وغضب عباس على هؤلاء المصريين الذين حذقوا الفرنسية وعملوا على نشرها، فنفي رفاعة الطهطاوي إلى السودان، وأغلق مدرسة الألسن. إلخ ما عرفت في الجزء الأول من كتابنا هذا. ولكن فرسنا المستعمرة لم تكن ترضى بهذا، وإن فاتها الغزو الحربي فعزيز عليها أن يفوتها الغزو الأدبي، والتمكين للغاتها وأدبها بأرض مصر، فتفيد نفوذا وتجارة، ولعلها تجد فرصة مواتية # فتتدخل في شئون مصر، ولذلك حثت علماءها على تأدية الرسالة التي اضطلع بها المجمع العلمي المصري1، وشجعت الفرنسيين على الإقامة بمصر، وحثت الأثرياء على دفع الأموال الطائفة في القروض التي أصدرتها الحكومة المصرية، وفي إنشاء قناة السويس، وتأسيس المصارف العقارية إلى غير ذلك: وبهذا خضعت مصر اقتصاديا لفرنسا، ولم تنس نشر الثقافة الفرنسية بمصر، ونظرت إلى هذه المسألة في جد بالغ. استمع إلى ما يقوله أحد دعاتها في هذا الموضوع: "إن العقل المصري وهو يتهيأ للأفكار الجديدة لا يزال مملوءا بتقاليد الماضي، ويجب علينا أن تغيير نفوس هؤلاء القوم. ونعلم هذه العقول التي جففتها الشمس طريقة التفكير، وأن نستميل بالحب هذه القلوب التي لم تعرف إلا الجشع ونهب الأجانب، وأن نجبر مصر الدهشة المذهولة على أن ترفع رأسها فوق الصحاري والبحار. إن هذا عمل جسيم يحتاج إلى كثير من الصبر والتضحية وعدم الأثرة، كما يحتاج إلى وقت طويل ومجهود شاق ومحبة عظيمة".
"لقد اجترأ شعب واحد على تقدير هذا المجهود، وتعهد بإنجازه، ألا وهو شعب فرنسا، ولكنها ليست فرنسا الغازية التي اجتاحت البلاد، بل فرنسا "ديلسبس"، و"فرير أتدريان"، وفرنسا "ماريت" و"ماسبيرو"2.
"إن عمل فرنسا بمصر كالخميرة تمتزج بالعجين فيرتفع، فقد تغير المصريون وتحركوا بتأثير أفكارنا وتعليمنا وأمثلتنا، ومنح المصريون في مدارسنا النهوض والانتعاش، ووجدوا في رءوس الأموال الفرنسية ما ساعدهم على بناء نجاحهم الزراعي، واتخذت مصر من قناة السويس مركزا وسطا تجبي فيه الضرائب على السلع التجاربة والعقلية بين الشرق والغرب، وأخيرا ستستمر مصر مدينة لعظمة فراعنتها الذين أرجعهم علماؤنا الأثريون المتحمسون إلى الضوء من أجداثهم3".
Page 12