ولقد أردت بهذا النص الذي سقته لك من "رينان", أن أبين التعصب الذميم الذي يوحي إلى هؤلاء الشعوبيين مثل هذا الكلام، فيسلبون أمما قوية لها مجدها التاريخي والأدبي كل الفضائل العقلية -وهم في ذلك على باطل- ويتبعهم وللأسف فئة من أدبائنا، فيكونون حربا على قومهم، ليس ثمة فرق -كما رأيت- بين كلام "رينان" وكلام "أحمد أمين", إن رينان ينعى على العقلية السامية أنها لم يكن لها "ميثولوجيا" أي: خرافات دينية كما عند اليونان، وليس أبعث على الضحك من التنويه بعظم العقلية اليونانية وما رزقته من عبقرية؛ لأنها آمنت بالخرافات، وألهت الأشخاص والأبطال، والتمست الطريق إلى الحقيقة فضلت سواء السبيل، وأمعنت في الأساطير دون أن تصل إلى الله2 لقد جعل # هؤلاء الباطل حقا، وأشادوا باليونان لأنهم أخفقوا في الاهتداء إلى وحدانية الله التي آمن العالم بها فيما بعد على يد موسى وعيسى ومحمد -عليهم السلام, والتي أمنت بها أوربا الآرية، وكفرت بآلهة "الأولب" وميثولجيا اليونان.
ولعلك تعجب إذا قررنا لك أن المدنية الأوربية الحديثة بنظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وحياتها العلمية هي من أثر العقلية السامية قديما؛ حين تتلمذوا على العرب وشروحهم للفلسفة اليونانية والطب والكيمياء والجبر والهندسة وغيرها، وحديثا ممثلة في بني إسرائيل الذين نزحوا إليها من مئات السنين بعد أن عاشوا طويلا في الصحراء، ولو كانت البيئة الصحراوية لا تنتج إلا عقولا مجدبة وخيالات ضحلة، وفكرا غير قادر على الخلق والابتكار، ونفسا لا تعرف الفلسفة ولا تقدرها, لظل اليهود كذلك في رحلتهم الدائمة بأوربا مهما تغيرت بهم البلاد والبيئات، ولكنا نرى الأوربيين في كثير من الأحيان يعترفون للتوارة بالفضل، وللشعب الإسرائيلي وليد الصحراء بالعبقرية والنبوغ، والعقلية السامية متكافئة في اقتدارها وعالميتها، واللغة العربية والعبرية توأمان نشأتا من أصل واحد, وهذا "رينان" يقول: "ليس في ماضي النوع الإنساني ما يثير اهتمام الفكر الفلسفي سوى تاريخ ثلاث شعوب، تاريخ إسرائيل، والتاريخ الإغريقي، والتاريخ الروماني".
وما بالنا نقص عليك أقوال الأوربيين، ولا نسوق لك الأمثلة الحية الصادقة على أن اليهود هم الذين أسسوا الحضارة الأوربية الحديثة، وهم قادة الفكر فيها حتى اليوم، على الرغم من أنهم قلة مضطهدة.
Page 400