وفي القسم الأول وهو المعاني الكبرى، لا يجب أن يختلف أدب جنس عن أدب جنس، ولا أدب أمة عن أدب أمة، ولا أدب عصر عن أدب آخر شديد المباعدة له، فقد يكون ذلك كله إنسانيا تجده البشرية جمعاء، وتحسه الناس كلهم، وهو موضوع الأدب الخالد تستطيع الألسن المختلفة أن تجري به، والألوان المختلفة أن تنتشي به، وتهش له. وحظ الأدب من الخلود مرهون باختيار المتفنن لهذه الكبريات من المعاني، ينتقي منها موضوع عمله الفني، ثم يصور فيه شعورا إنسانيا عاما مشتركا باقيا. وبعد هذا الاتفاق الأساسي في المعاني الكبرى تختلف الأمة عن الأمة، والعصر عن العصر، والمتفنن عن المتفنن، فكلهم يحب، ولكن هذا عذري الحب، وذاك طائر القلب، وهذا موحد متفلسف يعرف معنى الحب في نفسه، وهذا متنقل أو متكثر، يعرف الحب في نفس محبوبه، إلى فروق من ذلك قد تتميز بها الأمم، والأفراد، والعصور، فتتميز الفنون، وتكون موضوعات العمل الفنية المختارة متأثرة في صورتها العامة بهذه الفروق.
وأما ما دعوناه المعاني الصغرى، وهي الخواطر الجزئية التي تؤلف الأقسام الرئيسية للفنون القولية، فهذه أقبل بطبيعتها للاختلاف والتغاير، فطريقة هذا في ترجمته عن حبه، وأسلوبه في إبلاغ عواطفه، وتجليته للصورة النفسية التي يمثل بها هذه العاطفة بتلوينه لها وعرضه إياها على قارئه أو سامعه، كل أولئك قابل بطبعه للتفاوت والاختلاف، يتفاوت في أمة عن أمة، وفي جيل عن جيل، وفي شخص عن آخر، بل يتفاوت في الشخص الواحد لزمنين مختلفين من حياته.
وهكذا ليس يجب إذا ادعيت الإقليمية أن يمدح المصريون بالبخل إذا مدح العرب بالكرم، ولكن يرجى أن يكون عرض المصريين لصور كرم الممدوح مخالفا لعرض العرب هذه الصور في ممدوحهم. وهنا تعطي البيئة أثرها، تبعث وحيها، فإن كان العربي سحابا وغيثا يهطل، فالمصري فيض ونهر يروي وينبت، ويغل ويغني. وليس يجب إذا تغزل المشرقي، العراقي أو الشامي، ألا يتغزل المصري ولا المغربي! ما قال هذا أحد. ولكنما يجب أن تكون الصور الأدبية لهذا المعنى الأول الكبير مختلفة عند العراقي أو الشامي عنها عند المصري. فإذا يمثل أحدهما القمر والبدر والنجم مثلا، تمثل الآخر الروض والزهر والعطر والشذى، وهكذا. بل يمكن أن يختلف الأدبان وراء ذلك في حركة القلب، وهدف النفس، ومطمح الروح في الحب؛ لاختلاف المؤثرات المعنوية في البيئتين الاجتماعيتين مثلا. وقد يختلف الأدبان أيضا فيكثر في أحدهما فن كذا دون كذا، أو يخلق في أحدهما فن كذا مبكرا، ويتأخر ظهور مثله في الأدب الآخر، وما إلى ذلك. •••
وما نقرر هذا كله مما أسلفنا بيانه إلا وفاء للبحث، ونحن نعرف في الوقت نفسه أن في قالة أصحاب هذه الوحدة أنفسهم شواهد الاختلاف الجلي بين العراق وغيره من المشرق، والأندلس وأفقه من المغرب، يوردونها هم ساهين عن تقديرها وترتيب أثرها عليها، أو مهونين - في غير حق - من خطرها، زاعمين أنها ليست بذاك. فهم يذكرون من هذه الفروق التي لم يعنهم أن يرتبوا آثارها عليها، أنه لم يكن في الغرب طوائف دينية من مجوس وزنادقة كما كان في المشرق، وذلك شيء له أثره لو نظروا إليه النظر الدقيق البعيد الواجب في مثل هذا البحث؛ إذ يكشف لهم أن بين الحياة الدينية في الأفقين فروقا ليست باليسيرة الشأن.
