب النصر وراء موكب الموت، وقد مشى أمامهما طيف الحب جارا أجنحته المكسورة.
مرتا البانية1
1
مات والدها وهي في المهد، وماتت أمها قبل بلوغها العاشرة، فتركت يتيمة في بيت جار فقير يعيش مع رفيقته وصغاره من بذور الأرض وثمارها، في تلك المزرعة المنفردة بين أودية لبنان الجميلة.
مات والدها ولم يورثها غير اسمه وكوخ حقير قائم بين أشجار الجوز والحور، وماتت أمها ولم تترك لها سوى دموع الأسى وذل التيتم، فباتت غريبة في أرض مولدها، وحيدة بين تلك الصخور العالية والأشجار المحتبكة. وكانت تسير في كل صباح عارية الأقدام رثة الثوب وراء بقرة حلوب إلى طرف الوادي حيث المرعى الخصيب، وتجلس بظل الأغصان مترنمة مع العصافير باكية مع الجدول، حاسدة البقرة على وفرة المأكل، متأملة بنمو الزهور ورفرفة الفراش. وعندما تغيب الشمس ويضنيها الجوع ترجع نحو ذلك الكوخ وتجلس مع صبية وليها ملتهمة خبز الذرة مع قليل من الثمار المجففة والبقول المغموسة بالخل والزيت، ثم تفترش القش اليابس مسندة رأسها بساعديها، وتنام متنهدة متمنية لو كانت الحياة كلها نوما عميقا لا تقطعه الأحلام ولا تليه اليقظة، وعند مجيء الفجر ينتهرها وليها لقضاء حاجة، فتهب من رقادها مرتعدة خائفة من سخطه وتعنيفه.
كذا مرت الأعوام على مرتا المسكينة بين تلك الروابي والأودية البعيدة، فكانت تنمو بنمو الأنصاب، وتتولد في قلبها العواطف على غير معرفة منها، مثلما يتولد العطر في أعماق الزهرة، وتنتابها الأحلام والهواجس مثلما تتناول القطعان مجاري المياه، فصارت صبية ذات فكرة تشابه تربة جيدة عذراء لم تلق بها المعرفة بذورا ولا مشت عليها أقدام الاختبار، وذات نفس كبيرة طاهرة منفية بحكم القدر إلى تلك المزرعة حيث تنقلب الحياة مع فصول السنة كأنها إله غير معروف جالس بين الأرض والشمس.
نحن الذين صرفوا معظم العمر في المدن الآهلة نكاد لا نعرف شيئا عن معيشة سكان القرى والمزارع المنزوية في أعمال لبنان، قد سرنا مع تيار المدنية الحديثة حتى نسينا أو تناسينا فلسفة تلك الحياة الجميلة البسيطة المملوءة طهرا ونقاوة، تلك الحياة إذا ما تأملناها وجدناها مبتسمة في الربيع، مثقلة في الصيف، مستغلة في الخريف، مرتاحة في الشتاء، متشبهة بأمناء الطبيعة في كل أدوارها. نحن أكثر من القرويين مالا وهم أشرف منا نفوسا. نحن نزرع كثيرا ولا نحصد شيئا، أما هم فيحصدون ما يزرعون. نحن وهم أبناء قناعتهم. نحن نشرب كأس الحياة ممزوجة بمرارة اليأس والخوف والملل، وهم يرتشفونه صافيا.
بلغت مرتا السادسة عشرة وصارت نفسها مثل مرآة صقيلة تعكس محاسن الحقول، وقلبها شبيه بخلايا الوادي يرجع صدى كل الأصوات. ففي يوم من أيام الخريف المملوءة بتأوه الطبيعة جلست بقرب العين المنعتقة من أسر الأرض انعتاق الأفكار من مخيلة الشاعر، تتأمل باضطراب أوراق الأشجار المصفرة وتلاعب الهواء بها مثلما يتلاعب الموت بأرواح البشر، تنظر نحو الزهور فتراها قد ذبلت ويبست قلوبها حتى تشققت وأصبحت تستودع التراب بدورها، مثلما تفعل النساء بالجواهر والحلي أيام الثورات والحروب.
وبينما هي تنظر إلى الزهور وتشعر معها بألم فراق الصيف سمعت حوافر على حصباء الوادي، فالتفتت وإذا بفارس يتقدم نحوها ببطء، ولما اقترب من العين، وقد دلت ملامحه وملابسه على ترف وكياسة - ترجل عن ظهر جواده فحياها بلطف ما تعودته من رجل قط، ثم سألها قائلا: «قد تهت عن الطريق المؤدية إلى الساحل، فهل لك أن تهديني أيتها الفتاة.» فأجابت وقد وقفت منتصبة كالغصن على حافة العين: «لست أدري يا سيدي ، ولكني أذهب وأسأل وليي فهو يعلم.» قالت هذه الكلمات بوجل ظاهر، وقد أكسبها الحياء جمالا ورقة، وإذ همت بالذهاب أوقفها الرجل وقد سرت في عروقه خمرة الشبيبة وتغيرت نظراته وقال: «لا، لا تذهبي.» فوقفت في مكانها مستغربة شاعرة بوجود قوة في صوته تمنعها عن الحراك، ولما اختلست من الحياء نظرة إليه رأته يتأمل بها باهتمام لم تفقه له معنى، ويبتسم لها بلطف سحري يكاد يبكيها لعذوبته، وينظر بمودة وميل إلى أقدامها العاريتين ومعصميها الجميلين وعنقها الأملس وشعرها الكثيف الناعم، ويتأمل بافتتان وشغف كيف قد لوحت الشمس بشرتها وقوت الطبيعة ساعديها. أما هي فكانت مطرقة خجلا لا تريد الانصراف ولا تقوى على الكلام لأسباب لا تعرف مفادها.
في ذلك المساء رجعت البقرة الحلوب وحدها إلى الحظيرة، أما مرتا فلم ترجع. ولما عاد وليها من الحقل بحث عنها بين تلك الوهاد ولم يجدها، فكان يناديها باسمها ولا يجيبه غير الكهوف وتأوه الهواء بين الأشجار، فرجع مكتئبا إلى كوخه وأخبر زوجته، فبكت طول ذلك الليل، وكانت تقول في سرها: «قد رأيتها مرة الحلم بين أظافر وحش كاسر يمزق جسدها، وهي تبتسم وتبكي.» •••
هذا إجمال ما عرفته عن حياة مرتا في تلك المزرعة الجميلة، وقد تخبرته من شيخ قروي عرفها مذ كانت طفلة حتى شبت واختفت من تلك الأماكن، غير تاركة خلفها سوى دموع قليلة في عيني امرأة وليها، وذكرى رقيقة مؤثرة تسيل مع نسيمات الصباح في ذلك الوادي ثم تضمحل كأنها لهات طفل على بلور النافذة.
2
جاء خريف سنة 1900 فعدت إلى بيروت بعد أن صرفت العطلة في شمال لبنان، وقبل دخولي المدرسة قضيت أسبوعا كاملا أتجول مع أترابي في المدينة متمتعين بغبطة الحرية التي تعشقها الشبيبة وتحترمها في منازل الأهل، وبين جدران المدرسة ومثل عصافير رأت أبواب الأقفاص مفتوحة أمامها فصارت تشبع القلب من لذة التنقل وغبطة التغريد. الشبيبة حلم جميل تسترق عذوبته معميات الكتب وتجعله يقظة قاسية، فهل يجيء يوم يجمع فيه الحكماء بين أحلام الشبيبة ولذة المعرفة مثلما يجمع العتاب بين القلوب المتنافرة؟ هل يجيء يوم تصبح فيه الطبيعة معلمة ابن آدم والإنسانية كتابه والحياة مدرسته؟ هل يجيء ذلك اليوم؟ لا ندري، ولكننا نشغله بسيرنا الحثيث نحو الارتقاء الروحي، وذلك الارتقاء هو إدراك جمال الكائنات بواسطة عواطف نفوسنا واستدرار السعادة بمحبتنا ذلك الجمال.
ففي عشية يوم وقد جلست على شرفة النزل أتأمل العراك المستمر في ساحة المدينة، وأسمع جلبة باعة الشوارع ومناداة كل منهم عن طيب ما لديه من السلع والمآكل، اقترب مني صبي ابن خمس سنين يرتدي أطمارا بالية ويحمل على منكبيه طبقا عليه طاقات الزهور، وبصوت ضعيف الذل الموروث والانكسار الأليم قال: «أتشتري زهرا يا سيدي؟» فنظرت إلى وجهه الصغير المصفر، وتأملت بعينيه المكحولتين بخيالات التعاسة والفاقة، وفمه المفتوح قليلا كأنه جرح عميق في صدر متوجع، وذراعيه العاريتين النحيلتين، وقامته الصغيرة المهزولة المنحنية على طبق الزهور كأنها غصن من الورد الأصفر الذابل بين الأعشاب النضيرة. تأملت بكل هذه الأشياء بلمحة، مظهرا شفقتي بابتسامة. أمر من الدموع تلك الابتسامات التي تنبثق من أعماق قلوبنا وتظهر على شفاهنا، ولو تركناها وشأنها لتصاعدت وانسكبت من مآقينا. ثم ابتعت بعض زهوره وبغيتي ابتياع محادثته؛ لأنني شعرت بأن من وراء نظراته المحزنة قلبا صغيرا يستر فصلا من مأساة الفقراء الدائم تمثيلا على مرسح الأيام، وقل من يهتم بمشاهرتها لأنها موجعة. ولما خاطبته بكلمات لطيفة استأمن واستأنس ونظر إلي مستغربا؛ لأنه مثل أترابه الفقراء لم يتعود غير خشن الكلام من الفتافي الذين ينظرون غالبا إلى صبية الأزقة كأشياء قذرة لا شأن لها، وليس كنفوس صغيرة مكلومة بأسهم الدهر. وسألته إذ ذاك قائلا: «ما اسمك؟» فأجاب وعيناه مطرقتان في الأرض: «اسمي فؤاد»، قلت: «ابن من أنت وأين أهلك؟» قال: «أنا ابن مرتا البانية»، قلت: «وأين والدك؟» فهز رأسه الصغير كمن يجهل معنى الوالد، فقلت: «وأين أمك يا فؤاد؟» قال: «مريضة في البيت.»
تجرعت مسامعي هذه الكلمات القليلة من فم الصبي وامتصتها عواطفي مبتدعة صورا وأشباحا غريبة محزنة؛ لأني عرفت بلحظة أن مرتا المسكينة التي سمعت حكايتها من ذلك القروي هي الآن في الآن في بيروت مريضة. تلك الصبية التي كانت بالأمس مستأمنة بين أشجار الأودية هي اليوم في المدينة تعاني مضض الفقر والأوجاع. تلك اليتيمة التي صرفت شبيبتها على أكف الطبيعة ترعى البقر في الحقول الجميلة قد انحدرت مع جرف نهر المدنية الفاسدة، وصارت فريسة بين أظافر التعاسة والشقاء.
كنت أفتكر وأتخيل هذه الأشياء والصبي ينظر إلي وكأنه رأى بعين نفسه الطاهرة انسحاق قلبي، ولما أراد الانصراف أمسكت بيده قائلا: «سر بي إلى أمك لأني أريد أن أراها.» سار أمامي صامتا متعجبا، ومن حين إلى آخر كان ينظر إلى الوراء ليرى ما إذا كنت بالحقيقة متبعا خطواته.
في تلك الأزقة القذرة حيث يختمر الهواء بأنفاس الموت. بين تلك المنازل البالية حيث يرتكب الأشرار جرائمهم مختبئين بستائر الظلمة في تلك المنعطفات الملتوية إلى اليمين وإلى الشمال التواء الأفاعي، كنت أشعر بخوف وتهيب وراء صبي له من حداثته ونقاوة قلبه شجاعة لا يشعر بها من كان خبيرا بمكايد أجلاف القوم في مدينة يدعوها الشرقيون عروس سوريا ودرة تاج السلاطين. حتى إذا ما بلغنا أذيال الحي دخل الصبي بيتا حقيرا لم تبق منه السنون غير جانب متداع، فدخلت خلفه وطرقات قلبي تتسارع كلما اقتربت حتى صرت في وسط غرفة رطبة الهواء، ليس فيها من الأثاث غير سراج ضعيف يغالب الظلمة بسهام أشعته الصفراء، وسرير حقير يدل على عوز مبرح وفقر مدقع، منطرحة عليه امرأة نائمة قد حولت وجهها نحو الحائط كأنها تحتمي به من مظالم العالم، أو كأنها وجدت بين حجارته قلبا أرق وألين من قلوب البشر. ولما اقترب الصبي منهما مناديا: يا أماه، التفتت إليه فرأته يومئ نحوي، فتحركت إذ ذاك بين اللحف الرثة، وبصوت موجع يلاحقه ألم النفس والتنهيدات المرة قالت: «ماذا تريد يا رجل؟ هل جئت لتبتاع حياتي الأخيرة وتجعلها دنسة بشهوتك؟ اذهب عني فالأزقة مشحونة بالنساء اللواتي يبعنك أجسادهن ونفوسهن بأبخس الأثمان، أما أنا فلم يبق لي ما أبيعه غير فضلات أنفاس متقطعة عما قريب يشتريها الموت براحة القبر.»
فاقتربت من سريرها وقد آلمت كلماتها قلبي؛ لأنها مختصر حكايتها التعيسة، وقلت لها متمنيا لو كانت عواطف تسيل مع الكلام: «لا تخافي يا مرتا، فأنا لم أجئ إليك كحيوان جائع، بل كإنسان متوجع. أنا لبناني، وقد عشت زمنا في تلك الأودية والقرى القريبة من غابة الأرز. لا تخافي مني يا مرتا.»
سمعت كلماتي وشعرت بأنها صادرة من أعماق نفس تتألم معها، فاهتزت على مضجعها مثل القضبان العارية أمام رياح الشتاء، ووضعت يديها على وجهها كأنها تريد أن تستر ذاتها من أمام الذكرى الهائلة بحلاوتها المرة بجمالها، وبعد سكينة ممزوجة بالتأوه ظهر وجهها من بين كفيها المرتجفتين، فرأيت عينين غائرتين محدقتين بشيء غير منظور منتصب في فضاء الغرفة، وشفتين يابستين تحركهما ارتعاشات اليأس، وعنقا تتردد فيه حشرجة النزع المصحوبة بأنين عميق منقطع. وبصوت يبثه الالتماس والاستعطاف ويسترجعه الضعف والألم قالت: «جئت محسنا مشفقا. فلتجزك السماء عني إن كان الإحسان على الخطأة برا والشفقة على المرذولين صلاحا. ولكني أطلب إليك أن تعود من حيث أتيت؛ لأن وقوفك في هذا يكسبك عارا ومذمة، وحنانك علي يثمر لك عيبا ومهانة. ارجع قبل أن يراك أحد في هذه الغرفة الدنسة المملوءة بأقذار الخنازير، وسر مسرعا ساترا وجهك بأثوابك كي لا يعرفك عابر الطريق. إن الشفقة التي تملأ نفسك لا تعيد إلي طهارتي ولا تمحو عيوبي، ولا تزيل يد الموت القوية عن قلبي. أنا منفية بحكم تعاستي وذنوبي إلى هذه الأعماق المظلمة، فلا تدع شفقتك تدنيك من العيوب، أنا كالبرص الساكن بين القبور، فلا تقترب مني لأن الجامعة تحسبك دنسا وتقصيك عنها إن فعلت. ارجع الآن، ولا تذكر اسمي في تلك الأودية المقوسة؛ لأن النعجة الجرباء ينكرها راعيها خوفا على قطيعه، وإذا ذكرتني قل قد ماتت مرتا البانية ولا تقل غير ذلك.» ثم أخذت يدي ابنها الصغيرتين وقبلتهما بلهفة وقالت متنهدة: «سوف ينظر الناس إلى ولدي بعين السخرية والاحتقار قائلين: هذا ثمرة الإثم. هذا ابن مرتا الزانية. هذا ابن العار. هذا ابن الصدف. سوف يقولون عنه أكثر من ذلك؛ لأنهم عميان لا يبصرون، وجهلاء لا يدرون بأن أمه قد طهرت طفوليته بأوجاعها ودموعها، وكفرت عن حياته بتعاسته وشقائها. سوف أموت وأتركه يتيما بين صبيان الأزقة، وحيدا في هذه الحياة القاسية، غير تاركة له سوى ذكرى هائلة تخجله إن كان جبانا خاملا، وتهيج دمه إن كان شجاعا عادلا. فإن حفظته السماء وشب رجلا قويا ساعد السماء على الذي جنى عليه وعلى أمه، وإن مات وتملص من شبكة السنين وجدني مترقبة قدومه هناك حيث النور والراحة.»
فقلت وقلبي يوحي إلي: «لست كالأبرص يا مرتا وإن سكنت بين القبور، ولست دنسة وإن وضعتك الحياة بين أيدي الدنسين. وإن أدران الجسد لا تلامس النفس النقية، والثلوج المتراكمة لا تميت البذور الحية، وما هذه الحياة سوى بيدر أحزان تدرس عليه أغمار النفوس قبل أن تعطى غلتها، ولكن ويل للسنابل المتروكة خارج البيدر؛ لأن تمل الأرض بحملها وطيور السماء تلتقطها فلا تدخل أهراء رب الحقل. أنت مظلومة يا مرتا، وظالمك هو ابن القصور ذو المال الكثير والنفس الصغيرة. أنت مظلومة ومحتقرة.»
صفحات مطوية
من دفاتر حفار القبور
في هذه الغرفة المنفردة الهادئة قد جلست بالأمس المرأة التي أحبها قلبي.
إلى هذه المساند الوردية الناعمة قد ألقت رأسها الجميل، ومن هذه الكأس البلورية قد شربت جرعة من الخمر ممزوجة بقطرة من العطر.
كل ذلك قد كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود، أما اليوم فقد ذهبت المرأة التي أحبها قلبي إلى أرض بعيدة خالية مقفرة باردة، تدعى بلاد الخلو والنسيان.
إن آثار أصابع المرأة التي أحبها قلبي لم تزل ظاهرة على بلور مرآتي، وعطر أنفاسها ما برح متضوعا بين طيات أثوابي، وصدى صوتها لم يضمحل بعد من زوايا منزلي، ولكن المرأة نفسها - المرأة التي أحبها قلبي - قد رحلت إلى مكان قصي يدعى وادي الهجر والسلوان، أما آثار أصابعها وعطر لهاثها وأشباح روحها فستبقى في هذه الغرفة حتى صباح الغد، وعند ذلك أفتح نوافذ منزلي لتدخل أمواج الهواء وتجرف بتيارها كل ما تركته لي تلك الساحرة الحسناء.
إن رسم المرأة التي أحبها قلبي لم يزل معلقا بجانب مضجعي، ورسائل الحب التي بعثت بها إلي ما برحت في العلبة الفضية المرصعة بالعقيق والمرجان، وذؤابة الشعر الذهبية التي حبتني بها تذكارا، لم تخرج قط من الغلاف الحريري المبطن بالمسك والبخور. جميع هذه الأشياء ستبقى في أماكنها حتى الصباح، وعندما يجيء الصباح أفتح نوافذ منزلي ليدخل الهواء ويحملها إلى ظلمة العدم إلي حيث تقطن السكينة الخرساء.
إن المرأة التي أحبها قلبي شبيهة بالنساء اللواتي أحبتهن قلوبكم أيها الفتيان. هي مخلوقة عجيبة، صنعتها الآلهة من وداعة الحمامة، وتقلبات الأفعى، وتيه الطاوس، وشراسة الذئب، وجمال الوردة البيضاء، وهول الليلة السوداء، مع قبضة من الرماد، وغرفة من زبد البحر.
وقد عرفت المرأة التي أحبها قلبي أيام الطفولية، فكنت أركض وراءها في الحقول وأتمسك بأذيالها في الشوارع.
وعرفتها أيام الصبا، فكنت أرى خيال وجهها في وجوه الكتب والأسفار، وأشاهد خطوط قامتها بين غيوم المساء، وأسمع نغمة صوتها متصاعدة مع خرير السواقي.
وعرفتها أيام الرجولية، فكنت أجالسها محدثا وأسألها مستفتيا، وأقترب منها شاكيا ما في قلبي من الأوجاع، باسطا ما في روحي من الأسرار.
كل ذلك كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود. أما اليوم فقد ذهبت تلك المرأة إلى أرض بعيدة خالية مقفرة باردة، تدعى بلاد الخلو والنسيان. •••
أما اسم المرأة التي أحبها قلبي، فهو الحياة.
فالحياة امرأة حسناء تستهوي قلوبنا وتستفدي أرواحنا وتغمر وجداننا بالوعود، فإن أمطلت أماتت فينا الصبر، وإن أبرت أيقظت فينا الملل.
الحياة امرأة تستحم بدموع عشاقها، وتتعطر بدماء قتلاها. الحياة امرأة ترتدي بالأيام البيضاء المبطنة بالليالي السوداء. الحياة امرأة ترضى بالقلب البشري خليلا وتأباه حليلا. الحياة امرأة غاوية ولكنها جميلة، ومن ير غوايتها يكره جمالها.
الشاعر
أنا غريب في هذا العالم.
أنا غريب وفي الغربة وحدة قاسية ووحشة موجعة، غير أنها تجعلني أفكر أبدا بوطن سحري لا أعرفه، وتملأ أحلامي بأشباح أرض قصية ما رأتها عيني.
أنا غريب عن أهلي وخلاني، فإذا ما لقيت واحدا منهم أقول في ذاتي: «من هذا؟ وكيف عرفته؟ وأي ناموس يجمعني به؟ ولماذا أقترب منه وأجالسه؟»
أنا غريب عن نفسي، فإذا ما سمعت لساني متكلما تستغرب أذني صوتي. وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة باكية، مستبسلة خائفة، فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي روحي. ولكنني أبقى مجهولا، مستترا، مكنفا بالضباب، محجوبا بالسكوت.
أنا غريب عن جسدي، وكلما وقفت أمام المرآة أرى في وجهي ما لا تشعر به نفسي، وأجد في عيني ما لا تكنه أعماقي. أسير في شوارع المدينة فيتبعني الفتيان صارخين: «هو ذا الأعمى، فلنعطه عكازا يتوكأ عليها.» فأهرب منهم مسرعا. ثم ألتقي بسرب من الصبايا فيتشبثن بأذيالي قائلات: «هو أطرش كالصخر، فلنملأ أذنيه بأنغام والغزل.» فأتركهن راكضا. ثم ألتقي بجماعة من الكهول، فيقفون حولي قائلين: «هو أخرس كالقبر، فتعالوا نقوم اعوجاج لسانه.» فأغادرهم خائفا. ثم ألتقي برهط من الشيوخ، فيومئون نحوي بأصابع مرتعشة قائلين: «هو مجنون أضاع صوابه في مسارح الجن والغيلان.»
أنا غريب في هذا العالم.
أنا غريب وقد جبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد مسقط رأسي، ولا لقيت من يعرفني ولا من يسمع بي.
أستيقظ في الصباح فأجدني مسجونا في كهف مظلم، تتدلى الأفاعي من سقفه وتدب الحشرات في جنباته، ثم أخرج إلى النور فيتبعني خيال جسدي، أما خيالات نفسي فتسير أمامي إلى حيث لا أدري، باحثة عن أمور لا أفهمها، قابضة على أشياء لا حاجة لي بها، وعندما يجيء المساء أعود وأضطجع على فراشي المصنوع من ريش النعام وشوك القتاد، فتراودني أفكار غريبة، وتتناولني أميال مزعجة مفرحة موجعة لذيذة. ولما ينتصف الليل تدخل علي من شقوق الكهف أشباح الأزمنة الغابرة وأرواح الأمم المنسية، فأحدق بها وتحدق بي، وأخاطبها مستفهما فتجيبني مبتسمة، ثم أحاول القبض عليها فتتوارى مضمحلة كالدخان.
أنا غريب في هذا العالم.
أنا غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسي.
أسير في البرية الخالية فأرى السواقي تتصاعد متراكمة من أعماق الوادي إلى قمة الجبل، وأرى الأشجار العارية تكتسي وتزهو وتثمر وتنثر في دقيقة واحدة، ثم تهبط أغصانها إلى الحضيض وتتحول إلى حيات رقطاء مرتعشة، وأرى الأطيار تنتقل متصاعدة هابطة مغردة مولولة، ثم تقف وتفتح أجنحتها وتنقلب نساء عاريات محلولات الشعر ممدودات الأعناق، ينظرن إلي من وراء أجفان مكحولة بالعشق، ويبتسمن إلي بشفاه وردية مغموسة بالعسل، ويمددن نحوي أيادي بيضاء ناعمة معطرة بالمن واللبان، ثم ينتفضن ويختفين عن ناظري ويضمحللن كالضباب، تاركات في الفضاء صدى ضحكهن مني واستهزائهن بي.
أنا غريب في هذا العالم.
أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة وأنثر ما تنظمه؛ ولهذا أنا غريب، وسأبقى غريبا حتى تخطفني المنايا وتحملني إلى وطني.
السيدة وردة الهاني
1
ما أتعس الرجل الذي يحب صبية من بين الصبايا ويتخذها رفيقة لحياته، ويهرق على قدميها عرق جبينه ودم قلبه، ويضع بين كفيها ثمار أتعابه وغلة اجتهاده، ثم ينتبه فجأة فيجد قلبها الذي حاول ابتياعه بمجاهدة الأيام وسهر الليالي قد أعطي مجانا لرجل آخر ليتمتع بمكنوناته ويسعد بسرائر محبته!
ما أتعس المرأة التي تستيقظ من غفلة الشبيبة فتجد ذاتها في منزل رجل يغمرها بأمواله وعطاياه، ويسربلها بالتكريم والمؤانسة، لكنه لا يقدر أن يلامس قلبها بشعلة الحب المحيية، ولا يستطيع أن يشبع روحها من الخمرة السماوية التي يسكبها الله من عيني الرجل في قلب المرأة! •••
عرفت رشيد بك نعمان منذ حداثتي، وهو رجل لبناني الأصل بيروتي المولد والدار، متحدر من أسرة قديمة غنية موصوفة بالمحافظة على ذكر الأمجاد الغابرة، فكان مولعا بسرد الحوادث التي تبين نبالة آبائه وجدوده، متبعا بمعيشته عقائدهم وتقاليدهم، منصرفا إلى تقليدهم عن العادات والأزياء الغربية المرفرفة كأسراب الطيور في فضاء الشرق.
وكان رشيد بك طيب القلب كريم الأخلاق، لكنه ليس كالكثيرين من سكان سوريا لا ينظر إلى ما وراء الأشياء، بل إلى الظاهر منها، ولا يصغي إلى نغمة نفسه بل يشغل عواطفه باستماع الأصوات التي يحدثها محيطه، ويلهي أمياله ببهرجة المرئيات التي تعمي البصيرة عن أسرار الحياة، وتحول النفس عن إدراك خفايا الكيان إلى ملاحقة الملذات الوقتية. وكان من أولئك الرجال الذين يتسرعون بإظهار محبتهم أو مقتهم للناس وللأشياء، ثم يندمون على تسرعهم بعد فوات الوقت، عندما تصير الندامة مجلبة للسخرية والاستهزاء بدلا من العفو والغفران. •••
هذه هي الصفات والأخلاق التي جعلت رشيد بك نعمان يقترن بالسيدة وردة الهاني، قبل أن تضم نفسها نفسه في ظل المحبة الحقيقية التي تجعل الحياة الزوجية نعيما.
