Flux de pensée (Première partie)
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genres
لقد كان لي أستاذ في سن الخمسين، وكان جلساؤه أقلهم في السن الستين، فسألته في ذلك فقال: إني اخترتهم؛ لأنى أشعر وأنا معهم أني شاب. •••
بل هذا هو السر في أن الرذيلة في كثير من الأحيان توثق الصداقة بين أصحابها؛ فالمقامر أقرب إلى صداقة المقامر، ومدمن الخمر إلى مدمنها، والغزل إلى الغزل، واللص إلى اللص؛ وقل أن ترى ذلك في الفضيلة، فالصدق قل أن يؤلف بين اثنين لصدقهما، والعدل قل أن يؤلف بين اثنين لعدلهما.
والسبب في هذا أن ذوي الرذيلة يشعرون بالضعة من رذيلتهم فيهربون إلى الأراذل مثلهم حتى يتجردوا من هذا الشعور؛ أما الشعور بالعدل أو الصدق فليس فيه هذا الألم فلا يحتاج صاحبه إلى البحث عن مهرب - وهو السبب في احتياج أصحاب الرذيلة إلى مخبأ، فحجرة المقامرة مستورة، ومجلس الشراب في مخبأ، والغزلون يتسترون، ومجال الحشيش والكوكايين في حرز إلخ؛ وليس السبب في ذلك فقط أن رجال الأمن يطاردونهم، بل أكاد أوقن أن هذه الأمور لو أبيحت من رجال الأمن لتستروا أيضا؛ لأنهم يريدون أن يهربوا بأنفسهم من الشعور بالضعة أمام من لم ينغمسوا في الرذيلة انغماسهم. •••
ألست ترى معي أن الرجل الملتزم للأخلاق المتشدد فيها أقل الناس أصدقاء وأشد الناس وحشة، وكلما اشتد في تزمته اشتد الناس في كراهيته؟ وأن الرجل كلما سما عقله بعد عن الناس وبعدوا عنه، وأنهم قد يجلونه ولكن لا يحبونه، لأن سموه إعلان لضعفهم، وعلوه رمز لضعتهم؟
ولعل كثيرا من صفحات التاريخ المملوءة باضطهاد العظماء، وقتل النبغاء، واغتيال الأبطال، تستر وراءها هذا السر الكامن الخطير، وهو أن الاضطهاد والقتل والاغتيال كان سببه الخفي شعور المدبرين بضعتهم أمام هؤلاء العظماء، فتخلصوا من الشعور بالضعة بالقضاء على من كانوا سببه - فلما انمحوا من الوجود كان لا بأس عند من قتلوهم أن يمجدوهم، وأن تمجدهم القرون بعدهم؛ لأن الحقيقة الواقعة أشد إشعارا بالضعة من الذكرى الماضية. •••
وبعد، فلا يستطيع الناس أن يتغلبوا على هذه الرذيلة، وأن يجلس عالمهم إلى من هو أعلم منه، وفنانهم إلى من هو أفن منه، وفاضلهم إلى من هو أفضل منه، يستفيد منه ويأخذ عنه في غير حقد ولا ضغن، إلا بكثير من مجاهدة النفس، وهيهات ثم هيهات!
أمس وغدا
كان لسري مصانع ومتاجر، كأفخم ما يكون من مصانع ومتاجر، أصابتها النار فأتت عليها، وقدرت الخسائر بالألوف.
وكان هذا السري في السنين الأخيرة من عمره، ليس له قوة الشباب، ولا أمل الشباب، وكانت ثورته الضائعة ثروة العمر، ومجهود العمر. جاءه من يسأله عن هذه الكارثة وأسبابها ومقدارها، فأجابه: «لست أفكر في شيء من ذلك، وإنما يملك علي كل فكري الآن: ماذا أنا صانع غدا».
يعجبني هذا الاتجاه العملي في التفكير، فإنه دليل الحياة، وعنوان القوة، ومبعث النشاط، فما دمت حيا ففكر دائما في وسائل الحياة، ووسائل السعادة في الحياة؛ وتلك كلها أمامك لا خلفك، وفي الغد لا في الأمس.
Page inconnue