Flux de pensée (Première partie)
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genres
لقد دل هذا السري على أنه يقتني عقلية أقوم مما رعته النار، ونفسية خالدة لا تفنى بفناء المال.
إن الحياة الناجحة تفكر في الغد، والحياة الفاشلة تبحث في الأمس، وقديما قالوا: «إذا أفلس التاجر فتش في دفاتره القديمة». وقال الشاعر وقد رأى بني تغلب لا يعملون عملا جديدا مجيدا، ويكتفون برواية قصيدة قالها عمرو بن كلثوم التغلبي في مدحهم:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم
يا للرجال لشعر غير مسئوم
ولأمر ما خلق الله الوجه في الأمام ولم يخلقه في الخلف، وجعل العين تنظر إلى الأمام ولا تنظر إلى الخلف، وأراد أن يجعل لنا عقلا ينظر إلى الأمام وإلى الخلف معا، وأن يكون نظره إلى الخلف وسيلة لحسن النظر إلى الأمام؛ فعكس قوم الفطرة الإنسانية ونظروا بعقولهم إلى الخلف وحده، وقلبوا الوضع فجعلوا النظر إلى الخلف غاية لا وسيلة.
من هؤلاء الذين نكسوا في الخلق من إذا حدثتهم فيما هم صانعون غدا، حدثوك عما صنعه آباؤهم الأولون، وكيف حاربوا، وكيف انتصروا، وكيف سادوا العالم، وكيف وكيف؟ وهذا حق لو اتخذ وسيلة لعمل مستقبل، واستحثت به الإرادة لعمل مستقبل، وضرب مثلا لمعالجة مشكلات المستقبل؛ أما ان يكون غرضا في نفسه، فحديث العجزة ومن أصيبوا بالفقر العقلي وضعف الإرادة.
وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين يثيرون العداوات القديمة والأحقاد القديمة بين رجال الأمة وقادتها؛ فإذا طالبتهم أن ينظروا إلى الأمام، ويتكيفوا بما يتطلبه المستقبل، أبوا إلا أن يذكروا لك تاريخ الأمس وحزازات الأمس ، وسخائم الأمس؛ وما دروا أنهم بهذا يعطلون مصلحة المستقبل وخير المستقبل، أو دروا ولكنهم الماكرون الخادعون. فليس يصح أن ينظر في الأمس إلا لتجنب أغلاط الأمس في المستقبل، والانتفاع بصواب الأمس وخطئه في المستقبل.
وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين جمدت عقولهم فاعتقدوا أن كل شيء كان خيره في الأمس وشره في الغد؛ فخير النحو ما وضعه سيبويه، وخير البلاغة ما قاله الجاحظ، وخير الفلسفة ما قاله ابن سينا وابن رشد والفارابي، وخير عصور الدين ما سبق من العصور، وخير الأخلاق أخلاق آبائنا، وأنه لم يبق في هذا الزمن إلا الحثالة من كل علم وأدب ودين وخلق، وأن العالم في ذلك كله سائر إلى التدهور دائما، فأمس خير من اليوم، واليوم خير من الغد؛ فهذه العقلية لا تنفع للحياة وإنما تنفع للصوامع، ولا تنفع للجهاد وإنما تنفع للفناء، ولا تنفع لمن أرادوا أن يتبوءوا مكانا في الحياة، وإنما تنفع من أرادوا أن يتبوءوا مكانا في القبور. إن النحو الذي ننشده هو في المستقبل لا في الماضي، واللغة التي تصلح لنا وتؤدي مطالبنا في الحياة هي في المستقبل لا في الماضي، والأدب الذي يمثل نزعاتنا حق تمثيل هو في المستقبل لا في الماضي، والأخلاق التي تلائم الموقف الاجتماعي الذي نقفه اليوم هي في المستقبل لا في الماضي، وليس لنا من الماضي إلا ما يصلح للمستقبل بعد غربلته وإبعاد ما تعفن منه. إن موقفنا بين الماضي والمستقبل يجب أن يكون كموقف وجهنا فينا، وضعه الطبيعي في الأمام، ولكن الإنسان قد قد يلوي عنقه وينظر إلى الوراء إذا دعت الضرورة، ثم يعود سيرته الأولى من النظر إلى الأمام ويسير لوجهه ويمضي قدما لشأنه؛ ولن ترى إنسانا طبيعيا لوي عنقه دائما، ونظر إلى الخلف دائما.
Page inconnue