غبت عن بيروت بضعة أعوام ولما رجعت إليها ذهبت لزيارة رشيد بك، فوجدته ضعيف الجسد مكمد اللون، تتمايل على سحنته المنقبضة أشباح الأحزان، وتنبعث من عينيه الحزينتين نظرات موجوعة تتكلم بالسكينة عن انسحاق قلبه وظلمة صدره. وبعيد أن بحثت في محيطه ولم أجد أسباب نحوله وانقباضه سألته قائلا: ما أصابك أيها الرجل؟ وأين تلك البشاشة التي كانت تنبعث كالشعاع من وجهك؟ وأين ذهب ذاك السرور الذي كان ملاصقا شبيبتك؟ هل فصل الموت بينك وبين صديق عزيز؟ أم سلبتك الليالي السوداء مالا جمعته في الأيام البيضاء؟ قل لي بحق الصداقة، ما لهذه الكآبة المعانقة نفسك وهذا النحول المالك جسدك؟ •••
فنظر إلي نظرة متأسف أرته الذكرى رسوم أيام جميلة ثم حجبتها، وبصوت تتموج في مقاطعه معاني اليأس والقنوط قال: إذا فقد المرء صديقا عزيزا والتفت حوله يجد الأصدقاء الكثيرين فيتصبر ويتعزى، وإذا خسر الإنسان مالا وفكر قليلا رأى النشاط الذي أتى بالمال سيأتي بمثله فينسى ويسلو. لكن إذا أضاع الرجل راحة قلبه فأين يجدها وبم يستعيض عنها؟ يمد الموت يده ويصفعك بشدة فتتوجع، ولكن لا يمر يوم وليلة حتى تشعر بملامس أصابع الحياة فتبتسم وتفرح. يجيئك الدهر على حين غفلة ويحدق بأعين مستديرة مخيفة، ويقبض على عنقك بأظافر محددة، ويطرحك بقساوة على التراب ويدوسك بأقدامه الحديدية ويذهب ضاحكا، ثم لا يلبث أن يعود إليك نادما مستغفرا، فينتشلك بأكفه الحريرية ويغني لك نشيد الأمل فيطربك. مصائب كثيرة ومتاعب أليمة تأتيك مع خيالات الليل، وتضمحل أمامك بمجيء الصباح، وأنت شاعر بعزيمتك متمسك بآمالك. •••
ولكن إذا كان نصيبك من الوجود طائرا تحبه وتطعمه حبات قلبك، وتسقيه نور أحداقك، وتجعل ضلوعك له قفصا ومهجتك عشا، وبينما أنت تنظر إلى طائرك وتغمر ريشه بشعاع نفسك إذا به قد فر من بين يديك وطار حتى حلق السحاب، ثم هبط نحو قفص آخر وما من سبيل إلى رجوعه. فماذا تفعل إذ ذاك أيها الرجل؟ قل لي، وأين تجد الصبر والسلوان؟ وكيف تحيي الآمال والأماني؟
لفظ رشيد بك الكلمات الأخيرة بصوت مخنوق متوجع، ووقف على قدميه مرتجفا كقصبة في مهب الريح، ومد يديه إلى الأمام كأنه يريد أن يقبض بأصابعه المعوجة على شيء ليمزقه إربا إربا، وقد تصاعد الدم إلى وجهه وصبغ بشرته المتجعدة بلون قاتم، وكبرت عيناه وجمدت أجفانه، وأحدق دقيقة كأنه رأى أمامه عفريتا قد انبثق من العدم وجاء ليميته، ثم نظر إلي وقد تغيرت ملامحه بسرعة، وتحول الغضب والحنق في جسده المهزول إلى التوجع والألم، وقال باكيا:
هي المرأة. المرأة التي أنقذتها من عبودية الفقر وفتحت أمامها خزائني، وجعلتها محسودة بين النساء على الملابس الجميلة والحلي الثمينة والمركبات الفخيمة والخيول المطهمة.
المرأة التي أحبها قلبي وسكب على قدميها عواطفه، ومالت إليها نفسي فغمرتها بالمواهب والعطايا.
المرأة التي كنت لها صديقا ودودا ورفيقا مخلصا وزوجا أمينا، قد خانتني وغادرتني وذهبت إلى بيت رجل آخر لتعيش معه في ظلال الفقر، وتشاركه بأكل الخبز المعجون بالعار، وشرب الماء الممزوج بالذل والعيب.
المرأة التي أحببتها، الطائر الجميل الذي أطعمته حبات قلبي وأسقيته نور أحداقي، وجعلت ضلوعي له قفصا ومهجتي عشا، قد فر من بين يدي وطار إلى قفص آخر محبوك من قضبان العوسج، ليأكل فيه الحسك والديدان، ويشرب من جوانبه السم والعلقم. الملاك الطاهر الذي أسكنته فردوس محبتي وانعطافي قد انقلب شيطانا مخيفا، وهبط إلى الظلمة لتعذب بآثامه ويعذبني بجريمته.
وسكت الرجل وقد حجب وجهه بكفيه كأنه يريد أن يحمي نفسه من نفسه، ثم تنهد قائلا: «هذا كل ما أقدر أن أقوله، فلا تسألني أكثر من ذلك، ولا تجعل لمصيبتي صوتا صارخا، بل دعها مصيبة خرساء لعلها تنمو بالسكينة فتميتني وتريحني.»
فقمت من مكاني والدموع تراود أجفاني والشفقة تسحق قلبي، ثم ودعته ساكتا لأنني لم أجد في الكلام معنى يعزي قلبه الجريح، ولا في الحكمة شعلة تنير نفسه المظلمة.
2
بعد أيام التقيت لأول مرة بالسيدة وردة الهاني في بيت حقير محاط بالزهور والأشجار، وكانت قد سمعت لفظ اسمي في منزل رشيد بك نعمان، ذلك الرجل الذي داست قلبه وتركته ميتا بين حوافر الحياة. ولما رأيت عينيها المنيرتين وسمعت نغمة صوتها الرخيمة قلت في ذاتي: «أتقدر هذه المرأة أن تكون شريرة؟ وهل بإمكان هذا الوجه الشفاف أن يستر نفسا شنيعة وقلبا مجرما؟ أهذه هي الزوجة الخائنة؟ هذه هي المرأة التي جنيت عليها مرات عديدة بتصويرها لفكري كثعبان مخيف مخشي في جسم طائر بديع الشكل؟» ولكني رجعت وهمست في سري قائلا: «إذا أي شيء جعل ذلك الرجل تعيسا إذا لم يكن هذا الوجه الجميل؟ أولم تسمع وتر أن المحاسن الظاهرة كانت سببا لمصائب خفية هائلة وأحزان عميقة أليمة؟ أوليس القمر الذي يسكب في قرائح الشعراء شعاعا هو القمر الذي يهيج سكينة البحار بالمد والجزر.»
جلست وجلست السيدة وردة وكأنها قد سمعتني مفتكرا، فلم ترد أن يطول الصراع بين حيرتي وظنوني، فأسندت رأسها الجميل بيدها البيضاء، وبصوت يحاكي نغمة الناي رقة قالت: «لم ألتق بك قبل الآن أيها الرجل، ولكني سمعت صدى أفكارك وأحلامك من أفواه الناس، فعرفتك شفيقا على المرأة المظلومة، رءوفا بضعفها، خبيرا بعواطفها وأميالها؛ من أجل ذلك أريد أن أبسط لك قلبي وأفتح أمامك صدري لترى مخبآته، وتخبر الناس إن شئت بأن وردة الهاني لم تكن قط امرأة خائنة شريرة.
كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما قادني القدر إلى رشيد بك نعمان، وكان هو إذ ذاك قريبا من الأربعين، فشغف بي ومال إلي ميلا شريفا كما يقول الناس، ثم جعلني زوجة له وسيدة في منزله الفخيم بين خدامه الكثيرين، فألبسني الحرير وزين رأسي وعنقي ومعصمي بالجواهر والحجارة الكريمة، وكان يعرضني كتحفة غريبة في منازل أصدقائه ومعارفه، ويبتسم ابتسامة الفوز والانتصار عندما يرى عيون أترابه ناظرة إلي بإعجاب واستحسان، ويرفع رأسه تيها وافتخارا إذ يسمع نساء أصحابه يتكلمون عني بالإطراء والمودة. لكنه لم يكن يسمع قول السائل: «أهذه زوجة رشيد بك أم هي صبية تبناها؟» وقول الآخر: «لو تزوج رشيد بك في زمن الشباب لكان بكره أكبر سنا من وردة الهاني.»
جرى كل ذلك قبل أن تستيقظ حياتي من سبات الحداثة العميق، وقبل أن توقد الآلهة شعلة المحبة في قلبي، وقبل أن تنبت بزور العواطف والأميال في صدري. نعم، جرى ذلك عندما كنت أحسب منتهى السعادة في ثوب جميل ومركبة فخيمة تجرني ورياش ثمينة تحيط بي، ولكن كلما استيقظت عندما استيقظت وفتح النور أجفاني وشعرت بألسنة النار المقدسة تلسع أضلعي وتحرقها، وبالمجاعة الروحية تقبض على نفسي فتوجعها. عندما استيقظت ورأيت أجنحتي تتحرك يمينا وشمالا وتريد النهوض بي إلى سماء المحبة، ثم ترتجف وترتخي عجزا بجانب سلاسل الشريعة التي قيدت جسدي قبل أن أعرف كنه تلك القيود ومقاد تلك الشريعة. عندما استيقظت وعرفت بهذه الأشياء عرفت بأن سعادة المرأة ليست بمجد الرجل وسؤدده، ولا بكرمه وحلمه، بل هي بالحب الذي يضم روحها إلى روحه، ويسكب عواطفها في كبده، ويجعلها عضوا واحدا من جسم الحياة، وكلمة واحدة على شفتي الله.
عندما بانت هذه الحقيقة الجارحة لبصيرتي رأيتني في منزل رشيد نعمان مثل لص سارق، يأكل خبزه ثم يستتر بظلام الليل، وعرفت أن كل يوم أصرفه بقربه هو كذبة هائلة يخطها الرياء بأحرف نارية ظاهرة على جبهتي أمام الأرض والسماء؛ لأنني لم أقدر أن أهب له محبة قلبي لقاء كرمه، ولا أن أمنحه انعطاف نفسي ثمنا لإخلاصه وصلاحه. وقد حاولت أن أتعلم محبته فلم أتعلم؛ لأن المحبة هي قوة تبتدع قلوبنا، وقلوبنا لا تقدر أن تبتدعها.
ثم صليت وتضرعت وباطلا تضرعت، وصليت في سكينة الليالي أمام السماء لتولد في أعماقي عاطفة روحية تقربني من الرجل الذي اختارته رفيقا لي، فلم تفعل السماء؛ لأن المحبة تهبط على أرواحنا بإيعاز من الله لا بطلب البشر. وهكذا بقيت عامين كاملين في منزل ذلك الرجل أحسد عصافير الحقل على حريتها، وبنات جنسي يحسدنني على سجني، وكالثكلى الفاقدة وحيدها كنت أندب قلبي الذي ولد بالمعرفة واعتل بالشريعة، وكان يموت في كل يوم جوعا وعطشا.
ففي يوم من تلك الأيام السوداء نظرت من وراء الظلمة فرأيت شعاعا لطيفا ينسكب من عيني فتى يسير وحده على سبل الحياة، ويعيش منفردا بين أوراقه وكتبه في هذا البيت الحقير، فأغمضت عيني كيلا أرى ذلك الشعاع وقلت لنفسي: «نصيبك يا نفس ظلمة القبر، فلا تطمعي بالنور.» ثم أصغيت فسمعت نغمة علوية تهز جوارحي بعذوبتها وتمتلك كليتي بطهرها، فأغلقت أذني وقلت: «نصيبك يا نفس صراخ الهاوية، فلا تطمعي بالأغاني.»
أغمضت أجفاني كيلا أرى وغلقت أذني كيلا أسمع، لكن عيني ظلتا تريان ذلك الشعاع وهما مطبقتان، وأذني تسمعان تلك النغمة وهما مغلقتان، فخفت لأول وهلة خوف فقير وجد جوهرة بقرب قصر الأمير، فلم يجسر أن يلتقطها لخوفه، ولم يقدر أن يتركها لفاقته، وبكيت بكاء ظامئ رأى الينبوع العذب محاطا بكواسر الغاب، فارتمى على الأرض مترقبا جازعا.»
وسكتت السيدة وردة دقيقة وقد أغمضت عينيها الكبيرين، كأن ذلك الماضي قد انتصب أمامها فلم تجسر أن تحدق به وجها لوجه، ثم عادت وقالت: «هؤلاء البشر الذين يجيئون من الأبدية ويعودون إليها قبل أن يذوقوا طعم الحياة، الحياة الحقيقية، لا يمكنهم أن يدركوا كنه أوجاع المرأة عندما تقف نفسها بين رجل تحبه بإرادة السماء، ورجل تلتصق به بشريعة الأرض. هي مأساة أليمة مكتوبة بدماء الأنثى ودموعها، يقرؤها الرجل ضاحكا لأنه لا يفهمها، وإن فهمها انقلب ضحكه فجورا وقساوة، وأنزل على رأس المرأة من غضبه نارا وكبريتا، وملأ أذنيها لعنا وتجديفا. هي رواية موجعة تمثلها الليالي السوداء بين ضلوع كل امرأة تجد جسدها مقيدا بمضجع رجل عرفته زوجا قبل أن تعرف ما هي الزيجة، وترى روحها مرفرفة حول عنق رجل آخر تحبه بكل ما في الروح من المحبة، وبكل ما في المحبة من الطهر والجمال. هو نزاع مخيف قد ابتدأ منذ ظهور الضعف في المرأة والقوة في الرجل، ولا ينتهي حتى تنقضي أيام عبودية الضعف للقوة.
هي حرب هائلة بين شرائع الناس الفاسدة وعواطف القلب المقدسة، قد طرحت بالأمس في ساحتها وكدت أموت جزعا وأذوب دموعا، لكنني وقفت ونزعت عني جبانة بنات جنسي، وحللت جناحي من ربط الضعف والاستسلام، وطرت في فضاء الحب والحرية، وأنا سعيدة الآن بقرب الرجل الذي خرج وخرجت شعلة واحدة من يد الله قبيل ابتداء الدهور، ولا توجد قوة في هذا العالم تستطيع أن تسلبني سعادتي؛ لأنها منبثقة من عناق روحين يضمهما التفاهم ويظللهما الحب.»
ونظرت إلي السيدة وردة نظرة معنوية كأنها تريد أن تخترق صدري بعينيها لترى تأثير كلامها في عواطفي، وتسمع صدري صوتها من بين ضلوعي، لكنني بقيت صامتا كيلا أوقفها عن الكلام، فقالت وقد قارن صوتها بين مرارة الذكرى وحلاوة الخلاص والحرية: «يقول لك الناس إن وردة الهاني امرأة خائنة جحودة، قد اتبعت شهوة قلبها وهجرت الرجل الذي رفعها إليه وجعلها سيدة في منزله. ويقولون لك هي زانية عاهرة، قد أتلفت بمقابضها القذرة إكليل الزواج المقدس الذي ضفرته الديانة، واتخذت عوضا عنه إكليلا وسخا محبوكا من أشواك الجحيم، وألقت عن جسدها ثوب الفضيلة وارتدت بلباس الإثم والعار. ويقولون لك أكثر من ذلك؛ لأن أشباح جدودهم ما زالت حية في أجسادهم، فهم مثل كهوف الأودية الخالية يرجعون صدى الأصوات ولا يفهمون معناها، هم لا يعرفون شريعة الله في مخلوقاته، ولا يفقهون مفاد الدين الحقيقي، ولا يعلمون متى يكون الإنسان خاطئا أو بارا، بل ينظرون بأعينهم الضئيلة إلى ظواهر الأعمال ولا يرون أسرارها، فيقضون بالجهل ويدينون بالعماوة ويستوي أمامهم المجرم والبريء والصالح والشرير، فويل لمن يقضي وويل لمن يدين.
أنا كنت زانية وخائنة في منزل رشيد نعمان؛ لأنه جعلني رفيقة مضجعه بحكم العادات والتقاليد قبل أن تصيرني السماء قرينة له بشريعة الروح والعواطف، وكنت دنسة ودنيئة أمام نفسي وأمام الله عندما كنت أشبع جوفي من خيراته ليشبع أمياله من جسدي. أما الآن فصرت طاهرة نقية؛ لأن ناموس الحب قد حررني، وصرت شريفة وأمينة لأنني أبطلت بيع جسدي بالخبز وأيامي بالملابس . نعم، كنت زانية ومجرمة عندما كان الناس يحسبونني زوجة فاضلة، واليوم صرت طاهرة وشريفة وهم يحسبونني عاهرة دنسة؛ لأنهم يحكمون على النفوس من مآتي الأجساد، ويقيسون الروح بمقاييس المادة.»
والتفتت السيدة وردة نحو النافذة وأشارت بيمينها نحو المدينة ورفعت صوتها عن ذي قبل، وقالت بلهجة الاحتقار والاشمئزاز، كأنها رأت بين الأزقة وعلى السطوح وفي الأروقة أشباح المفاسد وخيالات الانحطاط: «انظر إلى هذه المنازل الجميلة والقصور الفخيمة العالية، حيث يسكن الأغنياء والأقوياء من البشر، فبين جدرانها المكسوة بالحرير المنسوج تقطن الخيانة بجانب الرياء، وتحت سقوفها المطلية بالذهب المذوب يقيم الكذب بقرب التصنع.
انظر وتأمل جيدا بهذه البنايات التي تمثل لك المجد والسؤدد والسعادة، فهي ليست سوى مغاير يختبئ فيها الذل والشقاء والتعاسة. هي قبور مكلسة يتوارى فيها مكر المرأة الضعيفة وراء كحل العيون واحمرار الشفاه، وتنحجب في زواياها أنانية الرجل وحيوانيته بلمعان الفضة والذهب. هي قصور تتشامخ جدرانها تيها وافتخارا نحو العلاء، ولو كانت تشعر بأنفاس المكاره والغش السائلة عليها لتشققت وتبعثرت وهبطت إلى الحضيض. هي منازل ينظر إليها القروي الفقير بأعين دامعة، ولو علم بأنه لا يوجد في قلوب سكانها ذرة من تلك المحبة العذبة التي تملأ صدر رفيقته لابتسم مستهزئا وعاد إلى حقله مشفقا.
وأمسكت السيدة وردة بيدي وقادتني إلى جانب النافذة التي كانت تنظر منها نحو تلك المنازل والقصور، وقالت:
تعال فأريك خفايا هؤلاء الناس الذين لم أرض أن أكون مثلهم. انظر إلى ذلك القصر ذي الأعمدة الرخامية والجوانح النحاسية والنوافذ البلورية، ففيه يسكن رجل غني ورث ماله عن والده البخيل، واكتسب أخلاقه من جوانب الأزقة المفعمة بالمفاسد، وقد تزوج منذ عامين بامرأة لم يعرف عنها شيئا سوى أن لوالدها شرفا موروثا ومنزلة رفيعة بين نبلاء البلاد. ولم ينقض شهر العسل حتى ملها متضجرا وعاد إلى مسامرة بنات الهوى، وتركها في هذا القصر مثلما يترك السكير جرة خمر فارغة، فبكت وتوجعت لأول وهلة، ثم تصبرت وسلت سلو من عرف خطأه، وعلمت بأن دموعها هي أثمن من أن تهرق على خسارة رجل مثل زوجها، وهي الآن مشغولة عن كل شيء بعشق فتى جميل الوجه حلو الحديث، تسكب في راحتيه عواطف قلبها وتملأ جيوبه من ذهب بعلها، الذي يغض الطرف عنها لأنها تغض الطرف عنه.
ثم انظر إلى ذلك البيت المحاط بالحديقة الغناء، فهو مسكن رجل ينتمي إلى أسرة شريفة حكمت البلاد مدة طويلة، وقد انخفض مقامها اليوم بتوزيع ثروتها وانصراف أبنائها إلى التواني والكسل، وقد اقترن هذا الرجل منذ أعوام بفتاة قبيحة الصورة لكنها غنية جدا، وبعد استيلائه على ثروتها الطائلة نسي وجودها واتخذ له خليلة حسناء، وغادرها تنهش أصابعها وتذوب شوقا وحنينا، وهي الآن تصرف الساعات بتجعيد شعرها وتكحيل عينيها، وتلوين وجهها بالمساحيق والعقاقير، وتزيين قامتها بالأطلس والحرير لعلها تحظى بنظرة من أحد زائريها، لكنها لا تحصل إلا على نظرات شبحها في المرآة.
ثم انظر إلى ذلك المنزل الكبير المزين بالنقوش والتماثيل، فهو منزل امرأة جميلة الوجه خبيثة النفس، قد مات زوجها الأول فاستأثرت بأمواله وأملاكه. ثم اختارت من بين الرجال رجلا ضعيف الجسم والإرادة اتخذته بعلا لتحتمي باسمه من ألسنة الناس وتدافع بوجوده عن منكراتها، وهي الآن بين مريديها كالنحلة، تمتص من الزهور ما كان حلوا ولذيذا.
وانظر إلى تلك الدار ذات الأروقة الوسيعة والقناطر البديعة، فهي مسكن رجل مادي الأميال كثير المشاغل والمطامع، وله زوجة كل ما في جسدها جميل وحسن، وكل ما في روحها حلو ولطيف، وقد تمازجت في شخصها عناصر النفس بدقائق الجسد مثلما تتألف في الشعر نغمة الوزن برقة المعاني، فهي قد كونت لتعيش بالحب وتموت به. لكنها كالكثيرات من بنات جنسها، قد جنى عليها والدها قبل بلوغها الثامنة عشرة من عمرها ووضع عنقها تحت نير الزيجة الفاسدة، وهي الآن سقيمة الجسم تذوب كالشمع بحرارة عواطفها المقيدة، وتضمحل على مهل كالرائحة الزكية أمام العاصفة، وتفنى حبا بشيء جميل تشعر به ولا تراه، وتصبو حنينا إلى معانقة الموت لتتخلص من حياتها الجامدة، وتتحرر من عبودية رجل يصرف الأيام بجمع الدنانير والليالي يعدها، ويصر أسنانه مجدفا على الساعة التي تزوج فيها بامرأة عاقر لا تلد له ابنا ليحيي اسمه ويرث ماله وخيراته.
ثم انظر إلى ذلك البيت المنفرد بين البساتين، فهو مسكن شاعر خيالي سامي الأفكار روحي المذهب، له زوجة غليظة العقل خشنة الطباع، تسخر بأشعاره لأنها لا تفهمها، وتستهزئ بأعماله لأنها غريبة. وهو الآن مشغول عنها بمحبة امرأة أخرى متزوجة تتوقد ذكاء وتسيل رقة، وتولد في قلبه النور بانعطافها، وتوحي إليه الأقوال الخالدة بابتساماتها ونظرتها.»
وسكتت السيدة وردة هنيهة وقد جلست على مقعد بجانب النافذة، كأن نفسها قد تعبت من التجول في مخادع تلك المنازل الخفية، ثم عادت تقول بهدوء: «هذه هي القصور التي لم أرض أن أكون من سكانها. هذه هي القبور التي لم أرد أن أدفن حية طي لحودها. هؤلاء هم الناس الذين تخلصت من عوائدهم وخلعت عني نير جامعتهم. هؤلاء المتزوجون الذين يقترنون بالأجساد ويتنافرون بالروح، ولا شفيع بهم أمام الله سوى جهلهم ناموس الله.
أنا لا أدينهم الآن بل أشفق عليهم، ولا أكرههم بل أكره استسلامهم عفوا إلى الرياء والكذب والخيانة. ولم أكشف أمامك خفايا قلوبهم وأسرار معيشتهم لأنني لا أحب الاغتياب والنميمة، بل فعلت ذلك لأريك حقيقة قوم كنت في الأمس مثلهم فنجوت، وأبين لك معيشة بشر يقولون عني كل كلمة شريرة لأنني خسرت صداقتهم لأربح نفسي، وخرجت عن سبيل خداعهم المظلمة، وحولت عيني نحو النور حيث الإخلاص والحق والعدل.
وقد نفوني الآن من جامعتهم وأنا راضية؛ لأن البشر لا ينفون إلا من تمردت روحه الكبيرة على الظلم والجور، ومن لا يؤثر النفي على الاستعباد لا يكون حرا بما في الحرية من الحق والواجب. أنا كنت بالأمس مثل مائدة شهية، وكان رشيد بك يقتات مني عندما يشعر بحاجة إلى الطعام، أما نفسانا فتظلان بعيدتين كخادمين ذليلين، ولما رأيت المعرفة كرهت الاستخدام، وقد حاولت الخضوع لما يدعونه نصيبا فلم أقدر؛ لأن روحي أبت أن أصرف العمر كله راكعة أمام صنم مخيف، أقامته الأجيال المظلمة ودعته الشريعة. فكسرت قيودي، لكنني لم ألقها عني حتى سمعت الحب مناديا ورأيت النفس متأهبة للمسير، فخرجت من منزل رشيد خروج الأسير من سجنه، تاركة خلفي الحلي والحلل والخدم والمركبات، وجئت بيت حبيبي الخالي من الرياش المملوء من الروح، وأنا عالمة بأنني لم أفعل غير الحق والواجب؛ لأن مشيئة السماء ليست بأن أقطع جناحي بيدي وأرتمي على الرماد، حاجبة رأسي بساعدي، ساكبة حشاشتي من أجفاني، قائلة: هذا نصيبي من الحياة.
إن السماء لا تريد أن أصرف العمر صارخة متوجعة في الليالي قائلة متى يجيء الفجر، وعندما يجيء الفجر أقول: متى ينقضي هذا النهار. إن السماء لا تريد أن يكون الإنسان تعيسا؛ لأنها وضعت في أعماقه الميل أن السعادة؛ لأنه بسعادة الإنسان يتمجد الله.
هذه هي حكايتي أيها الرجل، وهذا احتجاجي أمام السماء والأرض، وأنا أردده وأترنم به، والناس يغلقون آذانهم ولا يسمعون لأنهم يخشون ثورة أرواحهم، ويخافون أن تتزعزع أسس جامعتهم وتهبط على رءوسهم.
هذه هي العقبة التي سرت عليها حتى بلغت قمة سعادتي، ولو جاء الموت واختطفني الآن لوقفت روحي أمام العرش الأعلى بلا خوف ولا وجل، بل بفرح وأمل، وانحلت لفائف ضميري أمام الديان الأعظم وبانت نقية كالثلج؛ لأنني لم أفعل غير مشيئة النفس التي فضلها الله عن ذاته، ولم أتبع غير نداء القلب وصدى أغاني الملائكة.
