Flux de pensée (Première partie)

Ahmad Amin d. 1373 AH
158

Flux de pensée (Première partie)

فيض الخاطر (الجزء الأول)

Genres

1

ولجأ الأدباء من قديم إلى الأزهار والرياض، والمياة الجارية والمناظر الجميلة، كما لجأ بعضهم إلى الخمر يستلهمها ويستوحيها؛ وتكاد تكون لكل أديب عادة يرى أنها علة غزارته، ومفتاح إنتاجه، وأنه يستنزل بها العصم من الأفكار، ويستسمح بها الأبي من المعاني؛ ولكن هل نجحت كل هذه المحاولات في استكشاف قوانين التجلي؟ أظن أن نظرة بسيطة تكفي للقول بأنها لم تنجح؛ فقد تستوفي كل الشروط التي قالوها، فالصحة في أجود حالاتها، والغذاء خير غذاء، والكاتب أو الشاعر مطمئن النفس، هادىء البال، بين الرياض المزهرة والمياه الجارية والوجوه الناضرة، وهو مع هذا أجدب ما يكون قريحة، وأنضب ما يكون معينا؛ ثم هو يكون على العكس من ذلك كله فيواتيه شيطانه، وتتزاحم في صدره المعاني، وتتبارى على قلمه الآراء والأفكار والألفاظ.

ثم هذا أديب أو شاعر يجود قوله وتتجلى نفسه، في الأماكن الخالية والسكون العميق، وذاك لا يتأتى له هذا الموقف إلا في الأوساط الصاخبة والحركة المائجة. وأديب لا ينتج إلا إذا امتلأ جيبه واطمانت نفسه لحاجات الحياة، على حين أن الآخر لا يجيد إلا إذا فرغ وطابه، وعضه الفقر بنابه، وتكاثرت عليه الهموم.

فأين قوانين التجلي إذا كان يحدث في البيئة وضدها والظروف وعكسها؟ قد تكون كل المظاهر وكل ما يحيط بالنفس يؤذن بحال انقباض وجمود، وإذا النفس مع ذلك فياضة جياشة متجلية، وقد تكون المظاهر كلها تدل على نفس متفتحة للعمل، مليئة بالفكر، فإذا هي مجدية منقبضة. وترى الآراء القيمة والمعاني السامية قد تنبع من بيئة قاتمة، ونفس مظلمة، كما تخرج الزهرة من طين، أو كما يخرج الذهب من الرغام، والحرير من الدود.

أخشى أن يكون الذين قد وضعوا هذه القوانين وأمثالها للحظات التجلي قد تسرعوا في وضعها؛ فالإنسان معقد كل التعقيد، ولئن كان جسمه معقدا مرة فنفسه وروحانيته وعقله معقدة ألف مرة بل آلافا؛ وإن العوامل التي تؤثر في نفسه وروحانيته ليست الحالة البدنية، ولا الغذاء الصالح، ولا المناظر الجميلة، ولا الغنى والفقر وحدها، بل هناك عوامل أدق وأعمق وأغمض. إن الإنسان لا يعيش في بدنه وحده، ولا في محيطه فقط، بل إنه ليعيش في أصدقائه الأقربين والأبعدين، وإنه ليعيش في آبائه الذين كانوا وماتوا، وإنه ليعيش في ذريته الذين كانوا وسيكونون، وإنه ليعيش في أحلامه وآلامه وآماله، ويعيش في شبكات من تموجات نفسية دونها بمراحل شبكات التلغرافات والتليفونات، وتتسلط عليه أنواع من الأشعة لا عداد لها.

لعلنا لا نستطيع أن نستكشف قوانين التجلي إلا إذا عرفنا نوع النفس التي تتلقى هذه الأشعة، وعلمنا كل هذه المؤثرات، وهيهات!!

أدب اللفظ وأدب المعنى

من قديم اختلف علماء البلاغة: أهي في اللفظ أم في المعنى؟ وقد عقد عبد القادر الجرجاني فصلا ممتعا في آخر كتابه «دلائل الإعجاز» ذكر فيه حجج الفريقين: فقد كان فريق يرى أن المعاني مطروحة أمام الناس، والبليغ من استطاع أن يصوغها صوغا جميلا، وإنما يفاضل الأدباء بجودة السبك وحسن الصياغة. ويرى الفريق الآخر أن المعاني هي مقياس التفاضل، وأن الأديب يفضل الأديب بغزارة معانيه، وحدة أفكاره، وأظن أن الزمان فصل في هذه القضية، إذ أصبح واضحا أن حسن الصياغة، وجودة المعاني، عنصران أساسيان لا بد منهما للأديب، وأن من تجرد من أحدهما لا يسمى أديبا بحال، وأن المثل الأعلى للأديب معان غزيرة سامية، وصياغة جيدة محكمة.

غير أن هناك - ولا شك - مواضع تراعى فيها المعاني أكثر مما يراعى اللفظ وصياغته، كفصول النقد الأدبي، والمقالات العلمية الأدبية، والمقالات التاريخية الأدبية، وتراجم الأشخاص ونحوها؛ فالغاية من هذه الموضوعات ليست اللذة الفنية، وإنما الغرض الأول هو المعاني والحقائق، فيجب أن تكون غزيرة فياضة، وكل ما نتطلبه فيها من اللفظ أن يعبر عن هذه في دقة ووضوح؛ أما القصد إلى محسنات البديع ومجملات الصناعة فلا داعي له، وربما كان إفراط الكاتب في هذه المحسنات حجبا للمعاني عن الأنظار، ومظلة للعقول عن الوصول إلى حقيقة المعاني، وهي أقوم ما في الموضوعات.

وهناك ضرب آخر من الأدب كالشعر والقصص فيه مراعاة اللفظ وحسن السبك في المنزلة الأولى، ولست أعني أن الحقائق والمعاني فيهما مجردة من القيمة، بل هي كذلك من مقدماتها. والشاعر الذي يجيد السبك ولا يجيد المعنى ليس من شعراء الطبقة الأولى. وخير الشعراء من صح حكمه، واتسعت تجارته في الحياة، وكان له علم عميق بكثير من الأشياء التي حوله، ثم صاغ ذلك كله صياغة جميلة. وهكذا الأدب الصرف كالشعر والقصص والقطع الفنية الأدبية. ليس الغرض الأول منه نقل المعاني كما في الصنف الأول، وإنما الغرض منه إثارة عواطف القارىء والسامع.

Page inconnue