Faysal Premier : Voyages et Histoire
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
Genres
عندما اجتمع فيصل وعبد العزيز على المركب الحربي البريطاني في خليج البصرة، في شهر شباط سنة 1930، سلما سلام الإخوان، وقبل الواحد منهما الآخر على الطريقة العربية، ثم قال فيصل لعبد العزيز: «لست الآن فيصل بن الحسين يحدث عبد العزيز ابن سعود، إنما أنا ملك العراق وأنت ملك الحجاز ونجد. فإذا كنت تنظر إلي في اجتماعنا هذا بصفتي الشريف فيصل بن الملك الحسين، الذي كان بينك وبينه ما كان، فإنك تحتقرني، ولكن اجتماعك هو بفيصل ملك العراق، وبصفتي هذه أحب وآمل أن تكون بلاد نجد والحجاز سعيدة، وأن تكون على ولاء وبلاد العراق.»
ومما قاله بخصوص المخافر التي بنيت قرب الحدود بين العراق ونجد: «ما بنيناها عداوة لأهل نجد بل مساعدة لكم، يا أخي. بنيناها لردع القبائل، قبائلكم وقبائلنا، عن الغزو والتجاوز، فإذا جاء الإخوان صائلين نردهم خائبين، فيتعودون الطاعة للنظام، فيهون عليكم إذ ذاك ضبطهم. وكذلك أقول في قبائل العراق، المخافر هي لمصلحة بلادكم - والله - وبلادي.»
الملك عبد العزيز: «أقسم بالله أن ليس في قلبي ذرة من البغض أو من الاحتقار لفيصل، وما فيه لفيصل غير الحب والإكرام، والله وبالله ورب البيت، جئت تابعا قلبي إلى هذا الاجتماع، وإني أسأل الله أن يوفقنا جميعا إلى ما فيه خير العرب.»
وعندما كان الأمير فيصل ابن الملك عبد العزيز في أوروبا، وعاد منها بطريق روسيا وطهران ووصل إلى بغداد في صيف سنة 1932، رحبت الحكومة به ترحيبا جميلا، وشاركها الشعب بمظاهرات الإكرام والولاء، حل الأمير فيصل ضيفا على الملك، فأدب له مأدبة رسمية، وخطب فيها مطريا الملك عبد العزيز، الزعيم العربي العظيم. وما كان الملك عبد العزيز أقل كرما وإخلاصا؛ فقد أبرق إلى الملك فيصل يقول: «إن عروة الإخاء الوثقى بين أهل نجد والحجاز وأهل العراق هي من فضل فيصل.» إني على يقين أن هذه العواطف المتبادلة بين العاهلين هي فوق السياسة، هي من القلب.
فقد قال لي الملك عبد العزيز، عندما زرته أخيرا في جدة: «إن الملك فيصلا صديق مخلص، وعربي شريف كريم الأخلاق، وزعيم مقتدر حكيم.»
وقال لي مرة وهو يجنح إلى الدعابة: «فيصل يقول إنه يحب أن نزور أميركا أنا وإياه، وكيف نسافر إلى أميركا، وحدنا؟ والحريم، لا والله، النساء هناك سافرات، ونحن متبعون في الحجاب سنة النبي
صلى الله عليه وسلم . نسافر ونترك الحريم، هذا ما يصير. نأخذ الحريم معنا ونحجبهن، هذا صعب والله ... ولسنا من الذين يقولون بهذا الذي يسمونه روح العصر، فنكتفي بواحدة لا غير. إننا متبعون السنة النبوية، نأخذ ما يجيزه النبي ونمتنع عما يحظره، فقد أجاز لنا التمتع بما نشاء من النساء، مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت أيديكم لغيرنا من حكام المسلمين ما يشاءون، فقد لا يلزم بعضهم أكثر من واحدة ... أما نحن فإننا نتمسك بالحقوق التي يتنازلون عنها.»
قد تنازل الملك فيصل عن حق الزواج بغير واحدة، ولكن الملكة زوجته والأميرات بناتها لا يزلن محجبات، وما كان يستصوب الدعايات الدينية، والسياسة المبنية على الدين؛ أي إنه كان مخالفا للنزعة النجدية الوهابية، ولكنه أذن للمبشرين الأجانب بالدخول إلى العراق. وقد استحسن نبذ الطربوش في تركيا فنبذه في العراق، ولكنه أحجم عن القبعة واستعاض عنها بالسدارة. لقد وقف فيصل إذن بين ابن سعود ومصطفى كمال في بعض الأمور الاجتماعية. وما كان ذلك حرصا على كرامة يخشى أن تذل بالاقتداء، بل عملا بما رآه حقا في مثل بيئته وأحواله؛ فقد شاهدناه مقدما في بعض المواقف الخطيرة، عندما يتوضح السبيل ويتيقن الحكمة فيه؛ كالعمل للسلم ولتوطيد الولاء بينه وبين جيرانه. فما كان هيابا في هذا الأمر ولا اكترث لما قد يكون في إقدامه من المفاداة بكرامته.
كان في الأحوال المريبة والمواقف التي لا يترجح له فيها اليقين، يحجم ويتردد، ويسمع فوق ذلك لكل من جاءه ناصحا مشيرا. ولكنه في الأحوال المتأكدة، وإن تزاحمت فيها الأغراض والنزعات، كان يستقل بعمله، ويمضي لغرضه جازما حازما، فتظهر روح الزعامة فيه طليقة قوية. وقد كانت السكينة من سجاياه الكبرى في كل أحواله، بل كانت الركن الأول لقواه المعنوية والسياسية كلها. السكينة وما فيها من الغذاء للنفس، ومن أسباب السيطرة عليها، هذه هي ناحية من نواحي العظمة في فيصل، فقلما كان يرى في حالة الغضب أو الاضطراب؛ كأنه الأرز من الأشجار، لا تهزه الرياح العاصفة، قال لي أحد وزرائه: «أحب والله أن أراه مرة مغضبا أو مضطربا، وإن غضب مرة فلا يلبث أن يسكن ويروق. لا يمشي مع الغضب إلى النهاية، إلى ما لا تحمد عقباه.»
ومن مزاياه، مع ذلك، شدة الإحساس والتأثر؛ فإذا كان في مجلسه من لا يحب، أو من لا يثق به، كنت تراه منكمشا، متواربا بنفسه، ومقفلا عليها باب السكوت. يفعل ذلك وهو يشعل السيكارة تلو السيكارة؛ أو يلعب بسبحته. رأيته مرة يلعب بزر من أزرار صدرته كالولد الصغير، كأنه في كل ما ذكرت يغالب النفس المأسورة، المضغوط عليها، فلا تشتعل غيظا. وبكلمة أخرى كان يسوس جواد النفس فيه، الجواد العربي الأصيل، سياسة ماهر مجرب حكيم. بيد أنه كان يخشى في أيام الانتداب الأولى أن يجمح به فيبعده من تلك الحياة الملكية المكربة.
Page inconnue