هذه هي روايتي التي يحسبها سكان بيروت لعنة من فم الحياة، وعلة في جسم الهيئة الاجتماعية، ولكنهم سوف يندمون عندما تنبه الأيام محبة المحبة في قلوبهم المظلمة، مثلما تستنبت الشمس الزهور من بطن الأرض المملوء من بقايا الأموات، فيقف إذ ذاك عابر الطريق بجانب قبري ويلقي عليه السلام قائلا: «ها هنا رقدت وردة الهاني التي حررت عواطفها من عبودية الشرائع البشرية الفاسدة، لتحيا بناموس المحبة الشريفة، وحولت وجهها نحو الشمس كيلا ترى ظل جسدها بين الجماجم والأشواك».» •••
ولم تنته السيدة وردة من كلامها حتى فتح الباب ودخل علينا فتى نحيل القوام، جميل الوجه، تنسكب من عينيه أشعة سحرية وتسيل على شفتيه ابتسامة لطيفة، فوقفت السيدة وردة وأمسكت بذراعه بانعطاف كلي وقدمته إلي بعد أن لفظت اسمي مذيلا بكلمة لطيفة، واسمه مشفوعا بنظرة معنوية، فعرفت بأنه ذلك الشاب الذي أنكرت العالم وخالفت الشرائع والتقاليد من أجله.
ثم جلسنا جميعا صامتين لانشغال كل منا بمعرفة رأي الآخر فيه، حتى إذ مرت دقيقة مملوءة من السكينة التي تستميل النفوس إلى الملأ الأعلى نظرت إليهما وقد جلسا أحدهما بجانب الآخر، فرأيت ما لم أره قط، وعرفت بلحظة معنى حكاية السيدة وردة، وأدركت سر احتجاجها على الهيئة الاجتماعية التي تضطهد الأفراد المتمردين على شرائعها قبل أن تستفحص دواعي تمردهم.
رأيت روحا واحدة سماوية متمثلة أمامي بجسدين، يجملهما الشباب ويسربلهما الاتحاد، وقد وقف بينهما إله الحب باسطا جناحيه ليحميهما من لوم الناس وتعنيفهم. وجدت التفاهم الكلي منبعثا من وجهين شفافين ينيرهما الإخلاص ويحيط بهما الطهر، وجدت لأول مرة من حياتي طيف السعادة منتصبا بين رجل وامرأة يرذلهما الدين وتنبذهما الشريعة.
وبعد هنيهة وقفت وودعتهما مظهرا بغير الكلام تأثيرات نفسي، وخرجت من ذلك المنزل الحقير الذي جعلته العواطف هيكلا للحب والوفاق، وسرت بين تلك القصور والمنازل التي أظهرت لي خفاياها السيدة وردة، مفكرا بحديثها وبكل ما ينطوي تحته من المبادئ والنتائج. لكنني لم أبلغ أطراف ذلك الحي حتى تذكرت رشيد بك نعمان، فتمثلت لبصيرتي لوعة قنوطه وشقائه، فقلت في ذاتي: «هو تعيس مظلوم، ولكن هل تسمعه السماء إذا وقف أمامها متظلما شاكيا وردة الهاني؟ هل جنت عليه تلك المرأة عندما تركته واتبعت حرية نفسها؟ أم هو الذي جنى عليها عندما أخضع جسدها بالزواج قبل أن يستميل روحها بالمحبة؟»
فمن هو الظالم من الاثنين ومن هو المظلوم؟ من هو المجرم ومن هو البريء يا ترى؟ ثم عدت قائلا لذاتي مستفتيا أخبار الأيام مستقصيا حوادثها: «كثيرا ما أباح الغرور للنساء أن يتركن رجالهن الفقراء ويتعلقن بالرجال الأغنياء؛ لأن شغف المرأة ببهرجة الملابس ونعومة العيش يعمي بصيرتها ويقودها إلى العار والانحطاط، فهل كانت وردة الهاني مغرورة وطامعة عندما خرجت من قصر رجل غني مفعم بالحلي والحلل والرياش والخدم، وذهبت إلى كوخ رجل فقير لا يوجد فيه سوى صف من الكتب القديمة؟ وكثيرا ما يميت الجهل شرف المرأة ويحيي شهواتها، فتترك بعلها مللا وتضجرا، وتطلب ملذات جسدها بقرب رجل آخر أكثر منها انحطاطا وأقل شرفا، فهل كانت وردة الهاني جاهلة راغبة بالملذات الجسدية، عندما أعلنت استقلالها على رءوس الأشهاد وانضمت إلى فتى روحي الأميال، وقد كان في إمكانها أن تشبع حواسها سرا في منزل زوجها من هيام الفتيان الذين يستميتون ليكونوا عبيد جمالها وشهداء غرامها؟ وردة الهاني كانت امرأة تعيسة، فطلبت السعادة فوجدتها وعانقتها، وهذه هي الحقيقة التي تحتقرها الجامعة الإنسانية وتنفيها الشريعة.»
همست تلك الكلمات في مسامع الأثير، ثم قلت مستدركا: «ولكن أيسوغ للمرأة أن تشتري سعادتها بتعاسة بعلها؟» فأجابتني نفسي قائلة: «وهل يجوز للرجل أن يستعبد عواطف زوجته ليبقى سعيدا؟» •••
وظللت سائرا وصوت السيدة وردة يتموج في مسامعي، حتى بلغت أطراف المدينة والشمس قد مالت إلى الغروب، وابتدأت الحقول والبساتين تتشح بنقاب السكينة والراحة، والطيور تنشد صلاة المساء، فوقفت متأملا ثم تنهدت قائلا: «أمام عرش الحرية تفرح هذه الأشجار بمداعبة النسيم، وأمام هيبتها تبتهج بشعاع الشمس والقمر. على مسامع الحرية تتناجى هذه العصافير وحول أذيالها ترفرف بقرب السواقي. في فضاء الحرية تسكب هذه الزهور عطر أنفاسها وأمام عينيها تبتسم لمجيء الصباح. كل ما في الأرض يحيا بناموس طبيعته، ومن طبيعة ناموسه يستمد مجد الحرية وأفراحها، أما البشر فمحرومون هذه النعمة لأنهم وضعوا لأرواحهم الإلهية شريعة عالمية محدودة، وسنوا لأجسادهم ونفوسهم قانونا واحدا قاسيا، وأقاموا لأميالهم وعواطفهم سجنا ضيقا مخيفا، وحفروا لقلوبهم وعقولهم قبرا عميقا مظلما، فإذا ما قام واحد من بينهم وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم قالوا: هذا متمرد شرير خليق بالنفي، وساقط دنس يستحق الموت. ولكن هل يظل الإنسان عبدا لشرائعه الفاسدة إلى انقضاء الدهر؟ أم تحرره الأيام ليحيا بالروح وللروح؟ أيبقى الإنسان محدقا بالتراب؟ أم يحول عينيه نحو الشمس كيلا يرى ظل جسده بين الأشواك والجماجم؟»
يوحنا المجنون
1
في أيام الصيف كان يوحنا يسير كل صباح إلى الحقل سائقا ثيرانه وعجوله، حاملا محراثه على كتفه، مصغيا لتغاريد الشحارير وحفيف أوراق الغصون، وعند الظهيرة كان يقترب من الساقية المتراكضة بين منخفضات تلك المروج الخضراء، ويأكل زاده تاركا على الأخشاب ما بقي من الخبز للعصافير، وفي المساء عندما ينتزع المغرب دقائق النور من الفضاء، كان يعود إلى البيت الحقير المشرف على القرى والمزارع في شمال لبنان، ويجلس بسكينة مع والديه الشيخين مصغيا لأحاديثهما المملوءة بأخبار الأيام، شاعرا بدنو النعاس والراحة معا.
وفي أيام الشتاء كان يتكئ مستدفئا بقرب النار، سامعا تأوه الأرياح وندب العناصر، مفكرا بكيفية تتابع الفصول، ناظرا من الكوة الصغيرة نحو الأودية المكتسية بالثلوج والأشجار العارية من الأوراق، كأنها جماعة من الفقراء تركوا خارجا بين أظافر البرد القارص والرياح الشديدة.
وفي الليالي الطويلة كان يبقى ساهرا حتى ينام والده، ثم يفتح الخزانة الخشبية ويأتي بكتاب العهد الجديد، ويقرأ منه سرا على نور مسرجة ضعيفة، متلفتا بحذر بين الآونة والأخرى نحو والده النائم الذي منعه عن تلاوة الكتاب؛ لأن الكهنة ينهون بسطاء القلب عن استطلاع خفايا تعاليم يسوع، ويحرمونهم من «نعم الكنيسة» إذا فعلوا.
هكذا صرف يوحنا شبيبته بين الحقل المملوء بالمحاسن والعجائب وكتاب يسوع المفعم بالنور والروح. وكان سكوتا كثير التأملات، يصغي لأحاديث والديه ولا يجيب بكلمة، ويلتقي بأترابه الفتيان ويجالسهم صامتا ناظرا إلى البعيد حيث يلتقي الشفق بازرقاق السماء، وإذا ما ذهب إلى الكنيسة عاد مكتئبا لأن التعاليم التي يسمعها من على المنابر والمذابح هي غير التي يقرؤها في الإنجيل، وحياة المؤمنين مع رؤسائهم هي غير الحياة الجميلة التي تكلم عنها يسوع الناصري.
جاء الربيع واضمحلت الثلوج في الحقول والمروج، وأصبحت بقاياها في أعالي الجبال تذوب وتسير جداول جداول في منعطفات الأودية، وتجتمع أنهرا غزيرة تتكلم بهديرها عن يقظة الطبيعة، فأزهرت أشجار اللوز والتفاح، وأورقت قضبان الحور والصفصاف، وأنبتت الروابي أعشابها وأزهارها، فتعب يوحنا من الحياة بجانب المواقد، وعرف بأن عجوله قد ملت ضيق المرابض واشتاقت إلى المراعي الخضراء؛ لأن مخازن التبن قد شحت وزنابل الشعير قد نفدت، فجاء وحلها من معالفها وسار أمامها إلى البرية، ساترا بعباءته كتاب العهد الجديد كيلا يراه أحد، حتى بلغ المرجة المنبسطة على كتف الوادي بقرب حقول الدير القائم كالبرج الهائل بين تلك الهضاب،
1
فتفرقت عجوله مرتعية الأعشاب، وجلس مستندا إلى صخرة يتأمل تارة بجمال الوادي، وطورا بسطور كتابه المتكلمة عن ملكوت السموات.
كان ذلك النهار من أواخر أيام الصوم، وسكان تلك القرى المنقطعون عن اللحوم أصبحوا يترقبون بفضلات الصبر مجيء عيد الفصح.
أما يوحنا فمثل جميع المزارعين الفقراء لم يكن يفرق بين أيام الصيام وغيرها، فالعمر كله كان صوما طويلا عنده، وقوته لم يتجاوز قط الخبز المعجون بعرق الجبين والثمار المبتاعة بدم القلب، فالانقطاع عن اللحوم والمآكل الشهية كان طبيعيا، ومشتهيات الصوم لم تكن في جسده بل في عواطفه؛ لأنها تعيد إلى نفسه ذكرى مأساة «ابن البشر» ونهاية حياته على الأرض.
كانت العصافير ترفرف متناجية حول يوحنا، وأسراب الحمام تتطاير مسرعة، والزهور تتمايل مع النسيم كأنها تتحمم بأشعة الشمس، وهو يقرأ في كتابه بتمعن، ثم يرفع رأسه ويرى قبب الكنائس في المدن والقرى المنثورة على جانبي الوادي ويسمع طنين أجراسها، فيغمض عينيه وتسبح نفسه فوق أشلاء الأجيال إلى أورشليم القديمة، متبعة أقدام يسوع في الشوارع سائلة العابرين عنه، فيجيبونها قائلين: هنا شفى العميان وأقام المقعدين، وهناك ضفروا له إكليلا من الشوك ووضعوه على رأسه. في هذا الرواق وقف يكلم الجموع بالأمثال، وفي ذلك القصر كتفوه على العمود وبصقوا على وجهه وجلدوه. في هذا الشارع غفر للزانية خطاياها، وفي ذاك وقع على الأرض تحت أثقال صليبه.
ومرت الساعة ويوحنا يتألم مع الإله الإنسان بالجسد ويتجمد معه بالروح، حتى إذا ما انتصف النهار قام من مكانه ونظر حوله فلم ير عجوله، فمشى متلفتا إلى كل ناحية مستغربا اختفاءها في تلك المروج السهلة، ولما بلغ الطريق المنحنية بين الحقول انحناء خطوط الكف رأى عن بعد رجلا بملابس سوداء واقفا بين البساتين، فأسرع نحوه، ولما اقترب منه وعرف أنه أحد رهبان الدير حياه بإحناء رأسه ثم سأله قائلا: «هل رأيت عجولا سائرة بين هذه البساتين يا أبتاه؟» فنظر إليه الراهب متكلفا إخفاء حنقه وأجاب بخبث: «نعم رأيتها، فهي هناك، تعال وانظرها.» فسار يوحنا وراء الراهب حتى بلغا الدير، فإذا بالعجول ضمن حظيرة واسعة موثقة بالحبال يخفرها أحد الرهبان وفي يده نبوت يجلدها به كيفما تحركت، وإذ هم يوحنا ليقودها أمسك الراهب بعباءته والتفت نحو رواق الدير وصرخ بأعلى صوته: «هو ذا الراعي المجرم قد قبضت عليه.» فهرول القسس والرهبان من كل ناحية يتقدمهم الرئيس، وهو رجل يمتاز عن رفاقه بنحافة أثوابه وانقباض سحنته، وأحاطوا بيوحنا كالجنود المتسابقة إلى الغنيمة، فنظر يوحنا إلى الرئيس وقال بهدوء: «ماذا فعلت لأكون مجرما؟ ولماذا قبضتم علي؟» فأجابه الرئيس وقد بانت القساوة على وجهه الغضوب، وبصوت خشن أشبه بصرير المناشير قال: «قد ارتعت عجولك زرع الدير وقضمت قضبان كرومه، فقبضنا عليك لأن الراعي هو المسئول عما تخربه مواشيه.» فقال يوحنا مستعطفا: «هي بهائم لا عقل لها يا أبتاه، وأنا فقير لا أملك غير قوى ساعدي وهذه العجول، فاتركني أقودها وأسير، واعدا إياك بألا أجيء إلى هذه المروج مرة أخرى.» فقال الرئيس وقد تقدم قليلا إلى الأمام ورفع يده نحو السماء: «إن الله قد وضعنا هنا، ووكل إلينا حماية أراضي مختاره اليشاع العظيم، فنحن نحافظ عليها ليلا ونهارا بكل قوانا لأنها مقدسة، وهي كالنار تحرق كل من يقترب منها، فإذا امتنعت عن محاسبة الدير انقلبت الأعشاب في أجواف عجولك سموما آكلة، ولكن ليس من سبيل إلى الامتناع لأننا نبقي بهائمك في حظيرتنا حتى تفي آخر فلس عليك.»
وهم الرئيس بالذهاب فأوقفه يوحنا وقال متذللا متوسلا: «أستحلفك يا سيدي بهذه الأيام المقدسة التي تألم فيها يسوع وبكت لأحزانها مريم أن تتركني أذهب بعجولي. لا تكن قاسي القلب علي، فأنا فقير مسكين والدير غني عظيم، فهو يسامح تهاملي ويرحم شيخوخة والدي.» فالتفت إليه الرئيس وقال بهزء: «لا يسامحك الدير بمثقال ذرة أيها الجاهل فقيرا كنت أم غنيا، فلا تستحلفني بالأشياء المقدسة لأننا أعرف منك بأسرارها وخفاياها، وإن شئت أن تقود عجولك من هذه المرابض فافتدها بثلاثة دنانير لقاء ما التهمت من الزرع.» فقال يوحنا بصوت مختنق: «إنني لا أملك بارة واحدة يا أبتاه، فأشفق علي وارحم فقري.» فأجاب الرئيس بعد أن مشط لحيته الكثيفة بأصابعه: «اذهب وبع قسما من حقلك وعد بثلاثة دنانير، فخير لك أن تدخل السماء بلا حقل من أن تكتسب غضب اليشاع العظيم باحتجاجك أمام مذبحه، وتهبط في الآخرة إلى الجحيم حيث النار المؤبدة.»
فسكت يوحنا دقيقة وقد أبرقت عيناه وانبسط محياه وتبدلت لوائح الاسترحام بملامح القوة والإرادة، فقال بصوت تمتزج نغمة المعرفة بعزم الشبيبة: «هل يبيع الفقير حقله منبت خبزه ومورد حياته ليضيف ثمنه إلى خزائن الدير المفعمة بالفضة والذهب؟ أمن العدل أن يزداد الفقير فقرا ويموت المسكين جوعا كيما يغفر اليشاع العظيم ذنوب بهائم جائعة؟» فقال الرئيس هازا رأسه استكبارا: «هكذا يقول يسوع المسيح: «من له يعطى ويزاد، ومن ليس له يؤخذ منه.»
سمع يوحنا هذه الكلمات فاضطرب قلبه في صدره وكبرت نفسه وتعالت قامته عن ذي قبل، كأن الأرض قد نمت تحت أقدامه، فانتشل الإنجيل من جيبه كما يستل الجندي سيفه للمدافعة، وصرح قائلا: «هكذا تتلاعبون بتعاليم هذا الكتاب أيها المراءون، هكذا تستخدمون أقدس ما في الحياة لتعميم شرور الحياة. فويل لكم إذ يأتي «ابن البشر» ثانية ويخرب أديرتكم، ويلقي حجارتها في هذا الوادي، محرقا بالنار مذابحكم ورسومكم وتماثيلكم. ويل لكم من دماء يسوع الزكية ودموع أمه الطاهرة إذ تنقلب سيلا عليكم وتجرفكم إلى أعماق الهاوية. ويل وألف ويل لكم أيها الخاضعون لأصنام مطامعكم، الساترون بالأثواب السوداء اسوداد مكرهاتكم، المحركون بالصلاة شفاهكم وقلوبكم جامدة كالصخور، الراكعون بتذلل أمام المذابح ونفوسكم متمردة على الله. قدمتموني بخباثة إلى هذا المكان المملوء بآثامكم، وكمجرم قبضتم علي من أجل قليل من الزرع تستنبته الشمس لي ولكم على السواء، ولما استعطفتكم باسم يسوع واستحلفتكم بأيام حزنه وأوجاعه استهزأتم بي كأني لم أتكلم بغير الحماقة والجهالة . خذوا وابحثوا في هذا الكتاب وأروني متى لم يكن يسوع غفورا؟ اقرءوا هذه المأساة السماوية وأخبروني أين تكلم بغير الرحمة والرأفة؟ أفي موعظته على الجبل؟ أم في تعاليمه في الهيكل أمام مضطهدي تلك الزانية المسكينة؟ أم على الجلجلة عندما بسط ذراعيه على الصليب ليضم الجنس البشرى؟ انظروا يا قساة القلوب إلى هذه المدن والقرى الفقيرة، ففي منازلها يتلوى المرضى على أسرة الأوجاع، وفي حبوسها تفنى أيام البائسين، وأمام أبوابها يتضرع المتسولون، وعلى طرقها ينام الغرباء، وفي مقابرها تنوح الأرامل واليتامى، وأنتم ها هنا تتمتعون براحة التواني والكسل، وتتلذذون بثمار الحقول وخمور الكروم. فلم تزوروا مريضا، ولم تتفقدوا سجينا، ولم تطعموا جائعا، ولم تئووا غريبا، ولم تعزوا حزينا. وليتكم تكتفون بما لديكم وتقنعون بما اغتصبتم من جدودنا باحتيالكم، فأنتم تمدون أياديكم كما تمد الأفاعي رءوسها، وتقبضون بشدة على ما وفرته الأرملة من عمل يديها وما أبقاه الفلاح لأيام شيخوخته.»
وسكت يوحنا ريثما استرجع أنفاسه ثم رفع رأسه بفخر وقال بهدوء: «أنتم كثار ها هنا وأنا وحدي. افعلوا بى ما شئتم، فالذئاب تفترس النعجة في ظلمة الليل، لكن آثار دمائها تبقى على حصباء الوادي حتى يجيء الفجر وتطلع الشمس.»
كان يوحنا يتكلم وفي صوته قوة علوية توقف في أبدان الرهبان الحركة وتثير في نفوسهم الغيظ والحدة، ومثل غربان جائعة في أقفاص ضيقة كانوا يرتجفون غضبا وأسنانهم تصرف بشدة، مترقبين من رئيسهم إشارة ليمزقوه تمزيقا ويسحقوه سحقا، حتى إذا ما انتهى من كلامه وسكت سكوت العاصفة بعد تكسيرها الأغصان المتشامخة والأنصاب اليابسة، صرخ الرئيس بهم قائلا:
اقبضوا على هذا المجرم الشقي وانزعوا منه الكتاب وجروه إلى حجرة مظلمة من الدير، فمن يجدف على مختاري الله لا يغفر له ها هنا ولا في الأبدية. فهجم الرهبان على يوحنا هجوم الكواسر على الفريسة، وقادوه مكتوفا إلى حجرة ضيقة، وأقفلوا عليه بعد أن نهكوا جسده بخشونة أكفهم ورفس أرجلهم.
في تلك الغرفة المظلمة وقف يوحنا وقفة منتصر توفق العدو لأسره، ونظر من الكوة الصغيرة المطلة على الوادي المملوء بنور النهار، فتهلل وجهه وشعر بلذة روحية تعانق نفسه وطمأنينة مستعذبة تمتلك عواطفه، فالحجرة الضيقة لم تسجن غير جسده.
أما نفسه فكانت حرة تتماوج مع النسيم بين الطلول والمروج، وأيدي الرهبان التي آلمت أعضاءه لم تمس عواطفه المستأمنة بجوار يسوع الناصري. والمرء لا تعذبه الاضطهادات إذا كان عادلا، ولا تفنيه المظالم إذا كان بجانب الحق، فسقراط شرب السم مبتسما، وبولس رجم فارحا، ولكن هو الضمير الخفي نخالفه فيوجعنا، ونخونه فيقضي علينا.
وعلم والدا يوحنا بما جرى لوحيدهما، فجاءت أمه إلى الدير مستعينة بعصاها، وترامت على أقدام الرئيس تذرف الدموع وتقبل يديه ليرحم ابنها ويغتفر جهله. فقال لها بعد أن رفع عينيه نحو السماء كمترفع عن العالميات: «نحن نغتفر طيش ابنك ونسامح جنونه، ولكن للدير حقوقا مقدسة لا بد من استيفائها.»
نحن نسامح بتواضعنا زلات الناس، أما اليشاع العظيم فلا يسامح ولا يغفر لمن يتلفون كرومه ويرتعون زرعه.»
فنظرت إليه الوالدة والدمع ينسكب على وجنتيها المتجعدتين بأيدي الشيخوخة، ثم نزعت قلادة فضية في عنقها ووضعتها في يده قائلة: «ليس لدي غير هذه القلادة يا أبتاه، فهي عطية والدتي يوم اقتراني، فليقبلها الدير كفارة عن ذنوب وحيدي.»
فأخذ الرئيس القلادة ووضعها في جيبه، ثم قال ووالدة يوحنا تقبل يديه شكرا وامتنانا: ويل لهذا الجيل، فقد انعكست فيه آيات الكتاب، وأصبح الأبناء يأكلون الحصرم والآباء يدرسون. اذهبي أيتها المرأة الصالحة وصلي من أجل ابنك المجنون لتشفيه السماء وتعيد إليه صوابه.
وخرج يوحنا من أسره ومشى ببطء أمام عجوله بجانب أمه المنحنية على عصاها تحت أثقال السنين، ولما بلغ الكوخ قاد العجول إلى معالفها وجلس بسكينة قرب النافذة يتأمل باضمحلال نور النهار.
وبعد هنيهة سمع والده يهمس في أذن أمه هذه الكلمات: «كم عارضتيني يا سارة عندما أقول لك أن ولدنا مختل الشعور، والآن أراك لا تعترضين لأن أعماله قد حققت كلامي، ورئيس الدير الوقور قد قال لك اليوم ما قلته أنا منذ سنين.»
وظل يوحنا ناظرا نحو المغرب حيث الغيوم المتلبدة متلونة بأشعة الشمس .
في العهد الجديد
في الشرق اليوم فكرتان متصارعتان: فكرة قديمة، وفكرة جديدة. أما الفكرة القديمة فستغلب على أمرها لأنها منهوكة القوى، محلولة العزم.
وفي الشرق يقظة تراود النوم، واليقظة قاهرة؛ لأن الشمس قائدها، والفجر جيشها.
وفي حقول الشرق، ولقد كان الشرق بالأمس مبانة واسعة الأرجاء، يقف اليوم فتى الربيع مناديا سكان الأجداث ليهبوا ويسيروا مع الأيام. وإذا ما أنشد الربيع أغنيته بعث مصروع الشتاء وخلع أكفانه ومشى.
وفي فضاء الشرق اهتزازات حية تنمو وتتمدد وتتوسع، وتتناول النفوس المنتبهة الحساسة فتضمها إليها، وتحيط بالقلوب الأبية الشاعرة لتكتسبها.
وللشرق اليوم سيدان: سيد يأمر وينهى ويطاع ولكنه شيخ يحتضر. وسيد ساكت بسكوت النواميس والأنظمة، هادئ بهدوء الحق، ولكنه جبار مفتول الساعدين، يعرف عزمه، ويثق بكيانه، ويؤمن بصلاحيته. •••
في الشرق اليوم رجلان: رجل الأمس ورجل الغد، فأي منهما أنت أيها الشرقي؟
ألا فاقترب مني لأتفرسك وأتبصرك وأتحقق من ملامحك ومظاهرك، ما إذا كنت من الآتين إلى النور؟ أو الذاهبين إلى الظلام.
تعال وأخبرني ما أنت ومن أنت.
أسياسي يقول في سره: «أريد أن أنتفع من أمتي»؟ أم غيور متحمس يهمس في نفسه: «أتوق إلى نفع أمتي»؟
إن كنت الأول فأنت نبتة طفيلية، وإن كنت الثاني فأنت واحة في صحراء.
أتاجر يتخذ عوز الناس وسيلة للربح والانتفاع، فيحتكر الضروريات ليبيع بدينار ما ابتاعه بدرهم؟ أم رجل جد واجتهاد يسهل التبادل بين الحائك والزارع، ويجعل نفسه حلقة بين الراغب والمرغوب، فيفيد المرغوب والراغب ويستفيد بعدل منهما؟
إن كنت الأول فأنت مجرم سكنت القصور أم السجون، وإن كنت الثاني فأنت محسن شكرك الناس أم جحدوك.
أرئيس دين يحوك من سذاجة القوم بزفيرا لجسده، ويصوغ من بساطة قلوبهم تاجا لرأسه، ويدعي كره إبليس ويعيش بخيراته؟ أم تقي ورع يرى في فضيلة الفرد أساسا لرقي الأمة، وفي استقصاء أسرار روحه سلما إلى الروح الكلي؟
إن كنت الأول فأنت كافر ملحد صمت النهار أو صليت الليل، وإن كنت الثاني فأنت زنبقة في جنة الحق ضاع أريجها بين أنوف البشر، أم تصاعد حرا طليقا إلى الغلاف الأثيري حيث تحفظ أنفاس الأزهار.
