Faysal Premier : Voyages et Histoire
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
Genres
أربعة متنكرون في زي التجار أموا المعرض في تلك الليلة متفرجين متنزهين، وكل واحد منهم طلق المحيا، طليق عنان النفس، يروم من الزمن ساعة ولا كالساعات، تعود فيها الحياة إلى صفائها الأول وطهرها القديم، وكان فيصل طروبا في اجتماعه بهارون، وهارون مبتهجا بلقاء فيصل.
وقفنا عند الساعة الأعظمية، ونحن مثل غيرنا هناك معجبون بدقة صنعها، وضخم هيكلها. ولكن الخلفية هارون هز برأسه، وقال: «كأن رقبة الصانع من الخيزران، أويظن أن رقاب الناس تمط لتصير كرقاب الجمال؟ وهل أفك رقبتي - بارك الله فيك - لأدرك مصير الزمان؟ أين التناسب يا فيصل بين الساعة وقاعدتها؟ هذا نقص في الصناعة وخلل في الفن، ما كان أهل الصناعات والفنون في أيامنا يقترفون مثل هذه الذنوب، بل كانوا يرعون قاعدة التناسب والانسجام. وكنا - بارك الله فيك - إذا أخل أحد بها ننبهه ونهديه، وإذا استمر في فعلته نقصيه. كنا ننشد الكمال فيما نصنع ونخترع، وإن كان قليلا. ولا عجب إن بدت أعمالنا حقيرة في هذا الزمان. إلا أننا، على قلة بضاعتنا، كنا ننشد الكمال - ما تسمونه اليوم المثل الأعلى - في كل شيء منها؛ إي والله المثل الأعلى في كل شيء وحتى في التهتك. لولا ذلك، بارك الله فيك، لما قربت مني هذا الخبيث، الذي يتدحرج في أموره من تحت إلى فوق.»
فانتفض أبو النواس وقال: «ولولا ذلك لشنق مولاي هارون نفسه. أفلا تذكر - أطال الله عمرك - ما قلته لي يوم عدت بعد غيبة في الحانة: «شهر في الحانة، يا خبيث!» إني أذكرك بما قلت مع بنت الساقي ورفيقاتها، خير من سنة في القصر مع المعتقات من الحريم.» - «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومن تهتكك، أيها الأثيم.» - «وما تهتكنا - أطال الله عمرك - إذا قسناه بتهتك أهل هذا الزمن؟! قد لا تجد في هذا المعرض أثرا منه. في هذه الجادات المتألقة، وبين هذه الزينات الباهرة، والآثار الصناعية الساحرة، يخسف الحسن حتى في ولدان الجنة. أما إذا خرجت من ها هنا وجلت في المدينة، فإنك لترى العجب؛ هناك في الحانات والمقاهي والمرابع ترى المئات والألوف من تلاميذ الداعي لكم بطول العمر حسن بن هاني.» - «أولم تر في بغدادنا غير هذا يا أبا نواس؟» - «عفوك، سيدي فيصل، إني فيما قلت مفاخر لا مهاتر. وقد شاهدت غير ذلك مما يدعو للفخر والابتهاج أن في هذه البغداد، يا مولانا، من العلوم والفنون ما يحمل كبار علمائنا وفقهائنا على الانزواء والاختباء، وكنا نحن مع ذلك حاملين مصباح العلم والفلسفة. ما شاء الله، ما نورنا إذا قابلناه بنور اليوم غير نور الحباحب، يظهر لي أن كل شيء في هذا الزمان كبير ضخم عظيم، مثل هذه الساعة. العلم والفنون والدعارة، كلها جبارة، إني والله أخشى أن أعيش في هذا الزمان، فإن قلت الشعر قاله مثلي مئات، وإن جلت في الحانة ضعت بين المتخمرين والمستخمرات، وإن قلت يا غلام قالوا كلهم هات هات. حسن بن هاني تدحرج مرة من تحت إلى فوق، في بيت من الشعر، والناس في هذا الزمان يتدحرجون على الدوام ولا يصحون، على ما يظهر لي، ليدركوا حالهم؛ ليعرفوا في الأقل هل هم فوق أم تحت ... والمزلقات والزلاقات كلها من عند أولئك الفرنجة، الذين كانوا في زمانك يا مولاي مطمورين بالجهل، كانوا البرابرة وكنا المتمدنين. أما اليوم - الله، الله! - هم الأساتيذ في العلمين والمسيطرون في الخافقين.»
كنا نمشي الهوينا، والأنظار منا تسيح بين المتفرجين، وتقف هنا وهناك عند الآثار المعروضة، بينما كان أبو النواس يحدث ولا يبالي، كأنه يخطب في الحانة لكيلا يسمع أصوات الناس، وما أدهش الخليفة فيما قال ولا أدهش الملك ، بل كان الاثنان عندما وقف عند «العلمين» و«الخافقين» يتحدثان في موضوع آخر.
فسمعت هارون يقول لفيصل: «لو كان للفرنجة في أيامي جزء صغير مما لأبنائهم اليوم من العلوم، لفتحت لهم بلادي، وقصري، وقلبي.»
فقال فيصل: «فتحت قصورك، وفتحت قلبك للبرامكة؛ ورأيت ما كان منهم.»
