Flux de pensée (Première partie)
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genres
لعلك تشعر معي أنك ترى الرجل أو تحادثه أو تجالسه أو تسمع لمحاضرته، فيشع عليك نوعا من الإشعاع يخالف الآخر كل المخالفة، قد تحسن التعبير عنه وقد لا تحسن؛ فهذا يشع عليك سرورا وأريحية واطمئنانا، وهذا يشع حزنا ووجدا ورقة وحنانا، وذاك يشع هيبة وجلالا ووقارا، وآخر يشع ضعة وذلة وهوانا؛ وقد تحس من رجل بنوع من الأشعة تدركه وتستطعمه ولكنك لا تستطيع وصفه، كما إذا أكلت كمثرى وتذوقتها وأردت أن تصف طعمها لمن لم يذقها.
في الناس من إذا جالسته أشع عليك نورا أضاء لك ما بين جوانبك فأدركت نفسك، وأشع نورا على العالم الذي حولك، فتبينته وعرفت محاسنه ومساويه، وأدركت مكانك منه، ورأيت كل شيء حولك صافيا بينا كأنك تنظر إليه من مصباح
المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار .
وفي الناس من يجالسك فتتلقى منه أشعة مظلمة تنقبض لها نفسك، وتظلم جوانبها، وتحس بميل إلى الفرار منها، وتتنفس الصعداء إذا بعدت عنها ونجوت من ظلامها وخرجت إلى النور.
قديما قالوا: «درة عمر أهيب من سيف الحجاج»؛ ذلك لأن عصا عمر كان معها يد عمر ومعها نفس عمر؛ وهي تشع جلالا وعظمة، وتخضع أمام أشعتها نفوس الجبارة، ويحس كل من وقعت عليه هذه الأشعة أنها صادرة من مستودع قوى دونه المصباح الكهربائي، البالغ ما وصل إليه العلم من القوة. وأما سيف الحجاج فمعه نفس الحجاج، وهي تشع من غير شك قوة، ولكنها قوة على الجسم لا على الروح، قوة تخاف وترهب، ولكن لا تحترم ولا تحب؛ أشعة عمر كانت تطاع سرا وعلنا، وأشعة الحجاج تطاع علنا لا سرا؛ لذلك كفت عمر عصاه، ولم يغن الحجاج سيفه.
هذا الإشعاع هو السر في أنك تلقى عظيما فيملؤك حياة ويملؤك قوة، بهيئته وبنبرات صوته، وبطريقة تعبيره وبنظراته، وبإشارته وبهزة رأسه وبحركة يديه؛ فكأن في كل عمل من هذه الأعمال يوصل بينك وبينه تيارا كهربائيا قويا يهزك هزا عنيفا. قد لا يحدثك طويلا، وقد لا يكون لكلامه في الواقع قيمة ذاتية؛ ولكنه يوقظ نفسك ويحيي روحك، وتبقى رنات كلماته في الأذن الأيام والليالي، تعمل عملها في هدوء حينا وعنف حينا. وأصدقك إني لقيت عظيما من هذا النوع يوما فخرجت من مجلسه مملوءا حماسة وقوة وحياة، حتى إذا بلغت إلى محطة الترام لأركبه إلى مسافة بعيدة عفت الركوب؛ لأنه يبعث علي السكون، ونفسي ثائرة، والمشي في شدة القيظ ظهرا أفضل لها وأكثر موافقة لما هي فيه من نشاط وقوة - إذا ذكرت الآن كلامه لم أجده ذا قيمة؛ وكثير من الناس يتكلمونه ويتكلمون خيرا منه وأسمى وأعمق، ولكن أحدا منهم ليس له هذا الإشعاع ولا قوته وعظمته. وحدثني من أثق به أن الأستاذ جمال الذين الأفغاني كان يرتطن عجمة، ولم يكن فصيح اللسان ولا سلس القول؛ ولكن تجلس معه فيشعلك نارا دونها فصاحة الفصيح وبلاغة البليغ؛ لأنها النفس مستودع كهربائي قوي يصعق أحيانا، ويضيء أحيانا، ويدفع للحركة أحيانا.
والرجل العظيم، أو الكاتب الكبير، أو المؤلف القدير، يخرج ما ينتجه كتلة من الأشعة من جنس نفسه. ألست تقرا المقالة أو الكتاب فيشع عليك معاني مختلفة، منها الهادئ الرزين، ومنها القوي المتين، منها المضحك، ومنها المبكي، منها الذي يأخذ بيدك فيصعد بك إلى السماء، ومنها ما يدفعك إلى الحضيض؟ وآية هذا الإشعاع أنك تقرأ المقالة أو الكتاب فيبعث عندك من المعاني ما لا تدل عليه الألفاظ من طريق الحقيقة ولا المجاز، بل ما بين السطور يشع كالسطور نفسها؛ أو لست ترى مقالة الإشعاع في باب العلوم أشعت علي معاني في باب الأدب؟
ليسم هذا علماء النفس تداعي المعاني، أو ليسموه إيعازا أو اقتراحا، أو ليسموه ما شاءوا، فليست إلا إشعاعات نفسية من جنس الإشعاعات التي يشعها الأشخاص في كلامهم وحديثهم وحركاتهم فتلقف منها من المعاني ما يقرب وما يبعد.
وفي الأماكن كذلك أشعة مختلفة؛ فشارع عماد الذين يشع رغبة في اللهو وميلا إلى مسرات الحياة، والمساجد تشع ميلا للعبادة، وتمجيدا لله، والبحر الجليل يشع عظمة وجلالا، ونجوم السماء تشع حسنا وجمالا، والبنك يشع حبا في المال، والجامعة تشع حبا في العلم، بل وكل بلد يشع نوعا من الأخلاق؛ وإلا فلم يذهب المصري إلى إنجلترا وقد اعتاد الفوضى في حياته ومواعيده وصحوه ونومه، فما هو إلا أن يطأ أرضها حتى ينقلب خلقا آخر، دقيقا في نظامه، دقيقا في معيشته؟ ويذهب المصري إلى ألمانيا فيكون في بيئة علمية، فيشرب من مشربهم ويسير سيرتهم؛ فإذا عاد هذا وذاك إلى مصر عادا سيرتهما الأولى! ما هو إلا الجو النفسي تلقى فيه أشعة نفسية مختلفة الأثر، مختلفة الألوان.
ومن قوانين هذا الإشعاع النفسي أنه في كثير من الأحيان يعتمد على الفاعل والقابل معا، واعتماده على القابل أبين فيه من الإشعاع الحسي؛ فاللون الأبيض أبيض عند كل الناس، إلا من أصيب بعمى اللون؛ وليس كذلك الإشعاع النفسي؛ فالخطيب يخطب وإشعاعه يختلف باختلاف السامعين، والكلمة قد تهدي ضالا، وقد تضل هاديا، كما يقول المثل الإنجليزي: «إن الليل الذي يغمض عين الدجاج يفتح عين الخفاش»؛ وهذا هو السبب في أنك تستخف روح إنسان وغيرك يستثقله، وتعجب بقول متحدث ومن بجانبك يستخفه، وتتفتح نفسك لكتاب وغيرك ينقبض منه؛ ما هذا إلا لأن الإشعاع الواحد يختلف باختلاف من وقع عليه الشعاع، وأن هناك تفاعلا قويا بين مصدر الإشعاع وقابله؛ ومن أجل هذا قد ترى لصا في مسجد وعابدا في حانة.
Page inconnue