Faysal Premier : Voyages et Histoire
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
Genres
في 10 أيلول 1922، حدثني الملك بما تم بينه وبين المستر تشرشل قبل مؤتمر القاهرة، وفي ذلك الاتفاق تعترف الحكومة البريطانية باستقلال المملكة العراقية، وتتعهد أن تلغي الانتداب، وأن تساعد العراقيين في تأسيس حكومة وطنية موطدة الأركان، وستعقد لقاء ذلك معاهدة ولاء وتحالف بين بريطانيا والعراق، يضمن فيها للحكومة البريطانية بعض الحقوق في ترقية اقتصاديات البلاد واستثمارها، وفي استخدام مستشارين وإخصائيين من الإنكليز لهذه الغاية، ولمعاونة الموظفين الوطنيين كذلك في إدارات الملك الجديد.
قال الملك فيصل: «وعدني المستر تشرشل وعدين؛ أن يلغي الانتداب، وأن يعترف باستقلال العراق. وقد جاءنا الآن بمعاهدة طافحة بذكر الانتداب وعصبة الأمم. فإذا كان الانتداب، فما الفائدة من المعاهدة وما الغرض منها؟ وإذا كانت المعاهدة، فما الحاجة إلى الانتداب؟ غني عن البيان أن أحد الصكين غير لازم وغير مفيد. إننا مصرون على ما وعدنا به المستر تشرشل، وهو ما يطلبه العراقيون، المعتدلون منهم والمتطرفون، وإني لا أزال أعتقل وآمل أنه يبر بوعده، وإلا فالموقف حرج، يا أخي، حرج جدا.»
قد كانت الأمة بأجمعها، إذا استثنينا فريقا من الموظفين وقسما من أهل البصرة، ضد الانتداب قلبا وقالبا. وما كان لفيصل، حتى إذا صرفا النظر عن وعد المستر تشرشل، غير هذا السبيل يسلكه فيقودها ويهديها إلى المحجة العليا، فلو أراد يومئذ أن يغير في سيرها، أو يلطف نزعتها إلى الاستقلال، لما استطاع ذلك. هي ذي الحقيقة التي أدركها وقبلها، ومشى في نورها حتى العقبة الأولى. ولا عجب إذا فضل ملكا مستقلا على ملك مقيد بالانتداب، وبإرادة المندوب السامي.
بيد أنه كان يدرك دائما ما عليه للإنكليز، ويوازن ويقارن بين الحقيقتين؛ حقيقة الدين وحقيقة الوعد، فيحاول أن يقف بين الاثنين وقفة الصادق الكريم؛ الصادق في وطنيته العراقية، الكريم في تقديره الجميل، وكان يتحاشى ما فيه شيء من العداء أو الجفاء للإنكليز، وهم يومئذ أصدقاؤه الوحيدون. هو الذي صرح بذلك، وكانت صراحته تشف عن مراكد الغم في أعماق نفسه.
وهاك الحديث من مذكراتي: «لو رحت أبحث اليوم عن حليف للعراق فأين أجده؟ في فرنسا؟ الفرنسيس أعدائي. في تركيا؟ ما انتهت الحرب بيننا وبين الأتراك. في العجم؟ إن حكومة العجم تزيد بمتاعبنا وبمشاكلنا في تدخلها بشئون الشيعة في العراق. أين أجد الحليف؟ في نجد؟ لا تزال خطة ابن سعود حربية أكثر منها سلمية، وفيها الخطر عليه وعلينا سواء. أفلا ترى أننا محاطون بالأعداء،
1
ولا أصدقاء لنا غير الإنكليز؟ هي الحقيقة، يا أخي، وإذا اعترفت بها، وقبلتها وعالجتها بالتي هي أحسن؛ قالوا إني أمالئ الإنكليز وأخدم سياستهم ... والإنكليز، العياذ بالله.»
عاد إلى وعدي المستر تشرشل واستطرد قائلا: «وهم يطلبون مني أن أوقع معاهدة لا تمكنني من تأسيس حكومة وطنية قوية، ولا تمكننا لذلك من القيام بتعهداتنا. خذ الجيش مثلا، نحن نبغي جيشا وطنيا، ولا أحد يتطوع وفي البلاد انتداب، والبرهان بسيط، يقول العراقيون: إذا كان الإنكليز مقيمين في العراق فليدافعوا عنه بجيوشهم، هذا حق، بل هذا منطق.»
كان يحدثني بلهجة هادئة صافية، إلا أنها شديدة بليغة، وقد ظهرت شدتها حتى في همسه، وبدت بلاغتها حتى في وقفاته، وفي ملامحه وحركاته، فكان ينزع خاتما من أصبعه ويلعب به، تهدئة لأعصابه. وعندما ذكر المستر تشرشل، لاح على جبينه لهب من الغيظ، فرفع السدارة عن رأسه ووضعها إلى جانبه على الديوان.
هي أول مرة شاهدته مكشوف الرأس، وكان ذلك بعيد شفائه من الجراحة، فذكرت، وأنا أتأمل وجهه، ما قاله فيه أحد الفرنسيين، وهو أنه شبيه بوجه المسيح؛ كان الشعر فوق جبينه العالي الناصع كثيفا يومئذ وخلوا من الشيب، وكانت سيماء وجهه الشاحب المتضمر أكثر وضوحا، وأبلغ معنى، فبدت العين أكبر مما هي وأبعد غورا ونورا، وبدا الفم في نبضه وغضه أكثر انفعالا وأشد كآبة، وذكرني النتوء في عظمي الخدين بما يبرز في وجه أبراهام لنكولن، وما كانت اللحية إلا لتزيد بطابع الهزال الذي زانه النبل، وتجلت فيه الروحية السامية.
Page inconnue