Flux de pensée (Première partie)
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genres
عشرة قروش - أحد عشر - اثنا عشر.
ألا أونا - ألا دو - ألا تريه.
وهكذا حتى تم بيع كل ما في الدكان، وفاء لأجرتها خمسة شهور تأخرت على الأسطى حسن.
وكان شعوري إذ ذاك مزيجا من غبطة وألم، وحزن وفرح؛ فقد آلمتني خاتمته، وأفرحني ما منيت به نفسي بعد ذلك من نوم هادئ سعيد.
ودعوت ربي جاهدا ألا يرغب في الدكان مستأجر بعد، فإن كان ولا بد فكواء أو عطار، لا نجار ولا بائع فراخ ولا مبيض نحاس؛ وقصرت شكواي على الله بعد أن جربت البوليس فوجدته لا يأبه لهذه السفاسف، وليس له من الزمن ما يلفته لهذه الصغائر.
ولكن أبى القدر أن يستجيب دعوتي - وكأن الدكان وقف على سكنى النجارين - فقد سكنها هذه المرة أيضا نجار، ولكنه من صنف آخر، هو نجار رومي، لم أشعر بسكناه إلا بعد شهر، إذ لم يكن في عمله شيء غير عادي، فهو يفتح دكانه وقت العمل، ويغلقها عند الغروب، وينجر فتندمج أصوات دقاته ونجارته في أصوات البائعين وحركات المارين.
دعوته يوما لإصلاح دولاب، فإذا شاب يشترك مع الأسطى حسن في سنه، ويختلف عنه في كل شيء آخر، جميل الهندام، وإن لم يكن ثمينه، صفف شعره في أناقة ولمعان، بينما اعتنى الأسطى حسن «بقصته» فقط - عمل عمله في هدوء وإتقان، وكأنه يحترم نفسه ويحترم عمله، ويقدر نوع معيشته وما يلزم لها، فطلب ضعف ما كان يطلبه زميله فدفعته راضيا.
له في جوارنا ستة أشهر أو تزيد، لم أسمع صوته، ولم أسمع شاكيا من تأخر موعد أو تصرف سيئ؛ ولم يقلق راحتى كما أقلقها من كان قبله، فهو وإن لم يكن كواء أو عطارا كالذي رجوت، فليس شرا منهما، وتبين بعد أن الأمر ليس نوع الصناعة، وإنما هو نوع الصانع. •••
ونزلت بيتا في ضاحية من ضواحي الأسكندرية ، فرأيت (فيلا) جميلة على شاطئ البحر، لا يسكن مثلها - عادة - إلا من ورمت جيوبهم، وانتفخت محافظهم، راديو، وبيانو، وما شئت من أسباب النعيم ورفاعة العيش؛ ولكن لفت نظري رجل يلبس قباء، ويحزم وسطه بحزام، وعليه جاكتة بسيطة نظيفة، قد أرخى لحيته، ودفع طربوشه إلى الوراء، يحمل أقمشة على كتفه يكاد ينوء بحملها، وهو من الصنف اليهودي الذي تراه يجول في الشارع كل يوم يبيع (الدمور) و(الزفير) و(الباتستا). حيرني أمر هذه الفيلا بجمالها ونظافتها، وأمر هذا الرجل يخرج صباحا يحمل سلعته على كتفه وقد سمنت، ويعود مساء وسلعته على كتفه وقد هزلت؛ أمستأجر هذا الرجل حجرة صغيرة في البيت، أم قريب فقير لأصحابه عطفوا عليه وأووه، واحتملوا منه أن يعيش بينهم وينزل في مسكنهم؟ - وفي الحق كان هذا لغزا شغلني شرحه، وأعياني حله؛ ثم هدتني المصادفة البحتة إلى استكشاف الأمر وافتضاح السر: هو رب البيت! وعميد الأسرة، وليس فيها إلا زوجه وأولاده؛ ولكن كلهم يعمل، وكلهم يكسب: هذه الخياطة، وإحدى بناتها معلمة بيانو، وهذا ابنه كهربائي، وهذا الآخر يعمل في مصلحة التلغراف، وكل كاسب يعطي ما كسبه لأبيه، ويجمعون من ذلك ما يجمعه موظف وسط أو فوق الوسط، ثم هم جميعا يعلمون كيف يعيشون، وكيف ينعمون بالعيش بأقل نفقة، ويعلمون ما ينفقون وما يدخرون.
قارنت بين هذا الرجل ورجل مصري آخر، كان يجول أمام بيتنا أيضا، ويحمل سلعة كسلعة اليهودي، وينادي على (حرير المحلة)، وتصورته وبؤسه، وتصورت أسرته وبؤسها، وكيف يتحد العملان، وتتباين المعيشتان. •••
Page inconnue