"ولم يتول قبله ملك من تلك العصابة، ولا ساواه غيره في تربية الرعية بهذه المثابة، فالفخار شعاره، والمجد دثاره، وكان أحظى الملوك باكتساب الطاعة من رعاياه والانقياد، كما كان أعظمهم في الهيبة عن الأخدان والأضداد، وربما كان دونهم في مثل الرعية إليه، ومحبتهم له بانعطاف القلوب عليه، فطالما رأيناه تتقلب عليه صروف الزمان، وتتلاعب به حوادث الحدثان، وهو عند النصرة يظهر الفخار، ويتجلد عند الهزيمة، ولا يظهر بمظهر الذل والانكسار، فقد أرهب عنده عشرين أمة عليه تعصبت، وعلى قتاتله تحالفت وتحزبت، وبالجملة فهو أعظم الملوك في حياته، وكما كان عظيم العبرة عند مماته1".
وترجمة رفاعة لتليماك تدل على اتجاهه الحديث في الأدب، فتليماك رواية فرنسية اسمها: Les Aventure de Telemaque كتبها قسيس فرنسي يدعى فنلون Fenelon وقد سمى رفاعة الرواية "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك" ولعل الأدب العربي الحديث لم يعرف رواية فرنسية ترجمت قبل تليماك، ولقد أراد رفاعة أن يوجه أذهان الناشئة إلى أهمية القصة في الأدب، وأنها لون من ألوانه, لم يعبأ به العرب من قبل، وأنها ستكون جليلة الشأن في التربية.
ويقول رفاعة عن كتابه تليماك الذي ترجمه وهو في السودان: "إن تعريب تليماك، بكل من في حماك، أو ليس إنه مشتمل على الحكايات النفائس، وفي ممالك أوربا وغيرها عليه مدار التعليم في المكاتب والمدارس، فإنه دون كل كتاب، مشحون بأركان الآداب، ومشتمل على ما به كسب أخلاق النفوس الملكية، وتدبير السياسات الملكية"2.
ومن هذه الأمثلة وغيرها مما مر بك, ترى أن رفاعة قد حمل لواء النهضة الجديدة في الأدب، وأنه جدد في أغراضه، كما جدد في أسلوبه، وإن لم يتخلص جملة من كل تلك القيود القديمة، والزخارف اللفظية، ورفاعة لم يكن ذلك الشاعر الفحل، ولكنه كان أديبا سلمت له بعض الأبيات التي تدل على ذوق سليم، وتدل على أنها تباشير الشعر الجديد.
Page 38