أصحفي يبيع فكرته ومبدأه في سوق النخاسين، وينمو ويترعرع على ما يفرزه الاجتماع من أخبار المصائب والويلات، ونظير الشوحة الجائعة لا تهبط إلا على الجيف المنتنة؟
أم معلم واقف على منبر من منابر المدنية، يستمد من مآتي الأيام مواعظ يلقيها على الناس بعد أن يتعظ بها نفسه؟
إن كنت الأول فأنت بثور وقروح، وإن كنت الثاني فدواء وبلسم.
أحاكم يتصاغر أمام من ولاه ويستصغر من تولى عليهم، فلا يحرك يدا إلا ليضعها في جيوبهم، ولا يخطو خطوة إلا لمطمع له فيهم؟
أم خادم أمين يدير شئون الشعب ويسهر على مصالحه ويسعى إلى تحقيق أمانيه؟
إن كنت الأول فأنت زوان في بيادر الأمة، وإن كنت الثاني فأنت بركة في أهرائها.
أزوج يستبيح لنفسه ما يحرمه على زوجته، ويسرح ويمرح وفي حزامه مفتاح سجنها، ويلتهم ما يشتهيه حتى التخمة وهي جالسة في وحدتها أمام صحفة فارغة؟
أم رفيق لا يسير إلى أمر إلا ويده بيد رفيقته، ولا يفعل أمرا إلا ولها فيه فكرة ورأي، ولا يفوز بأمر إلا لتساهمه أفراحه وأمجاده؟
إن كنت الأول فأنت ممن بقي حيا من قبائل انقرضت وهي تسكن الكهوف وتلبس الجلود. وإن كنت الثاني فأنت في طليعة أمة تسير مع الفجر نحو ظهيرة العدالة والحصافة.
أكاتب بحاثة يشمخ برأسه إلى ما فوق رءوسنا ما بقي في داخل رأسه، فيدب في هوتة الماضي الغابر حيث ألقت الأجيال ما رث من أثوابها، ورمت ما لم يعد صالحا لها؟ أم فكرة صافية تتفحص محيطها لتعلم ما ينفعه وما يضره، فتصرف العمر في بناء النافع وهدم المضر؟
إن كنت الأول فأنت سخافة مطرسة وبلادة مزركشة. وإن كنت الثاني فأنت خبز للجائعين وماء للظامئين.
أشاعر أنت يضرب الطنبور أبواب الأمراء، وينثر الأزهار في الأعراس، ويسير وراء الجثث الهامدة وبين فكيه إسفنجة مثقلة بالماء الفاتر، حتى إذا ما بلغ المقبرة ضغط عليها بلسانه وشفتيه؟ أم موهوب وضع الله في يده قيثارة يستولدها أنغاما علوية، تجذب قلوبنا وتوقفنا متهيبين أمام الحياة وما في الحياة من الجمال والهول؟
إن كنت الأول فأنت من المشعوذين الذين لا ينبهون في نفوسنا سوى عكس ما يقصدون، فإن تباكوا نضحك، وإن مرحوا نكتئب. وإن كنت الثاني فأنت بصيرة مشعشعة وراء بصرنا، وشوق عذب في قلوبنا، ورؤيا ربانية في غيبوبتنا. •••
أقول في الشرق موكبان؛ موكب من عجائز محدودبي الظهور يسيرون متوكئين على العصي العوجاء، ويلهثون منهوكين مع أنهم ينحدرون من الأعالي إلى المنخفضات، وموكب من فتيان يتركضون كأن في أرجلهم أجنحة، ويهللون كأن في حناجرهم أوتارا، وينتهبون العقبات كأن في جبهات الجبال قوة تجذبهم وسحرا يختلب لبابهم.
فمن أية فئة أنت أيها الشرقي؟ وفي أي موكب تسير؟
ألا فاسأل نفسك. استجوبها في سكينة الليل وقد صحت من مخدرات محيطها عما إذا كنت من عبيد الأمس؟ أم من أحرار الغد؟
أقول لك: إن أبناء الأمس يمشون في جنازة العهد الذي أوجدهم وأوجدوه. أقول: إنهم يشدون بحبل أوهت الأيام خيوطه، فإذا ما انقطع - وعما قريب ينقطع - هبط من تعلق به إلى حفرة النسيان. أقول: إنهم يسكنون منازل متداعية الأركان، فإذا ما هبت العاصفة - وهي على وشك الهبوب - انهدمت تلك المنازل على رءوسهم وكانت لهم قبورا. أقول: إن أفكارهم وأقوالهم ومنازعهم وتصانيفهم ودواوينهم وكل مآتيهم، ليست سوى قيود تجرهم بثقلها ولا يستطيعون جرها لضعفهم.
أما أبناء الغد فهم الذين نادتهم الحياة فاتبعوها بأقدام ثابتة ورءوس مرفوعة. هم فجر عهد جديد، فلا الدخان يحجب أنوارهم، ولا قلقلة السلاسل تغمر أصواتهم، ولا نتن المستنقعات يتغلب على طيبهم. هم طائفة قليلة العدد بين طوائف كثر عددها، ولكن في الغصن المزهر ما ليس في غابة يابسة، وفي حبة القمح ما ليس في رابية من التبن. هم فئة مجهولة لكنهم يعرفون بعضهم بعضا، ومثل قمم عالية يرى واحدهم الآخر ويسمع نداءه ويناجيه، أما المغاور فعمياء لا ترى، وطرشاء لا تسمع. هم النواة التي طرحها الله في حقلة ما، فشقت قشرتها بعزم لبابها، وتمايلت نصبة غضة أمام وجه الشمس ، وسوف تنمو شجرة عظمى، تمتد عروقها إلى قلب الأرض وتتصاعد فروعها إلى أعماق الفضاء.
لكم لبنانكم ولي لبناني
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم ومعضلاته، ولي لبناني وجماله.
لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني.
لكم لبنانكم فاقتنعوا به، ولي لبناني وأنا لا أقنع بغير المجرد المطلق.
لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلها الأيام، أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء.
لبنانكم مشكلة دولية تتقاذفها الليالي، أما لبناني فأودية هادئة سحرية تتموج في جنباتها رنات الأجراس وأغاني السواقي.
لبنانكم صراع بين رجل جاء من المغرب ورجل جاء من الجنوب، أما لبناني فصلاة مجنحة ترفرف صباحا عندما يقود الرعاة قطعانهم إلى المروج، وتتصاعد مساء عندما يعود الفلاحون من الحقول والكروم.
لبنانكم حكومة ذات رءوس لا عداد لها، أما لبناني فجبل رهيب وديع، جالس بين البحر والسهول جلوس شاعر بين الأبدية والأبدية.
لبنانكم حيلة يستخدمها الثعلب عندما يلتقي بالضبع، والضبع حينما يجتمع بالذئب، أما لبناني فتذكارات تعيد على مسمعي أهازيج الفتيات في الليالي المقمرة، وأغاني الصبايا بين البيادر والمعاصر.
لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين وقائد جيش، أما لبناني فمعبد أدخله بالروح عندما أمل النظر إلى وجه هذه المدينة السائرة على الدواليب.
لبنانكم رجلان، رجل يؤدي المكوس ورجل يقبضها، أما لبناني فرجل فرد متكئ على ساعده في ظلال الأرز، وهو منصرف عن كل شيء سوى الله ونور الشمس.
لبنانكم مرافئ وبريد وتجارة، أما لبناني ففكرة بعيدة وعاطفة مشتعلة، وكلمة علوية تهمسها الأرض في أذن الفضاء.
لبنانكم موظفون وعمال ومديرون، أما لبناني فتأهب الشباب وعزم الكهولة وحكمة الشيخوخة.
لبنانكم وفود ولجان، أما لبناني فمجالس حول المواقد في ليال تغمرها هيبة العواصف ويحللها طهر الثلوج.
لبنانكم طوائف وأحزاب، أما لبناني فصبية يتسلقون الصخور ويركضون مع الجداول ويقذفون الأكر في الساحات.
لبنانكم خطب ومحاضرات ومناقشات، أما لبناني فتغريد الشحارير، وحفيف أغصان الحور والسنديان، ورجع صدى النايات في المغاور والكهوف.
لبنانكم كذب يحتجب وراء نقاب من الذكاء لبناني فلا يتصل ولا ينفصل ولا يتفوق ولا يتصاغر.
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم وأبناؤه، ولي لبناني وأبناؤه.
ومن هم يا ترى أبناء لبنانكم؟
ألا فانظروا هنيهة لأريكم حقيقتهم.
هم الذين ولدت أرواحهم في مستشفيات الغربيين.
هم الذين استيقظت عقولهم في حضن طامع يمثل دور أريحي.
هم تلك القضبان اللينة التي تميل إلى اليمين وإلى اليسار، ولكن بدون إرادة، وترتعش في الصباح وفي المساء، ولكنها لا تدري أنها ترتعش.
هم تلك السفينة التي تصارع الأمواج وهي بدون المستعار، ورياء يختبئ في رداء من التقليد والتصنع، أما لبناني فحقيقة بسيطة عارية، إذا نظرت في حوض ماء ما رأت غير وجهها الهادئ وملامحها المنبسطة.
لبنانكم شرائع وبنود على أوراق وعقود في دفاتر، أما لبناني فقطرة في أسرار الحياة وهي لا تعلم، وشوق يلامس في اليقظة أذيال الغيب ويظن نفسه في منام.
لبنانكم عجوز قابض على لحيته قاطب ما بين عينيه ولا يفكر إلا بذاته، أما لبناني ففتى ينتصب كالبرج ويبتسم كالصباح، ويشعر بسواه شعوره بنفسه.
لبنانكم ينفصل آنا عن سوريا ويتصل بها آونة، ثم يحتال على طرفيه ليكون بين معقود ومحلول، أما لبناني فلا يتصل ولا ينفصل ولا يتفوق ولا يتصاغر.
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم وأبناؤه، ولي لبناني وأبناؤه.
ومن هم يا ترى أبناء لبنانكم؟
ألا فانظروا هنيهة لأريكم حقيقتهم.
هم الذين ولدت أرواحهم في مستشفيات الغربيين.
هم الذين استيقظت عقولهم في حضن طامع يمثل دور أريحي.
هم تلك القضبان اللينة التي تميل إلى اليمين وإلى اليسار، ولكن بدون إرادة، وترتعش في الصباح وفي المساء، ولكنها لا تدري أنها ترتعش.
هم تلك السفينة التي تصارع الأمواج وهي بدون دفة ولا شراع، أما ربانها فالتردد، وأما ميناؤها فكهف تسكنه الغيلان. أوليست كل عاصمة في أوروبا كهفا للغيلان؟
هم الأشداء الفصحاء البلغاء، ولكن بعضهم لدى بعض، والضعفاء الخرسان أمام الإفرنج.
هم الأحرار المصلحون المتحمسون، ولكن في صحفهم وفوق منابرهم، والمناقدون الرجعيون أمام الغربيين.
هم الذين يضجون كالضفادع قائلين : «لقد تملصنا من عدونا الطاغية القديم.» وعدوهم القديم الطاغية ما برح يختبئ في أجسادهم.
هم الذين يسيرون أمام الجنازة مزمرين راقصين، حتى إذا ما التقوا بموكب العرس تحول تزميرهم إلى نواح ورقصهم إلى قرع الصدور وشق الأثواب.
هم الذين لا يعرفون المجاعة إلا إذا كانت في جيوبهم، فإذا ما التقوا بمن كانت مجاعته في روحه ضحكوا منه وتحولوا عنه قائلين: «ما هذا سوى خيال يسير في عالم الأخيلة.»
هم أولئك العبيد الذين تبدل الأيام قيودهم المصدأة بقيود لامعة، فيظنون أنهم أصبحوا أحرارا مطلقين.
هؤلاء هم أبناء لبنانكم، فهل بينكم من يمثل العزم في صخور لبنان؟ أم النيل في ارتفاعه؟ أم العذوبة في مائه؟ أم العطر في هوائه؟ هل بينهم من يتجرأ أن يقول: «إذا ما مت تركت وطني أفضل قليلا مما وجدته عندما ولدت»؟ هل بينهم من يتجرأ أن يقول: «لقد كانت حياتي قطرة من الدم في عروق لبنان، أو دمعة بين أجفانه، أو ابتسامة على ثغره؟»
هؤلاء هم أبناء لبنانكم، فما أكبرهم في عيونكم وما أصغرهم في عيني!
ولكن قفوا قليلا وانظروا لأريكم أبناء لبناني:
هم الفلاحون الذين يحولون الوعر إلى حدائق وبساتين.
هم الرعاة الذين يقودون قطعانهم من واد إلى واد، فتنمو وتتكاثر وتعطيكم لحومها غذاء وصوفها رداء.
هم الكرامون الذين يعصرون العنب خمرا ويعقدون الخمر دبسا.
هم الآباء الذين يربون أنصاب التوت، والأمهات اللواتي يغزلن الحرير.
هم الرجال الذين يحصدون الزرع، والزوجات اللواتي يجمعن الأغمار.
هم البناءون والفخارون والحائكون وصانعو الأجراس والنواقيس.
هم الشعراء الذين يسكبون أرواحهم في كئوس جديدة، وهم شعراء الفطرة الذين ينشدون العتابا والمعنى والزجل.
هم الذين يغادرون لبنان وليس لهم سوى حماسة في قلوبهم وعزم في سواعدهم، ويعودون إليه وخيرات الأرض في أكفهم وأكاليل الغار على رءوسهم.
هم الذين يتغلبون على محيطهم أينما حلوا، ويجتذبون القلوب إليهم أينما وجدوا.
وهم الذين يولدون في الأكواخ، ويموتون في قصور العلم. هؤلاء هم أبناء لبنان. هؤلاء هم السرج التي لا تطفيها الأرياح، والملح الذي لا تفسده الدهور. هؤلاء هم السائرون بأقدام ثابتة نحو الحقيقة والجمال والكمال.
وماذا عسى أن يبقى من لبنانكم وأبناء لبنانكم بعد مائة سنة؟ أخبروني، فإذا تتركون للغد سوى الدعوى والتلفيق والبلادة؟ هل تحسبون أن الزمن يحفظ في ذاكرته مظاهر الخداع والمداهنة والتدليس؟
أتظنون أن الأثير يخزن في جيوبه أشباح الموت وأنفاس القبور؟ أتتوهمون أن الحياة تستر جسدها العاري بالخرق البالية؟
أقول لكم والحق شاهد علي: إن نصبة الزيتون التي يغرسها القروي في سفح لبنان لأبقى من جميع أعمالكم ومآتيكم. والمحراث الخشبي الذي تجره العجول في منعطفات لبنان لأشرف وأنبل من كل أمانيكم ومطامحكم.
أقول لكم وضمير الوجود صاغ إلي: إن أغنية جامعة البقول بين هضاب لبنان لأطول عمرا من كل ما يقوله أوجه وأضخم ثرثار بينكم.
أقول لكم إنكم لستم على شيء، ولو كنتم تعلمون أنكم لستم على شيء لتحول اشمئزازي منكم إلى شكل من العطف والحنان، ولكنكم لا تعلمون.
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لكم لبنانكم وأبناء لبنانكم، فاقتنعوا به وبهم إن استطعتم الاقتناع بالفقاقيع الفارغة.
أما أنا فمقتنع بلبناني وأبنائه، وفي اقتناعي عذوبة وسكينة وطمأنينة.
بنات البحر
في أعماق البحر الذي يحيط بالجزائر القريبة من مطلع الشمس، هنالك في الأعماق حيث الدر الكثير، جثة فتى هامدة بقربها بنات البحر ذوات الشعور الذهبية، قد جلسن بين بنات المرجان ينظرن إليها بعيونهن الزرقاء الجميلة ويتحدثن بأصوات موسيقية، حديثا سمعته اللجة فحملته الأمواج إلى الشاطئ، فجاء به النسيم الى نفسي.
قالت واحدة: «هذا بشري هبط بالأمس إذ كان البحر حانقا.»
قالت الثانية: «لم يكن البحر حانقا، ولكن الإنسان - وهو الذي يدعي بأنه من سلالة الآلهة - كان في حرب حامية أهرقت فيها الدماء حتى صار لون الماء قرمزيا، وهذا البشري هو قتيل الحرب.»
فقالت الثالثة: «لا أدري ما هي الحرب. ولكني أعلم أن الأنسان بعد أن تغلب على اليابسة طمع بالسيادة على البحر؛ فابتدع الآلات الغريبة، ومخر العباب، فدرى نبتون إله البحار وغضب من هذا التعدي، فلم ير الإنسان بدا إذ ذاك من إرضاء مليكنا بالذبائح والهدايا، فالأشلاء التي رأيناها بالأمس هابطة هي آخر تقدمة من الإنسان إلى نبتون العظيم.»
قالت الرابعة: «ما أعظم نبتون! ولكن ما أقسى قلبه! لو كنت أنا سلطانة البحار لما رضيت بالذبائح الدموية. تعالين لنرى جثة هذا الشاب، فربما أفادتنا شيئا عن طائفة البشر.»
اقتربت بنات البحر من جثمان الشاب وبحثن في جيوب أثوابه، فعثرن على رسالة في الثوب الملاصق قلبه، فأخذت الرسالة واحدة منهن وقرأت:
يا حبيبي، ها قد انتصف الليل وأنا ساهرة، وليس لي مسل غير دموعي ولا معز سوى أملي برجوعك إلي من بين مخالب الحرب، ولا أقدر أن أفتكر إلا بما قلته لي عند الوداع بأن عند كل إنسان أمانة من الدم لا بد من ردها يوما. لا أدري يا حبيبي ماذا أكتب؟ بل أترك نفسي تسيل على الورق، نفس يعذبها الشقاء ويعزيها الحب الذي يجعل الألم لذة والأحزان مسرة. لما وحد الحب قلبينا وصرنا نتوقع ضم جسمين تجول فيهما روح واحدة نادتك الحرب، فاتبعتها مدفوعا بعوامل الواجب والوطنية. ما هذا الواجب الذي يفرق المحبين ويرمل النساء وييتم الأطفال؟ ما هذه الوطنية التي من أجل أسباب صغيرة تدعو الحرب لتخريب البلاد؟ ما هذا الواجب المحتوم على القروي المسكين، والذي لا يحفل به القوي وابن الشرف الموروث؟ إذا كان الواجب ينفي السلم من بين الأمم، والوطنية تزعج سكينة حياة الإنسان فسلام على الواجب والوطنية. لا لا يا حبيبي، لا تحفل بكلامي بل كن شجاعا ومحبا لوطنك، ولا تسمع كلام ابنة أعماها الحب وأضاع بصيرتها الفراق. إذا كان الحب لا يرجعك إلي في هذه الحياة، فالحب يضمني إليك في الحياة الآتية.
وضعت بنات البحر تلك الرسالة تحت أثواب الشاب، وسبحن بسكينة محزنة، ولما بعدن قالت واحدة منهن: «إن قلب الإنسان أقسى من قلب نبتون.»
بين ليل وصباح
اسكت يا قلبي فالفضاء لا يسمعك.
اسكت فالأثير المثقل بالنواح والعويل لن يحمل أغانيك وأناشيدك.
اسكت فأشباح الليل لا تحفل بهمس أسرارك، ومواكب الظلام لا تقف أمام أحلامك.
اسكت يا قلبي ، اسكت حتى الصباح . فمن يترقب الصباح صابرا يلاق الصباح قويا، ومن يهوى النور فالنور يهواه.
اسكت يا قلبي واسمعني متكلما. •••
في الحلم رأيت شحرورا يغرد فوق فوهة بركان ثائر.
ورأيت زنبقة ترفع رأسها فوق الثلوج.
ورأيت حورية عارية ترقص بين القبور.
ورأيت طفلا يلعب بالجماجم وهو يضحك.
رأيت جميع هذه الصور في الحلم، ولما استيقظت ونظرت حولي رأيت البركان هائجا، ولكني لم أسمع الشحرور مغردا ولا رأيته مرفرفا.
ورأيت الفضاء ينثر الثلوج على الحقول والأودية، ساترا بأكفانه البيضاء أجسام الزنابق الهامدة.
ورأيت القبور صفوفا منتصبة أمام سكينة الدهور، وليس بينها من يتمايل راقصا ولا من يجثو مصليا.
ورأيت رابية من الجماجم، وليس هناك من ضاحك سوى الريح.
في اليقظة رأيت الحزن والأسى، فأين ذهبت أفراح الحلم ومسراته؟
أنى توارت بهجة المنام؟ وكيف اضمحلت رسومه؟
وكيف تتجلد النفس حتى يعيد النوم أشباح أمانيها وآمالها؟
اصغ يا قلبي واسمعني متكلما. •••
كانت نفسي بالأمس شجرة قوية مسنة، تمتد عروقها إلى أعماق الأرض وتتعالى غصونها نحو اللانهاية.
ولقد أزهرت نفسي في الربيع وأثمرت في الصيف، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها في أطباق من الفضة ووضعتها على قارعة الطريق، فكان العابرون يتناولون منها ويأكلون ثم يسيرون في سبيلهم.
ولما انقضى الخريف وتحولت تهاليله إلى الندب والولولة، نظرت فلم أر في أطباقي سوى ثمرة واحدة أبقاها الناس لي، فتناولتها وأكلت، فألفيتها مرة كالعلقم، حامضة كالحصرم. فقلت لنفسي: «ويحي، لقد وضعت في أفواه الناس لعنة، وفي أجوافهم عداء، فماذا ترى فعلت يا نفسي بالحلاوة التي امتصتها عروقك من أحشاء الأرض؟ وبالأريج الذي تشربته قضبانك من نور الشمس؟»
بعد ذلك اقتلعت شجرة نفسي القوية المسنة.
اقتلعتها بعروقها من التربة التي نمت فيها وترعرعت.
اقتلعتها من ماضيها ونزعت عنها ذكرى ألف ربيع وألف خريف.
وعدت فزرعت شجرة نفسي في مكان آخر.
زرعتها في حقل بعيد عن سبل الزمن، وكنت أسهر بجانبها قائلا: إن السهر يدنينا من النجوم. وكنت أسقيها بدمي ودموعي قائلا: إن الدم نكهة، وفي الدموع حلاوة.
ولما عاد الربيع أزهرت نفسي ثانية.
وفي الصيف أثمرت نفسي. ولما جاء الخريف جمعت أثمارها الناضجة بأطباق من الذهب ووضعتها على ملتقى السبل، فمر الناس أفرادا وجماعات، ولكن لم يمد أحد يده ليتناول منها.
فأخذت إذ ذاك ثمرة وأكلت، فوجدتها حلوة كالشهد، لذيذة كالكوثر، طيبة كالخمر البابلية، كأنفاس الياسمين، فصرخت قائلا: «إن الناس لا يريدون البركة في أفواههم ولا الحق في أجوافهم؛ لأن البركة ابنة الدموع، والحق ابن الدماء.»
ثم عدت وجلست في ظل نفسي المنفردة في حقل بعيد عن سبل الزمن. •••
اسكت يا قلبي حتى الصباح.
اسكت فالفضاء قد أتخمته رائحة الأشلاء فلن يتشرب أنفاسك.
اصغ يا قلبي واسمعني متكلما:
كانت بالأمس فكرتي سفينة تتقلب بين أمواج البحار وتتنقل مع الأهوية من شاطئ إلى شاطئ.
ولقد كانت سفينة فكرتي خالية إلا من سبعة أكواب طافحة مختلفة، بألوان مختلفة تشابه ألوان قوس القزح بنضارتها.
وجاء زمن مللت فيه التنقل على وجه البحار، فقلت سأعود بسفينة فكرتي الفارغة إلى ميناء البلد الذي ولدت فيه.
ثم أخذت أطلي جوانب سفينتي بألوان صفراء كشمس المغيب، وخضراء كقلب الربيع، وزرقاء ككبد السماء، وحمراء كذوب الشقيق، وأرسم على شراعها ودفتها رسوما غريبة تجذب العين وتبهج البصيرة. ولما انتهيت من عملي وقد ظهرت سفينة فكرتي كرؤيا نبي تطوف بين اللانهايتين: البحر والسماء، دخلت ميناء بلدي، فخرج الناس لملاقاتي بالتهليل والتعظيم، وأدخلوني المدينة ضاربين الدفوف نافخين الزمور.
فعلوا ذلك لأن خارج سفينتي كان مزخرفا بهجا.
ولم يدخل أحد جوف سفينة فكرتي.
ولم يسأل أحد ماذا جلبت فيها من وراء البحار.
ولم يدر أحد أني عدت بها فارغة إلى الميناء.
عند ذلك قلت في سري: «لقد ضللت الناس، وبسبعة أكواب من الألوان قد كذبت على باصرتهم وبصائرهم.» •••
وبعد عام ركبت سفينة فكرتي وأبحرت ثانية.
سرت إلى جزر الشرق، فجمعت منها المر واللبان والند والصندل وأدخلتها إلى سفينتي.
وإلى جزر الجنوب، فجلبت منها التبر والعاج والياقوت والزمرد وجميع الحجارة الكريمة.
وإلى جزر الشمال، فعدت منها بالخز والوشي والبرفير.
وإلى جزر الجنوب، فحملت منها الدروع المزردة والسيوف المشرفية وسائر أنواع الأسلحة.
ملأت سفينة فكرتي بنفائس الأرض وغرائبها، وعدت إلى ميناء بلدي قائلا: «سوف يمجدني قومي ولكن عن جدارة، وسيدخلونني المدينة منشدين مزمرين ولكن عن استحقاق.»
ولكن لما بلغت الميناء لم يخرج أحد لملاقاتي، ودخلت شوارع بلدي فلم يلتفت إلي أحد.
ووقفت في ساحتها معلنا للناس ما جلبت لهم من ثمار الأرض وطرائفها، فكانوا ينظرون إلي والضحك ملء أفواههم والسخرية على وجوههم، ثم يتحولون عني.
فعدت إلى الميناء كئيبا مستغربا، ولكنني ما لمحت سفينتي حتى فطنت لأمر كنت مشغولا عنه بمنازع أسفاري ورغائبها، فهتفت قائلا: «إن أمواج البحار قد محت الطلاء من جوانب سفينتي، فبانت كهيكل من عظام، وعفت الأرياح والأنواء وحرارة الشمس الرسوم عن أشراعها، فظهرت كأثواب رمادية بالية.»
لقد جمعت طرائف الأرض ونفائسها في تابوت يعوم على وجه الماء، وعدت إلى قومي فنبذوني؛ لأن عيونهم لا ترى سوى المظاهر الخارجية.
في تلك الساعة تركت سفينة فكرتي وذهبت إلى مدينة الأموات، وجلست بين القبور المكلسة مفكرا بأسرارها. •••
اسكت يا قلبي حتى الصباح. اسكت فالعاصفة الهوجاء تسخر بهمس أعماقك، وكهوف الوادي لن ترجع بصداها رنات أوتارك.
