Flux de pensée (Première partie)
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genres
وهذا هو الشان في القضاء؛ ففي القضية يتولى محامون جانبا من جوانب القضية يبذلون علمهم وفصاحتهم ومهارتهم الخطابية والقانونية في أحقية جانبهم، ويفعل مثل ذلك محامو الجانب الآخر؛ ثم يقف القاضي موقف الناظر إلى الجانبين ويفاضل بين وجهتي النظرين، فقد يقتنع بجانب منهما ويقضي به، ولكن في كثير من الأحيان يلجأ إلى المصالحة؛ ولست أعني أن يصلح بين الخصمين، ولكن أعني أن يرى لكل خصم جانبا من الحق وجانبا من الباطل فيصالح بين وجهتي النظر ويشتق منهما معا حكمه، فهذا هو التصالح.
فإن نحن جئنا إلى السياسة فمجال القول ذو سعة؛ فالأحزاب السياسية البرلمانية تقوم في قضايا الأمة العامة مقام المحامين في القضايا الشخصية في المحاكم، كل يؤيد رأي حزبه ويدعمه بالحجج، ويبين الخطأ في وجهة نظر خصمه، ثم يقوم الاقتراع على الرأي مقام القاضي في المحاكم؛ وفي كثير من الأحيان تكون المصالحة أيضا، أعني أن يتنازل كل حزب عن بعض رأيه ويأخذ ببعض رأي الآخر وهكذا، نزولا على قاعدة أن كل حزب يجب أن تسيره مصلحة الأمة لا مصلحة حزبه الخاص.
فمعنى الحزب السياسي جماعة لهم مبادئ معينة يرون أن الحكومة يجب أن تسير عليها لتحقيق مصلحة الأمة، ولهم وسائل معينة في تحقيق هذه المبادئ، ولهم خطة معينة في ترقية الأمة من ناحية يرون أنها أهم النواحي، وهم يعملون للوصول إلى الحكم لتحقيق هذه الأغراض النافعة للأمة.
والحكم في صلاحية حزبهم - أو بعبارة أخرى في صلاحية مبادئهم أو عدم صلاحيتها - هو رأي الأمة في الانتخاب.
ولكن مبادئ كل حزب إذا نزلت من سماء نظريتها إلى حياتها الواقعية تبين أنها في حاجة إلى تعديل وإصلاح، وأن مبادئ الأحزب الأخرى قد يكون فيها من الخير ما ليس عند غيرها، فتتصالح المبادئ.
هنا النظر يلطف حدة كل من المتخاصمين، ويحمل كل خصم على احترام خصمه كما يحترم نفسه، وألا يعتقد أنه هو وحده العاقل الأمين وأن خصمه هو الجاهل الخائن، بل يعتقد أن له وجهة نظر جديرة بالاحترام، ولخصمه وجهة نظر أخرى جديرة بالاحترام كذلك.
وبعد، فلعل ما يصيب الشرق الآن من اضطراب سياسي سببه أنهم لم يعرفوا هذا الخلق ولم يفهموا سره؛ ولذلك لا يجدون أنفسهم في حاجة إلى البحث عن كلمة تدل عليه.
أعتقد أن الخصومات الفردية تتلطف كثيرا بهذا الخلق، وأن الخلافات الحزبية تفقد حدتها إذا سارت عليه.
فهذا الخلق يجعل الأحزاب السياسية المتنازعة تحترم وجهة نظر خصومها. وتنظر إليهم كأشراف لا مجرمين، وتعاملهم الند لا معاملة المتهم، وترى أن الحزب إذا تولى الحكم فليس يحكم حزبه، ولكنه يحكم الأمة على اختلاف أحزابها، فهو مطالب أن يعدل في خصمه كما يعدل في مؤيده؛ وهذا الخلق يجعل صاحبه ينظر إلى خصمه كما تنظر كل فرقة في لعب الكرة إلى الفرقة الأخرى كلهم يتسابقون ويتراكضون، وكل فريق يود الغلبة، ولكن قانونهم جميعا في اللعب هو قانون الشرف؛ فإذا انتهى اللعب صافح كل خصم خصمه، ولا غل ولا ضغينة، وتبين لهم أن الخصومة كانت مصطنعة، وأن الغرض قد تحقق للغالب والمغلوب معا، وهو الرياضة البدنية للجميع.
كم أتمنى أن ينتبه الناس لهذا الخلق «خلق المصلحة» وأن يكرروه وأن يستعملوه في لغتهم وفي معاملتهم، وأن يضعوه في أول ثبت الأخلاق بجانب الصدق والشجاعة والعدل.
Page inconnue