Dans les moments de loisir : collection de lettres littéraires, historiques, éthiques, philosophiques
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Genres
لكن هذه الهوادة في قبول الأفكار لم تجئ إلا بعد زمن طويل وفي ظروف غير التي كان فيها قاسم؛ لم تجئ إلا بعد قيام نهضة غير مستمدة من الدين، كان قاسم من السابقين إليها والذين لم يتمتعوا بثمارها.
وفي هذا الوسط الاجتماعي ظهرت أفكار قاسم، فاضطرت أن تأخذ صبغته إلى حد كبير، لولا نزعات كانت ترجع إلى ما أفاده الكاتب من فرنسا وإلى حاله النفسية الخاصة. وقويت هذه النزعات عنده في الكتب التي وضع آخرا: المرأة الجديدة والكلمات. ولو أنه عاش بعد ذلك طويلا لزادت قوة، ولكانت من أقوى العوامل في مساعدة الروح الشابة الحاضرة، روح التجديد. (1-3) الوسط الفرنسي
قضى قاسم أمين سني دراسته العالية في فرنسا، وككل شاب يتاح له المقام في إحدى ممالك أوروبا زمنا غير قصير تأثر قاسم بما رأى في تلك البلاد، وتأثر أكثر من سواه، وكان تأثره بنوع خاص من جهتي الإحساس والتفكير، وترك ذلك في حياته الخاصة وفي مظاهره العامة أثرا غير قليل؛ لذلك يجدر بنا أن نستظهر قدر الطاقة نوع الوسط ومميزاته حتى يتسنى لنا تتبع قاسم ككاتب ومفكر.
ولسنا ندعي إمكان الإحاطة بمميزات الوسط الفرنسي في هذه الكلمة القصيرة؛ فإن مثل هذا الدرس تحوجه مؤلفات طويلة، لكنا إنما نريد أن نضع أمام النظر الجهات الخاصة منه التي تأخذ بذهن الشاب الشرقي الذي يقصد إلى تلك البلاد ليفيد منها العلم والنظر ، وربما وصلنا إلى ما يساعدنا على تحليل أسلوب قاسم وكتبه وأفكاره وعقيدته.
تقابل الناظر في فرنسا طبيعة جديدة جميلة لم يعرفها في مصر، ولم يتذوقها إلا من طريق الخيال؛ تقابله جبال وغابات وغياض وحدائق يأخذ جمالها بالنظر ويسترعي اللب والفؤاد، وتقابله كذلك مبان فخمة بديعة النظام فيها غير المعنى التاريخي الذي ألفناه في مبانينا التي وجدت على التاريخ قبل أن يوجد التاريخ معنى الاتساق والتوازن. وفي كثير من هذه المباني يجد التماثيل والنقوش والصور، وكلها مثل الجمال على مختلف أنواعه، فلا يلبث أن يرى ذلك كله حتى تأخذه نشوة تدعوه إلى تكرار النظر إليه والاستزادة منه؛ فهو يذهب المرة تلو المرة إلى قصر اللوفر الفخيم يشاهد فيه أبدع الصور وأدق التماثيل مما خلف اليونان والرومان والهولنديون والإيطاليون وأهل الأمم ذات المدنية والحضارة، ويتردد إلى غاب بولونيا يشاهد فيها أبهى مناظر الطبيعة من بحيرات وأشجار، وأرق مظاهر المدنية من جياد مطهمة وسيارات بديعة تحمل الحي زاد نفسه جمالا بدقة ذوقه في نوع لباسه وكيفية ابتسامه، وما يشف عن رقة طبعه، ويعود بعد ذلك مارا بقصور الإليزيه وبميدان الكونكورد وبحدائق التويلري، وبما في ذلك من مختلف صور الجمال الصامت والناطق، ثم هو يخرج أيام الآحاد إلى الضواحي فتقابله الجبال الصغيرة والأنهار والغياض، فإذا تغلغل في أحشاء فرنسا إلى الأوفرن سحرته عن نفسه ببديع جمالها تلك الجبال المنيعة الرفيعة، تجلل هاماتها الثلوج وتغطي سفوحها الأشجار وتنساب في أخاديدها المياه دائمة الخرير، ويتوجها كل مساء مغرب الشمس الباهر.