اسكت يا قلبي حتى الصباح. فمن يترقب الصباح متجلدا يعانقه الصباح مشتاقا.
ها قد طلع الصباح يا قلبي، فتكلم إن كنت تستطيع الكلام.
هو ذا موكب الصباح يا قلبي. فهل أبقى سكوت الليل في أعماقك أغنية تلاقي بها الصباح؟
هو ذا أسراب الحمام والشحارير تتطاير متنقلة في أطراف الوادي، فهل أبقى هول الليل في جناحيك صلابة لتطير معها؟
هو ذا الرعيان يسيرون أمام قطعانهم من الحظائر والمرابض. فهل أبقت لك أشباح الليل عزما لتسير وراءها إلى المروج الخضراء؟
هو ذا الفتيان والصبايا يمشون الهويناء نحو الكروم، فهلا نهضت ومشيت معهم؟
قم يا قلبي. قم وسر مع الفجر فالليل قد مضى، ومخاوف الليل قد اضمحلت مع أحلامه السوداء.
قم يا قلبي وارفع صوتك مترنما، فمن لا يشارك الصبح بأغانيه كان من أبناء الظلام.
البنفسجة الطموحة
كانت في حديقة منفردة بنفسجة جميلة الثنايا، طيبة العرف، تعيش مقتنعة بين أطرابها وتتمايل فرحة بين قامات الأعشاب.
ففي صباح وقد تكللت بقطر الندى، رفعت رأسها ونظرت حواليها، فرأت وردة تتطاول نحو العلاء بقامة هيفاء ورأس يتسامى متشامخا كأنه شعلة من النار فوق مسرجة من الزمرد.
ففتحت البنفسجة ثغرها الأزرق وقالت متنهدة: «ما أقل حظي بين الرياحين! وما أوضع مقامي بين الأزهار؛ لقد ابتدعتني الطبيعة صغيرة حقيرة، أعيش ملتصقة بأديم الأرض، ولا أستطيع أن أرفع قامتي نحو ازرقاق السماء، أو أحول وجهي نحو الشمس مثلما تفعل الورود.»
وسمعت الوردة ما قالته جارتها البنفسجة، فاهتزت ضاحكة ثم قالت: «ما أغباك بين الأزهار! فأنت في نعمة تجهلين قيمتها؛ فقد وهبتك الطبيعة من الطيب والظرف والجمال ما لم تهبه لكثير من الرياحين. فخل عنك هذه الميول العوجاء والأماني الشريرة وكوني قنوعة بما قسم لك، واعلمي أن من خفض جناحه يرفع قدره، وأن من طلب المزيد وقع في النقصان.»
فأجابت البنفسجة قائلة: «أنت تعزيني أيتها الوردة؛ لأنك حاصلة على ما أتمناه، وتغمرين حقارتي بالحكم لأنك عظيمة. وما أمر مواعظ السعداء في قلوب التعساء! وما أقسى القوي إذا وقف خطيبا بين الضعفاء!»
وسمعت الطبيعة ما دار بين الوردة والبنفسجة، فاهتزت مستغربة، ثم رفعت صوتها قائلة: «ماذا جرى لك يا ابنتي البنفسجة؟ قد عرفتك لطيفة بتواضعك، عذبة بصغرك، شريفة بمسكنتك، فهل استهوتك المطامع القبيحة؟ أم سلبت عقلك العظمة الفارغة؟»
فأجابت البنفسجة بصوت ملؤه التوسل والاستعطاف: «أيتها الأم العظيمة بجبروتها، الهائلة بحنانها، أضرع إليك بكل ما في قلبي من التوسل وما في روحي من الرجاء، أن تجيبي طلبي وتجعليني وردة ولو يوما واحدا.»
فقالت الطبيعة: «أنت لا تدرين ما تطلبين، ولا تعلمين ما وراء العظمة الظاهرة من البلايا الخفية، فإذا رفعت قامتك وأبدلت صورتك وجعلتك وردة تندمين حين لا ينفع الندم.»
فقالت البنفسجة: «حولي كياني البنفسجي إلى وردة مديدة القامة مرفوعة الرأس، ومهما يحل بي بعد ذلك يكن من صنع رغائبي ومطامعي.»
فقالت الطبيعة: «لقد أجبت طلبك أيتها البنفسجة الجاهلة المتمردة، ولكن إذا داهمتك المصائب والمصاعب فلتكن شكواك من نفسك.»
ومدت الطبيعة أصابعها الخفية السحرية ولمست عروق البنفسجة، فتحولت بلحظة واحدة إلى وردة زاهية متعالية فوق الأزهار والرياحين.
ولما جاء عصر ذلك النهار تلبد الفضاء بغيوم سوداء مبطنة بالإعصار، ثم هاجت سواكن الوجود، فأبرقت وأرعدت وأخذت تحارب تلك الحدائق الأنصاب، واقتلعت الأزهار المتشامخة ولم تبق إلا على الرياحين الصغيرة التي تلتصق بالأرض أو تختبئ بين الصخور.
أما تلك الحديقة المنفردة فقد قاست من هياج العناصر ما لم تقاسه حديقة أخرى.
فلم تمر العاصفة وتنقشع الغيوم حتى أصبحت أزهارها هباء منثورا، ولم يسلم منها بعد تلك المعمعة الهوجاء سوى طائفة البنفسج المختبئة بجدران الحديقة.
ورفعت إحدى صبايا البنفسج رأسها فرأت ما حل بأزهار الحديقة وأشجارها، فابتسمت فرحا ثم نادت رفيقاتها قائلة: «ألا فانظرن ما فعلته العاصفة بالرياحين المتشامخة تيها وإعجابا.»
وقالت بنفسجة أخرى: «نحن نلتصق بالتراب، ولكننا نسلم من غضب العواصف والأنواء.»
وقالت بنفسجة ثالثة: «نحن حقيرات الأجسام، غير أن الزوابع لا تستطيع التغلب علينا.»
ونظرت إذ ذاك مليكة طائفة البنفسج، فرأت على مقربة منها الوردة التي كانت بالأمس بنفسجة وقد اقتلعتها العاصفة وبعثرت أوراقها الرياح وألقتها على الأعشاب المبللة، فبانت كقتيل أرداه العدو بسهم.
فرفعت مليكة البنفسج قامتها ومدت أوراقها ونادت رفيقاتها قائلة: «تأملن وانظرن يا بناتي. انظرن إلى البنفسجة التي غرتها المطامع فتحولت إلى وردة، لتتشامخ ساعة ثم هبطت إلى الحضيض. ليكن هذا المشهد أمثولة لكن.»
عندئذ ارتعشت الوردة المحتضرة واستجمعت قواها الخائرة، وبصوت متقطع قالت: «ألا فاسمعن أيتها الجاهلات المقتنعات، الخائفات من العواصف والإعصار: لقد كنت بالأمس مثلكن، أجلس بين أوراقي الخضراء مكتفية بما قسم لي، وقد كان الاكتفاء حاجزا منيعا يفصلني عن زوابع الحياة وأهوائها، ويجعل كياني محدودا بما فيه من السلامة، متناهيا بما يساوره من الراحة والطمأنينة. ولقد كان بإمكاني أن أعيش نظيركن ملتصقة بالتراب حتى يغمرني الشتاء بثلوجه، وأذهب كمن ذهب قبلي إلى سكينة الموت والعدم قبل أن أعرف من أسرار الوجود ومخبآته غير ما عرفته طائفة البنفسج منذ وجد البنفسج على سطح الأرض. لقد كان بإمكاني الانصراف عن المطامع، والزهد في الأمور التي تعلو طبيعتها عن طبيعتي، ولكن أصغيت في سكينة الليل، فسمعت العالم الأعلى يقول لهذا العالم: «إنما القصد من الوجود الطموح إلى ما وراء الوجود.» فتمردت نفسي على نفسي، وهام وجداني بمقام يعلو عن وجداني، وما زلت أتمرد على ذاتي وأشوق إلى ما ليس لي حتى انقلب تمردي إلى قوة فعالة، واستحال شوقي إلى إرادة مبدعة، فطلبت إلى الطبيعة - وما الطبيعة سوى مظاهر خارجية لأحلامنا الخفية - أن تحولني إلى وردة، ففعلت، وطالما غيرت الطبيعة صورها ورسومها بأصابع الميل والتشويق.»
وسكتت الوردة هنيهة، ثم زادت بلهجة مفعمة بالفخر والتفريق: «لقد عشت ساعة كوردة. لقد عشت ساعة كملكة. لقد نظرت إلى الكون من وراء عيون الورود، وسمعت همس الأثير بآذان الورود، ولمست ثنايا النور بأوراق الورود. فهل بينكن من تستطيع أن تدعي شرفي؟»
ثم لوت عنقها، وبصوت يكاد يكون لهاثا قالت: «أنا أموت الآن. أموت وفي نفسي ما لم تكنه نفس بنفسجة من قبلي. أموت وأنا عالمة بما وراء المحيط المحدود الذي ولدت فيه، وهذا هو القصد من الحياة. هذا هو الجوهر الكائن وراء عرضيات الأيام والليالي.»
وأطبقت الوردة أوراقها وارتعشت قليلا، ثم ماتت وعلى وجهها ابتسامة علوية، ابتسامة من حققت الحياة أمانيه، ابتسامة النصر والتغلب، ابتسامة الله.
حياة الحب
الربيع
هلمي يا محبوبتي نمش بين الطلول؛ فقد ذابت الثلوج، وهبت الحياة من مراقدها وتمايلت في الأودية والمنحدرات. سيري معي لنتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد. تعال لنصعد إلى أعالي الربى ونتأمل تموجات اخضرار السهول حولها.
ها قد نشر فجر الربيع ثوبا طواه ليل الشتاء، فاكتست به أشجار الخوخ والتفاح، فظهرت كالعرائس في ليلة القدر، واستيقظت الكروم وتعانقت قضبانها كمعاشر للعشاق، وجرت الجداول راقصة بين الصخور مرددة أغنية الفرح، وانبثقت الأزهار من قلب الطبيعة انبثاق الزبد من البحر.
تعالي لنشرب بقايا دموع المطر من كئوس النرجس، ونملأ نفسينا بأغاني العصافير المسرورة، ونغتنم استنشاق عطر النسيمات .
لنجلس بقرب تلك الصخرة حيث يختبئ البنفسج، ونتبادل قبلات المحبة.
الصيف
هيا بنا إلى الحقل يا حبيبتي؛ فقد جاءت أيام الحصاد، وبلغ الزرع مبلغه وأنضجته حرارة محبة الشمس للطبيعة. تعالي أن قبل تسبقنا الطيور فتستغلي أتعابنا، وجماعة النمل فتأخذ أرضنا. هلمي نجن ثمار الأرض مثلما جنت النفس حبوب السعادة من بذور الوفاء التي زرعتها المحبة في أعماق قلبينا. ونملأ المخازن من إنتاج العناصر كما أملأت الحياة أهراء عواطفنا.
هلمي يا رفيقتي نفترش الأعشاب ونلتحف السماء، ونوسد رأسينا بضغث من القش الناعم، فنرتاح من عمل النهار ونسمع مسامرة غدير الوادي.
الخريف
لنذهب إلى الكرمة يا محبوبتي ونعصر العنب، ونوعيه في الأجران مثلما توعي النفس حكمة الأجيال، ونجمع الأثمار اليابسة، ونستقطر الأزهار، ونستعيض عن العين بالأثر.
لنرجع نحو المساكن؛ فقد اصفرت أوراق الأشجار ونثرها الهواء، كأنه يريد أن يكفن بها أزهارا قضت لوعة عندما ودعها الصيف. تعالي فقد رحلت الطيور نحو الساحل، وحملت معها أنس الرياض وخلفت الوحشة للياسمين والسيسبان، فبكى باقي الدموع على أديم التراب.
لنرجع؛ فالجداول قد وقفت عن مسيرها، والعيون نشفت دموع قرحها، والطلول خلعت باهي أثوابها. تعالي يا محبوبتي؛ فالطبيعة قد راودها النعاس فأمست تودع اليقظة بأغنية نهاوندية مؤثرة.
الشتاء
اقتربي يا شريكة حياتي، اقتربي مني ولا تدعي أنفاس الثلوج تفصل جسمينا. اجلسي بجانبي أمام هذا الموقد؛ فالنار فاكهة الشتاء الشهية. حدثيني بمآتي الأجيال؛ فآذاني قد تعبت من تأوه الأرياح وندب العناصر. أوصدي الأبواب والنوافذ؛ فمرأى وجه الجو الغضوب يحزن نفسي، والنظر إلى المدينة الجالسة كالثكلى تحت أطباق الثلوج يدمي قلبي. اسقي السراج زيتا يا رفيقة عمري؛ فقد أوشك أن ينطفئ، وضعيه بالقرب منك لأرى ما كتبته الليالي على وجهك. هاتي جرة الخمر لنشرب ونذكر أيام العصر.
اقتربي: اقتربي مني يا حبيبة نفسي، فقد خمدت النار وكاد الرماد يخفيها. ضميني فقد انطفأ السراج وتغلبت عليه الظلمة. ها قد أثقلت أعيننا خمرة السنين، ارمقيني بعين كحلها النعاس، عانقيني قبل أن يعانقنا الكرى، قبليني فالثلج قد تغلب على كل شيء إلا قبلتك، آه يا حبيبتي، ما أعمق بحر النوم! آه، ما أبعد الصباح في هذا العالم!
في مدينة الأموات
تملصت بالأمس من غوغاء المدينة وخرجت أتمشى في الحقول الساكنة، حتى بلغت أكمة عالية ألبستها الطبيعة أجمل حلاها، فوقفت وقد بانت المدينة بكل ما فيها من البنايات الشاهقة والقصور الفخمة تحت غيمة كثيفة من دخان المعامل.
جلست أتأمل عن بعد في أعمال الإنسان، فوجدت أكثرها عناء، فحاولت في قلبي ألا أفتكر بما صنعه آدم، وحولت عيني نحو الحقل كرسي مجد الله، فرأيت في وسطه مقبرة ظهرت فيها الأجداث الرخامية المحاطة بأشجار السرو.
هناك بين مدينة الأحياء ومدينة الأموات جلست أفكر، أفكر في كيفية العراك المستمر والحركة الدائمة في هذه، وفي السكينة السائدة والهدوء المستقر في تلك. من الجهة الواحدة آمال وقنوط، ومحبة وبغضة، وغنى وفقر، واعتقاد وجحود. ومن الأخرى تراب في تراب تقلب الطبيعة بطنه ظاهرا، وتبدع منه نباتا ثم حيوانا، وكل ذلك يتم في سكينة الليل.
بينا أنا مستسلم لعوامل هذه التأملات، استلفت ناظري جمع غفير يسير الهويناء، تتقدمه الموسيقى وتملأ الجو ألحانا محزنة. موكب جمع بين الفخامة والعظمة، وآلف بين أشكال الناس. جنازة غني قوي، رفات ميت تتبعها الأحياء وهم يبكون ويولولون ويبثون بالهواء الصراخ والعويل.
بلغوا الجبانة فاجتمع الكهان يصلون ويبخرون، وانفرد الموسيقيون ينفخون الأبواق. وبعد قليل انبرى الخطباء فأبنوا الراحل بمنتقيات الكلام، ثم الشعراء فرثوه بمنتخبات المعاني، وكل ذلك كان يتم بتطويل ممل. وبعد قليل انقشع الجمع عن جدث تسابق في صنعه الحفارون والمهندسون، وحوله أكاليل الأزهار المنمقة بأيدي المتفننين.
رجع الموكب نحو المدينة، وأنا أنظر من بعيد وأفتكر.
ومالت الشمس نحو الغروب واستطالت خيالات الصخور والأشجار، وأخذت الطبيعة تخلع أثواب النور.
في تلك الدقيقة نظرت فرأيت رجلين يقلان تابوتا خشبيا، ووراءهما امرأة ترتدي أطمارا بالية، وهي حاملة على منكبيها طفلا رضيعا، وبجانبها كلب ينظر إليها تارة وإلى التابوت أخرى. جنازة فقير حقير، وراءها زوجة تذرف دموع الأسى، وطفل يبكي لبكاء أمه، وكلب أمين يسير وفي مسيره حزن وكآبة.
وصل هؤلاء إلى المقبرة وأودعوا التابوت حفرة في زاوية بعيدة عن الأجداث الرخامية، ثم رجعوا بسكينة مؤثرة والكلب يلتفت نحو محط رحال رفيقه، حتى اختفوا عن بصري وراء الأشجار.
فالتفت إذ ذاك نحو مدينة الأحياء وقلت في نفسي: تلك للأغنياء الأقوياء.
ثم نحو مدينة الأموات وقلت: هذه للأغنياء الأقوياء. فأين موطن الفقير الضعيف يا رب؟
قلت هذا ونظرت نحو الغيوم المتلبدة المتلونة أطرافها بذهب من أشعة الشمس الجميلة، وسمعت صوتا من داخلي يقول: هناك.
وعظتني نفسي
وعظتني نفسي فعلمتني حب ما يمقته الناس ومصافاة من يضاغنونه، وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في المحب، بل في المحبوب، وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطا دقيقا مشدودا بين وتدين متقاربين، أما الآن فقد تحول إلى هالة، أولها آخرها وآخرها أولها، تحيط بكل كائن، وتتوسع ببطء لتضم كل ما سيكون. •••
وعظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة، وأن أحدق متبصرا بما يعده الناس شناعة حتى يبدو لي حسنا، وقبل أن تعظني نفسي كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان، أما الآن فقد تبدد الدخان واضمحل فلم أعد أرى سوى ما يشتعل.
وعظتني نفسي فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة، ولا تضج بها الحناجر. وقبل أن تعظني نفسي كنت كليل المسامع مريضا، لا أعي سوى الجلبة والصياح، أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة، فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور، مرتلة تسابيح الفضاء، معلنة أسرار الغيب. •••
وعظتني نفسي فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر، ولا يسكب بكئوس لا ترفع بالأيدي ولا تلمس بالشفاه. وقبل أن تعظني نفسي كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد، أخمدها بغبة من الغدير أو برشفة من جرن المعصرة. أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي، وأنا لا ولن أرتوي. ولكن في هذه الحرقة التي لا تنطفئ مسرة لا تزول. •••
وعظتني نفسي فعلمتني لمس ما لم يتجسد ولم يتبلور، وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول ، وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه. وقبل أن تعظني نفسي كنت أكتفي بالحار إن كنت باردا، والبارد إن كنت حارا، وبأحدهما إن كنت فاترا. أما الآن فقد انتثرت ملامسي المتكمشة وانقلبت ضبابا دقيقا، يخترق كل ما ظهر من الوجود ليمتزج بما خفي منه. •••
وعظتني نفسي فعلمتني استنشاق ما لا تبثه الرياحين ولا تنشره المجامر، وقبل أن تعظني نفسي كنت إن اشتهيت عطرا طلبته من البساتين أو من القوارير والمباخر. أما الآن فقد صرت أشم ما لا يحرق ولا يهرق، وأملأ صدري من أنفاس زكية لم تمر بجنة من جنات هذا العالم، ولم تحملها نسمة من نسمات هذا الفضاء.
وعظتني نفسي فعلمتني أن أقول «لبيك» عندما يناديني المجهول والخطير. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أنهض إلا لصوت مناد عرفته، ولا أسير إلا على سبل خبرتها فاستهونتها. أما الآن فقد أصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول، والسبل سلما أتسلق درجاته لأبلغ الخطر. •••
وعظتني نفسي فعلمتني ألا أقيس الزمن بقولي: «كان بالأمس وسيكون غدا.» وقبل أن تعظني نفسي كنت أتوهم الماضي عهدا لا يرد، والآتي عصرا لن أصل إليه. أما الآن فقد عرفت أن في الهنية الحاضرة كل الزمن بكل ما في الزمن مما يرجى وينجز ويحقق.
وعظتني نفسي فعلمتني أن لا أحد المكان بقولي: «هنا، وهناك، وهنالك.» وقبل أن تعظني نفسي كنت إذا ما صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيدا عن كل موضع آخر. أما الآن فقد علمت أن مكانا أحل فيه هو كل مكان، وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات. •••
وعظتني نفسي فعلمتني أن أسهر وسكان الحي راقدون، وأن أنام وهم منتبهون. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي ولا يرصدون أحلامهم في غفلتهم. أما الآن فلا أسبح مرفرفا في منامي إلا وهم يرقبونني، ولا يطيرون في أحلامهم إلا وفرحت بانعتاقهم. •••
وعظتني نفسي فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أظل مرتابا في قيمة أعمالي وقدرها، حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها. أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهو في الربيع وتثمر في الصيف ولا مطمع لها بالثناء، وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء ولا تخشى الملامة. •••
وعظتني نفسي فعلمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك ولا أدنى من الجبابرة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين؛ رجلا ضعيفا أرق له أو أزدري به، ورجلا قويا أتبعه أو أتمرد عليه. أما الآن فقد علمت أنني كونت فردا مما كون البشر منه جماعة، فعناصري عناصرهم، وطويتهم طويتي، ومنازعي منازعهم، ومحجتي محجتهم. فإن أذنبوا فأنا المذنب، وإن أحسنوا عملا فاخرت بعملهم، وإن نهضوا نهضت وإياهم، وإن تقاعدوا تقاعدت معهم. •••
وعظتني نفسي فعلمتني وأفهمتني أن السراج الذي أحمله ليس لي، والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي، فأنا وإن سرت بالنور لست بالنور، وأنا وإن كنت عودا مشدود الأوتار فلست بالعواد. •••
وعظتني نفسي يا أخي وعلمتني. ولقد وعظتك نفسك وعلمتك. فأنت وأنا متشابهان متضارعان، وما الفرق بيننا سوى أنني أتكلم عما بي وفي كلامي شيء من اللجاجة، وأنت تكتم ما بك، وفي تكتمك شيء من الفضيلة.
المليك السجين
كتبها وهو في حديقة الوحوش بنيويورك
خفف عنك أيها المليك الأسير، فلست في سجنك أشد بلاء مني في جسدي. اربض وكن متجلدا يا أبا الأهوال؛ فاضطراب أمام النوائب حري ببنات آوى، ولا يجمل بالملوك المسجونين سوى الاستهزاء بالسجن والسجان.
سكن روعك يا أبا العزم وانظر إلي، فأنا بين عبيد جبناء مثلك بين قضبان القفص، وما الفرق بيننا سوى حلم مزعج يجاور روحي، ولا يخشى الاقتراب إليك.
كلانا منفي عن بلاده بعيد عن أهله وأحبابه، فخفض عليك جأشك وكن مثلي صابرا على مضض الأيام والليالي، ساخرا بهؤلاء الضعفاء الذين يتغلبون علينا بعددهم لا بعزم أفرادهم.
وماذا عسى ينفع الزئير والضجيج والناس طرش لا يسمعون؟
لقد صرخت قبلك في آذانهم فلم أستوقف غير أشباح الدجى، وتفتحت مثلك طبقاتهم فلم أجد بينهم سوى جبان يستبسل متجبرا أمام المقيدين بالسلاسل، وضعيف يتوقح متصلبا أمام المسجونين في الأقفاص. •••
انظر أيها المليك الجبار، انظر إلى هؤلاء المحيطين بسجنك الآن، تفرس في وجوههم تجد ملامحهم ما كنت تراه في سحنات أدنى رعاياك وأعوانك في مجاهل الصحراء، فمنهم من يشبه الأرنب بضعف قلبه، ومنهم من تماثل الثعلب باحتياله، ومنهم من يضارع الأفعى بخبثه، ولكن ليس بينهم من له سلامة الأرنب، وذكاء الثعلب، وحكمة الأفعى.
انظر، فهذا كالخنزير قذارة، أما لحمه فلا يؤكل. وهذا كالجاموس خشونة، أما جلده فلا ينفع. وذاك كالحمار غباوة، ولكنه يمشي على الاثنتين. وذلك كالغراب شؤما، ولكنه يبيع نعيبه في الهياكل، وتلك كالطاوس تيها وإعجابا، أما ريشها فمستعار.
وانظر أيها السلطان المهيب، انظر إلى تلك القصور والمعاهد؛ فهي أوكار ضيقة يسكنها الإنسان، مفاخرا بزخارف سقوفها التي تحجبه عن النجوم، مغتبطا بصلابة جدرانها التي تفصله عن أشعة الشمس. هي كهوف مظلمة تذبل في ظلالها أزاهر الشباب، وتترمد في زواياها جمرة الحب، وتتحول في فضائها رسوم الأحلام إلى أعمدة من دخان. هي سرادب غريبة يتماثل فيها سرير الطفل بجانب فراش المنازع، وينتصب فيها تخت العروس بقرب نعش الميت.
وانظر أيها الأسير الجليل، انظر إلى تلك الشوارع المنفرجة والأزقة الضيقة، فهي أودية خطرة المعابر، يتربص اللصوص بين منعرجاتها، ويختبئ الخوارج في جنباتها. هي ساحة قتال مستتب بين الرغائب والرغائب، تتنازل فيها الأرواح متضاربة ولكن بغير سيوف، وتتصارع متناهشة ولكن بغير الأنياب، بل هي غابة أهوال تسكنها حيوانات داجنة المظاهر، معطرة الأذناب، مسقولة القرون، لا تقضي شرائعها ببقاء الأنسب، بل بدوام الأروغ والأحبل. ولا تئول تقاليدها إلى الأفضل والأقوى، بل إلى الأخبث والأكذب. أما رجالها فليست أسدا نظيرك، بل هم مخاليق عجيبة، لهم مناقب النسور، وبراثن الضبع، وألسنة العقارب، ونقيق الضفادع. •••
فدتك روحي أيها المليك، فقد أطلت الوقوف لديك، وأسهبت بالكلام أمامك، ولكن هو القلب المخلوع عن عرشه يتعزى بالملوك المخلوعين، وهي النفس السجينة المستوحشة تستأنس بالسجناء والمستوحشين. فسامح فتى يلوك الكلام متسليا به عن الطعام، ويرتشف الأفكار مستعيضا بها عن الشراب.
إلى اللقاء أيها الجبار المهيب ، فإن لم يكن اللقاء في هذا العالم الغريب فسيكون في عالم الأشباح، حيث تجتمع أرواح الملوك بأرواح الشعراء.
موت الشاعر حياته
خيم الليل بجنحه فوق المدينة وألبسها الثلج ثوبا، وهزم البرد ابن آدم من الأسواق فاختبأ في أوكاره، وكانت الأرواح تتأوه بين المساكن كمؤبن وقف بين القبور الرخامية يرثي فريسة الأسد.
وكان في أطراف الأحياء بيت حقير تداعت أركانه وأثقلته الثلوج حتى أوشك أن يسقط، وفي إحدى زوايا ذلك البيت فراش بال عليه محتضر ينظر إلى سراج ضعيف يغالب الظلمة فتغلبه. فتى في ربيع العمر قد علم بقرب أجل انعتاقه من قيود الحياة، فصار ينتظر المنية وعلى وجهه المصفر نور الأمل، وعلى شفتيه ابتسامة محزنة. شاعر جاء ليفرح قلب إنسان بأقواله الجميلة، يموت جوعا في مدينة الأحياء الأغنياء. نفس شريفة هبطت مع نعم الإله لتجعل الحياة عذبة، تودع دنيانا قبل أن تبتسم لها الإنسانية. منازع يتنهد أنفاسه الأخيرة وليس بقربه سوى سراج كان رفيق وحدته، وأوراق عليها خيالات روحه اللطيفة.
