Flux de pensée (Première partie)
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genres
ولي كبد مقروحة، من يبيعني
بها كبدا ليست بذات قروح؟
قيمة الثقافة
للثقافة قيمة ماليه مقررة، فالليسانس والدكتوراه والدبلوم، وما إلى ذلك من الأسماء، هي عنوان للثقافة، أو بعبارة أخرى تتويج لمجهود سنين قضيت في تحصيل العلم. وتأتي «المالية» بعد فتقدر هذه الدرجات بالجنيه، وتجعل لكل منها قيمة مالية خاصة؛ ولها العذر في أن تخالف بين الدرجات، وتسوي بين حاملي الدرجة الواحدة وإن اختلفوا في مقدار الثقافة؛ لأنه لم يخترع إلى الآن مقياس دقيق يوزن به الفكر ومقدار استعداده وزنا صحيحا؛ ولو اخترع هذا الميزان لألغيت الدرجات، واكتفي بوزن الكفايات؛ لكن من لنا بذلك وقد عجزت المدنية القديمة والحديثة عجزا تاما عن اختراع هذا الميزان؟
وللثقافة كذلك قيمة اجتماعية، فالثقافة ترفع من كان من طبقة وضيعة، إلى أن يكون أحيانا مساويا لمن كان من طبقة رفيعة، فحامل الشهادة العليا يرى نفسه - وقد يرى الناس معه - أنه صالح لأن يتزوج من طبقة راقية، مهما كان منشؤه ومرباه؛ وقديما قال الفقهاء في «باب الزواج»: إن شرف العلم فوق شرف النسب، والمثقف الراقي له الحق أن يكون عضوا في الأندية الراقية من غير أن يسأل عن نسبه وحسبه، بل له أن يدل على أبناء الطبقة الأرستقراطية إذا نال درجة لم ينالوها، وعرف من أنواع الثقافة ما لم يعرفوا؛ وله من حرمة الناس في المجتمعات والأندية ما لا يناله غير المثقفين، وإن كانوا من بيت خير من بيته، وفي نسب خير من نسبه.
ولكن لا أريد أن أتحدث في شيء من هذا ولا ذاك، فليست تعنيني الآن الناحية المالية للثقافة، ولا الناحية الاجتماعية؛ وإنما أريد أن أتساءل: ما القيمة الذاتية للثقافة؟ إن المال واحترام الناس عرض خارجي، فما القيمة الثابتة التي تتصل بنفس المثقف ولا تفارقها في فقر أو غنى، وفي جاه وغير جاه؟
أهم قيمة - في نظري - لثقافة المثقف هي كيفية نظره إلى هذا العالم، ذلك بأن عيون الناس في نظرها إلى الأشياء وحكمها عليها ليست سواء؛ فعيونهم الحسية وإن اتفقت في الحكم على الألوان بالسواد والبياض والحمرة والصفرة، وإن اتفقت في الحكم على الأبعاد قربا وبعدا، وإن اتفقت في الحكم على الأحجام كبرا وصغرا، فإن العيون النفسية لا تتفق في نظرها ولا حكمها، فالشيء في نظر الأبله غيره في نظر الفيلسوف، وبين هذين درجات لا حد لها، وليس للشيء الواحد معنى واحد بل معان متعددة تتسلسل في الرقي، والناس يدركون من معانيه بحسب استعدادهم وثقافتهم وأذواقهم.
وقد حكوا أن عيسى - عليه السلام - مر هو وأصحابه بجيفة، فقالوا: ما أخبث رائحتها! وقال هو: ما أحسن بياض أسنانها! ونظر الرجل العادي إلى الحديقة مزهرة غير نظر الأديب الفنان. هذا ينظر إليها فيقرأ فيها من المعاني والجمال ما يمتزج بنفسه، ثم يسيل على قلمه كأنه قطع الرياض؛ وذاك ينظر إليها نظرة مبهمة، لا تسفر عن معنى، ولا تعرف لها وجهة، نظرة بليدة جامدة، لا يسعفها ذوق، ولا تخدمها قريحة.
ومثل هذا في كل شيء يعرض على العين، فكل شيء في السماء وفي الأرض لا يحمل معنى واحد، بل معاني متعددة، وقيمة الثقافة أن تنقل العين من أنظار سخيفة ومعان وضيعة إلى أنظار بعيدة ومعان سامية؛ فالأديب إذا لم ينظر في المرأة إلا إلى حسن جسمها وتناسب أعضائها، لم يكن أديبا مثقفا، وقلنا له كما قال المتنبي:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة
Page inconnue