Faysal Premier : Voyages et Histoire
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
Genres
نعم، كنت مع حسن في روضة ساحرة، جالسين إلى خوان ساحر، يخدمنا عبيد الخاتم العجيب، وهم يحملون إلينا، من بين عرائش الورد وأشجار الرمان، أطيب المآكل وأفخرها. وما تخيلت هذا الخيال، ورحت سابحا فيه، إلا لأنجو من الحقيقة البشرية في تلك الساعة، ومن جوها المكفهر. وعندما عدنا إلى المدينة ما كنت في السيارة مع وزير من وزراء الدولة، لا، بل كنت راكبا وأخي حسن البصري بين جناحي ذلك المارد الكريم، الذي طار بنا، راجعا من وادي الكافور في بلاد الصين، إلى مدينة بغداد.
الأزمة الأولى
في فجر السنة الثانية من عهد فيصل، كان العراق يتمخض بالفتنة . وبكلمة لا مجاز فيها كانت أحوال العراق السياسية تنذر بثورة ثانية، لا على الإنكليز وحدهم هذه المرة، بل عليهم وعلى الحكومة الموالية لهم، وقد عصفت العواصف بادئ بدء في ثلاثة أماكن رئيسية، فاشتعلت النار في بغداد، وتطايرت الحمم من بركان النجف، وتحفزت العشائر للوثوب في قلب وادي الفرات.
وما تعددت في الأحزاب الأغراض والنزعات، بل كان صوت الوطنيين - على اختلاف رناته وصيحاته - واحدا في مطالبه، واحدا في احتجاجه، واحدا في يقينه، فكنت تسمع وترى كل من يحسن الخطابة أو الكتابة مطالبا بحكومة نيابية، وبملك مستقل كل الاستقلال، وحاملا على الانتداب والمنتدبين.
وقد اختلفت هذه الحملة عن الثورة في صيف عام 1920 بأمرين؛ بشيء من النظام، وبكل شيء من العتاد المعتاد. توحدت فيها المطالب، كما قلت، فكان لها ثلاثة أهداف؛ أي الوزارة والبلاط الملكي ودار الانتداب. وتجانست فيها الأسلحة، فكانت كلها، من مصانع اللغة: المدافع الرشاشة (الخطب والمقالات)، والطائرات المدمرة (القصائد)، والمدافع الصحراوية (فتاوى المجتهدين). ومن عجائب الأمور أن يتوهم الخصوم أنها كلها من مصانع «كروب».
وكانت في البداءة تبشر بالنصر؛ فقد صوب المجاهدون مدافعهم الرشاشة على الوزارة فأسقطوها، وحلقوا بطائراتهم فوق دار الانتداب، فأزعجوا أهلها وروعوهم بالقذائف (القوافي) النارية. وأطلق المجتهدون مدفعا من مدافعهم الصحراوية، فانفجرت بعض قنابله في جوار البلاط الملكي. وما كان للحكومة ولا للبلاط ولا لدار الانتداب، من القوات البرية أو الجوية في تلك الأيام ما يكفي لمحق فتنة صغيرة فضلا عن الكبيرة، ولا كان بإمكانهم، أو أنه ما خطر في بالهم، أن يجردوا على الوطنيين السلاح نفسه الذي تسلحوا به.
بلغت هذه الحملة أشدها في عيد الجلوس الأول، يوم كان الملك يشكو ألما واحدا من آلامه المتعددة؛ ألما جسديا من التهاب في الزائدة المعوية، وكان العراق يعدد، بلسان خطبائه وشعرائه، آلامه كلها، وفي رأسها الزائدة كذلك؛ تلك الزائدة التي تدعى الانتداب. وقد أشار الأطباء على الملك بجراحة في الحال، فشاء أن تؤجل إلى اليوم التالي، ولكن الوطنيين لم يؤجلوا ، بل كانوا قد باشروها واغتنموا فرصة العيد لإعلان أمرها، فراحوا يجتمعون ويخطبون، ويصدرون المناشير.
وهاكهم في النجف وهم في تحليقهم الشعري الوطني أبعد وأسد منهم في مسالكهم السياسية، ولقد كبروا الخيال وعظموه، شكلا ولونا، فتلفتوا إلى الماضي متلهفين متحسرين، وصاحوا بالحاضر مستعيذين منه بالله، ونظروا إلى المستقبل نظرة المدنف الحزين، كنا منذ سنة نتظلل ظلال الذكريات المجيدة، ذكريات الرشيد والمأمون، ونتلمس الحقيقة في تجديد ذلك العهد العربي السعيد، ونحن اليوم نتحرق في بوادي الخيبة والهوان. كنا منذ سنة في فجر الآمال الذهبية، ونحن اليوم في ليل دامس من البلايا الانتدابية والاستعمارية، ولكن للأمة صوتا قدسيا سرمديا، يصيح اليوم وغدا، ويستمر صائحا حتى تصير صيحاته سيوفا وقنابل على المنتدبين وأشياعهم أجمعين، بريطانيين وعراقيين. الله أكبر، الله أكبر!
وهاكهم في بغداد وهم في وطنيتهم وفي منطقهم أبلغ وأسد منهم في الأسجاع والقوافي؛ فقد كان لصوت الوطنيين المعتدلين والمتطرفين معنى ومغزى ورنة بدت جميعها جلية صافية فوق الشقشقات الخطابية، وعدتم البلاد في حفلة التتويج بحكومة نيابية دستورية، وها قد مرت السنة بكاملها والحكومة لا تعرف أدستورية هي أم انتدابية أم ملكية مطلقة. إن البلاد تشكو السياسة البريطانية المسترشدة بمبدأ «فرق تسد» الهادمة لآمالنا القومية والوطنية كلها. إن البلاد مهددة بالانتداب، والانتداب خطر على الحرية والاستقلال ... لقد أسقطنا الوزارة التي عينها البريطانيون، وجئنا نطلب وزارة وطنية صادقة يعينها مليك البلاد ... إننا نؤيد العرش، ونرفض الانتداب، ونطلب أن تحدد السلطة البريطانية في الدوائر الإدارية كلها، وأن يعقد المجلس الوطني، وألا تعقد معاهدة بين العراق وبريطانيا قبل أن يتم ذلك كله.
صبر الملك فيصل على آلامه يوم العيد، عيد الجلوس الأول، واستقبل المهنئين من رجال الحكومة والأمة، وقد جاء صباح ذاك اليوم وفد يمثل الحزبين الوطنيين ليسمع الملك شكوى العراق ومطالبه. مشى الوفد في شبه مظاهرة وطنية، فانضم إليه جماعات من الناس، فوصل إلى القصر حشدا كبيرا متحمسا هائجا، وهناك في فناء القصر وقف الخطيب ينادي الملك فيصلا ويسأله مقابلة الوفد.
Page inconnue