جمع ذلك الفتى المحتضر بقايا قوة قاربت الفناء، ورفع يديه نحو العلاء وحرك أجفانه الذابلة، كأنه يريد أن يخترق بنظراته الأخيرة سقف ذلك الكوخ البالي ليرى النجوم. ثم قال: تعالي أيتها المنية الجميلة فقد اشتاقتك نفسي، اقتربي وحلي قيود المادة، فقد تعبت من جرها. تعالي أيتها الحلوة وأنقذيني من بين البشر الذين يحسبونني غريبا عنهم؛ لأني أترجم ما أسمعه من الملائكة إلى لغة البشرية. أسرعي نحوي فقد تخلى عني الإنسان وطرحني في زوايا النسيان؛ لأني لم أكن طامعا بالمال نظيره ولا باستخدام من هو أضعف مني. تعالي إلي أيتها المنية العذبة وخذيني، فأولاد بجدتي لا يحتاجون إلي. ضميني إلى صدرك المملوء محبة، قبلي شفتي اللتين لم تذوقا طعم قبلة الوالدة، ولا لمستا وجنة الأخت، ولا لثمتا ثغر المحبوبة. وأسرعي وعانقيني يا حبيبتي المنية. إذ ذاك انتصب بجانب فراش المنازع طيف امرأة ذات مجال غير بشري، ترتدي ثوبا ناصعا كالثلج، وتحمل بيدها إكليل زنابق من نبت الحقول العلوية، ثم دنت منه وعانقته، وأغمضت عينيه كي يراها بعين نفسه، وقبلت شفتيه قبلة محبة، قبلة تركت على شفتيه ابتسامة استكفاء. وفي تلك الدقيقة أصبح ذلك البيت خاليا من التراب، وبعض الأوراق منثورة في زوايا الظلام.
مرت الأجيال وسكان تلك المدينة غرقى في سبات الجمود وكرى الإهمال وعدم الاكتراث، ولما أفاقوا ورأت عيونهم فجر المعرفة؛ أقاموا لذلك الشاعر تمثالا عظيما في وسط الساحة العمومية، وعيدوا له في كل عام عيدا ... آه ما أجهل الإنسان!
الشاعر البعلبكي
1
في مدينة بعلبك سنة 112 قبل الميلاد
جلس الأمير على عرشه الذهبي المحاط بالمسارج المشتعلة والمباخر المتقدة، فجلس القواد والكهان عن يمينه وشماله، ووقف الجنود والعبيد أمامه وقوف الأنصاب أمام وجه الشمس.
بعد هنيهة وقد انتهى المرتلون من إنشادهم وتوارت أنفاسهم بين طيات أثواب الليل، وقف كبير الوزراء أمام الأمير، وقال بصوت تهدجه ضآلة الشيخوخة: «أيها الأمير العظيم، قد جاء المدينة بالأمس حكيم من حكماء الهند ذو أطوار غريبة ومذاهب جديدة لم نسمع قط بمثلها، فهو يدعو الناس إلى الاعتقاد بتقمص الأرواح من جسد إلى جسد وانتقال النفوس من جيل إلى جيل، حتى تبلغ الكمال وتصير إلى مصف الآلهة. وقد جاء الليلة طالبا الدخول عليك ليبسط تعاليمه أمامك.»
فهز الأمير رأسه وقال مبتسما: «من بلاد الهند تأتي الغرائب والعجائب. فأدخلوه لنسمع حجته.» ولم تمر دقيقة حتى دخل القاعة كهل أسمر اللون مهيب المنظر، ذو عينين كبيرتين وملامح منفرجة تتكلم بلا نطق عن أسرار عميقة وأميال غريبة. وبعد أن انحنى مستأذنا رفع رأسه وتلمعت عيناه، وطفق يتكلم عن بدعته مظهرا كيف تنتقل الأرواح من هيكل إلى هيكل، مرتقية بعوامل الوسط الذي تختاره، متدرجة بتأثيرات الأمور التي تختبرها، متمايلة مع الأمجاد التي ترفعها وتقويها، نامية مع الحب الذي يسعدها ويشقيها، ثم تطرق إلى كيفية انتقال النفوس من مكان إلى مكان، باحثة عما تحتاج إليه من الكماليات، مفكرة في حاضرها عن ذنوب اقترفتها في ماضيها، مستغلة في بلد ما زرعته في بلد آخر.
ولما طال الكلام، وقد بدت على ملامح الأمير سيما الملل والضجر، اقترب كبير الوزراء من الحكيم وهمس في أذنه قائلا: «كفى الآن. فدع البحث إلى فرصة ثانية.»
فتراجع الحكيم إلى الوراء وجلس بين الكهان مطبقا أجفانه، كأن عينيه قد تعبتا من التحديق في خفايا الوجود وأسراره.
وبعد سكينة شبيهة بغيبوبة الأنبياء تلفت الأمير إلى اليمين وإلى اليسار ثم سأل قائلا: «أين شاعرنا؟ فقد مر زمن ولم نره. ماذا حل به وقد كان يحضر مجلسنا كل ليلة؟»
فقال أحد الكهان: «قد رأيته منذ أسبوع جالسا في رواق هيكل عشتروت، وهو ينظر بعينين جامدتين كئيبتين نحو الشفق البعيد، كأنه أضاع بين الغيوم قصيدة من قصائده.»
وقال أحد القواد: «قد رأيته بالأمس واقفا بين أشجار السرو والصفصاف، فحييته ولم يرد التحية، بل ظل غارقا في بحر أفكاره وأحلامه.»
وقال رئيس الخصيان: «قد رأيته اليوم في حديقة القصر، فدنوت منه فوجدته أصفر اللون شاحب الوجه، تراود الدموع أجفانه وتتلاعب الغصات بأنفاسه.»
فقال الأمير بصوت تلاحقه اللهفة: «اذهبوا وابحثوا عنه وعودوا به مسرعين، فقد أشغل بالنا أمره.»
خرج العبيد والجنود يبحثون عن الشاعر، وظل الأمير وأعوانه صامتين حائرين مترقبين، كأن نفوسهم قد شعرت بوجود شبح غير منظور منتصب في وسط تلك القاعة.
وبعد هنيهة عاد رئيس الخصيان وارتمى على قدمي الأمير كطائر رماه الصياد بسهم، فصرخ به الأمير قائلا: «ما الخبر؟ ماذا جرى؟»
فرفع الزنجي رأسه وقال مرتعشا: «قد وجدنا الشاعر ميتا في حديقة القصر.» فانتصب الأمير وقد علت سحنته سيما الحزن والكمد، ثم خرج إلى الحديقة يتقدمه حاملو المسارج ويتبعه القواد والكهان، ولما بلغوا أطرف الحديقة حيث أشجار اللوز والرمان، جلت لهم أشعة السرج الصفراء جثة هامدة مرتمية على الأعشاب كغصن ورد ذابل.
فقال أحد الأعوان: «انظروا كيف عانق قيثارته كأنها صبية حسناء. أحبها وأحبته، فتعاهدا على أن يموتا معا.»
وقال أحد القواد: «لم يحدق في أعماق الفضاء كعادته كأنه يرى بين الكواكب خيال إله غير معروف.»
وقال رئيس الكهان مخاطبا الأمير: «غدا نقبره في ظلال هيكل عشتروت المقدسة، فيسير سكان المدينة وراء نعشه وينشد الفتيان قصائده وتنثر العذارى الأزهار على ضريحه. لقد كان شاعرا عظيما، فليكن احتفالنا بدفنه عظيما.»
فهز الأمير رأسه دون أن يحول عينيه عن وجه الشاعر المتشح بنقاب الموت، ثم قال ببطء: «لا، لا، لقد أهملناه إذ كان حيا يملأ جوانب البلاد من أشباح نفسه ويعطر الفضاء بأنفاسه، فإذا ما أكرمناه ميتا تسخر بنا الآلهة وتضحك منا عرائس المروج والأودية. ادفنوه ها هنا حيث فاضت روحه وأبقوا قيثارته بين ذراعيه. وإن كان بينكم من يريد أن يكرمه فليذهب إلى بيته ويخبر أبناءه بأن الأمير قد أهمل شاعره فمات كئيبا وحيدا منفردا.»
ثم التفت حوله وزاد قائلا: «أين الفيلسوف الهندي؟»
فتقدم الفيلسوف وقال: «ها أنذا أيها الأمير العظيم.»
فقال الأمير: «قل، قل أيها الحكيم، هل ترجعني الآلهة أميرا إلى هذا العالم وتعيده شاعرا؟ هل تلبس روحي جسد ابن مليك عظيم وتتجسم روحه في جسد شاعر كبير؟ هل توقفه النواميس ثانية أمام وجه الأبدية لينظم الحياة شعرا، وتعيدني لأنعم عليه وأفرح قلبه بالمواهب والعطايا؟»
فأجاب الفيلسوف قائلا: «كل ما تشتاقه الأرواح تبلغه الأرواح، فالناموس الذي يعيد بهجة الربيع بعد انقضاء الشتاء سيعيدك أميرا عظيما ويعيده شاعرا كبيرا.»
فانفرجت ملامح الأمير وانتعشت نفسه، ثم مشى نحو قصره مفكرا في أقوال الحكيم الهندي، محدثا ذاته بقوله: «كل ما تشتاقه الأرواح تبلغه الأرواح.»
2
في مصر، القاهرة، سنة 1912 للميلاد
طلع القمر وألقى وشاحه الفضي على المدينة، وأمير البلاد جالس في شرفة قصره، ينظر إلى الفضاء الصافي مفكرا بمآتي الأجيال التي مرت متتابعة على ضفاف النيل، مستوضحا أعمال الملوك الفاتحين الذين وقفوا أمام هيبة أبي الهول، مستعرضا مواكب الشعوب والأمم التي سيرها الدهر من جوانب الأهرام إلى قصر عابدين.
ولما اتسعت دائرة أفكاره وانبسطت مسارح أحلامه، التفت نحو نديمه الجالس بقربه وقال: «في نفسنا الليلة ميل إلى الشعر، فأنشدنا شيئا منه.»
فحنى النديم رأسه وأخذ ينشد قصيدة لشاعر جاهلي.
فقاطعه الأمير قائلا: «أنشدنا شعرا أحدث عهدا.»
فانحنى النديم ثانية وابتدأ يردد أبياتا لأحد الشعراء المخضرمين، فقاطعه الأمير وقال أيضا : «أحدث عهدا، أحدث عهدا.»
فانحنى النديم للمرة الثالثة وأخذ يترنم بمقاطيع موشح أندلسي. فقال الأمير: «أنشدنا قصيدة لشاعر معاصر.»
فرفع النديم يده إلى جبهته كأنه يريد أن يستحضر إلى حافظته كل ما نظمه شعراء العصر.
ثم برقت عيناه وتهلل وجهه وطفق يرتل أبياتا خيالية ذات رنة سحرية، ومعان رقيقة مبتكرة، وكنايات لطيفة نادرة، تحاور النفس فتملؤها شعاعا، وتحيط بالقلب فتذيبه انعطافا.
فحدق الأمير بنديمه، وقد استهوته نغمة الأبيات ومعانيها، وشعر بوجود أياد خفية تجذبه من ذلك المكان إلى مكان قصي، ثم سأل قائلا: «لمن هذه الأبيات؟»
فأجاب النديم: «للشاعر البعلبكي.»
الشاعر البعلبكي.
الشاعر البعلبكي. كلمتان غريبتان تموجتا في مسامع الأمير، وولدتا في داخل روحه النبيلة أشباح أميال ملتبسة بوضوحها قوية بدقتها.
الشاعر البعلبكي، اسم قديم جديد، أعاد إلى نفس الأمير رسوم أيام منسية، وأيقظ في أعماق صدره خيالات تذكارات هاجعة، ورسم أمام عينيه بخطوط شبيهة بثنايا الضباب، صورة فتى ميت يعانق قيثارة، وقد وقف حوله القواد والكهان والوزراء.
وأمحت هذه الرؤيا أمام عيني الأمير مثل ما تتوارى الأحلام بمجيء الصباح، فوقف ومشي جامعا ذراعيه على صدره مرددا آية النبي العربي:
كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون .
ثم التفت نحو نديمه قائلا: يسرنا وجود الشاعر البعلبكي في بلادنا، وسوف نقربه ونكرمه. وبعد دقيقة زاد بصوت منخفض: إنما الشاعر طائر غريب المزايا، يفلت من مسارحه العلوية ويجيء هذا العالم مغردا، فإن لم نكرمه يفتح جناحيه ويعود طائرا إلى موطنه. وانقضى الليل، فخلع الفضاء أثوابه المرصعة بالنجوم، ولبس قميصه المنسوج من أشعة الصباح، ونفس أمير البلاد يتمايل بين عجائب البلاد وغرائبه، وخفايا الحياة وأسرارها.
الناس عبيد الحياة
إنما الناس عبيد الحياة، وهي العبودية التي تجعل أيامهم مكتنفة بالذل والهوان، ولياليهم مغمورة بالدماء والدموع. ها قد مر سبعة آلاف سنة على ولادتي الأولى، وللآن لم أر غير العبيد المستسلمين والسجناء المكبلين.
لقد جبت مشارق الأرض ومغاربها، وطفت في ظل الحياة ونورها، وشاهدت مواكب الأمم والشعوب سائرة من الكهوف إلى الصروح ، ولكن لم أر للآن غير رقاب منحنية تحت الأثقال، وسواعد موثوقة بالسلاسل، وركب جاثية أمام الأصنام.
قد اتبعت الإنسان من بابل إلى باريس، ومن نينوى إلى نيويورك، ورأيت آثار قبوره مطبوعة على الرمال بجانب آثار أقدامه. وسمعت الأودية والغابات تردد صدى الأجيال والقرون.
وخلت القصور والمعابد والهياكل، ووقفت حذاء العروش والمذابح والمقابر، فرأيت العامل عبدا للتجار، والتجار عبدا للجندي، والجندي عبدا للحاكم، والحاكم عبدا للملك، والملك عبدا للكاهن، والكاهن عبدا للصنم، والصنم تراب جبلته الشياطين ونصبته فوق رابية من جماجم الأموات.
دخلت منازل الأغنياء الأقوياء وأكواخ الفقراء الضعفاء، ووقفت في المخادع الموشاة بقطع العاج وصفائح الذهب، وفي المهاوي المفعمة بأشباح اليأس وأنفاس المنايا، فرأيت الأطفال يرضعون العبودية مع اللبن، والصبيان يتلقنون الخضوع مع حروف الهجاء، والصبايا يرتدين الملابس مبطنة بالانقياد والخضوع، والنساء يهجعن على أسرة الطاعة والامتثال.
اتبعت الأجيال من ضفاف الكنج إلى شاطئ الفرات، إلى مصب النيل، إلى جبل سينا، إلى مساحات أثينا، إلى كنائس رومية، إلى أزقة القسطنطينية، إلى مسارح باريس إلى بنايات لندن، فرأيت العبودية تسير بكل مكان في موكب العظمة والجلال، والناس ينحرون الفتيان والعذارى على مذابحها ويدعونها ملكا، ثم يحرقون البخور أمام تماثيلها ويدعونها نبيا، ثم يخرون ساجدين لديها ويدعونها شريعة، ثم يتحاربون ويتقاتلون من أجلها ويدعونها وطنية، ثم يستسلمون إلى مشيئتها ويدعونها ظل الله على الأرض، ثم يحرقون منازلهم ويهدمون مبانيهم بإيرادتها ويدعونها إخاء ومساواة، ثم يجدون ويجاهدون في سبيلها ويدعونها مالا وتجارة ... فهي ذات أسماء عديدة وحقيقة واحدة، ومظاهر كثيرة لجوهر واحد، بل هي علة أزلية أبدية تجيء بأغراض متباينة وقروح مختلفة، يتوارثها الأبناء عن الآباء مثل ما يتوارثون نسمة الحياة. وتسلقي بذورها العصور مثلما تشتغل الفصول ما ترعه الفصول. وأغرب ما لقيت من أنواع العبادات وأشكالها: العبودية العمياء، وهي التي توثق حاضر الناس بماضي آبائهم، وتنيخ نفوسهم أمام تقاليد جدودهم. تجعلهم أجسادا جديدة لأرواح عتيقة، وقبورا مكلسة لعظام بالية.
والعبودية الخرساء:
وهي التي تعلق أيام الرجل بأذيال الزوجة التي يمقتها، وتلصق جسد المرأة بمضجع الزوج الذي تكرهه، وتجعلها من الحياة بمنزلة النعل من القدم.
والعبودية الصماء:
وهي التي تكره الأفراد على اتباع مشارب محيطهم، والتلون بألوانه والارتداء بأزيائه، فيصبحون من الأصوات كرجع الصدى، ومن الأجسام كالخيالات.
والعبودية العرجاء:
وهي التي تضع رقاب الأشداء تحت سيطرة المحتالين، وتسلم عزم الأقوياء إلى أهواء الطامعين بالمجد والاشتهار، فيمسون مثل آلات تحركها الأصابع، ثم توقفها، ثم تكسرها.
والعبودية الشمطاء:
وهي التي تهبط بأرواح الأطفال من الفضاء المتسع إلى منازل الشقاء، حيث تقيم الحاجة بجانب الغباوة، ويقطن الذل في جوار القنوط، فيشبون تعساء ويعيشون مجرمين ويموتون مرذولين.
والعبودية الرقطاء:
وهي التي تبتاع الأشياء بغير أثمانها، وتسمي الأمور بغير أسمائها، فتدعو الاحتيال ذكاء، والثرثرة معرفة، والضعف لينا، والجبونة إباء.
والعبودية العرجاء:
وهي التي تحرك بالحذق ألسنة الضعفاء، فيتكلمون بما لا يشعرون، ويتظاهرون بما لا يضمرون، ويصبحون بين أيدي المسكنة مثل ثوب تطويه وتنشره.
والعبودية الحدباء:
وهي التي تقود قوما بشرائع آخرين.
والعبودية السوداء:
وهي التي تسم بالعار أبناء المجرمين الأبرياء.
والعبودية للعبودية نفسها:
وهي قوة الاستمرار.
ولما تعبت من ملاحظة الأجيال، ومللت النظر إلى مواكب الشعوب والأمم، جلست وحيدا في وادي الأشباح، حيث تختبئ خيالات الأزمنة الغابرة وتربض أرواح الأزمنة الآتية. هناك رأيت شبحا هزيلا يسير منفردا محدقا إلى وجه الشمس، فسألته: «من أنت؟ وما اسمك؟» قال: «اسمي الحرية.» قلت: «وأين أبناؤك؟» قال: «واحد مات وواحد لم يولد.» ثم توارى عن عيني وراء الضباب.
الجنية الساحرة
إلى أين تسيرين بي أيتها الساحرة؟
حتام أتبعك على هذه الطريق الوعرة، المناسبة بين الصخور، المفروشة بالأشواك، المتصاعدة بأقدامنا نحو الأعالي، الهابطة بنفسينا إلى الأعماق؟
قد تمسكت بأذيالك وسرت وراءك كطفل يلاحق أمه، متناسيا ما بي من الأحلام، محدقا بما فيك من الجمال، متعاميا عن مواكب الأشباح المتطايرة حول رأسي، مجذوبا بالقوة الخفية الماكنة في جسدك.
قفي بي هنيهة لأرى وجهك. انظري إلي دقيقة لعلي أرى في عينيك أسرار صدرك، وأفهم من ملامحك مخبآت نفسك.
قفي قليلا أيتها الجنية ، فقد مللت المسير وارتعدت روحي من مخاوف الطريق. قفي فقد بلغنا ملتقى السبل حيث يعانق الموت الحياة، ولن أسير خطوة أخرى حتى تستعلن روحي نيات روحك، ويستوضح قلبي خزائن قلبك. •••
اسمعي أيتها الجنية الساحرة:
كنت بالأمس طائرا حرا أتنقل بين السواقي، وأسبح في الفضاء، وأجلس على أطراف الغصون عند المساء متأملا بالقصور والهياكل، في مدينة الغيوم المتلونة التي تبنيها الشمس عند الأصيل وتهدمها قبل الغروب.
بل كنت كالفكر، أسير منفردا في مشارق الأرض ومغاربها، فرحا بمحاسن الحياة وملذاتها، متقصيا خفايا الوجود وأسراره.
بل كنت كالحلم أسعى تحت جنح الليل، وأدخل من شقوق النوافذ إلى خدور العذارى النائمات وأتلاعب بعواطفهن، ثم أقف بجانب أسرة الفتيان وأثير أميالهم، ثم أجلس بقرب مضاجع الشيوخ وأستجلي أفكارهم.
واليوم وقد لقيتك أيتها الساحرة، وتسممت بقبل يديك، فقد أصبحت مثل أسير أجر قيودي إلى حيث لا أدري. بل صرت مثل نشوان أستزيد من الخمر التي سلبتني إرادتي، وألثم الكف التي صفعت وجهي. •••
ولكن، قفي قليلا أيتها الساحرة، فها قد استرجعت قواي وكسرت القيود التي برت قدمي، وسحقت الكأس التي شربت منها السم الذي استطيبته. فماذا تريدين أن نفعل؟ وعلى أية طريق تريدين أن نسير؟
قد استرديت حريتي، فهل ترضين بي رفيقا حرا «يحدق بوجه الشمس بأجفان جامدة، ويقبض على النار بأصابع غير مرتعشة؟»
لقد فتحت جناحي ثانية، فهل تصبحين فتى يصرف الأيام متنقلا كالنسر بين الجبال، ويقضي الليالي رابضا كالأسد في الصحراء؟
هل تكتفين بحب رجل يتخذ الحب نديما ويأباه سيدا؟
هل تقنعين بشغف قلب يهيم ولا يستسلم، ويشتعل ولكنه لا يذوب؟
هل ترتاحين إلى أميال نفس ترتعش أمام العاصفة ولكنها لا تنهصر، وتثور مع الزوابع ولكنها لا تقتلع من مكانها؟
هل ترضين بي صاحبا لا يستعبد ولا يستعبد؟
إذا هذه يدي فهزيها بيدك الجميلة، وهذا جسدي فضميه بذراعيك الناعمتين، وهذا فمي فقبليه قبلة طويلة، عميقة، خرساء.
قبل الانتحار
في هذه الغرفة المنفردة الهادئة قد جلست بالأمس المرأة التي أحبها قلبي.
إلى هذه المساند الوردية الناعمة قد ألقت رأسها الجميل، ومن هذه الكأس البلورية قد شربت جرعة من الخمر ممزوجة بقطرة من العطر.
كل ذلك قد كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود، أما اليوم فقد ذهبت المرأة التي أحبها قلبي إلى أرض بعيدة، خالية، مقفرة، باردة، تدعى بلاد الخلو والنسيان.
إن آثار أصابع المرأة التي أحبها قلبي لم تزل ظاهرة على بلور مرآتي، وعطر أنفاسها ما برح متضوعا بين طيات أثوابي، وصدى صوتها لم يضمحل بعد من زوايا منزلي. ولكن المرأة نفسها - المرأة التي أحبها قلبي - قد رحلت إلى مكان قصي يدعى وادي الهجر والسلوان، أما آثار أصابعها وعطر لهاثها وأشباح روحها فستبقى في هذه الغرفة حتى صباح الغد، وعند ذلك أفتح نوافذ منزلي لتدخل أمواج الهواء وتجرف بتيارها كل ما تركته لي تلك الساحرة الحسناء.
إن رسم المرأة التي أحبها قلبي لم يزل معلقا بجانب مضجعي، ورسائل الحب التي بعثت إلي ما برحت في العلبة الفضية المرصعة بالعقيق والمرجان، وذؤابة الشعر الذهبية التي حبتني بها تذكارا، لم تخرج قط من الغلاف الحريري المبطن بالمسك والبخور، جميع هذه الأشياء ستبقى في أماكنها حتى الصباح. وعند مجيء الصباح أفتح نوافذ منزلي ليدخل الهواء ويحملها إلى ظلمة العدم، إلى حيث تقطن السكينة الخرساء.
إن المرأة التي أحبها قلبي شبيهة بالنساء اللواتي أحبتهن قلوبكم أيها الفتيان. هي مخلوقة عجيبة، صنعتها الآلهة من وداعة الحمامة، وتقلبات الأفعى، وتيه الطاوس، وشراسة الذئب، وجمال الوردة البيضاء، وهول الليلة السوداء، مع قبضة من الرماد، وغرفة من زبد البحر.
وقد عرفت المرأة التي أحبها قلبي أيام الطفولة، فكنت أركض وراءها في الحقول وأتمسك بأذيالها في الشوارع.
وعرفتها أيام الصبا، فكنت أرى خيال وجهها في وجوه الكتب والأسفار، وأشاهد خطوط قامتها بين غيوم المساء، وأسمع نغمة صوتها متصاعدة مع خرير السواقي.
وعرفتها أيام الرجولة، فكنت أجالسها محدثا وأسألها مستفتيا، وأقترب منها شاكيا ما في قلبي من الأوجاع، باسطا ما في روحي من الأسرار.
كل ذلك كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود. أما اليوم فقد ذهبت تلك المرأة إلى أرض بعيدة خالية مقفرة باردة، تدعى بلاد الخلو والنسيان. •••
أما اسم المرأة التي أحبها قلبي فهو الحياة.
فالحياة امرأة حسناء تستهوي قلوبنا وتستغوي أرواحنا، وتغمر وجداننا بالوعود، فإن أمطلت أماتت فينا الصبر، وإن أبرت أيقظت فينا الملل.
الحياة امرأة تستحم بدموع عشاقها، وتتعطر بدماء قتلاها.
الحياة امرأة ترتدي بالأيام البيضاء المبطنة بالليالي السوداء.
الحياة امرأة ترضى بالقلب البشري خليلا وتأباه حليلا.
الحياة امرأة عاهرة ولكنها جميلة، ومن ير عهرها يكره جمالها.
الشيطان
كان الخوري سمعان عالما بدقائق الأمور الروحية، متبسطا بالمسائل اللاهوتية، متعمقا بأسرار الخطايا العرضية والمميتة، متضلعا بخفايا الجحيم والمطهر والفردوس.
وكان يتنقل بين قرى شمال لبنان؛ ليعظ الناس، ويشفي أرواحهم من أمراض الإثم، وينقذهم من حبائل الشيطان، فالشيطان كان عدو الخوري سمعان، يحاربه ليلا ونهارا بلا ملل ولا تعب.
وكان سكان القرى يكرمون الخوري سمعان، ويرتاحون إلى ابتياع عظاته وصلواته بالفضة والذهب، ويتسابقون إلى إهدائه أطيب ما تثمره أشجارهم، وأفضل ما تنبته حقولهم.
