Faysal Premier : Voyages et Histoire
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
Genres
فقال السيد رستم حيدر: «ولكنك أنت كذلك خاضع لسلطة «الموضة» في ثوبك الفرنجي هذا، وقابل باستبدادها.»
فأجاب على الفور: «وأنا أيضا حمار!»
فضحك الجميع ضحكة المقتنع المستهتر، وكانت منهم تلك الليلة الضحكة الأولى والأخيرة.
مشينا إلى ردهة الاستقبال؛ حيث كان الملك فيصل واقفا يرحب بضيوفه وهو في الخوذة والثوب العسكري، وقد استوقف نظري صليب على صدره معلق بسلسلة ذهبية؛ هو وسام الملكة فكتوريا، وكان إلى جانب الملك أخوه الأمير زيد في ثوب ملازم أول وعلى صدره وسام النهضة.
وهو ذا المندوب السامي السر برسي كوكس، بطوله ونحوله وتمهله، يلبس ثوبا أبيض وقبعة بحرية، وقد توشح بوشاح القديسين ميخائيل وجرجس عليهما السلام. ولكن ألوان الوشاح، وتحتها الأبيض، بدت باهرة لاذعة، ما سوى ذلك فكل ما في السر برسي كوكس الظاهر للعيان هادئ ساكن مطمئن.
وكذلك قل في القائد العام، مع أنه كان يحمل حملين، الواحد على صدره من الأوسمة المتألقة حجارتها، والآخر على عاتقه مما ترمز إليه الأوسمة من العز والعظمة.
رأيت القائد العام يحدث السيد جعفر العسكري، فما أعجبتني صورة الاثنين معا؛ كان الإنكليزي الطويل القامة ينظر من علاه وهو يحني رأسه ومنكبيه، ليكلم العربي القصير السمين، الحامل كذلك بضعة أوسمة، ولكنه لا يحمل حملها الأثقل، ذلك الحمل الرمزي المخيف.
وهو ذا السيد ياسين الهاشمي، ياسين الصامت، بثوبه الرسمي وأوسمته، وهو صنو جعفر فيما ذكرت. مساكين هؤلاء العرب؛ فهم لا يعرفون قيمة الأوسمة، فيحملونها على صدورهم خجلين، كأنها نقود مزيفة.
أما السيدات الإنكليزيات فقد كن في أثوابهن باهرات، وما كان بينهن غير واحدة جميلة، وواحدة تستلفت الأنظار وتستوقفها، دون شيء يبهر في ثوبها أو طلعتها، كانت تؤثر البساطة في الملابس، والانزواء في الحفلات، ولكنها فيما وجب مشت تتقدم أترابها، لا تصح اللفظة؛ لأن فيهن من هن أصغر منها سنا، وهل يصح أن نقول مشت تتقدم رفيقاتها، ومهنتها فريدة، لا تحسنها غيرها من جميع النساء، وقلما يباريها فيها الرجال؟ فمن هي؟ هي جرترود بل، مشت في تلك الساعة تتقدم السيدات الإنكليزيات لتسلم على الملك فيصل، فجثت أمامه وجثون بعدها كما يفعلن إذا ما مثلن بين يدي مليكهن في قصره. وكانت الجميلة منهن ترفل بثوب من الحرير الأخضر المزركش بشيء فضي اللون ... خير لي وللقارئ أن أقف ها هنا، وما شأني والفساتين، وأنا لا أعرف الفرق بين ال «تفتا» وال «كريب دي شين»؟!
إن أهم ما يسترعي النظر في هذا الجمع الباهر المتألق هو أن الإنكليز والعراقيين، الضيوف الأربعين، تخالطوا وتلاطفوا بسهولة عجيبة، لا اجتهاد فيها ولا تصنع، لا تنازل من قبل الإنكليز، ولا تزلف من قبل العرب. هي الحقيقة البليغة التي استوقفتني تلك الليلة وأدهشتني، ولا سيما وقد تجلت فيها العقلية الجديدة التي بدأت تسود رجالات الشرق والغرب، فلا تفاضل ها هنا، ولا شيء فيه تصاغر أو تكابر، ولا يخفى عليك أن قاعدة الإنكليز في الماضي هي ألا يخالطوا أبناء البلاد التي يحكمونها، ولا يخفى عليك أن العرب أنفسهم لا يزالون في حاجة إلى شيء كثير من القوى المعنوية، فضلا عن السياسية، ليطمئنوا إلى كرامتهم الشخصية والقومية، ومع ذلك فقد ظهروا تلك الليلة في مظهر حسن من الاطمئنان والكرامة.
Page inconnue