بهت هارون، ونظر إلى فيصل ملوما، فقال: «سامحك الله، سامحك الله، أما وقد ذكرت البرامكة فسأصارحك في أمرهم؛ كان البرامكة في الملك أنوار العدل والحكمة، وكانوا في قصورهم من أبناء الغرور والحماقة، نقلوا الحكومة إلى قصورهم، وطمعوا ببلوغ ذرى البذخ والكرم والمجد، ظنوا - بارك الله فيك - أنهم يبارون هارون ويفوقونه، وكنت في بادئ الأمر أقول: دعهم ينفقون في ملكنا ما جاءهم من خراجنا. ولكن، إذ استفحل أمرهم، أدركت خطئي. هذا، بارك الله فيك، ما كنت أقوله وأنا الخليفة الرشيد.
أما الآن، وأنا هارون بن المهدي فأقول: أنكرت يومذاك حكمتي، وما كنت يا أخي فيصل إلا بشرا، فنزا بي القلب - بارك الله فيك - إلى ما نظنه واجبا لإعزاز الكرامة البشرية التي تسترقنا. وترددت والله وتحيرت، وقلت غير مرة لنفسي: كن رشيدا، الصبر أجدر بك، والنصيحة أولى. فحاورتني النفس قائلة: إنهم من أساطين الحكمة والعدل في الملك، فهم في غنى عن النصيحة، يجب عليهم أن يكونوا في بيوتهم حكماء، فلا يجعلوها مقر الحكم والسيادة.
البرامكة - بارك الله فيك - نصبوا المشنقة لأنفسهم، وأنا الخليفة هارون الرشيد شددت الحبل. ومع ذلك أقول لك يا فيصل إني نادم على ما كان، ولو كان لي أن أجلس مرة أخرى على عرش بغداد لكنت أرحب بكل أجنبي ذكي نشيط، على شرط ألا يتدخل في السياسة، وأن يحترم شرائع البلاد، وأن يروض حريمه على الصبر والعفة، أو يدخلهن حلالا في دين المسلمين ... إن في الرجل المتعلم، العامل المجتهد بركتين؛ بركة لنفسه وبركة للملك. وإن في الرجل الجاهل الخامل الكسول القنوع لعنتين؛ لعنة تلزمه، ولعنة تلحق بالملك وبالأمة.» - «في كلامك يا أخي هارون كنوز من الحكمة، وإني منتفع بها ونافع لأهل العراق إن شاء الله، ولكن الأجنبي في هذه الأيام يحترم الشرائع أكثر من الوطني، أتدري السبب؟ إني أصارحك يا أخي كما صارحتني، الأجنبي يحترم الشرائع؛ لأنه هو الذي يسنها، فهل كان البرامكة يسنون الشرائع في أيامكم؟» - «لا والله، إلا بعض القوانين، وبمشورة الخليفة وإرادته.» - «وهل حاولوا أن يقتلوا الثقافة العربية بنشرهم الثقافة الفارسية في البلاد؟» - «بل عكس ذلك، الثقافة العربية - بارك الله فيك - كانت في أيامنا الثقافة العليا، الثقافة المنشودة في كل الأمم، والمفاخر بها في كل الأمم.» - «ولو حاول البرامكة أن يسنوا شرائع البلاد ويستقلوا بالعمل، ولو حاولوا أن يقتلوا الثقافة العربية بنشرهم الثقافة الفارسية، ولو كانوا يجيئونك اليوم بعد اليوم قائلين: «امض يا هارون هذا الأمر.» و«انشر يا هارون هذا البلاغ.» ثم يدعونك إلى قصورهم ويأدبون لك المآدب؛ فما كنت تفعل يا أخي؟» - «واحدا من أمرين؛ إما أن أنتقل إلى الحانة فأقضي فيها بقية أيامي أنا وأبو النواس، وإما أن أنصب المشنقة للبرامكة بيدي قبل أن يصيروا أصحاب الأمر والنهي في البلاد. ولا تنس، بارك الله فيك، أني ما غمدت السيف مرة - سيف الحق - سيف النبي عليه السلام؛ لقد كان دائما مسلولا.» - «وما قيمة السيف يا أخي في زمن الدبابة والطائرة؟!» - «فقهت - بارك الله فيك - فقهت معناك، لكل أجل كتاب، وكتاب هذا الزمان العلم، بل العلوم الطبيعية والفنية، إنك على حق يا فيصل، إنك على حق، وإن ثروة العقل لأكبر الثروات وأضمنها، ولكن أجدادنا علمونا أن نحترم العلم، ونكرم النبوغ، إن كان عربيا أو عجميا، وقد عملنا نحن بما علم الأجداد، أليس الأمر كذلك يا أبا نواس؟»
قال هذا ملتفتا، ثم وقفنا كلنا مدهوشين، أين أبو النواس؟! لقد أضعناه، فقال الخليفة: «من عادته أن يختفي ثم يظهر، أنا أعلم الناس بأمره هو قافية شاردة، وقاه الله شر القوافي ... أعود إلى ما قلت، فهل كنت أصبر على هذا الخبيث، أبي النواس، وأتحمل شواذه، لو لم يكن شاعرا مجيدا، وعبقريا فريدا؟»
Page inconnue