ففي عشية يوم من أيام الخريف، وقد كان الخوري سمعان سائرا في مكان خال نحو قرية منفردة بين تلك الجبال والأودية، سمع أنينا موجعا آتيا من جانب الطريق، فالتفت فإذا برجل عاري الجسم منطرح على الحصباء، ونجيع الدم يتدفق من جراح بليغة في رأسه وصدره، وهو يقول مستنجدا: «أنقذني، أعني، أشفق علي فأنا مائت!»
فوقف الخوري سمعان محتارا، ونظر إلى الرجل المتوجع، ثم قال في ذاته: «هذا أحد اللصوص الأشقياء، وأظن أنه قد حاول سلب عابري الطريق، فغلب على أمره ... هو منازع، فإذا مات وأنا بقربه اتهمت بما أنا براء منه!»
قال هذا وهم ليتابع السير، فأوقفه الجريح بقوله: «لا تتركني، لا تتركني. أنت تعرفني، وأنا أعرفك. أنا مائت لا محالة!»
فقال الخوري في ذاته وقد اصفر وجهه وارتعشت شفتاه: «أظنه أحد المجانين الذين يتوهون في البرية.» ثم عاد وقال لنفسه: «إن منظر جراحه يخيفني، فماذا عسى أفعل له؟ إن طبيب النفوس لا يستطيع أن يداوي الأجساد.»
ومشى الخوري بضع خطوات، فصاح الجريح بصوت يذيب الجماد قائلا: «اقترب مني، اقترب فنحن أصدقاء منذ زمن بعيد. أنت الخوري سمعان الراعي الصالح، وأنا، أنا لست بلص ولا بمجنون. اقترب مني ولا تدعني أموت وحيدا في هذه البرية الخالية. اقترب فأقول لك من أنا.»
فاقترب الخوري سمعان من المنازع وانحنى فوقه متفرسا، فرأى وجها غريب الخطوط، يأتلف بين تقاطيعه الذكاء بالدهاء، والقباحة بالجمال، والخباثة بالدماثة. فتراجع إلى الوراء، وصرخ قائلا: «من أنت؟»
فقال المنازع بصوت خافت: «لا تخف يا أبت فنحن أصدقاء منذ عهد بعيد. أعني على النهوض، وسر بي إلى الساقية القريبة واغسل جراحي بمنديلك.»
فصرخ الخوري: «قل لي من أنت، فأنا لا أعرفك، ولا أذكر بأنني رأيتك في حياتي.»
فأجاب الجريح وحشرجة الموت تعانق صوته: «أنت تعلم من أنا، فقد لقيتني ألف مرة وشاهدت وجهي في كل مكان. أنا أقرب المخلوقات إليك، بل أنا أعز عليك من حياتك.»
فصاح الخوري قائلا: «أنت كاذب محتال، وخليق بالمنازعين الصدق، فأنا لم أر وجهك في حياتي. قل من أنت وإلا تركتك تموت مضرجا بدمائك!»
فتحرك الجريح قليلا وشخص بعيني الخوري، وقد ظهرت على شفتيه ابتسامة معنوية، وبصوت هادئ ناعم عميق قال: «أنا الشيطان.»
فصرخ الكاهن صوتا هائلا ارتعشت له زوايا ذلك الوادي، ثم نظر إليه محدقا، فرأى أن جسد الجريح ينطبق بتفاصيله ومعالمه على هيئة الأبالسة في صورة الدينونة المعلقة على جدار كنيسة القرية، ثم صرخ مرتجفا: «لقد أراني الله صورتك الجهنمية ليزيد بك كرهي، فلتكن ملعونا إلى أبد الآبدين!»
قال الشيطان: «لا تكن متسرعا يا أبتاه، ولا تضيع الوقت بالكلام الفارغ، بل اقترب واضمد جراحي قبل أن يسيل ما في جسدي من الحياة.»
فقال الخوري: «إن أصابعي التي ترفع الذبيحة الربانية في كل يوم لن تلمس جسدك المصنوع من مفرزات الجحيم. فمت ملعونا من ألسنة الدهور، وشفاه الإنسانية؛ لأنك عدو الدهر والعامل على إبادة الإنسانية.»
فقال الشيطان متململا: «أنت لا تدري ما تقول، ولا تعلم أي ذنب تقترفه نحو نفسك. اسمع فأخبرك حكايتي: كنت اليوم سائرا وحدي في هذه الأودية المنفردة، ولما بلغت هذا المكان التقيت بجماعة من أجلاف الملائكة، فهجموا علي وضربوني ضربا مبرحا، ولو لم يكن مع أحدهم سيف ذو حدين لفتكت بهم جميعا، ولكن ماذا يفعل الأعزل مع المسلح؟»
وقف الشيطان عن الكلام هنيهة واضعا يده على جرح بليغ في جانبه، ثم زاد قائلا: «أما الملاك المسلح - وأظنه ميخائيل - فداهية يحسن ضرب السيف، ولو لم أنطرح على الأرض، وأمثل دور النزع والموت لما أبقى مني عضوا بجوار عضو آخر.»
فقال الخوري بصوت تعانقه رنة النصر والتغلب: «ليكن اسم ميخائيل مباركا، فقد أنقذ الإنسانية من عدوها الخبيث!»
فقال الشيطان: «ليست عداوتي للإنسانية أشد سوادا من عداوتك لنفسك، فأنت تبارك ميخائيل، وهو لم يفدك بشيء، وتجدف على اسمي في ساعة انكساري، مع أنني كنت ولم أزل سببا لراحتك وسعادتك. أتجحد نعمتي وتنكر معروفي وأنت عائش في ظلال كياني؟
أولم تتخذ وجودي صناعة لك واسمي دستورا لأعمالك؟ هل أغناك ماضي عن حاضري ومستقبلي؟
هل نمت ثروتك إلى حد لا تحتمل معه الزيادة؟
ألم تعلم أن زوجتك وبنيك - وهم كثيرون - يفقدون رزقهم بفقدي؟ بل يموتون جوعا بموتي؟
ماذا تفعل لو حكم القضاء باضمحلالي؟ وأية صناعة تحسنها إذا أبادت الأرياح اسمي؟
منذ خمس وعشرين سنة وأنت تسير متجولا بين قرى هذا الجبل؛ لتحذر الناس من حبائلي وتبعدهم عن مصائبي، وهم يبتاعون مواعظك بأموالهم وغلة حقولهم، فأي شيء يبتاعون منك غدا إذا علموا أن عدوهم الشيطان قد مات، وأنهم أصبحوا في مأمن من حبائله ومعاقله؟
وأية وظيفة يسندها القوم لك إذا ألغيت وظيفة محاربة الشيطان بموت الشيطان؟
ألا تعلم - وأنت اللاهوتي المدقق - أن وجود الشيطان قد أوجد أعداءه الكهان؟ وأن تلك العداوة القديمة هي اليد الخفية التي تنقل الفضة والذهب من جيوب المؤمنين إلى جيوب الوعاظ والمرشدين؟
ألا تعلم وأنت العالم الخبير أنه بزوال السبب يزول المسبب؟
إذا كيف ترضى بموتي، وبموتي تفقد منزلتك، وينقطع رزقك، ويكف الخبز عن أفواه زوجتك وبنيك»
وسكت الشيطان دقيقة، وقد تبدلت في وجهه دلائل الاستعطاف بأمارات الاستقلال، ثم عاد فقال: «ألا فأسمع أيها الغبي المكابر، فأريك الحقيقة التي تضم كياني بكيانك وتربط وجودي بوجدانك: في أول ساعة من الزمن وقف الإنسان أمام الشمس وبسط ذراعيه، وصرخ للمرة الأولى قائلا: «ما وراء الأفلاك إله عظيم يحب الخير!» ثم أدار ظهره للنور فرأى ظله منبسطا على أديم التراب، فهتف قائلا: «وفي أعماق الأرض شيطان رجيم يحب الشر!» ثم سار نحو كهفه هامسا في نفسه: «أنا بين إلهين هائلين، إله أنتمي إليه، وإله أحاربه.» ومرت العصور إثر العصور، والإنسان بين قوتين مطلقتين، قوة تصعد بروحه إلى العلاء فيباركها، وقوة تهبط بجسده إلى الظلمة فيلعنها.
غير أنه لم يكن يدري معاني البركة، ولا مباني اللعنة، بل كان بينهما كشجرة بين صيف يكسوها وشتاء يعريها.
ولما بلغ الإنسان فجر المدنية - وهي الألفة البشرية - ظهرت العائلة، ثم القبيلة، فتفرقت الأعمال بتفرق الميول، وتباينت الصناعات بتباين المشارب والمنازع، فقام البعض من تلك القبيلة بحراثة الأرض، وآخرون ببناء المآوي، وغيرهم بنسج الملابس، وغيرهم بصهر المعادن. في ذلك العصر البعيد ظهرت الكهانة في الأرض، وهي الحرفة الأولى التي ابتدعها الإنسان دون حاجة حيوية، أو داع طبيعي إليها.»
وقف الشيطان دقيقة عن الكلام، ثم قهقه ضاحكا بصوت ارتعشت له تلك الأودية الخالية، وكأن الضحك قد أوسع فوهات كلومه، فأسند خاصرته بيده متوجعا، ثم شخص بالخوري سمعان وزاد قائلا: «في ذلك العهد ظهرت الكهانة في الأرض، وإليك يا أخي كيفية ظهورها: كان في القبيلة الأولى رجل يدعى «لاويص»، ولا أدري لماذا اتخذ له هذا الاسم الغريب، وكان لاويص هذا رجلا ذكيا، ولكنه كان بطالا متوانيا، يكره حراثة الأرض وبناء المآوي بكرهه رعاية المواشي وصيد الوحوش، بل كان يكره كل عمل يستلزم عزم السواعد والحركة الجسدية.
ولما كان الرزق في ذلك العهد لا يأتي إلا بالعمل، كان لاويص يبيت أكثر لياليه خاوي الجوف فارغه.
ففي ليلة من ليالي الصيف، وأفراد تلك القبيلة ملتثمون حول كوخ زعيمهم يتحدثون بمآتى يومهم ويترقبون النعاس، انتصب أحدهم فجأة وأشار نحو القمر ، وصرخ بخوف قائلا: «انظروا نحو إله الليل، فقد شحب وجهه، واضمحل بهاؤه، وتحول إلى حجر أسود معلقا بقبة السماء.» فشخص القوم بالقمر، ثم ضجوا صارخين متهيبين مرتعشين خائفين، كأن أيدي الظلام قد قبضت على قلوبهم؛ لأنهم رأوا إله لياليهم يتحول ببطء إلى كرة قاتمة، وقد تغير لذلك وجه الأرض، وانحجبت البطاح والأودية وراء نقاب أسود. فتقدم إذ ذاك لاويص، وكان قد شهد الخسوف والكسوف مرات عديدة في سابق حياته، فوقف في وسط الجماعة رافعا ذراعيه إلى العلاء، وبصوت أودعه كل ما في ذكائه من التصنع والاحتيال صاح قائلا: «اسجدوا، اسجدوا وصلوا مبتهلين، وعفروا وجوهكم بالتراب، فإله الشر المظلم يصارع إله الليل المنير، فإذا غلبه متنا وإذا غلب بقينا عائشين. اسجدوا وصلوا وعفروا وجوهكم بالتراب، بل أغمضوا أجفانكم ولا ترفعوا رءوسكم نحو السماء؛ لأن من يشاهد صراع إله النور وإله الشر يفقد بصره ورشده، ويظل مجنونا وأعمى إلى نهاية أيامه. خروا راكعين، وساعدوا بقلوبكم إله النور على عدوه.»
وظل لاويص يتكلم بهذه اللهجة، مبتدعا من خياله ألفاظا جديدة غريبة، مرددا كلمات ما سمعوها قبل تلك الليلة. حتى إذا ما مر نصف ساعة، وقد عاد القمر إلى سابق كماله وجلاله، رفع لاويص صوته عن ذي قبل وقال بلهجة تعانقها رنة الغبطة والسرور: «قفوا الآن وانظروا، فقد تغلب إله الليل على عدوه الشرير، وتابع سيره بين الكواكب والنجوم. واعلموا أنكم بركوعكم وابتهالكم قد نصرتموه وسررتموه؛ ولذلك ترونه الآن أبهى نورا وأشد لمعانا.»
فوقف القوم وشخصوا بالقمر، فإذا به قد عاد ساطعا منيرا، فتحول خوفهم إلى طمأنينة واضطرابهم إلى مسرة، وأخذوا يقفزون راقصين، ويصرخون مهللين، ويضربون بنبابيتهم صفائح الحديد والنحاس، مفعمين خلايا ذلك الوادي بعويلهم، وضجيج لهجتهم.
في تلك الليلة استدعى زعيم القبيلة لاويص وقال له: «لقد أتيت في هذه الليلة بما لم يأته بشري قبلك، وعلمت من أسرار الحياة ما لا يعلمه بيننا سواك، فافرح وابتهج؛ لأنك ستكون من الآن وصاعدا صاحب المقام الأول من بعدي في هذه القبيلة، فأنا أشد الرجال بطشا وأقواهم ساعدا، وأنت أكثر الرجال معرفة وأكثرهم حكمة، بل أنت الوسيط بيني وبين الآلهة، تبلغني مشيئتهم، وتبين لي أعمالهم وأسرارهم، وتعلمني ما يجب أن أفعله لأكون حاصلا على رضائهم ومحبتهم.»
فأجاب لاويص: «كل ما يقوله لي الآلهة في الحلم أقوله لك في اليقظة، وما أراه من مآتيهم أظهره لك، فأنا الوسيط بينك وبين الآلهة.»
فسر الزعيم، ووهب لاويص فرسين، وسبعة عجول، وسبعين كبشا، وسبعين شاة، وقال له: «سوف يبني لك رجال القبيلة بيتا يماثل بيتي، وسيهدونك في نهاية كل موسم قسما من غلة الأرض وأثمارها، فتعيش سيدا مطاعا، مكرما.»
وانتصب إذ ذاك لاويص للانصراف، فأوقفه الزعيم وسأله قائلا: «ولكن من هو هذا الإله الذي تدعوه بإله الشر؟ من هو هذا الإله الذي يجسر أن يصارع إله الليل البهي؟ إننا لم نسمع به قط ولا علمنا بوجوده.»
ففرك لاويص جبهته وأجاب قائلا: «اعلم يا سيدي أنه كان في قديم الزمان - وذلك قبل ظهور الإنسان - كان جميع الآلهة يعيشون بسلام ومودة في مكان قصي وراء المجرة، وكان إله الآلهة - وهو والدهم - يعلم ما لا يعلمونه، ويفعل ما لا يستطيع أحدهم أن يفعله، ويحفظ لنفسه بعض الأسرار الربانية الكائنة وراء النواميس الأزلية. ففي العصر السابع من الدهر الثاني عشر تمردت روح «بعطار»، وهو يكره الإله الأعظم، فوقف أمام أبيه وقال: «لماذا تحفظ لنفسك السلطة المطلقة على جميع المخلوقات، حاجبا عنا أسرار الأكوان والنواميس والدهور؟ أولسنا أبناءك وبناتك ومشاركين لك بقوتك وخلودك؟» فغضب إله الآلهة وأجاب: «سوف أحفظ لنفسي القوة الأزلية، والسلطة المطلقة، والأسرار الأساسية إلى أبد الدهر. فأنا البدء وأنا النهاية.» فقال بعطار: «إن لم تقاسمني قوتك وجبروتك تمردت أنا وأبنائي وأحفادي على قوتك وجبروتك.» فانتصب إذ ذاك إله الآلهة فوق عرشه، وقد امتشق المجرة سيفا، وقبض على الشمس ترسا، وبصوت ارتعشت له جوانب العالم صرخ قائلا: «ألا فاهبط أيها المتمرد الشرير إلى العالم الأدنى حيث الظلمة والشقاء، وابق هناك منفيا شريدا تائها حتى تنقلب الشمس رمادا، وتتحول الكواكب إلى هباء منثور.» في تلك الساعة هبط بعطار من مقر الآلهة إلى العالم الأدنى حيث تقيم الأرواح الخبيثة، وقد أقسم بسر خلوده أنه سيصرف الدهور محاربا والده وإخواته، واضعا الأشراك لكل محب لوالده أو مريد لإخوانه.»
فقال الزعيم وقد تقلصت جبهته واصفر وجهه: «إذن فاسم إله الشر بعطار؟»
فأجاب لاويص: «كان اسمه بعطار إذ كان في مقر الآلهة، ولكنه قد اتخذ له بعد هبوطه إلى العالم الأدنى أسماء أخرى، منها: بعلزبول، وإبليس، وسنطائيل، وبليال، وزميال، وأهريمان، وماره، وأبدون، والشيطان. وأشهرها الشيطان.»
فردد الزعيم لفظة الشيطان مرات بصوت مرتعش يشابه حفيف الأغصان اليابسة لمرور الهواء، ثم قال: «ولماذا يا ترى يكره الشيطان البشر بكرهه الآلهة؟»
فأجاب لاويص: «إن الشيطان يكره البشر ويعمل على إبادتهم؛ لأنهم من نسل إخوانه وأخواته.»
فقال الزعيم محتارا: «إذا فالشيطان هو عم البشر وخالهم.»
فأجاب لاويص وقال بلهجة لا تخلو من التشويش والالتباس: «نعم يا سيدي، ولكنه عدوهم الأكبر، ومناظرهم الحقود، يملأ أيامهم بالتعاسة ولياليهم بالأحلام المخيفة. فهو القوة التي تحول العاصفة نحو أكواخهم، وتحرق بالقيظ مزارعهم، وتقرض بالأوبئة مواشيهم، وتلامس بالأمراض أجسادهم. هو إله قوي، شرير، خبيث، يضحك لشقائنا، ويكتئب لأفراحنا، فعلينا أن نتفحص أطباعه لنتقي شره، وندرس أخلاقه لنبتعد عن سبيل احتياله.»
فأسند الزعيم رأسه إلى نبوته، وهمس قائلا: «قد عرفت الآن ما كان خافيا عني من أسرار تلك القوة الغريبة التي تحول العاصفة نحو منازلنا، وتقرض بالأوبئة مواشينا، وسوف يعرف البشر كافة ما أعرفه الآن فيطوبونك يا لاويص؛ لأنك أبنت لهم خفايا عدوهم القوي، وعلمتهم كيف يتقون حبائله.»
وانصرف لاويص من أمام زعيم القبيلة، وذهب إلى مرقده فرحا بذكاء فكرته، نشوانا بخمرة خياله. أما الزعيم ورجاله فقد صرفوا تلك الليلة يتقلبون على مراقد محاطة بالأشباح المخيفة، والأحلام المزعجة.»
ووقف الشيطان الجريح دقيقة عن الكلام، والخوري سمعان يحدق فيه، وفي عينيه جمود الحيرة والاستغراب، وعلى شفتيه ابتسامة الموت.
ثم استأنف الشيطان الكلام قائلا: «كذا ظهرت الكهانة في الأرض، وهكذا كان وجودي سببا لظهورها. وقد كان لاويص أول من اتخذ عداوتي صناعة، وقد راجت هذه الصناعة بعد موت لاويص بواسطة أبنائه وأحفاده، فنمت وتدرجت حتى صارت فنا دقيقا مقدسا، لا يتخذه غير أصحاب العقول المختمرة، والنفوس الشريفة، والقلوب الطاهرة، والخيال الواسع. ففي بابل كان الناس يسجدون سبع مرات أمام الكاهن الذي يحاربني بتعازيمه. وفي نينوى كانوا ينظرون إلى الرجل الذي يدعي معرفة أسراري وخفاياي كحلقة ذهبية بين الآلهة والبشر. وفي ثيب كانوا يلقبون من يصارعني بابن الشمس والقمر. وفي بابلس وأفسس وأنطاكية كانوا يضحون أبناءهم وبناتهم إرضاء لخصمي. وفي أورشليم ورومة كانوا يضعون أرواحهم في قبضة من يتفنن في كرهي وإبعادي. في كل مدينة ظهرت أمام وجه الشمس، كان اسمي محورا لدوائر الدين، والعلم، والفن والفلسفة؛ فالهياكل لم تقم إلا في ظلالي، والمعاهد والمدارس لم تظهر بغير مظاهري، والقصور والبروج لم ترتفع إلا برفعة منزلتي؛ فأنا العزم الذي يولد العزم في البشر، وأنا الفكرة التي تستنبت الحيلة في الأفكار، وأنا اليد التي حركت أيادي الناس. أنا الشيطان الأزلي الأبدي. أنا الشيطان الذي يحاربه الناس ليظلوا عائشين، فإذا كفوا عن منازلتي يوقف الخمول أفكارهم، ويميت الكسل أرواحهم، وتفني الراحة أجسادهم. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا عاصفة هوجاء خرساء أهب في أدمغة الرجال وصدور النساء، وأجرف أميالهم إلى الأديرة والصوامع؛ ليمجدوني بخوفهم مني، أو إلى منازل البغي والخلاعة؛ ليفرحوني باستسلامهم إلى مشيئتي؛ فالراهب الذي يصلي في سكينة الليل لكي أبتعد عن مضجعه هو كالمومسة التي تناديني لكي أقترب من مضجعها. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا باني الأديرة والصوامع على أسس الخوف، وأنا مقيم الخمارات وبيوت الفحش على أسس الشهوة واللذة، فإن زال كياني زال الخوف واللذة من العالم، وبزوالهما تضمحل الميول والأماني في القلب البشري، فتصبح الحياة خالية مقفرة باردة، كقيثارة الأوتار مكسرة الجوانب. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا موحي الكذب، والنميمة، والاغتياب، والغش، والسخرية، فإذا انقرضت هذه العناصر في العالم أصبحت الجامعة البشرية كبستان مهجور، لا تنبت فيه سوى أشواك الفضيلة. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا أبو الخطيئة وأمها، فإذا ما زالت الخطيئة زال محاربوها، وزلت أنت أيضا، وزال أبناؤك وأحفادك وزملاؤك ورصفاؤك. أنا أبو الخطيئة وأمها، فهل تريد أن تموت الخطيئة بموتي؟ هل تريد أن تقف الحركة البشرية بوقوف نبضات قلبي؟ هل تريد أن تمحو السبب لتمحى المسببات؟ أنا هو السبب الوضعي، فهل تريد أن أموت في هذه البرية الخالية؟ أجبني أيها اللاهوتي: هل تريد أن تنتهي العلاقة الأولية الكائنة بينك وبيني؟»
وبسط الشيطان ذراعيه وألوى عنقه إلى الأمام وتنهد طويلا، فظهر بلونه الرمادي المائل إلى الاخضرار كأحد تلك التماثيل المصرية التي أبقاها الدهر مطروحة على ضفاف النيل. ثم حدق بوجه الخوري سمعان بعينين مشعشعتين كالمسارج، وقال: «لقد أنهكني الكلام، وكان الأحرى بي وأنا جريح منازع أن لا أطيل معك الحديث. ومن العجيب أني قد استرسلت بإظهار حقيقة أنت أدرى بها مني، وبيان أمور هي أدنى إلى صالحك منها إلى صالحي. أما الآن فلك أن تفعل ما تشاء، لك أن تحملني على ظهرك وتذهب بي إلى منزلك لتداوي جراحي، أو أن تتركني في هذا المكان لأنازع وأموت.»
وكان الشيطان يتكلم، والخوري سمعان يرتعش ويفرك يدا بيد. وبصوت تعانقه الحيرة والارتباك قال: «أنا أعرف الآن ما لم أكن أعرفه منذ ساعة، فسامح غباوتي. أنا أعلم بأنك موجود في العالم لكي تجرب، والتجربة هي مقياس يعرف الله بواسطته قدر النفوس البشرية، بل هي ميزان يستخدمه الله عز وجل ليدرك ثقل الأرواح أو خفتها. أنا أعلم الآن بأنك إذا مت تموت التجربة، وبموتها تزول تلك القوى المعنوية التي تجعل الإنسان أو يكون متحذرا، بل يزول السبب الذي يقود الناس إلى الصلاة والصوم والعبادة. يجب أن تحيا؛ لأنك إن قضيت وعرف الناس يزول خوفهم من الجحيم، فيبطلون العبادة ثم يتمرغون بالإثم؛ من أجل ذلك يجب أن تحيا؛ لأن بحياتك خلاص الجنس البشري من الرذيلة. أما أنا فسوف أضحي كرهي لك على مذبح محبتي للجنس البشري.»
فضحك الشيطان ضحكة تشابه انفجار بركان، ثم قال: «ما أذكاك وما أبرعك يا حضرة الأب! بل وما أعمق معارفك بالأمور اللاهوتية! فها قد أوجدت بقوة إدراكك سببا لوجودي لم أكن أعرفه من قبل. والآن وقد فهم كل منا الأسباب الوضعية واللاهوتية التي أوجدتنا في البدء وتوجدنا الآن، يجب أن نترك هذا المكان. اقترب يا أخي، تعال واحملني إلى بيتك، فأنا لست بثقيل الجسم. ها قد غمر الليل البطاح بعد أن أهرقت نصف دمي على حصباء هذا الوادي.»
فاقترب الخوري سمعان من الشيطان، وقد شمر عن ساعديه، وشكل أطراف عباءته بحزامه، ورفع الشيطان فوق ظهره ومشي نحو الطريق.
بين تلك الأودية المغمورة بالسكون، الموشاة بنقاب الليل، سار الخوري سمعان نحو قريته منحني الظهر تحت هيكل عار، وقد تلطخت ملابسه السوداء، وحليته المسترسلة بقطرات الدم السائلة من كلومه.
على باب الهيكل
قد طهرت شفتي بالنار المقدسة لأتكلم عن الحب، ولما فتحت شفتي للكلام وجدتني أخرس.