ثم إن بين البيئتين في التشريع من الفروق كذلك ما له حسابه؛ فالحركة الفقهية في الأندلس، مخالفة في سيرها واتجاهها لمثلها في الشرق، مهما يكن المذهب المالكي مشتركا بينهما. فلقد حيت الظاهرية في هذا الإقليم حياة خاصة، لها في تاريخ التفكير الإسلامي أثر ليس بالقليل ولا الصغير، بل لها في الحياة الدينية المسيحية في الغرب ما يمكن أن يقدر من تأثير.
7
وهذه «الظاهرية» في حقيقتها ليست مدرسة فقهية فقط، بل هي مدرسة عقلية دينية تخالف أصولها في الفهم والنقد والتقرير غيرها من المدارس الإسلامية العقلية والدينية، ولعلها لا تقل أثرا في الحياة الإسلامية من حيث اتصالها بالشرق أو بأوروبا، عما تجب العناية به من آثار المعتزلة ومدرستهم. وتلك نواح لا يتسع المجال لشيء من القول فيها هنا، ولكنا نضع يد القوم على ما أغفلوا من فروق. والأمر في الحياة الدينية الاعتقادية ليس أقل أهمية، ولا أقل حاجة إلى الوقفة الخاصة والعناية المفردة به، من الأهمية التي للناحية الفقهية. وقد أكد القوم أنفسهم هذا الفرق في دراستهم. وإذا كان الاعتقاد والتقنين، فقد تأثرت لا محالة الحياة الفنية تأثرا مفرقا مميزا لا يمكن إنكاره.
ثم هم أنفسهم يذكرون كذلك أنه لم تقم بالأندلس حركة ترجمة كالتي قامت بالمشرق، ولكن هذا لا يقف أثره عند ما قرروه في سذاجة، حين يقولون إن الأندلس كان يقرأ الثقافات الأجنبية فيما يأتيه من الشرق، إذ لو كان الأمر ينتهي عند الاعتراف بفضل المشرق في تغذية هذا المغرب؛ لما كان ذلك موضعا للمشاحة والخلاف. ولكن المسألة أعمق من هذا وأبعد غورا؛ فإن تلك الثقافة الأجنبية التي ترجمت، قد تقدم بها الزمن في المشرق حين تأخر في المغرب، وهذه واحدة، ثم عرفها المشرق محتاجة إلى التنقيح، وفيها مواضع للنقد وآثار للاختلاط والاضطراب، من عمل التراجمة الأولين من سريان ونحوهم، مما أحوج إلى تحرير ثان، وترجمة ثانية أحيانا. لكنها لم تجئ المغرب إلا بعد ذلك، وفي غير هذا الحال، وتلك ثانية.
ثم كان لاختلاط هذه الثقافة بالثقافة العربية، وما جرى بينهما من تجاذب وتدافع أثره، الذي دخل على الحياة الدينية والحياة الفنية بأشياء من الاهتزاز والاضطراب، قبلما تولاها القوم بالتوفيق أو بالتخفيف، أو بالتفسير أو بالرد، أو ما إلى ذلك مما تقتضيه الهزة الاجتماعية الناجمة دائما عن مثل هذه التغيرات. ولكنها جاءت المغرب بعد ما انتهت هذه التجربة، أو بعد ما ثبتت على حال ما آلت إليها، فلم يتعرض المغرب لما تعرض له المشرق من هذه الهزة وأثرها، وتلك أيضا ثالثة.
ومن هذا وغيره كانت حياة الفلسفة في الأندلس - مهما تكن قد اتصلت أو تأثرت بحياتها في المشرق - لا بد أن تختلف بها الطريق وتفترق الخطوات، وهو ما كان فعلا شأن الفلسفة في هذا الأفق، وتلك رابعة جعلت اتصال الأدب بالفلسفة في المغرب لا يؤمن فيه القول بالمشابهة لما كان في المشرق، وهذا هو ما يمكن الاطمئنان إلى تقريره مؤقتا. •••
Page inconnue