Dans les moments de loisir : collection de lettres littéraires, historiques, éthiques, philosophiques
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Genres
وكانت تمر بها ساعات تشعر فيها شعورا مبهما مفزعا بالمرض الذي اندس إليها، وهي قد شعرت به من ربيع سنة 1876 إذ كتبت في أول يونيو: «الساعة وأنا خارجة من غرفة زينتي مر بي طيف مفزع؛ فقد رأيت إلى جانبي امرأة في ثوب طويل أبيض تحمل النور في يدها، وتنظر إلي ورأسها منحن شاك على مثال طيف أساطير الألمان. لكن مهلا! إن هذا الطيف لم يكن إلا خيالي عكسته المرآة. ألا كم أخشى أن تكون هذه الآلام النفسانية منشأ مرض جسماني!»
وفي سنة 1877 تولت هذه النفس الحائرة شهوة واحدة، فكرست ماري باشكير ستف كل وجودها للتصوير، وجمعت له كنوز ذكائها المشتتة، واجتمعت عنده كل آمالها في المجد، ولم يبق لها من حياتها غاية إلا أن تكون فنانة كبرى، فأجهدت نفسها في الدرس في أكاديمية جوليان؛ ولم يمض غير قليل حتى كانت من خيرة تلاميذها، وكان ذلك بعض تلك الانقلابات الفجائية التي تجد لها مثلا شتى في حياة الصالحين، والتي تنبئ عن طبع مخلص متطرف كثير التحول. ومن ذلك الحين لم يبق للأمراء عندها قدر، بل أصبحت جمهورية اشتراكية، بل ثورية بمقدار؛ فلم تعد تلبس لبس المترفين، وتسربلت بالجلباب الأسود الذي ترتديه النساء الفنانات، واكتشفت جمال البائسين وأصبحت مخلوقا جديدا. ولم يمض إلا ستة أشهر حتى كانت على رأس فرقتها مع مدموازيل برسلاو.
وفي انتظار المجد الذي كانت ترجوه كانت منكبة على العمل مجدة فيه، وقد رأت في 21 يناير سنة 1882 لأول مرة باستيان لوباج، وكانت تعجب به وتقلد نقوشه. «وهو صغير الحجم، شعره لون الذهب، ناتئ الأنف له لحية الشباب، وكان يومئذ مصابا بالمرض الذي قضى على حياته بعد قليل.» وهي الأخرى كانت تشعر بأن إصابتها شديدة، فقد مضى عليها سنتان يهزها سعال ممزق، وكانت في خلالهما تزداد نحافة، وفي خلالهما أصيبت بالصمم. وقد أدخلت هذه العاهة اليأس إلى نفسها، فكانت تقول: «لم يخلقنا الله لنألم. وإذا كان هو الذي خلق العالم فلم خلق الشر والألم والسوء ...؟ إنني لن أبرأ وسيبقى بيني وبين العالم حجاب، فلن أسمع حفيف الريح في الشجر، ولن أسمع خرير الماء المتساقط على ألواح النوافذ، ولا الكلمات التي تلفظ بصوت واطئ. كلا، لن أسمع من ذلك كله شيئا.» ثم لم تلبث أن علمت أن صدرها مصاب وأن رئتها اليمنى تفنى، فصاحت: «فليتركوا لي من اليوم عشر سنوات، وليتركوا لي خلالها الحب والجد، فأموت في الثلاثين مطمئنة راضية. ألا لو وجدت من يعاهدني على ذلك لعقدت معه أن أموت في الثلاثين بعد إذ أكون قد حييت.»
وسار السل في طريقه المحتوم، فكتبت ماري باشكير ستف في 29 أغسطس سنة 1883 تقول:
إني أسعل الوقت كله رغم حرارة الجو، وقد أخذتني سنة على المتكأ عصر اليوم أثناء راحة النموذج، فرأيت نفسي نائمة وإلى جانبي شمعة موقدة!
أتراني أموت؟ لشد ما أخاف ذلك.
وهي اليوم والحياة تفر منها تغرم بالحياة حبا؛ فالفنون والموسيقى والنقش والكتب والناس والثياب والترف والصحة والضحك والحزن والأسى والحب والقمر والشمس والفصول كلها وسهول روسيا الساكتة وجبال نابلي والثلج والمطر والربيع وجنونه، وأيام الصيف الهادئة ولياليه البديعة ذات النجوم ... كل ذلك هي تحبه وتعجب به ... لكنها يجب أن تموت: «والموت كلمة سهل أن نقولها وأن نكتبها، لكن التفكير في أمرها ... الاعتقاد بأن الإنسان سيموت عاجلا! ... وهل تراني أعتقد ذلك؟ كلا، ولكني أخشى.»
وبعد أيام من ذلك أزاحت عنها هذه الأوهام التي تطوف حول مراقد المسلولين، وحدقت بالموت وجها لوجه: «ها هو ذا إذن غاية كل آلامنا. كم في الحياة من الآمال والرغائب والشئون و ... ويموت الإنسان في الرابعة والعشرين عند أبواب ذلك كله.»
وفيما كانت تموت كان باستيان لوباج المحتضر يحمل كل يوم إليها. وفي يوم الاثنين 20 أكتوبر وقفت يومياتها، وفي ذلك اليوم حضر باستيان لوباج معتمدا على أخيه عند مرقد المريضة. وقد ماتت ماري باشكير ستف بعد أحد عشر يوما من هذا التاريخ، «في يوم ملأ الضباب جوه، فصار أشبه الأشياء بما نقشته هي في إحدى صورها الأخيرة: الممشى.»
إن من المناظر التي تمس القلب دائما ذلك المنظر الذي نرى فيه الطبيعة والحب والموت متقاربين في مضيق بشع، لكن في حياة ماري باشكير ستف القصيرة ما أدري أية مرارة وأي يأس يقبض القلب. وإنه ليخيل للإنسان إذ يقرأ يومياتها أنها ماتت قبل أن تطفأ رغباتها ... لذلك يسري طيفها متنقلا في بعض الجهات ينوء بحمل من الرغبات الثقال.
Page inconnue