كنت أترنم بأغاني الحب قبل أن أعرفه، ولما عرفته تحولت الألفاظ في فمي إلى لهاث ضئيل، والأنغام في صدري إلى سكينة عميقة. وكنتم أيها الناس فيما مضى تسألونني عن غرائب الحب وعجائبه، فكنت أحدثكم وأقنعكم. أما الآن وقد غمرني الحب بوشاحه، فجئت بدوري أسألكم عن مسالكه ومزاياه، فهل بينكم من يجيبني؟ جئت أسألكم عما بي، وأستخبركم عن نفسي، فهل بينكم من يستطيع أن يبين قلبي لقلبي؟ ويوضح ذاتي لذاتي؟ ألا فأخبروني، ما هذه الشعلة التي تتقد في صدري وتلتهم قواي وتذيب عواطفي وأميالي؟
وما هذه الأيدي الخفية، الناعمة، الخشنة، التي تقبض على روحي في ساعات الوحدة والانفراد، وتسكب في كبدي خمرة ممزوجة بمرارة اللذة وحلاوة الأوجاع؟
وما هذه الأجنحة التي ترفرف حول مضجعي في سكينة الليل، فأسهر مترقبا ما لا أعرفه، مصغيا إلى ما لا أسمعه، محدقا بما لا أراه، مفكرا بما لا أفهمه، شاعرا بما لا أدركه، متأوها لأن في التأوه غصات أحب لدي من رنة الضحك والابتهاج، مستسلما إلى قوة غير منظورة تميتني وتحييني، ثم تحييني وتميتني حتى يطلع الفجر ويملأ النور زوايا غرفتي، فأنام إذ ذاك وبين أجفاني الذابلة ترتعش أشباح اليقظة، وعلى فراشي الحجري تتمايل خيالات الأحلام؟ أخبروني ما هذا السر الخفي الكامن خلف الدهور، المختبئ وراء المرئيات، الساكن في ضمير الوجود؟ ما هذه الفكرة المطلقة التي تجيء سببا لجميع النتائج، وتأتي نتيجة لجميع الأسباب؟
ما هذه اليقظة التي تتناول الموت والحياة، وتبتدع منها حلما أقرب من الحياة وأعمق من الموت؟
أخبروني أيها الناس، أخبروني هل بينكم من لا يستيقظ من رقدة الحياة إذا ما لمس الحب روحه بأطراف أصابعه؟
هل بينكم من لا يترك أباه وأمه ومسقط رأسه عندما تناديه الصبية التي أحبها قلبه؟
هل فيكم من لا يمخر البحر، ويقطع الصحارى، ويجتاز الجبال والأودية، ليلتق بالمرأة التي اختارتها روحه؟
أي فتى لا يتبع قلبه إلى أقاصي الأرض إذا ما كان له في أقاصي الأرض حبيبة، يستطيب نكهة أنفاسها، ويستلطف ملامس يديها، ويستعذب رنة صوتها؟
أي بشري لا يحرق نفسه بخورا أمام إله يسمع ابتهاله ويستجيب صلواته؟ •••
وقفت بالأمس على باب الهيكل أسأل العابرين عن خفايا الحب ومزاياه، فمر أمامي كهل مهزول القامة كاسف الوجه، وقال متأوها: «الحب ضعف فطري ورثناه عن الإنسان الأول.»
ومر فتى قوي الجسم مفتول الساعدين وقال مترنما: «الحب عزم يلازم كياننا، ويصل حاضرنا بماضي الأجيال ومستقبلها.»
ومرت امرأة كئيبة العينين وقالت متنهدة: «الحب سم قتال، تتنفسه الأفاعي السوداء المتقلبة في كهوف الجحيم، فيسيل منتشرا في الفضاء، ثم يهبط مغلفا بقطرات الندى، فترتشفه الأرواح الظامئة فتسكر دقيقة، ثم تصحوا عاما، ثم تموت دهرا.»
ومرت صبية موردة الوجنتين وقالت مبتسمة: «الحب كوثر تسكبه عرائس الفجر في الأرواح القوية، فيجعلها أن تتعالى متجمدة أمام كواكب الليل، وتسبح مترنمة أمام شمس النهار.»
ومر رجل ذو ملابس سوداء ولحيته مسترسلة وقال عابسا: «الحب جهالة عمياء تبتدئ ببدء الشباب وتنتهي بنهايته.»
ومر رجل ذو وجه صبوح وملامح منفرجة، وقال فرحا: «الحب معرفة علوية تنير بصائرنا، فنرى الأشياء كما يراها الآلهة.»
ومر أعمى يجس الأرض بعكازه وقال منتحبا: «الحب ضباب كثيف يكتنف النفس من كل ناحية ويحجب عنها رسوم الوجود ، ويجعلها أن لا ترى سوى أشباح أميالها مرتعشة بين الصخور، ولا تسمع صدى صراخها آتيا من خلايا الوادي.»
ومر شاب يحمل قيثارة وقال منغما: «الحب شعاع سحري، ينبثق من أعماق الذات الحساسة وينير جنباتها، فترى العالم موكبا سائرا في مروج خضراء، والحياة حلما جميلا منتصبا بين اليقظة واليقظة.»
ومر هرم منحني الظهر، يجر قدميه كأنهما خرقتان، وقال مرتعشا: «الحب راحة الجسم في سكينة القبر، وسلامة النفس في أعماق الأبدية.»
ومر طفل ابن خمس ضاحكا وقال: «الحب أبي، والحب أمي. ولا يعرف الحب سوى أبي وأمي.» •••
وانقضى النهار والناس يمرون أمام الهيكل، وكل يصور نفسه متكلما عن الحب، ويبوح بأمانيه معلنا سر الحياة.
ولما جاء المساء وسكتت حركة العابرين، سمعت صوتا آتيا من داخل الهيكل يقول: «الحياة نصفان؛ نصف متجلد، والنصف ملتهب؛ فالحب هو النصف الملتهب.»
فدخلت الهيكل إذ ذاك، وسجدت راكعا مبتهلا مصليا: «اجعلني يا رب طعاما للهيب، اجعلني أيها الإله، مأكلا للنار المقدسة، آمين.»
حفار القبور
في وادي ظل الحياة المرصوف بالعظام والجماجم سرت وحيدا في ليلة حجب الضباب نجومها، وخامر الهول سكينتها.
هناك ضفاف نهر الدماء والدموع المنساب كالحية الرقطاء، المتراكض كأحلام المجرمين، وقفت مصغيا لهمس الأشباح محدقا باللاشيء.
ولما انتصف الليل وقد خرجت مواكب الأرواح من أوكارها، سمعت وقع أقدام ثقيلة تقترب مني، فالتفت وإذا بشبح جبار مهيب منتصب أمامي، فصرخت مذعورا: «ماذا تريد مني؟»
فنظر إلي بعينين مشعشعتين كالمسارج، ثم أجاب بهدوء: «لا أريد شيئا، وأريد كل شيء.»
قلت: «دعني وشأني وسر في سبيلك.»
فقال مبتسما: «ما سبيلي سوى سبيلك؛ فأنا سائر حيث تسير، ورابض حيث تربض.» قلت: «جئت أطلب الوحدة، فخلني ووحدتي.» فقال: «أنا الوحدة نفسي. فلماذا تخافني؟» قلت: «لست بخائف منك.» فقال: «إن لم تكن خائفا فلماذا ترتجف مثل قصبة أمام الريح؟» قلت: «إن الهواء يتلاعب بأثوابي فترتجف، أما أنا فلا أرتجف.»
فضحك مقهقها بصوت يضارع ضجيج العاصفة، ثم قال: «أنت جبان، تخافني وتخاف أن تخافني، فخوفك مزدوج، ولكنك تحاول إخفاءه عني وراء خداع أوهى من خيوط العنكبوت، فضحكني وتقنطني.» ثم جلس على الصخر، فجلست قسر إرادتي محدقا بملامحه المهيبة، وبعد هنيهة خلتها ألف عام نظر إلي مستهزئا وسألني قائلا: «ما اسمك؟» قلت: «اسمي عبد الله». فقال: «ما أكبر عبيد لله وما أعظم متاعب الله بعبيده! فهلا دعوت نفسك: سيد الشياطين، وأضفت بذلك إلى مصائب الشياطين مصيبة جديدة؟» قلت: «اسمي عبد الله، وهو اسم عزيز أعطاني إياه والدي يوم ولادتي، فلن أبدله باسم آخر.» فقال: «إن بلية الأبناء في هبات الآباء، ومن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه وأجداده، يظل عبد الأموات حتى يصير من الأموات.»
فحنيت رأسي مفكرا بكلماته، مسترجعا إلى حافظتي رسوم أحلام شبيهة بحقيقته. ثم عاد وسألني قائلا: «وما صنعتك؟» قلت: «أنظم الشعر وأنثره، ولي في الحياة آراء أطرحها على الناس.» فقال: «هذه مهنة عتيقة مهجورة ولا تنفع الناس ولا تضرهم.» قلت: «وماذا عسى أن أفعل بأيامي وليالي لأنفع الناس؟» فقال: «اتخذ حفر القبور صناعة، تريح الأحياء من جثث الأموات المكدوسة حول منازلهم ومحاكمهم، ومعابدهم.» قلت: «لم أر قط جثث الأموات مكردسة حول المنازل.» فقال: «أنت تنظر بعين الوهم، فترى الناس يرتعشون أمام عاصفة الحياة؛ فتظنهم أحياء وهم أموات منذ الولادة، ولكنهم لم يجدوا من يدفنهم، فظلوا منطرحين فوق الثرى ورائحة النتن تنبعث منهم.»
قلت وقد ذهب عني بعض الوجل: «وكيف أميز بين الحي والميت، وكلاهما يرتعش أمام العاصفة؟» فقال: «إن الميت يرتعش أمام العاصفة، أما الحي فيسير معها راكضا، ولا يقف إلا بوقوفها.»
واتكأ إذ ذاك على ساعده؛ فبانت عضلاته المحبوكة كأصول سنديانة مملوءة بالعزم والحياة، ثم سألني قائلا: «أمتزوج أنت؟» قلت: «نعم، وزوجتي امرأة حسناء، وأنا كلف بها.» فقال: «ما أكثر ذنوبك ومساويك! إنما الزواج عبودية الإنسان لقوة الاستمرار. فإن شئت أن تتحرر طلق امرأتك وعش خاليا.» قلت: «لي ثلاثة أولاد، كبيرهم يلعب بالأكر، وصغيرهم يلوك الكلام ولا يلفظه. فماذا أفعل بهم؟» قال: «علمهم حفر القبور وأعط كل واحد رفشا، ثم دعهم وشأنهم.» قلت: «ليس في طاقة على الوحدة والانفراد. قد تعودت لذة العيش بين زوجتي وصغاري، فإن تركتهم تركتني السعادة.» فقال: «ما حياة المرء بين زوجته وأولاده سوى شقاء أسود مستتر وراء طلاء أبيض، ولكن إن كان لا بد من الزواج؛ فاقترن بصبية من بنات الجن.» قلت مستغربا: «ليس للجن حقيقة، فلماذا تخدعني؟» فقال: «ما أغباك فتى! فليس لغير الجن حقيقة، ومن لم يكن من الجن كان في عالم الريب والالتباس.» فقلت: «وهل لصبايا الجن ظرف وجمال؟» فقال: «لهن ظرف لا يزول، وجمال لا يذبل.» قلت: «أرني جنية؛ فأقنع.» فقال: «لو كان بإمكانك أن ترى الجنية، وتلمسها لما أشرت عليك بزواجها.» قلت: «وما النفع بزوجة لا ترى ولا تمس؟»
فقال: «هو نفع بطيء، ينتج عنه انقراض المخاليق والأموات الذين يختلجون أمام العاصفة ولا يصيرون معها.» وحول وجهه عني دقيقة، ثم عاد وسألني قائلا: «وما دينك؟» قلت: «أؤمن بالله، وأكرم أنبياءه، وأحب الفضيلة، ولي رجاء بالآخرة.»
فقال: «هذه الألفاظ رتبتها الأجيال الغابرة ثم وضعها الاقتباس بين شفتيك. أما الحقيقة المجردة فهي أنك لا تؤمن بغير نفسك، ولا تكرم سواها، ولا تهوى غير أميالها، ولا رجاء لك إلا بخلودها. منذ البدء والإنسان يعبد نفسه، ولكنه يلقبها بأسماء مختلفة باختلاف أمياله وأمانيه، فتارة يدعوها البعل، وطورا المشترى، وأخرى الله.»
ثم ضحك فانفجرت ملامحه تحت نقاب من الهزء والسخرية، وزاد قائلا: «ولكن ما أغرب الذين يعبدون نفوسهم، ونفوسهم جيف منتنة!»
ومرت دقيقة وأنا أفكر بأقواله؛ فأجد فيها معاني أغرب من الحياة، وأهول من الموت، وأعمق من الحقيقة. حتى إذا ما تاهت فكرتي بين مظاهره ومزاياه، وهاجت أميالي لاستعلان أسراره وخفاياه، صرخت قائلا: «إن كان لك رب فبربك قل لي: من أنت؟» قال: «أنا رب نفسي.» فقلت: «وما اسمك؟» قال: «الإله المجنون.» فقلت: «وأين ولدت؟» قال: «في كل مكان.» فقلت: «وأي متى ولدت؟» قال: «في كل زمان.»
فقلت: «ممن تعلمت الحكمة؟ ومن ذا الذي باح لك بأسرار الحياة، وبواطن الوجود؟» قال: «لست بحكيم؛ فالحكمة صفة من صفات البشر الضعفاء، بل أنا مجنون قوي ، أسير فتميد الأرض تحت قدمي، وأقف فتقف معي مواكب النجوم. وقد تعلمت الاستهزاء بالبشر من الأبالسة، وفهمت أسرار الوجود والعدم بعد أن عاشرت ملوك الجن، ورافقت جبابرة الليل.»
فقلت: «وماذا تفعل في هذه الأودية الوعرة؟ وكيف تصرف أيامك ولياليك؟» قال: «في الصباح أجدف على الشمس، وعند الظهيرة ألعن البشر، وفي المساء أسخر بالطبيعة، وفي الليل أركع أمام نفسي وأعبدها.» فقلت: «وماذا تأكل، وماذا تشرب، وأين تنام؟»
قال: «أنا والزمان والبحر لا ننام؛ ولكننا نأكل أجساد البشر، ونشرب دماءهم، ونتحلى بلهاتهم.»
وانتصب إذ ذاك مكبلا ذراعيه على صدره، ثم أحدق بعيني وقال بصوت عميق هادئ: «إلى اللقاء؛ فأنا ذاهب إلى حيث تلتئم الغيلان والجبابرة.»
فهتفت قائلا: «أمهلني دقيقة، فلي سؤال آخر.»
فأجاب وقد انحجب بعض قامته بضباب الليل: «إن الآلهة المجانين لا يمهلون أحدا، فإلى اللقاء.»
واختفى عن بصري وراء ستائر الدجى، وتركني خائفا، طائشا، محتارا به وبنفسي. ولما حولت قدمي عن ذلك المكان سمعت صوته متموجا بين تلك الصخور الباسقة قائلا: «إلى اللقاء، إلى اللقاء.» •••
وفي اليوم التالي طلقت امرأتي، وتزوجت صبية من بنات الجن، ثم أعطيت كل واحد من أطفالي رفشا ومحفرا، وقلت لهم: «اذهبوا وكلما رأيتم ميتا واروه في التراب.» •••
ومن تلك الساعة إلى الآن وأنا أحفر القبور وألحد الأموات، غير أن الأموات كثيرون، وأنا وحدي وليس من يسعفني!
الأمم وذواتها
الأمة مجموع أفراد متبايني الأخلاق والمشارب والآراء، تضمهم رابطة معنوية أقوى من الأخلاق، وأعمق من المشارب، وأعم من الآراء.
وقد تكون الوحدة الدينية بعض خيوط هذه الرابطة، غير أن الخلاف في العقيدة لا يحل الروابط الأممية، إلا إذا كانت ضعيفة واهية كما هي في بعض البلاد الشرقية.
وقد تكون وحدة اللغة سببا أساسيا لإيجاد هذه الرابطة، ولكن هناك شعوب كثيرة تتكلم لغة واحدة مع أنها في خلاف مستمر من حيث السياسة والإدارة والنظريات الاجتماعية.
وقد تكون الوحدة الدموية أساسا لهذه الرابطة، ولكن في التاريخ أمثلة عديدة نستدل منها على أن أفخاذ عنصر واحد انشقت بعضها على بعض ، وكان ذلك الانشقاق مجلبة للتطاحن والتباغض، ثم الاضمحلال.
وقد تكون المصلحة المادية نولا تحاك عليه تلك الرابطة، ولكن شعوب عديدة لم تحك مصلحتهم المادية سوى المنافسة والمناقشة.
إذن: ما هي تلك الرابطة الاجتماعية؟ وما هي التربة التي تنبت فيها أنصاب الأمم؟
لي رأي في الرابطة الأممية قد يحسبه بعض المفكرين غريبا؛ لأن أصوله ونتائجه ليست من الأمور المحسوسة.
أما رأيي فهو هذا:
لكل شعب ذات عامة تشابه بجوهرها وطبيعتها ذات الفرد. ومع أن هذه الذات العامة تستمد كيانها من أفراد الشعب كما تستمد الشجرة حياتها من الماء والتراب والنور والحرارة؛ فهي مستقلة عن الشعب ولها حياة خاصة وإرادة منفردة. وكما يصعب علي تحديد وتعيين الزمن الذي تتولد فيه ذات الفرد الواحد؛ هكذا يصعب علي تعيين وتحديد الزمن الذي تتولد فيه الذات العامة. غير أنني أشعر أن الذات المصرية - مثلا - قد تبلورت قبل ظهور الدولة الأولى على ضفاف النيل، بزمن لا يقل عن خمسمائة سنة، ومن تلك الذات العامة قد استمدت مصر مظاهرها الفنية، والدينية، والاجتماعية. وما أقوله عن مصر يصح في آشور، وفارس، واليونان، ورومة، والعرب، وغيرها من الأمم الحديثة؛ أعني تلك التي ظهرت بعد انقضاء الأجيال المتوسطة.
قلت: إن للذات العامة حياة خاصة. نعم، ولما كان لكل حي عمر محدود كان لتلك الذات العامة أجل محدود لا تتجاوزه. ومثلما يسير الكيان الفردي من الطفولة إلى الشبيبة إلى الكهولة إلى الشيخوخة، هكذا يتدرج كيان الذات العامة، من يقظة الفجر الموشحة بنقاب النوم، إلى يقظة الظهر المتجلية بنور الشمس، إلى يقظة المساء المتسربلة بلباس التضجر، إلى يقظة الليل المغمورة بالنعاس، إلى سبات عميق.
إن الذات اليونانية قد استيقظت في القرن العاشر قبل المسيح، ومشت بعزم وجلال في القرن الخامس ق.م، ولما بلغت عهد الناصري كانت قد ملت أحلام اليقظة فنامت على مضجع الأبدية، لتعانق أحلام الأبدية.
أما الذات العربية فقد تجوهرت وشعرت بكيانها الشخصي في القرن الثالث قبل الإسلام، ولم تتمخض بالنبي محمد حتى انتصبت كالجبار، وثارت كالعاصفة، متغلبة على كل ما يقف في سبيلها. ولما بلغت العباسيين تربعت على عرش منتصب فوق قواعد لا عداد لها، أولها في الهند، وآخرها في الأندلس. ولما بلغت عصارى نهارها، وكانت الذات المغولية قد أخذت تنمو وتمتد من الشرق إلى الغرب، كرهت الذات العربية يقظتها؛ فنامت، ولكن نوما خفيفا متقطعا. وقد تعود وتفيق ثانية لتبين ما بقي خفيا في نفسها كما عادت الذات الرومانية في زمن النهضة الإيطالية المعروفة بالرنسانس، وأكملت في البندقية وفلورنسا وميلان ما ابتدأت به، قبل أن تباغتها الشعوب التوتونية في بدء الأجيال المظلمة.
وأغرب الذوات العامة في التاريخ: هي الذات الفرنساوية. فها قد عاشت ألفي سنة أمام وجه الشمس، ولم تزل في شبيبة نضرة، وهي اليوم أدق فكرا، وأحد نظرا، وأوسع فنا وعلما مما كانت في أي زمن من تاريخها المجيد.
فرودان، وكارير، وشيتان، وهوغو، ورينان، وساسه، وسيموني - وجميعهم من أبناء القرن التاسع عشر - كانوا أعظم رجال العالم فنا، وأكثرهم علما، وأبعدهم خيالا. الأمر الذي يدلنا على أن لبعض الذوات العامة أعمارا أطول من الأخرى؛ فالذات المصرية عاشت ثلاثة آلاف سنة، أما الذات اليونانية فلم تعش أكثر من ألف سنة، وقد تكون الأسباب في طول آجال الذوات العامة أو قصرها، شبيهة بأسباب قصر أعمار الأفراد أو طولها.
وماذا يا ترى يحل بالذات العامة بعد أن تلعب دورها على مسرح الوجود؟
هل تموت وتفنى بدورها غير تاركة وراءها سوى الذكر لمن يجيء بعدها؟ هل تضمحل أمام الأيام والليالي كأنها لم تكن مظهرا لليالي والأيام؟
في عقيدتي أن الكيان المعنوي يتغير ولكنه لا ولن يضمحل؛ فهو كالكيان المادي يتحول من شكل إلى شكل، ومن صورة إلى صورة، أما دقائقه وذراته الوضعية فباقية ببقاء الزمن؛ فذات الأمة العامة تنام، ولكن نوم الأزاهر بعد أن تلقي بذورها في تربة الأرض، أما عطرها فيتصاعد إلى عالم الخلود. وعندي أن العطر في الأمة أو في الزهرة هو الحقيقة المجردة، هو الجوهر المطلق؛ فعطر ثيب، وبابل، ونينوى، وأثينا، وبغداد موجود الآن في الغلاف الأثيري المحيط بالأرض ، بل هو موجود في أعماق أرواحنا، ونحن أفرادا وجماعات ورثة كل الذوات العامة التي وجدت على سطح الأرض. غير أن ذاك الإرث العلوي لا يتخذ له صورا محسوسة في الفرد أو الجماعات، حتى تتبلور الأمة التي ينتسب الأفراد والجماعات إليها، وتصير ذاتا لها حياة خاصة وإرادة منفردة.
الجبابرة
ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب.
لا ليس السكوت الذي يحدثه الملل، كالسكوت الذي يوجده الألم.
أما أنا فقد سكت لأن آذان العالم قد انصرفت عن همس الضعفاء وأنينهم، إلى عويل الهاوية وضجتها، ومن الحكمة أن يسكت الضعيف عندما تتكلم القوى الكامنة في ضمير الوجود؛ تلك القوى التي لا ترضى بغير المدافع ألسنة، ولا تقنع بسوى القنابل ألفاظا.
نحن الآن في زمن أصغر صغائره أكبر من كبائر ما تقدمه؛ فالأمور التي كانت تشغل أفكارنا وأميالنا وعواطفنا قد انزوت في الظل. والمسائل والمشاكل التي كانت تتلاعب بآرائنا ومبادئنا قد توارت وراء نقاب من الإهمال. أما الأحلام المستحبة، والأشباح الجميلة التي كانت تميس متنقلة على مسارح وجداننا، فقد تبددت كالضباب، وحل محلها جبابرة تسير كالعواصف، وتتمايل كالبحار، وتتنفس كالبراكين.
وما عسى أن يصير إليه العالم بعد أن تنتهي الجبابرة من صراعها؟
هل يعود القروي إلى حقله فيلقي البذور حيث زرع الموت جماجم القتلى؟
هل يقود الراعي مواشيه إلى مروج مزقت أديمها السيوف؟ ويوردها مناهل يمتزج ماؤها بنجيع الدماء؟
هل يركع العابد في هيكل رقصت فيه الشياطين؟ ويردد الشاعر قصائده أمام كواكب حجبت بالدخان؟ وينغم المنشد أغانيه في ليل عانقت سكينته الأهوال؟
هل تجلس الأم بجانب سرير رضيعها مرتلة بالهدوء أغاني النوم، وهي لا ترتجف وجلا مما سيجلبه الغد؟
هل يلتقي الحبيب بحبيبته ويتبادلان القبل حيث التقى العدو بعدوه وتبادلا القذائف؟
وهل يعود نيسان إلى الأرض، ويستر بقميصه أعضاءها المكلومة؟
ليت شعري! هل يعود نيسان إلى الحقول؟ •••
وماذا عسى تصير إليه بلادكم وبلادي! وأي من الجبابرة يضع يده في تلك التلال والهضبات التي أنبتتنا وسيرتنا رجالا ونساء أمام وجه الشمس!
هل تبقى سوريا مطروحة بين مغائر الذئاب وحظائر الخنازير؟ أو يا ترى تنتقل مع العاصفة إلى عرين الأسد أو ذروات النسر؟
وهل يطلع الفجر فوق قمم لبنان؟
كلما خلوت بنفسي أطرح عليها هذه السؤالات. غير أن النفس كالقضاء، تبصر ولا تتكلم، وتسير ولكنها لا تلتفت؛ فهي ذات عيون تتجلى وأقدام تتسارع، أما لسانها فثقيل.
ومن منكم أيها الناس لم يسأل نفسه في كل يوم وليلة عن مصير الأرض وسكانها، بعد أن تختمر الجبابرة من دموع الأرامل والأيتام؟
أنا من القائلين بسنة النشوء والارتقاء، وفي عرفي أن هذه السنة تتناول بمفاعيلها الكيانات المعنوية بتناولها الكائنات المحسوسة، فتنتقل بالأديان والحكومات من الحسن إلى الأحسن انتقالها بالمخلوقات كافة من المناسب إلى الأنسب، فلا رجوع إلى الوراء إلا في الظاهر، ولا انحطاط إلا في السطحي.
ولسنة الارتقاء سبل متشعبة يتفرع بعضها من بعض، ولكنها متلازمة الأصول، ومظاهر قاسية ظالمة مظلمة تنكرها الأفكار المحدودة، وتتمرد عليها القلوب الضعيفة، أما خفاياها فعادلة منيرة، متمسكة بحق أسمى من حقوق الأفراد، محدقة بغرض أعلى من مرام الجماعة، مصغية إلى صوت يغمر بهوله وعذوبته تنهدات المنكوبين وغضات المتوجعين.
حولي بكل مكان أقزام يرون عن بعد أشباح أشباح الجبابرة متناضلين، ويسمعون في المنام صدى صدى تهاليلهم، فيضجعون كالضفادع طائلين: «لقد رجع العالم إلى فطرته الوضيعة، فما بنته الأجيال بالعلم والفن قد هدمه الإنسان الوحشي بالطمع والأنانية. فحالنا اليوم حال سكان الكهوف، ولا يميزنا عنهم سوى آلات نبتدعها للدمار، وحيل نستخدمها للهلاك.»
هذا ما يقوله هؤلاء الذين يقيسون ضمير العالم بمقياس ضمائرهم، ويحللون مراد الوجود بالفكرة القصيرة التي يستخدمونها لحفظ وجودهم الفردي. فكأن الشمس لم تكن إلا لتدفئتهم، وكأن البحر لم يوجد إلا لغسل أرجلهم. •••
من أحشاء الحياة، من وراء المرئيات، من أعماق الكون المدبر حيث تصان أسرار الكون المدبر، قد انبثقت الجبابرة كالريح وتصاعدوا كالغيوم، ثم تلاقوا كالجبال، وهم الآن يتصارعون ليحلوا مشكلة في الأرض لا يحلها غير الصراع.
أما البشر وكل ما في رءوسهم من المدارك والمعارف، وما في قلوبهم من المحبة والبغضاء، وما يعانق نفوسهم من الصبر والجزع والأوجاع، فآلات يتناولها الجبابرة ويديرونها؛ توصلا إلى غاية علوية لا بد من بلوغها.
أما الدماء التي أهرقت فسوف تجري أنهارا كوثرية. وأما الدموع التي نثرت فستنبت أزهارا زكية. وأما الأرواح التي فاضت فسوف تجتمع وتتآلف، وتتطلع من وراء الأفق الجديد صباحا جديدا. فيعلم الناس بأنهم قد ابتاعوا الحق في سوق البؤس، وأن من ينفق في سبيل الحق لم يخسر.
وأما نيسان فسيعود، ولكن من يطلب نيسان من غير كف الشتاء فلن يجده.
هذا آخر ما تيسر لي جمعه من مقالات الكاتب الخيالي الشهير: جبران خليل جبران. ولله الحمد أولا وآخرا.
محمد محمد عبد المجيد
Page inconnue