وهو في حل ما دام في فرنسا من أن يرى جديدا من هذه المناظر الطبيعة والمدنية متى شاء، أمامه غير قصر اللوفر متاحف لا يحصيها العد، وغير حدائق التويلري وغاب بولونيا حدائق وغابات لا تنتهي، وغير الأوفرن جهات الرفييرا والتيرول وسواهما. وكل هذه المتاحف والحدائق والغابات والنواحي تحوي من الجمال ما يدعو إليه ويحبب فيه؛ كلها الشعر الناطق بآي الحكمة والبهاء والرواء.
تسترعي هذه الأشياء كلها نظر النازل فرنسا ، وتفتح أمامه عالما جديدا لم يجل قط من قبل في تصوره، وتدعوه بذلك للاستزادة ما استطاع مما حولها، فيقصد مسارح التمثيل يرى فيها أثر الفكر الإنساني مجسما متنوعا كما يرى التفنن في حسن الذوق حين يجيل بصره في صالات التياترو المزدحمة أثناء هدنات ما بين الفصول بالمتفرجين. ويذهب إلى ملاعب الموسيقى فتأخذ بسمعه نغمات جديدة مملوءة بالحياة والقوة، مختلفة جد الاختلاف عن نغمات موسيقانا المستسلمة الشاكية. قد لا تطربه هذه النغمات بادئ الأمر، ولكنه يرى فيها معنى خاصا غير الذي ألفه في الموسيقى الشرقية، يراها أغلب الأحيان موسيقى عصبية يهزها الفرح أو يخرجها عن طوقها الحزن، فإذا انبعث عنها الوجد والشكوى لم تدم على ذلك إلا ريثما تصور المدنف الواله وسط الحركة الشديدة؛ حركة المدنية الحاضرة.
ثم يرى فيما حول ذلك كله المتاجر والمصانع كلها النشاط والحركة، ويحس في كل مخلوق مما على أرض هاته البلاد أنه يحب الحياة حبا حقيقيا، ويرى فيها مواضع للفائدة واللذة يمكنه الوصول إليها متى أراد. ولن يكون ذلك بالاستسلام ولا بالطمأنينة للحاضر، ولكن بالجد والعمل؛ فكل يجد ويعمل يريد أن يسخر كل ما على الطبيعة لفائدته ولذته. هذه هي النواحي الظاهرة التي تأخذ بنظر النازل فرنسا.
فإذا هو تعمق في تعرف شئون الفرنسويين إلى أكثر من المنظر الظاهر؛ إذا هو بحث أنواع حياتهم ومبلغ إحساسهم وأوجه التفكير عندهم مستعينا في تفسير ذلك كله بما رأى، تبدت له صور وإحساسات وأفكار وأنظمة أكثر أخذا باللب، وأوقع في النفس مما رأى قبل ذلك. تبدت الأسرة وليست هي مجرد ذلك القطيع الإنساني لا يجمعه أكثر من الروابط الطبيعية؛ روابط الأبوة والبنوة تحت إمرة الأب، ولكنها شركة إنسانية أساسها تبادل الإحساس الخالص والزيادة في سعادة الفرد من طريق الاجتماع وخلق الأبناء، والقيام عليهم ليكونوا في مستقبلهم رجالا أحرارا أو سيدات يعرفن معنى الحرية ويقدسن الواجب.
وتبدت له إحساسات دقيقة رقيقة قوية عنها صدرت تلك الموسيقى العصبية الحرة، وهاته النقوش والصور البديعة المملوءة حياة ونظاما ومعنى، وتلك الروايات المملوءة بالشعر والفكر؛ وعنها تصدر كل جلائل الأعمال التي يرى في تلك البلاد.
Page inconnue